مشاهدة النسخة كاملة : ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة"
ابو وليد البحيرى 26-05-2015, 04:39 AM ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (1/3)
د. جاسم العبودي
المقدمة
على الرغم من أن المشارقة ينظرون للأندلسيين بعين صغيرة، أو كما يقول ابن حزم: "لقد قرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام، قال: لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده"[1]، إلا أن ما خلفوه من نثر فني - ولسوء حظهم ضاع جُلُّه - بلغ شأوًا بعيدًا، لا نكاد نجدُ له مثيلاً، باستثناء تراث كتاب العصر العباسي[2].
وإنَّا لسنا بصددِ إثبات ذلك، لكن نُذكِّر بما قاله الحجاري[3] في (المسهب): "الأندلس عراق المغرب عزة أنساب، ورقة آداب، واشتغالاً بفنون العلوم، وافتتانًا في المنثور والمنظوم، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم"[4]. وذاك ابن بسام ( ت542/1147) يقول: "فلا يكاد بلد منها [ أي: من الأندلس] يخلو من كاتبٍ ماهرٍ، وشاعرٍ قاهرٍ"، مع "مراصدة أعدائها - كما يقول ابن سعيد - المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف"[5].
ولعل تصنيف الحجاري هذا الذي توارثه مدة 111 سنة (530-641 هـ)[6] ستة من أسرة بني سعيد، تكميلاً وتنقيحًا، حتى نهض بإخراجه بصورة (الـمُغرِب) آخرُهم، لهو إحدى الآثار التي تنوبُ عن ذلك العين، وعنوان خالد يستوطن ذاكرة كل قارئ أو باحث، مُتصدِّرًا قائمة نفائس الأدب الأندلسي.
"آخر حلقة في هذه - كما يقول شوقي ضيف - السلسلة الذهبية": علي بن سعيد[7] (610-685/1213-1286)، لن ينال من هذه الكلمة الكثير، فهي خالصةٌ من دونه لكتابه الضائع (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)، أحققه لكي تقرؤه في حروف جلية.
نستميح صاحبنا عذرًا، فإنا لا نرضى التعريف به اجترارًا ، ونشيرُ إلى بعض ما كتبه عنه وعائلته من سبقنا[8]. ولكننا وعدناه بجمع بعض أشلاء هذا الكتاب، ونحن نعرف أن جوانب كثيرة عن الأندلس ما زالت غامضة، وأن أكثر مما نشر سقط من يد الزمان. ومن أجل ذلك يُعـدُّ نشر أيّ نصٍّ جديد لا يخلو من أهميةٍ ملموسةٍ.
1- كتاب (الشهب الثاقبة) والسفر الخامس من مخطوط (مسالك الأبصار)
بالغ المقري كعادته حين ذكر أن ابن سعيد كتب أربعمائة مؤلفًا، ولكن لسوء الحظ لم ينج منها إلا النزر اليسير. وقد أشار جمعٌ من الباحثين المحدثين إلى عدد من هذه المؤلفات. فمثلاً عدَّد له[9] الأبياري 24 كتابًا، وبلغت عند إسماعيل العربي 26 كتابًا، وعند محمد عبد الغني حسن 30 مؤلفًا، ووصلت القائمة إلى 39 كتابًا عند محمد جابر الأنصاري[10]، بما فيها المنسوب إليه.
ولكن هؤلاء وغيرهم لم يدرجوا (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)[11] من بين كتبه، ما عدا[12] الأنصاري الذي تعرض له في بضع أسطر نقلاً عن العمري، رغم أنه لم يتناوله في قائمته التي جمع فيها مؤلفات ابن سعيد. أما بروكلمان[13] فقد أشار إلى "تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم"[14].
دوروتيا كرافولسكي من جانبها، أصابت حين ذكرت أن علاقة العمري "بكتب ابن سعيد تتعدَّى اقتباس بعض الفقرات إلى مسالك الأبصار كله"، ولكنها خلطت في قولها إن "ابن سعيد كتب رسالة في فضل الأندلس قال فيها بتفضيل المغرب على المشرق الإسلامي. وقد اعتبر العمري كتابه نقداً لهذه الفكرة"[15].
أولاً: لأن ابن سعيد - وهي تعلم - له "تذييل على رسالة ابن حزم" المذكور في (نفح الطيب) والذي أشار إليه بروكلمان، ونشره صلاح الدين المنجد[16]، وليس "رسالة".
وثانيًا: لم يكن هذا التذييل في "تفضيل المغرب على المشرق الإسلامي"، وإنما في إبراز فضائل الأندلس. وزعمت في الهامش أن العمري لم يصرح بكتاب ابن سعيد الذي يرد عليه، بينما هو ذكره عدة مرات كما سترى في (رقم 3- موضوع الكتاب وسبب تأليفه).
كما يُفهم من كلامها أنها استبعدت أن يكون ما اقتبسه العمري في كتابه مأخوذًا من التذييل السابق، وهو عين الحقيقة.
يقول المقري في مقدمة هذا (التذييل): "وقال ابن سعيد، بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته: "ترى في أي كتاب ذكر ابن سعيد الرسالة والتذييل؟ أفي (المغرب) أم في (الشهب الثاقبة)؟!
إن موضوع (الرسالة والتذييل) - بلا شك - هو في المفاضلة وإبراز مفاخر أهل الأندلس، وهذا ما يُقوِّي معنويات ترجيحنا على أنه ذكرهما في كتابه (الشهب الثاقبة).
نكتفي هنا بإشارتين تسلِّطان الضوء على هذا الكتاب؛ الأولى لابن فضل الله العمري، والثانية للمقري.
وشهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العُمَرِيّ، ولد في دمشق سنة 700/1301، ونشأ وتعلم في مصر، وتولى مناصب مهمة في القاهرة ودمشق، ومات في الأخيرة عام 749/1349. وهو صاحب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، حيث يعتبر "من أهم ما وصل إلينا من التراث العربي والإسلامي من القرن الثامن الهجري"[17].
ولولا ما قام به فؤاد سزكين مع زملائه بنشره في طبعة تصويرية عن المخطوطات، لما أطلعنا عليه بهذه السهولة، وإن كان دون تحقيق[18]؛ فهو عمل مبارك يحفظ هذه الكنوز من الضياع، ويمنحنا فرصًا مجانية للإطلاع على ما كان مُتعذِّرًا منها الوصول إليه أو تحقيقه[19].
وقد أشار فؤاد سزكين بإيجاز في مقدمة السفر الأول إلى أهمية هذه الموسوعة، وأهم مخطوطات الكتاب في العالم، وما نشر منه.
وتطرَّقَت كرافولسكي في بحثٍ جادٍّ[20] إلى بيان مخطوطاته المودعة في المكتبات؛ وهي غير ما ذكره سزكين، وأولى جهود المهتمين بالدراسات الشرقية والمغرمين به، وما حقِّق منه أو تُرجم أو نشر.
كما أسعفني مشكورًا مركزُ الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية في رسالته المؤرخة في 1/6/1421 هـ بقائمة ببليوغرافية عن العمري[21].
وقد حفظ لنا ابنُ فضل الله القسم الأكبر من كتاب (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)، عن طريق رده عليه في السفر الخامس من (مسالك الأبصار)، على الصفحات 2-73. وهو تصوير عن مخطوطة آيا صوفيا، رقم 3418، في مكتبة السليمانية - إستانبول.
على ظهر المجلد الأول من هذه المخطوطة ملاحظة قيمة - على الرغم من بياض وقع في وسطها فأفقد هذه المصورة كثيرًا من المعلومات - تفيد أن خطبة الكتاب قد قُرِئَت على المؤلف: "... فقد قُرِئَت جميع خطبة هذا الكتاب؛ بل البحر العُباب، على مؤلفه وجامعه الشيخ أبي العباس أحمد ... بن فضل الله العمري"[22].
ومما يلفت النظر أيضًا، في الجهة اليسرى العليا من السفر الخامس تمليك يرد فيه اسم أحمد بن اينال العلائي الدواداري الحنفي (المولود في 837/1433-1434)، وفي الجهة اليمنى السفلى منه ترد عبارة: "أحمد بن علي المقريزي سنة 831 هـ". وهذا مما يدل أن المقريزي ( 766-845/1364-1442) طالعه، وكتب على هوامشه بعض الملاحظات بخطه. ولهذا اخترت هذه الورقة أن تكون الغلاف الخارجي للكتاب.
ثم انتقلت هذه السلسلة بطريق الوقف إلى مكتبة آيا صوفيا في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث وقفها عليها السلطان محمود خان (1730-1754م)؛ مؤسس هذه المكتبة، كما هو واضح من نص الوقف على ظهر السفر الخامس: "قد وقف هذه النسخة الجليلة ... السلطان محمود خان".
وقد اكتفينا بهذه السلسة، لصعوبة الوصول للنسخ الأخرى، ولأنها هي النسخة "الأم" كما أكدت ذلك دوروتيا كرافولسكي[23].
ولم يقتصر الأمر في نسخة آيا صوفيا على تضمينها "مجلدات" مكتوبة بخط مختلف، كما ذهب إلى ذلك هوروبيتز horovitz في مقالته[24] المنشورة عام 1907، وإنما حدث أيضا في السفر الواحد، كما في سفرنا الخامس هذا، فالخط في الأوراق 69-74 مختلف عما سبقها وضعيف جدًّا.
وقد شرع العمري في تأليف موسوعته هذه سنة 738/1338، كما ذكر ذلك عَرَضًا في الجزء السابع منها، وانتهى من تأليفه لها عام 744/1344.
يتبع
ابو وليد البحيرى 26-05-2015, 04:40 AM ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (1/3)
د. جاسم العبودي
2- موضوع الكتاب وسبب تأليفه
في هذا الفصل، وبالضبط في السطر الثاني من الورقة الأولى منه يذكر ابن فضل الله إلى أنه "في الإنصاف بين المشرق والمغرب"، إشارة - كما سنرى - إلى الرد على كتاب ابن سعيد (الشهب الثاقبة).
وبعد اجتماع ابن سعيد مع العماد السلماسي وما دار فيه من تنقص وتهكم بالغرب (و40) يقرر جمع مسودات كتابه، فيقول: "وقد عزمت أن أفرغ الفكر لكتاب، أجعله بين الخصمين ميزانا، وأخلده عن الجهتين عنوانا".
وفي الورقة الخامسة والعشرين منه يقول ابن سعيد: "والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتابا، وقد صنفته بالشام، لضرورة دعت إلى ذلك، من شدة اتحاد [25] المشارقة على المغاربة من كل جهة، حتى قال ابن دحية في خطبة كتابه ([المطرب من أشعار أهل] المغرب) يخاطبهم:
وإن كنتم في العد أكثر مفخرا فلا تظلمونا في القليل الذي لنا
وسميت الكتاب الذي وضعته في ذلك: (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)"[26].
إذن موضوعه في نظر ابن سعيد، هو في أدب "المناظرة بين المشرق والمغرب"، وفي هذه التسمية، من جهة، لفتة تعكس لنا أيضًا سمو خُلُق هذا الرجل ومذهبه في الكتابة، حيث أخذ على نفسه ما قاله في (المقتطف)[27]: "قد عهد إلي ألا أنقل فيما أجد فيه ذم أحد بنثر ولا بنظم، ولا أصنع مثل ذلك لحنق على أحد أو لفضول لسان ... أو غير معرفة، كما صنع ابن حيان في (المتين)، والفتح في (القلائد)".
ومن جهة ثانية أن ابن سعيد نقل بمهارة وذكاء "النفرة الطبيعية بين الأندلسيين والمغاربة"، في الوقت والمكان المناسبين، من خندق ما بين "البرين" أو العدوتين"، في جلباب واحد باسم المغاربة، إلى عقر دار المشارقة، على قدم مساواة المفاضلة معهم، وبالذات إلى دمشق، "حيث أصبحت مركزا علميا للشرق كله"[28]، بعد أن كانت بغداد تحتضر أنذاك، والقاهرة كما رأها ابن سعيد "اسمها أعظم منها"، "وكنتُ إذا مشيت فيها يضيق صدري"، "والمعايش فيها متعذرة نزرة، لا سيما أصناف الفضلاء، وجوامك المدارس قليلة كدرة، وأكثر ما يتعيش بها اليهود والنصارى في كتابة الطب والخراج"[29].
وغالبًا ما ينزع العمري إلى مكايدة شريكه ابن سعيد في هذا الكتاب، ولكنه لم يجد بُدًّا من موافقته على تسميته بـ"الإنصاف بين المشارقة والمغاربة" أو "في الإنصاف بين المشرق والمغرب"، وإن اتخذ مسمّى آخر عند الأول (و2)، وهو "تعلق بذيل المفاخرة بين الجانبين"، وهو اعتراف ضمني بالمماثلة، وإن كان ينكرها الأول. وهذا المؤلف هو وليد الرأي والرأي الآخر في الثقافة العربية - الإسلامية، وهو مما يتعذر - يا للأسف - اليوم في جوانب كثيرة من حياتنا، وقديما قال قيس بن الخطيم؛ وهو شاعر جاهلي أدرك الإسلام، ومات قبل الهجرة:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف
إذن هو شراكة رأيٍ على اختلاف، لابن سعيد فيه الباعُ الطُّولَى، حجمًا وفكرة. دقِّق النظر تجد له فيه نصيبًا أكبر في الصفحات والأفكار. فهو صاحبُ الفكرة الأصلية، حيث جمع مسوداته (أي: مسودات الشهب الثاقبة) في الأندلس، عندما ثارت حفيظتَه مقولةُ ابن حوقل الآتي ذكرها، وما رده عليها إلا جزء من هذا الكتاب، ثم أذاعه في الشام على الأرجح ما بين سنتي 647-8/1249-1251، للأسباب التي ذكرناها آنفا، وليس كما يقول ابن سعيد "صنفته بالشام".
دعنا نسمع ابن فضل العمري ( ورقة 2) يسرد لنا بنفسه دوافعه إلى رده عليه: "اعلم إن هذا [ الفصل] مغلق، لم يكن في عزمي أن أفتح بابه، ولا أتعرض إليه لأمرين؛ أحدهما لأنني أخشى توغر صدر عليَّ، والثاني لأن فضل الشرق ظاهر كوضوح الشمس منه. ثم أنني رأيت من أهل المغرب من يطاول ممتد الشرق بباعه القصير، ويكاثر بحره الزاخر بوشله القليل. على أننا لا نجحد أن لكل منهما فضلا، وأن في كل منهما للمدح والذم أهلا. ولكن الأغلب يُـغلب، وقد ذكر الله تعالى المشارق والمغارب في غير موضع من القرآن. فبدأ بالمشارق، وإن لم تكن الواو تقتضي الترتيب".
أما الإشارة الثانية عن هذا "الكتاب" - كما ذكرنا - هي للعالم التلمساني أحمد بن محمد بن أحمد المقري (986- 1041/ 1578- 1631) في كتابه الذائع الصيت (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)[30]، وإن أغفل إحسان عباس إدراجها في "فهرس الكتب التي ذكرت في المتن". يقول المقري فيها: "وقال ابن سعيد في المغرب ما نصه: قواعد من كتاب (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)[31]، أول ما نقدم الكلام على قاعدة السلطنة بالأندلس".
ثم يسرد بعد ذلك كلام ابن حوقل عن عظمة سلطنة الأندلس ورخائها، ويعضده بكلام ابن بشكوال عن جباية الأندلس، ويختم كلامه بمقولة ابن حوقل التي تحامل فيها على الأندلسيين، بعد زيارته للأندلس في عهد عبد الرحمن الثالث (912-961 م)، فاستفزت ابن سعيد وغيره، وهي: "ومن أعجب[32] ما في هذه الجزيرة بقاؤها على مَن هي في يده مع صغر أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة، ولقاء الرجال، ومراس الأنجاد والأبطال، مع علم أمير المؤمنين[33] بمحلها في نفسها ومقدار جبايتها ومواقع نعمها ولذاتها".
لقد أثار لنا المقري مشكلة؛ وهذا ما ينقصنا !!. فالذي يفهم مما ذكره ابن فضل الله العمري نقلا عن ابن سعيد، أن (الشهب الثاقبة) كتاب مستقل بذاته. وما ذكره المقري - وهو ينقل من نسخة أوفى (للمغرب)- يحتمل أمرين لا ثالث بينهما:
أولهما: أن ابن سعيد يسرد معلومات في (المغرب) نقلا عن (الشهب الثاقبة)، لا شك أنه لتعريف القارئ بكتابه هذا، قبل أن يكون دليلا على أمانته المعروفة في ذكر المصادر التي ينقل منها. وهذا التناقل سواء عنده أو عند آخرين سنة متبعة شائعة معروفة.
وثاني الأمرين: هو أن (الشهب الثاقبة) "جزء" أو "فصل" أو "قسم" أو "مجلد" من كتاب (المغرب). ترى أيكون ابن سعيد يحمل معه أسفار (المغرب) في "خُرْج" أنَّى ذَهَبَ، فكلما دَعَتْه ضرورةٌ، استلَّ منه جزءًا، فأهداه لمن أحب، مثلما فعل بـ(رايات المبرزين وغايات المميزين)[34]؛ وهو مختارات من (المغرب)، حين قدَّمه إلى موسى بن يغمور (ت 663 /1265) نائب السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب ؟!
وإذا قارنتَ ما بين محتوى ( الشهب) و(المغرب)، ستُقرِّر معي أن (المغرب) المطبوع يخلو من هذا الفصل، ما عدا إشارات ونقول بسيطة وبعض النصوص الطفيفة. فهل ستجزم أن (الشهب الثاقبة) كتاب مستقل؟
ما رأيك إذا عرفت أن المقري والعمري ينقلان من نسخة أوفى (للمغرب)؟. فهل تنثني عن حكمك السابق؟
يقول شوقي ضيف مُصيبًا عند نشره لنسخة (المغرب) المطبوعة من أنها: "ليست هي النسخة التي اطَّلَع عليها المقري، واقتبس منها أكثر مادته في (النفح). فإن كثيرًا من جوانب هذه المادة لا يتطابق في أشعاره وأخباره وتراجمه مع مادة نسختنا ..."[35].
كما ساير إحسانُ عباس ضيفًا في تحقيقه لـ(نفح الطيب) قائلاً: "إن المقري قد اعتمد كثيرًا على (المغرب) لابن سعيد، ولكن المقارنة الأولية بين نص (المغرب) المنشور ونص (النفح)، تدلنا على أن المقري اعتمد نسخة أوفى بكثير من هذه التي لدينا"[36].
وإذا دقَّقْنا النظر في كتب ابن سعيد وجدنا - مثلاً - (نشوة الطرب) كتابًا غير مستقل، كما كان يُظنُّ سابقًا، وإنما هو المجلد الثاني من (القدح المعلى) - وكلاهما مطبوع - لقول ابن سعيد: "كمل كتاب نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، وهو المجلد الثاني من كتاب القدح المعلى في التاريخ المحلى". وتزيد العبارة هذه الجملة: "يتلوه إن شاء الله كتاب مصابيح الظلام في تاريخ الإسلام"[37]. فالذي لا شك فيه أن الكتاب بأجزائه اسمه (القدح)، ولكل جزء اسم كما رأيت، فنشوة الطرب جزء، ومصابيح الظلام جزء …إلخ[38].
إن ما جرى في (القدح) يمكن أن يحدث في (المغرب). فالمغرب المطبوع[39] كله، سمَّاه ابنُ سعيدٍ كتاب (وشي الطرُس في حلى جزيرة الأندلس)، ثم قسمه إلى ثلاثة كتب[40]، هي: "كتاب العرُس في حلى غرب الأندلس، وكتاب الشفاه اللعس في حلى موسطة الأندلس، وكتاب الأنس في حلى شرق الأندلس".
وقد ذكر المقري[41] أن ابن سعيد أبدع في (المغرب)، حين "قسمه إلى أقسام، منها: "القسم الأول هو كتاب "وشي الطرس، في حلى جزيرة الأندلس". والقسم الثاني كتاب: "الألحان المسلية، في حلى جزيرة صقلية"؛ وهو أيضًا ذو أنواع. والقسم الثالث كتاب: "الغاية الأخيرة، في حلى الأرض الكبيرة"[42]؛ وهو أيضًا ذو أقسام".
ونُرجِّحُ على هذا المنوال، أن (الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)، إن لم يكن مستقلاًّ عن (المغرب)، أنه القسم الرابع أو الخامس منه. علمًا أن القسمين الثاني والثالث لم يَرِدَا في (المغرب)، ولا المقري يذكر أكثر من هذه الأقسام، وإن نوَّهَ - كما رأينا - بوجود أكثر من ذلك بقوله: "وقسمه إلى أقسام منها".
وهذه مشكلة لا نملك فيها رأيًا قاطعًا، سواء ترجيح؛ لأن ابن فضل العمري والمقري - وهذا ليس من قبيل إلقاء اللوم عليهما ولا التقليل من شأنهما - قد استحوذا على فصول من (المغرب) و(الشهب الثاقبة) - ولولاهما لضاعت حتى هذه الفصول - وفقًا لخطة كتابهما، فالتَبَسَتْ علينا أشياءُ كثيرة منهما.
يقول شوقي ضيف: "وما أشبه المقري في ذلك بشخصٍ عَمَدَ إلى نسيجٍ مُتصلٍ مُلتَحِمٍ، ففَصل بين خيوطه بل قُلْ نقضها أنكاثًا من بعد قوة".
فهو ينقل دون أن يعين مصدر هذه النقول من (المغرب) أو (الشهب الثاقبة) في الكثير الأعم منها. حقًّا إنه سمى ابن سعيد عشرات المرات، ولكنه حاول أن يُضلِّلَ القارئ، فسلخ منهما ما شاء دون أن يُسمِّيه مِرارًا. وأحيانًا ينقل عنهما ويزعم أنه ينقل عن الحجاري أو غيره[43].
وإذا كان هذا ما فعله المقري، فإن ابن فضل الله العمري أكثر دقةً منه في مجال ذكر اسم ابن سعيد، خلال ردِّهِ على (الشهب). فقد صرَّح به في الأوراق التالية: 3- 5، 12، 16، 24- 28، 30- 33، 36- 52، 55، 62، 64، 65، 67.
والخبير بأسلوب ابن سعيد، سيلاحظه بسهولة مبثوثًا في أوراق كثيرة أخرى.
ــــــــــــــــــــ
[1] درويش، عدنان؛ المصري، محمد، الأندلس من نفح الطيب للمقري (986- 1401/1578- 1631)، دمشق 1990: 348.
[2] ابن شريفة، ابن مغاور الشاطبي: حياته وآثاره، الدار البيضاء 1415/1994: 7.
[3] وفد حافظ الأندلس الحجاري على عبد الملك بن سعيد سنة 530 هـ ؛ وهو إذ ذاك صاحب قلعة بني سعيد، وصنف له "المسهب في غرائب المغرب" في نحو ستة أسفار، وابتدأ فيه من فتح الأندلس إلى سنة 530. ثم ثار في خاطر عبد الملك أن يضيف إليه ما أغفله الحجاري. وخلفه ابناه أبو جعفر الشاعر ومحمد، ثم استبد به موسى بن محمد بن عبد الملك، إلى أن أسلمه إلى ابنه علي، فأخرجه في صورته النهائية المسماة بـ(المغرب في حلى المغرب). انظر: المقري، نفح الطيب: 2/328-9.
[4] المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1388/1968: 3/155.
[5] ابن سعيد في رده على ابن حوقل، انظر عنه: المقري، نفح الطيب، بيروت 1388/1968: 1/212.
[6] ساير الباحثون ابن سعيد حين جعل هذه المدة 115 سنة. ولكن المقري ( نفح الطيب: 2/328) نقلا عن "خطبة المغرب" قال: "وقد بدأ فيه [ أي في المغرب] من سنة 530، ومنتهاه إلى غرة سنة 641". وربما السنين الأربع الزائدة هي حصة الحجاري.
[7] ابن سعيد، نشوةالطرب في تاريخ جاهلية العرب، تحقيق نصرت عبد الرحمن، بيروت 1402/1982: 1/13.
[8] انظر: الأنصاري، التفاعل بين المغرب والمشرق في آثار ابن سعيد المغربي ورحلاته المشرقية وتحولات عصره، بيروت 1992؛
W. Hoenerbach, “Los Banū Sa‘īd de Alcalá la Real”, Homenaje al Profesor Jacinto Bosch Vila, Granada, 1991, II, pp. 739-773; Celia del Moral Molina, Abū Ŷa‘far Ibn Sa‘īd: Un poeta granadino del siglo XII, Madrid 1997.
[9] ابن سعيد، اختصار القدح المعلى، تحقيق إبراهيم الأبياري، القاهرة ـ بيروت ، ط 2، 1400/1980: 6ـ11.
[10] انظر على التوالي: ابن سعيد، كتاب الجغرافيا، تحقيق العربي: 16-28؛ حسن، محمد عبد الغني، ابن سعيد المغربي: 145ـ156؛ الأنصاري، محمد جابر، التفاعل الثقافي بين المغرب والمشرق: 160-191؛ ابن سعيد، الرايات، تحقيق الداية: 22-30.
[11] ذكرت في هامش ورقة 25 المصادر والمراجع التي تعرضت إلى مؤلفات ابن سعيد. كذلك أشرت في تحقيقنا لكتاب (مسرح الأفكار في نسمات الأزهار) لأحمد بن مطير الربعي، أن 37 زهرة من مجموع 100 زهرة، نقلها الربعي عن بعض كتب ابن سعيد الضائعة. وقد أمدتنا هذه الزهرات بمعلومات جديدة قيمة، استوعبنا بعضها في بحثنا باللغة الإسبانية :"الربط والزوايا والتكايا البغدادية وابن سعيد"، المقدم إلى الندوة العالمية الثانية للربط الإسلامية، في سان كارلوس دى لا رابطة (إسبانيا)، بتاريخ 4-7/9/1997، المنشور في La ràpita en el slam, Ajuntament de Sant Carles de la Ràpita y Universitat d’ Alacant, 2004.
[12] الأنصاري، التفاعل الثقافي، بيروت 1992: 215، حيث أشار إليه في فصل "الجغرافيا الأدبية عند ابن سعيد".
[13] بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، دار المعارف بمصر 1983: 6/99.
[14] المقري، نفح الطيب : 3/179-186. ورسالة ابن حزم في فضائل الأندلس، نفس المصدر السابق: 3/156-179.
[15] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين، تحقيق دوروتيا كرافولسكي، بيروت 1406-1985: 24؛ وانظر فيما بعد: رقم 5- أهمية الكتاب.
[16] المنجد، صلاح الدين، فضائل الأندلس وأهلها لابن حزم وابن سعيد والشقندي، بيروت 1968.
[17] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، إصدار فؤاد سزكين مع آخرين، فرانكفورت 1408/1988: 1/ 5.
[18] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، نشر فؤاد سزكين مع آخرين، 27 سفرا في 24 مجلدا. من منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية في إطار جامعة فرانكفورت – ألمانيا الإتحادية 1408/1988.
[19] بناء على النسخ المصورة التي نشرت بإشراف سزكين، استطعت باللغة الإسبانية تحقيق جزء من (أنس المهج) للإدريسي، مع ترجمة ودراسات وملاحظات مستفيضة، بعنوان (مسالك الأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي)، وقد طبعه المجلس الأعلى للبحث العلمي الإسباني في 1989.
كما نشر خيسوس ثانون "تراجم أندلسية في مسالك الأبصار للعمري"، وهي:
Zanon, J.: “Biografías de andalusíes en los Masālik al-abîār de al-‘UmarÌ”, E.O.B.A., III, pp. 157-214.
[20] دوروتيا كرافولسكي، "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار لابن فضل العمري (700-749/1301-1349)"، دراسات، عمادة البحث العلمي، الجامعة الأردنية، عمان، المجلد 17(أ)، العدد الثاني، رمضان 1410/نيسان 1990: 169-185.
[21] مما وورد في هذه القائمة، ما يلي: ابن فضل الله العمري، "العرب في القرن السابع من كتاب مسالك الأبصار"، مجلة العرب، السعودية، ع 7-8، محرم –صفر 1402/نوفمبر –ديسمبر 1981: 608-627، ع 9-10، ربيع أول –ربيع ثان 1402/يناير –فبراير 1982: 770-780، ع 11-12، جمادى الأولى - جمادى الآخرة 1402/ مارس 1982: 924_935؛ نفس المؤلف، التعريف بالمصطلح الشريف، تحقيق محمد حسين شمس الدين، بيروت 1408/1988؛ نفس المؤلف، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: الباب الأول في مملكة الهند والسند، تحقيق مجمد سالم العوفي، الرياض 1411/1990؛ نفس المؤلف، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار في الحيوان والنبات والمعادن، تحقيق عبد الحميد صالح حمدان، القاهرة 1996؛ نفس المؤلف، وصف إفريقيا (بدون مصر) في مسالك الأبصار في ممالك المصار، ترجمة جودفرا دومـمـبين، فرانكفورت 1414/1993؛ زيادة، نقولا، قمم من الفكر العربي الإسلامي، بيروت 1987؛ القصير، سيف الدين، "ابن فضل الله العمري وكتابه مسالك الأبصار"، دراسات تاريخية ، ع 29-30، آذار _ حزيران 1988: 137_147؛ قاسم، عبده قاسم، الرؤية الحضارية للتاريخ عند العرب والمسلمين، القاهرة 1983؛ عنان، محمد عبد الله، مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ المصري، القاهرة 1388/1969؛ حسين، أحمد، "طرق القوافل عبر الصحراء …"، دراسات إفريقية، ع 3، رجب 1407/ أبريل 1987: 61-78؛ دورتيا كرافولسكي، "البدو في مصر والشام في القرنين السابع والثامن الهجري عند العمري في مسالك الأبصار"، الإجتهاد، ع 17، 1413/1992: 35-72؛ نفس المؤلفة، العرب وإيران: دراسات في التاريخ والأدب، بيروت 1413/1993.
[22] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار: 1/13.
[23] دوروتيا كرافولسكي، "مسالك الأبصار"، دراسات، رمضان 1410/نيسان 1990: 177.
[24]J. HOROVITZ, MSOS, 1970: 10, 43-45. ، نقلا عن دورتيا كرافولسكي.
[25] قرأها إحسان عباس في هامش (نفح الطيب: 1/ 210 ): إنحاء.
[26] قد تطرقت في هامش الورقة الخامسة والعشرين إلى عدة نقاط؛ الأولى ذكر اسم كتاب ابن دحية خطأ، والثانية خطبة (المطرب)، فالمنشور منها مختصر، وليس الخطاب فيها لأهل الأندلس، كما زعم في قوله "يخاطبهم"، وإنما هي موجهة للملك الكامل. والنقطة الثالثة أننا لم نعثر فيها على البيت الشعري الذي رواه ابن سعيد هنا، وإنما ساقه ابن دحية في ترجمة يحيى بن حكم الغزال.
[27] ابن سعيد، المقتطف من أزاهير الطرف، تحقيق سيد حنفي حسنين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984: 42.
[28] المنجد، "دمشق في نظر الأندلسيين"، صجيفة المعهد المصري في مدريد، المجلد 6، العدد 1-2، 1378/1958: 35-61؛ أحمد، علي، الأندلسيون والمغاربة في بلاد الشام من نهاية القرن الخامس وحتى نهاية القرن التاسع الهجري، دمشق 1989: 112.
[29] المقري، نفح الطيب: 2/344-350.
[30] المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت 1388|1968: 1|210ـ211.
[31] علق إحسان عباس في هامش ( نفح الطيب: 1/210) على هذا الكتاب بما يلي: "لم يصلنا هذا الجزء من المغرب، ولكن العمري أورد منه فقرات كثيرة في (مسالك الأبصار)، الجزء الثالث؛ القسم الأول، قال: والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتابا وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك من شدة اتحاد المشارقة على المغاربة من كل جهة …وسميت الكتاب: الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة" (الورقة: 104).
[32] ابن حوقل، صورة الأرض، (المؤلَّف سنة 976 م)، نشر كرايمرز، بريل 1938: 108ـ117، وهذا المقطع في ص 108-109، وفيه: ومن أعجب أحوال هذه الجزيرة؛ المقري، نفح الطيب: 1/211.
[33] في صورة الأرض: وعلم موالينا عليهم السلام بمحلها …
[34] ابن سعيد، رايات المبرزين وغايات المميزين، تحقيق محمد رضوان الداية، دمشق 1987: 18-19.
[35] ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب، تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف، ط 3، 1978: 1/24-25.
[36] المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس : 1/18 من مقدمة المحقق.
[37] ابن سعيد، اختصار القدح المعلى في التاريخ المحلى: 15؛ نفس المؤلف، نشوة الطرب، بيروت 1402/1982: 1/14-7.
[38] ابن سعيد، نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، جزءان، تحقيق نصرت عبد الرحمن، عمان 1402/1982: 14-17.
[39] انظر عن تقسيمات كتاب المغرب: ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب: 1/33.
[40] قد جعلها المقري (نفح الطيب : 1/224-5) أربعة كتب، ورابعها عنده هو: "لحظات المريب، في ذكر ما حماه من الأندلس عباد الصليب". وهذا الكتاب لم يصل منه إلا صفحة واحدة في نهاية الجزء الثاني من (المغرب) المنشور.
[41] المقري، نفح الطيب: 1/ 224-225.
[42] في مخطوطنا ورقة 65 بعض الأسطر عن "سلطنات الأرض الكبيرة"، وهذه ـ كما يبدو من العنوان ـ مأخوذة من هذا القسم.
[43] ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب: 1/19-20.
ابو وليد البحيرى 26-05-2015, 04:42 AM ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (2/3)
د. جاسم العبودي
الجزء الثاني
4- أدب المناظرة بين التجني والاعتراف بالفضل
يقال أهجى بيت قاله شاعر قول الأخطل في بني يربوع رهط جرير:
قومٌ إذا استنبَحَ الأضيافُ كلبَهُمُ قالوا لأُمِّهِم: بُولي على النَّارِ
الحقيقة أني كلما تذكرت هذا البيت، توقفت إجلالاً لقائله، ليس تشمتًا ببني يربوع، ولا انتقاصا بجرير. أتخيلك تهمهم قائلاً: وَلِمَ كل هذا الإجلال إذن ؟. نعم، ستعرف ذلك إذا حزرت كم صورة شعرية خالدة فيه ..خمس .. ست ؟!. هذه المفردات بإخراجها عن معناها المألوف؛ بمعانيها وصورها وأفكارها وخيالها ومضامينها وجرسها وإيقاعها …إلخ، هي العطاء الثري الذي يجب أن ننظر إليه، لأنه إغناء لتراثنا الأدبي. فجرير هو جرير الفحل، ولا حتى سهام الفرزدق كانت قادرة على إسكاته، ولا بني يربوع دَفنوا أنفسهم في مقابر العار.
وما نريد قوله هو "الإنصاف" أولاً، بأن نتجرد من التحيز إلى جهة؛ أندلسية كانت أو مغربية أو مشرقية.
وثانيًا: توخِّي المعلومات القيِّمة المبثوثة في تفاصيل هذه المعاني، وهم الأهم.
وثالثًا: إحلال "النقد" محل "الذم".
وها أنت ترى ابن سعيد لم يفرق بين الأندلسيين والمغاربة ابتداء من عنوان كتابه (الشهب الثاقبة)، حيث جمع فيه العدوتين تحت مصطلح "المغاربة"، وهو بمثابة العمائم؛ وهي شعار "المغربية"، ولم يترفع عليهم بقلانس "الأندلسيين"؛ رمز "الأندلسية"، ولم "يذم أحدا"، وإنما انتقد أوضاعا رآها؛ على الأقل في هذا الكتاب، عملا بما التزمه - كما قلنا سابقا- في (المقتطف)، لكنك تقرأ لمن "يذم" ابن سعيد أو ينال أو يتهكم منه أو من قومه.
في الورقة 39 ستقرأ اعتراف العمري بذلك، حين يقول: "واجتمع علي بن سعيد، صاحب كتاب (المغرب)، مع العماد السلماسي، في مجلس جرى بين أهله ذكر المشرق والمغرب، وزاد في ذلك المجلس من التنقص والتهكم بالغرب، حتى كادت تقوم بينهم الحرب"، وبعده بسطر ونصف يسألون ابن سعيد متهكمين: "المغرب هل فيه أنهار مثل المشرق ؟!". ويأتيك الحق في جواب السلماسي له: "وكفى جوابا قول الله عز وجل "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا" ؟. لو لم يكن للمغرب إلا طلوعك علينا منه، لصمتنا له عن كل نقيصة، وأغضينا عنه. فكيف وقد ملئ فضائل ..." ؟.
اقرأ شهادة الصفدي ( ت 764/1363) وقارن، حيث يقول: "أخبرني الحافظ فتح الدين محمد بن سيد الناس من لفظه، قال: دخل عليَّ والدي يوما، وأنا أكتب في شيء من كلام ابن سعيد، فقال لي: أيش هذا الذي تنظر فيه؟ فقلت: شيء من كلام ابن سعيد، فقال: دعه، فإنه لا بالأديب الرائق، ولا المؤرخ الواثق. انتهى. ولعمري ما أنصفه الشيخ أبو عمرو، فإن ابن سعيد من أئمة الأدب المؤرخين[1] المصنفين". علما أن الكلمة الأخيرة لابد وأنها قد تصحفت، لأن الباحث المنصف لا شك أن يقرأها حسب السياق: "المنصفين" بدلا من "المصنفين".
وهذا شريكه ابن فضل الله يقول: "وهو صاحبي الذي أوافقه في هذا الكتاب [يعني مسالك الأبصار] تارة وتارة أؤاخذه، ومرة أعاهده ومرة أنابذه"[2]. فهل حقاً أن ابن فضل الله صادقا ملتزما مع "صاحبه" بما يقول ؟!. انظر فهو يشتط منه غضبا في الأسطر الأولى من الورقة الأولى (الثانية حسب ترقيم المخطوط): "ثم أنني رأيت من أهل المغرب [يقصد ابن سعيد] من يطاول ممتد الشرق بباعه القصير، ويكاثر بحره الزاخر بوشله القليل". فكيف "باعه قصير" ؟!، وهو القائل عن ابن سعيد : "وكان أجمَّ من البحر إمداداً ، وأسجمَ من القطر عِهادا". ويتهمه بالتعصب مراراً، ويعترف له بالإنصاف أحياناً على مضض: "ولقد همَّ ابن سعيد في كتاب (المغرب) بالتعصب لبلاده، ثم منعه الإنصاف. وإن كان في بعض الكلام قد أشار وما صرح"[3].
لاحظ سياسة العصا الغليظة التي يرفعها ابن فضل الله العمري واحكم، حيث يقول في بداية الورقة الخامسة: "وكيف تستوي بلاد جنوبَها الهند ؟؛ وهم من أهل العلم والحكمة، مع صفاء الألوان، وحسن الصورة وكمال التخطيط ... ببلاد جنوبُها حثالة السودان؛ المحترقة ألوانهم، المشوّهة صورهم، المختلفة تخاطيطهم، غاية الجهالة، والنفوس البهيمية، لا عقول لهم ولا إفهام، هم أقرب شبهاً من بني آدم بالأنعام ... ولو أنصف ابن سعيد حق الإنصاف، وأذعن لواجب الاعتراف، لما قال: فوجب التسليم من المغاربة للمشارقة، لأنه يجب للمشارقة على المغاربة التسليم في كل شيء شاؤوا أو أبوا، اللهم إلا في القليل النادر الذي لا حكم له".
والعمري بكلامه هذا يجسد النظرية الجغرافية التي كانت سائدة، من أن المناخ هو العامل الحتمي لنشاط العلوم وجمودها، كما ذكر صاعد من أن "الجلالقة والبرابرة وسائر أكناف المغرب من هذه الطبقة فأمم خصها الله تعالى بالطغيان والجهل، وعمها بالعدوان والظلم"، وقد فند صالح العلي[4] تاريخيا كلام صاعد بهذا الصدد. وهذا التعسف قديم متأصل، فقد نقل ياقوت أسطورة بابلية، زعمت أن الملائكة عندما تفرقت، "قال ملك الجفاء: أنا أسكن المغرب، فقال ملك الجهل: أنا معك، فاجتمعت الأمة على أن الجفاء والجهل[5] في البربر".
وتستشري ظاهرة التجني وتمتد إلى عصرنا هذا، غالبا ما تكون تحت نوازع عاطفية أو إقليمية، فنجد من يقرر منذ البداية في بحثه وقبل سياق أدلتة: "أن الأندلسيين كانوا على العموم هم البادئين (كذا) بالتجني على أهل العدوة"[6]، ولم يتحر فيه أسباب باب هذا "الصراع" ولا "ازورار المغاربة" إزاء الأندلسيين.
ولكن ما رأيك بالإدريسي؛ وهو سبتي المنشأ، قرطبي المنزع والثقافة ، صقليّ الفكر والوفاة ، وهو يقول العكس ، أيهما تصدق ؟ : "وكان أهل المغرب الأقصى من الأمم السالفة يغيرون على أهل الأندلس ، فيضرون بهم كل الإضرار ، وأهل الأندلس أيضا يكابدوهم ويحاربوهم جهد الطاقة ، إلى أن كان الإسكندر ...". وقد نسبه المقري كعادته إلى "غير واحد من المؤرخين" بتعديل بسيط[7]، وترجم جميعه المستعرب الإسباني بالبيه دون تعليق[8].
وآخر يتهم ابن سعيد بالتعصب لبلده - وهو أمر طبيعي - "والمغالاة في إظهار الفضل والامتياز حتى لا يتحرج عن المساس بالبلاد المشرقية التي كان يعيش فيها. وهذا الاستعلاء من الأندلسيين على غيرهم وعدم تحرزهم مما يجرح مشاعر الغير". وكل ذلك إثر دقة وصفه لمصر: "ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها ..."[9]. وكلام مؤنس هذا يتنافى مع ما تواتر من أن صيت ابن سعيد قد سبقه إلى عاصمة الديار المصرية، ولم أعلم أن نائب السلطنة ابن يغمور قد جرح مشاعره وصفُ ابن سعيد، بل العكس ضمه إلى حاشيته، ولا ابن العديم[10] صاحب تاريخ حلب والذي اصطحبه معه.
لقد أجاد شاعرهم في وصف حال أهل الأندلس:
ونحنُ بينَ عدُوٍّ لا يُفارِقُنا كيفَ الحياةُ مع الحيَّاتِ في سفطِ
فَهُمْ محاصرون وعليهم أن يثبتوا هويتهم، فقد كانوا ما بين "لدغات الأفاعي" من نصارى ومسلمي بلدهم، وما بين سيف المشرق مسلط على رقابهم، وخنجر المغاربة مسلول في خاصرتهم.
فالمشارقة يترفعون على المغاربة وكثيرا ما يرددون: "وهل وصل إلى الغرب من السؤدد، إلا ما فضل عن الشرق، أو لبس إلا ما أعاره من الخليع المبتذل ؟، لما دخل عبد الرحمن الداخل، إلى جزيرة الأندلس، واجتمع إليه من شذاذ القوم من نفضتهم مزاود المشارق، ولفظتهم أسرة الملك، فحينئذ صار الناس بالغرب ناساً ، وإلا كانوا كالبهائم السائمة . فمن ذلك الوقت تكلموا باللغة العربية، وامتازوا بالنطق على الحيوان"[11]. ولسان حال المغاربة: "أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العُدوة ؟!"[12].
إن الشخصية الأندلسية حادة الحساسية إزاء كل حكم له مساس بالذاتية الأندلسية من قريب أو بعيد، نتيجة تراكم ظروف سياسية وتاريخية وثقافية معقدة، وما حظيت به مواقفهم من المشارقة والمغاربة وتنزيل الأندلسيين ثقافتهم المنزلة الفضلى من دراسات[13] لم تكن كافية، كما أنها لم تغط رأي الأندلسيين، بل تمجد الجانب المغربي.
نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة كثير من المسلمات والأفكار المسبقة في تأريخ الثقافتين الأندلسية والمغربية. ومما يشرح الصدر أن بحوثا متزنة قد بدأت تغزو الساحة المغربية، فنجد بينها من يبرهن[14] أن الأدب المغربي كان هزيلا إلى نهاية القرن الثالث الهجري.
ويذهب باحث آخر إلى أعمق من ذلك وهو "أن الأندلس سبقت المغرب إلى احتضان الثقافة العربية الإسلامية، مضيفة إليها التراث العلمي والفكري العالمي، وبذلك أمكنها بالنسبة للمغرب بمثابة الأستاذ في فترة التاريخ الوسيط، لكن ابتداء من القرن الثامن الهجري، على الأقل، أمكن للمغرب أن يصبح شريكا لأستاذه في مواصلة النشاط الثقافي، تأليفا وتدريسا واجتهادا"[15]، وهو من أسرار هذا الصراع الأدبي بين العدوتين، والذي لم يقر به المغاربة يوما للأندلسيين قبل هذا التاريخ.
إن هذا وذاك هو بعض علل هذه "النفرة الطبيعية بين الأندلسيين والمغاربة"[16]. وقد لعبت الظروف السياسية دوراً بارزاً في تأجيج نار العداوة والكراهية، وتجني كل فريق على الآخر[17]، الذي تمثل في الملاحاة والمفاخرة. فقد ذكر المقري نقلا عن الحجاري في "المسهب": "إن يوسف بن تاشفين أهدى إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة، وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس، وجاء بها إلى إشبيلية، وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين [يريد أن] ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم، واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك ..."[18].
إن أدب "المناظرة" أو "المفاضلة" أو "المنافرات" هو رد فعل طبيعي وقديم، على نظرية اليد العليا هي الأصل وما سواها ليس إلا فرعا لا يساوي شيئا، لشعور هذا الفرع بالذاتية والتمرد على زعامة الأصل، أي رفض التبعية، رغم اعتراف الأندلسيين أن المشرق هو الأصل، ولكن الأصالة ليست مقصورة عليه. وهو متعدد الأشكال متنوع المظاهر، يحدث حتى في البلد الواحد. ويمكن أن نقسم هذا النوع من الأدب إلى قسمين:
1. أدب مفاضلة بعيد عن المعايب والانتقاص ، كما في رسالة صفوان[19] بن إدريس (ت 598/1202) "في تغاير مدن الأندلس"[20]، والتي أغرت المستشرق الإسباني [21] Granjaفترجمها للإسبانية مع تعليقات قيمة.
وهذه الرسالة لعذوبتها وشهرتها، قد انتحل فكرتها وأغلب مقاطعها مصطفى أحمد عبد القادر التونسي الأصل، الطرابلسي المولد والنشأة، في محاورته التي يمدح بها الوالي العثماني أسعد مخلص باشا، الذي تولى الحكم في بلاد الشام بين عامي 1282 هـ و 1283 هـ، ولم يلتفت إلى ذلك المحقق[22] الذي وصفها بأنها "زهرة نشم منها عبق الماضي القريب" وما عليك إلا أن تقارن بين المحاورتين.
2. أدب منافرات، حيث تعود أوائله في الأندلس إلى القرن الرابع الهجري على أثر مقولة ابن حوقل الشهيرة، فلا بد من تصدى لها بالرد، ولكن رده ضاع. ثم تطور التحدي في أوائل القرن الخامس الهجري، حيث كان على لسان أحد أدباء إفريقية: ابن الربيب القيرواني[23] الذي وجّه رسالة إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن[24] حزم يضمنها مؤاخذات على علماء الأندلس. كما حضيت هذه الرسالة من بعد بردّ أبي محمد ابن حزم وتذييل ابن سعيد عليها[25]. ثم زادت نبرة الصراع في رسالة الشقندي ( ت 629/1232) في رده على ابن المعلم الطنجي، والتي ترجمها غارثيا غومث للإسبانية تحت عنوان مثير: [26]Andalucía contra Berbería (الأندلس ضد بلاد البرابرة).
رغم علمه أن استخدام كلمة "بربري، بربر، أو برابرة" يمتعض لها الكثير، فقد نقل ( ص 10) خبر نكبة ابن رشد بسبب قوله "رأيته عند ملك البربر" بدلا من قوله "رأيته في حضرة أمير المؤمنين". وقد نشر غارثيا غومث في هذا الكتاب ترجمة ثلاثة نصوص وهي: "الحكم الثاني والبربر" حسب نص غير منشور لابن حيان، و"رسالة في فضل الأندلس" للشقندي، و"المفاخرة بين مالقة وسلا" لابن الخطيب. ويمكنك أن تدرج (الشهب الثاقبة في الأنصاف بين المشارقة والمغاربة) بالتحديد مع هذا الصنف، وأنت مطمئن.
وفي العصر المريني نجد ثلاثة نصوص في المراشقات القلمية بين الأندلسيين والمغاربة: أولها "طرمة الظريف في أهل الجزيرة وطريف" التي نشرها ابن شريفة[27]، وثانيهما "مفاخر البربر" وهو مسرد تاريخي، وأما النص الثالث فهو "المفاخرة بين مالقة[28] وسلا" لابن الخطيب. إن أدب المناظرة هذا بنوعيه هو من صنف الجغرافية - الأدبية - التاريخية، ثري بمعلوماته، لا يخلو من قيمة توثقية عالية، طغت فوائده الكثيرة على معايبه القليلة، أبطاله الأموات أحياء. فإن أردت أن تخوض معهم عباب هذا البحر فإياك أن تغرق في لجة التعصب.
يتبع
ابو وليد البحيرى 26-05-2015, 04:44 AM ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (2/3)
د. جاسم العبودي
5- أهمية الكتاب
لا نكاد نجد مصدرا أو مرجعا ذا قيمة في الأدب والتأريخ والجغرافيا لا ينوه باسم ابن سعيد، إن لم يقتبس من كتبه. نعلم أن (للمغرب) منهج تأليف معقد، حيث أن القاعدة فيه تُعدُّ عروسا لمملكتها. وللعروس الكاملة الزينة: "منصة وتاج وسلك وحلة وأهداب". أما "المنصة" فخاصة بالمعلومات الجغرافية. وأما "التاج" فخاص بمن حكموها. وأما "السلك" فخاص بأشرافها ورؤسائها من الوزراء والكتاب والقضاة، وعلمائها من الفقهاء والنحاة والمحدثين والفلاسفة، وشعرائها المختلفين …إلخ.
وإذا طبقنا هذا المنهج على (نفح الطيب) - وهو منجم أندلسي لا ينضب، نعود إليه حيثما ومتى ما شئنا- اكتشفنا من خلال نصوصه، أن "منصة نفح الطيب" جلها من (المغرب) و(المشرق) و(الشهب الثاقبة)، وأن قاعدة "تاجه وسلكه" من (المغرب) أو من كتب أخرى لابن سعيد، فما بالك بالحلة والأهداب ؟.
لنأخذ مثلا آخر، ما رأيك بالقلقشندي (ت 821|1418) في موسوعته (صبح الأعشى) ؟؛ ولا أحد يشك في نزاهته. دقق النظر في مصادر كل معلومة جغرافية فيه حتى عام 685 /1286؛ سنة وفاة ابن سعيد، من دون الرجوع إلى فهارسه، ألا تقرر أن لابن سعيد فيها حصة الأسد ؟. فالقلقشندي لم يأل جهدا من ذكر اسم ابن سعيد حيثما تأكد له ذلك، إلا إذا تعذر عليه، وإن لم يكن غريبا على عارفي سلاسة ورصانة أسلوب ابن سعيد، المتميز عن بقية الجغرافيين.
ولعلك تشاطرني الرأي وأنت تتفحص بدقة حضور ابن سعيد في معلومات (صبح الأعشى) الجغرافية، سواء أكان مقرونا باسمه أو لم يكن، تجده أضعاف ما ذُكر في فهارس (صبح الأعشى)، وأن كثيرا من معلوماته هي نفسها في (مسالك) ابن فضل الله العمري، سواء أُشير إلى مالكها الأصلي ابن سعيد أو لم يُشر. وهذا مما أضاف على الجانب الجغرافي السياسي في (مسالك الأبصار) مادة دسمة متميزة.
وقد أكد ذلك المنوني[29] من أن العمري اعتمد مصدرين في معلوماته عن المغرب: مشافهة مغاربة ثلاثة وكتاب (المغرب)، وقد فطن أنه ينقل من نسخة كاملة (للمغرب) تختلف عن المطبوع، كما لاحظنا ذلك في أماكن عدة من (الشهب الثاقبة) (انظر ورقة 3). ثم اقتبس من مسالكه فصلا كاملا (ص 290-309)، عليه بصمات ابن سعيد واضحة، يصف مظاهر الحياة أيام السلطان أبي الحسن المريني في سنة 738/1338.
دعنا نسمع شهادة دوروتيا كرافولسكي[30] ؛ وهي باحثة جادة قد سبرت ابن فضل الله العمري جيدا: "أما البنية الأساسية للمقدمة التاريخية عن العرب فليست من صنيع العمري، بل هو يستند في ذلك إلى ابن سعيد في كتابه: نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب، بواسطة أبي الفداء الذي اختصر في تاريخه فصول ابن سعيد عن أنساب العرب". وتضيف قائلة: "على أن ابن سعيد لا يشكل مصدراً ومنطلقاً للعمري في هذا الفصل فقط من كتابه، بل أن علاقته بكتب ابن سعيد تتعدى اقتباس بعض الفقرات إلى مسالك الأبصار كله".
وأضافت في الهامش أن العمري لم يذكر "في رده على ابن سعيد رسالة أو كتابا لابن سعيد في ذلك، لهذا لابد من بحث مستقص وتفصيلي في كتب ابن سعيد لمعرفة المواطن والرسائل التي يستند إليها العمري في حجاجه معه". والحقيقة أن الفقرات التي اقتبسها العمري في هذا الفصل هي من كتاب (الشهب الثاقبة) كما أثبتنا ذلك أعلاه، والذي ذكره العمري أكثر من مرة، لكن الباحثة المذكورة لم تنتبه إليه.
وإذا استرسلنا في قائمة الذين انتفعوا بمعلومات ابن سعيد أو نسخوا منه فقرات طويلة، وجدتها طويلة، ما عدا ابن خلكان (608-681 هـ) الذي لم يعودنا النقل عنه رغم أنه معاصره كما يقول إحسان عباس[31].
إن امتلاك الصفدي وحده لعدد من كتب ابن سعيد تدل على المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها كاتبنا، فكتاب (المغرب) قد ملكه بخط ابن سعيد، وملك ثلاث مجلدات من (المشرق) وبخطه، وقد رأى (حلي الرسائل) بخطه، و(كنوز المطالب في آل أبي طالب) ملكه بخطه[32]، الذي نقل منه التيجاني في رحلته المكتوبة ما بين 706-708 هـ، كما ذكره ابن تغري بردي ( 813-874 هـ) في (المنهل الصافي).
وإذا تأملنا الجوانب الرئيسية الثلاثة من إنتاج ابن سعيد، وجدنا أن أضعفها هو الأدبي، رغم شهرته به عند القدامى والكثير من المحدثين. أما الجانب التاريخي، فقد أجاد فيما كتبه عن بلده، ونقل عما سواه. وكان أصيلا وبارعا ومحققا وجديرا بالإعجاب في الجانب الجغرافي، كما بين ذلك ب. موريتز في دراسته عما كتب ابن سعيد عن صقلية، وبارتولد في دراسته عن أوروبا الشرقية، وهَونْجِمان في كتابه عن الأقاليم السبعة، وجورج سارتون في مقدمة تاريخ العلم، وغيرهم ممن أحصتهم كراتشكوفسكي[33]، رغم أن أبا الفداء (ت 732/1331) وابن فضل الله العمري قد خطآه وحملا عليه بقسوة في نقدهم، إلا أن هؤلاء الباحثين أثبتوا أن الرجل كان على علم صحيح. ولعل ذلك من أسباب خلود اسمه وشهرته التي غزت أقلام القدامى والمحدثين من عرب وأجانب، ومنهم من عدَّه بحق "من أفذاذ الرجال في تاريخنا الفكري"[34]، لمساهمته المتميزة في الثقافة العربية - الإسلامية.
لقد جند ابن سعيد قلمه في (الشهب الثاقبة) ليصور بلده في أعظم صورة. وما يزال قسم لا بأس به من كتابه منقولا عن أصول ضاعت، كما في "الكمائم" للبيهقي، أو تفرده بأخبار أصيلة كبيان فضائل جند المشارقة وتفوقهم على جند المغاربة (و 66-67)، والتي ساقته موضوعيته فيه إلى التشهير بفرسان الأندلس. ويمكننا أن نعده مدخلا حسنا في أدب المناظرة، حيث سخر فيه مادته لتصوير الحياة الاجتماعية والأدبية، والتي لا تخلو من جديد معتبر، كما في ملاحظاته الدقيقة بعين عالم اجتماع لأحوال البلاد المشرقية ومقارنتها بالبلاد المغربية (و26-27)، كما استنقذ من يد النسيان والضياع بعضا من الأخبار، كحديثهما عن العملات وأثمانها، مثل الدراهم السود والنقرة والدرهم الصغير والكبير والدرهم الناصري والكاملي والدنانير الجيشية وغيرها.
وقد لعبت المعاصرة في كتب ابن سعيد دورا بارزا، سواء من جيله، أو من أجيال سبقوه وفقدت مؤلفاتهم، ولهذا اكتسبت مؤلفاته قيمتها الحقيقية، لا من ناحية كمية النصوص التي احتوتها، ولكن من حيث نوعيتها، وتعدد بيئتها، وأهمية توثيقها، وثبوت الأخبار التي ارتبطت بها.
إن المادة الغزيرة التي يحتويها كتابنا هذا، بما فيها تلك المعلومات التي لا نجد بعضها في سواه، وطريقة عرضها ومناقشتها، نضعها بين يديك لتنهل منها مرادك وتحكم وتكون ما تشاء من آراء وأفكار.
لقد حاولنا هنا إعادة بناء كتاب غني بمعلوماته، ونشره محققا، وإنقاذه من الضياع، وإن لم يكن كاملا، ساهم في صرحه عالمان جليلان، اعتمدا فيه على مصادر جمة؛ هي: المصنفات، والمشاهدة كما في رؤية ابن سعيد غلمان صقالبة جواسيس في القاهرة، والغلمان الأتراك ذوي الأثمان الغالية الذين يجلبون إلى ملوك الأندلس وسلاطين بر العدوة (و 43)، أو ملاحظاته عن دمشق ومقارنتها بغرناطة (و 36-39)، والرواية الشفوية والمقابلة والمسائلة، والسماع كما في معلوماته عن عظمة أمراء حلب (و 67) ورفاهية جندها (و 66)، وكل هذا يضيف على النص حيوية وجدة وقيمة توثيقية.
ـــــــــــــــــــ
[1] الصفدي، الوافي بالوفيات، الجزء الثاني والعشرون، اعتناء رمزي بعلبكي، فيسبادن 1404/1983: 253-259.
[2] ابن سعيد، المغرب في حلى المغرب : 1/ 6-7.
[3] انظر: الرد على الشهب الثاقبة، الورقة الثانية، وهي الثالثة حسب ترقيم المخطوط.
[4] العلي، صالح أحمد، العلوم عند العرب، بيروت 1409/1989: 94-95.
[5] ياقوت، معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، بيروت 1410/1990: 1/ 368، رقم 1268.
[6] ابن شريفة، "من منافرات العدوتين"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، ع 1، 1977: 8.
[7] الإدريسي، نزهة المشتاق، ط. نابولي 1975: 526، ط. دوزري، ص 166 ؛ المقري، نفح الطيب: 1/135-6.
[8] Vallvé, J., La división territorial de la España musulmana, C.S.IC., Madrid 1986, 112-3.
[9] مؤنس، حسين، تاريخ الجفرافية والجغرافيين في الأندلس، مدريد 1386/1967: 490-1.
[10] ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، بيروت 1973: 3/126-129.
[11] انظر: الرد على الشهب الثاقبة، نهاية الورقة السابعة وبداية الورقة الثامنة.
[12] من رد ابن المعلم الطنجي على رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس، انظر: المقري، نفح الطيب: 3/186-222.
[13] ماجد، جعفر، "العلاقات الأدبية بين قرطبة والقيروان في القرن 4 و 5 للهجرة" حوليات الجامعة التونسية، تونس 1976، العدد 13؛ بو يحيى ، الشاذلي، "مساهمة الأفارقة في الحياة الثقافية بالأندلس في عصر الطوائف والمرابطين"، حوليات الجامعة التونسية، تونس 1981، ع 20: 7-41؛ ريدان، سليم، "تطور الحساسية الأندلسية وأثرها في العلاقات الأدبية بين الأندلس والمشرق في عهد المرابطين …" ، حوليات الجامعة التونسية، تونس 1981، ع 20: 191-212؛ ابن حمدة، "مدارس الثقافة بالقيروان في القرن الثالث الهجري"، مجلة جامعة الزيتونة، ع 3، تونس 1414-1415/1994: 9-45؛ العبودي، جاسم، "دور المدرسة القيروانية ضمن المدارس الفقهية الواردة في المعيار للونشريسي"، دعوة الحق، الرباط 1418/1997، ع 331: 94-109.
[14] الأخضر، محمد، "الأدب المغربي في القرون الإسلامية الأولى"، مجلة البحث العلمي، الرباط، ع 22، 1979.
[15] زنبير ، "التبادل الثقافي بين الأندلس والمغرب"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط 1991، العدد 16: 9-41.
[16] ابن الخطيب، أعلام الأعلام، نشر ليفي بروفنسال، بيروت 1956: 227.
[17] الشبيبي، محمد رضا، أدب المغاربة والأندلسيين، ط 2، بيروت 1402/1984: 116-117.
[18] المقري، نفح الطيب، بيروت 1388/1968: 4/275-6.
[19] انظر ترجمته في دراساتنا عنه : Jasim Alubudi, “Dos viajes inéditos de Safwān b. Idrīs”, Sharq al-Andalus, Alicante 1993-4, nº 10-11, pp. 211-243.
وكذلك: "النص العربي لرحلتين غير منشورتين لصفوان بن إدريس" (باللغة العربية)؛ و"صفوان بن إدريس شاعر مرسية في القرن الثاني عشر الميلادي" (باللغة الإسبانية)، وقد نشرا في: مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، العدد 33، 2001، ص 9-39، 67-103.
[20] وردت هذه الرسالة في نفح الطيب : 1/170-175؛ وكذلك في مخطوط الإسكوريال رقم: 421.
[21] Granja, F. de la, “Geografía lírica de Andalucía”, en Historia de Andalucía, V, Barcelona, 1981, pp. 81-96.
[22] ابن عبد القادر التونسي، مصطفى أحمد، "محاورة بين مدن بلاد الشام " ، تحقيق صلاح محمد الخيمي، مجلة معهد المخطوطات العربية، الكويت، جمادى الأولى - شوال 1406/ يناير - يونيو 1986، المجلد الثلاثون، الجزء الأول: 135-155.
[23] انظر ترجمته: ابن رشيق القيرواني، أنـموذج الزمان في شعراء القيروان، تحقيق المطوي والبكوش، ط 2، بيروت 1991: 94-8.
[24] ابن بسام، الذخيرة، دار الثقافة، بيروت 1975: القسم الأول –المجلد الأول: 132-180.
[25] المقري، نفح الطيب، بيروت 1388/1968: 156-186؛درويش، الأندلس من نفح الطيب، 1990: 348-370.
[26] García Gómez, Emilio, Andalucía contra Berbería, Barcelona 1976.
[27] ابن شريفة، "من منافرات العدوتين"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، ع 1، 1977: 7-49.
[28] نشرت عدة مرات، وآخرها بتحقيق أحمد مختار العبادي في: مشاهدات لسان الدين ابن الخطيب.
[29] المنوني، محمد، ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين، الرباط 1399/1979: 288-9.
[30] ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: قبائل العرب في القرنين السابع والثامن الهجريين، تحقيق دوروتيا كرافولسكي، بيروت 1406-1985: 23-24.
[31] ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1972: 7/229.
[32] الصفدي، الوافي بالوفيات، اعتناء رمزي بعلبكي، فيسبادن 1404/1983: 22/253-4؛ وانظر كذلك: ابن شاكر الكتبي، فوات الوفيات، تحقيق إحسان عباس، بيروت 1973: 1/208، 3/18، 3/62، ، 3 /103-6.
[33] كراتشكوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، القاهرة 1961: 356-60.
[34] بالإضافة إلى ما أوردنا له سابقا من مصادر ومراجع، فإنك تجد قائمة طويلة ممن ترجموا له ذكرها حسين مؤنس في: تاريخ الجغرافية والجغرافيين في الأندلس، مدريد 1386/1967: 462-3؛ الجزائري، باسمة، الثقافة العربية الإسبانية عبر التاريخ، (الدراسات التي ألقيت في ندوة الثقافة العربية – الإسبانية عبر التاريخ، دمشق 10-13كانون الأول 1990)، دمشق 1991: 161.
ابو وليد البحيرى 26-05-2015, 04:47 AM ابن فضل الله العمري في ردّه على كتاب "الشهب الثاقبة" (3/3)
د. جاسم العبودي
الجزء الثالث
6- منهج ابن سعيد في (الشهب الثاقبة) ومصادره
جمع ابن سعيد بين الموهبة وعقلية العالم البحاثة، وقلق العظماء. فهو رحالة فطن دقيق الملاحظة، لا يقر له بال، حاضر البديهة، متنوع المواهب، شمولي البصيرة. وقد امتاز أسلوبه بالمتانة، وسلامة اللغة، وغزارة المادة، وسلاسة التعبير، ورزق من الفصاحة والبلاغة ما يلخص به المتعقد، ويختصر الطويل، ويحسن العبارة بالألفاظ الصقيلة والمعاني النبيلة. يقول ابن فضل الله العمري في مسالكه: "وكان أجم من البحر إمدادا، وأسجمَ من القطر عِهادا. وله الكلام الصافي الورود، الضافي البرود، وما تسير شوارده، وتنير مثل الكوكب فرائده".
يمتاز وصفه في (الشهب الثاقب) عموما بالدقة وحسن الفهم، بأسلوب سهل ممتنع، لا تخالطه حكايات إلا في النادر كتشبيه الأرض بطائر (و 45)، وهو ما يوازي به عظماء الجغرافيين الأندلسيين، كالرازي (274-344/888-955)[1] ، والعذري[2] (393-478/1003-1085)، والبكري[3] ( 405-487/1014-1094)، وابن غالب[4] (القرن السادس الهجري)، والإدريسي (و50) في كتاب (أجار= نزهة المشتاق) وكتاب (الدوحة المائسة في أخبار الأدارسة)، الذين تأثر بهم وانتفع من معلوماتهم.
ولعل أقوى تأثيرات هؤلاء هي ما تركه فيه الإدريسي، والبيهقي[5] خاصة في كتابه "الكمائم" (و 3، 24، 32، 36، 41، 42، 43، 47)، وهو الآخر ساهم في نقد المغاربة (و 42).
واطلع ابن سعيد على جغرافية بطليموس التي نقلها للعربية الكندي وثابت بن قرة (و23، 32) ، "على كثرة ما نظر في لوح الرسم المصور، وطالع الكتب الموضوعة عليه والمقالات المتفرعة فيه"، كما يقول العمري. ومن مصادر ابن سعيد الجانبية: (و 48): الأزرقي (ت 250 /864) في كتاب (مكة)، (و 47): ابن قتيبة ( ت 267/899) في (المعارف)، ( و 36): أبو بكر الخوارزمي (303-383 هـ)، (و41): بلديّه الحافظ أبو محمد ابن حزم (384-456/994-1064)، (و48): الماوردي، (و11،52): ابن بسام ( ت 542/1147) في (الذخيرة)، (و 31): ابن بشكوال، (و25، 26): ابن دحية في (المطرب)، (و5، 37): ومعاصره القاضي الفاضل ( ت 695/1296). وإذا دققت النظر في مصادر (الشهب الثاقبة) هنا، وجدتها تختلف كما ونوعا عن مصادر (المغرب) و(المشرق)[6].
ولا تظن أنه ناقل عنهم، وإنما هو مدقق للغاية حينا، كما في الجانب الجغرافي - السياسي، فقد جعل طبيرة (و 65) كورة، بعد أن كانت قرية متواضعة في عهد الإدريسي (ت 560/1165). وتبلغ دقته شدتها في جغرافيته الوصفية المبنية على الملاحظة كما في وصفه لدمشق، وتوهن بسبب اعتمادها على المصنفات فقط فتقتصر على العموميات، أمام دقة وصف ابن الخطيب القائمة على معايشتة لبلده غرناطة. وله هفوات أخرى، إن لم تكن من زلات قلم ابن فضل الله العمري، فقد سمى كتاب (و25، 27) ابن دحية (ت 633 /1236) مرتين بـ(المغرب) بدلا من (المطرب من أشعار أهل المغرب)، رغم قصر المدة بين الرجلين.
دعنا من الناحية النظرية نعرف أيهما أقرب للإنصاف، وأيهما يميل للتعصب ؟. وإذا ثبت الإنصاف لأحدهما انتفى التعصب. العمري (و 20) يدفع عن نفسه التهمة: "أنني لم أعدل عن الإنصاف، ولا قلت بالجزاف، وأي حاجة بنا إلى هذا ؟. نعوذ بالله من الجور في الحكم، والميل مع كفة الظلم". ويقر - كما قلنا سابقا- بمرارة بإنصاف (و 3) ابن سعيد. وابن سعيد يصر على أنصافه في كتابه (الشهب السابقة): "أجعله بين الخصمين ميزانا".
ويشهد له المقري ( نفح الطيب: 3/15) بذلك عن (المغرب) الأم، وليس المطبوع، بعد أن سلخ منه فصولا كثيرة: "وقال ابن سعيد لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين: يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب، ولا يجمح بهم الهوى، ولكن الحق أحق أن يتبع …".
والآن جربِ الأمر من الناحية العملية. العمري (و21) في حديثه عن الزمرد المكي، يكشف عن تعصبه حينما يعترف مرغما بأن مصر من المغرب: "وإن صح أن مصر من بلاد المغرب، فهذا لا يجحد من فضائلها". وقوله ( و 67): "لو استحيا هذا الفاضل، لما ذكر مع محامد جند الشرق، جند الغرب، إلا أن جعل مصر - كما قرر- من الغرب …". وفي كلامه (و11) عن قباطي مصر، وقماش تنيس ثم الإسكندرية يقول: "هذا إن سلم أن مصر من الغرب". وقوله (و 5): "ومصر، وهي واقعة في القسم الغربي على قول ابن سعيد، إن سلم أهل مصر أنها من المغرب". ويشتد غضبه منه لقوله: "إن مصر أول المغرب، والشام أول المشرق"، ورأي العمري أن "كلا من المشرق والغرب من حيث هو أمر نسبي". ومن هذا يتضح أن مغربية مصر، هي جوهر الصراع بينهما الذي يسبب للعمري أرقا فكريا، ولم يجد أدلة كافية يدحض بها آراء ابن سعيد في هذا الأمر، فيشتاط منه، ويتهمه بالتعصب، نكاية به.
ويمتد إجحافه أحيانا إلى ما للمغرب من فضائل (و21): "والكتان المعدوم المثل، إن صح في القسم الغربي". هاك مثالا آخر في المسميات، فقد استنكر العمري (و 3) تسمية ابن سعيد للبحر الشامي بالسبتي: "وقد ذكر البحر الرومي؛ يعني الشامي الذي سماه هنا السبتي". وإذا كان العمري يقبل تسميته بالبحر الرومي، ولا يقبل البحر السبتي اسماً له ، لأنه مقترن بمدينة سبتة المغربية، فذلك هو التعصب، لا سيما وأن هذا البحر قد نعِمَ بأسماء شتى[7].
ولو أخذنا برأي العمري من أن ابن سعيد متعصب حتى النخاع، لما أثبت في كتبه كلام ابن حوقل السابق بحرفيته!، "وفيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى"[8] على أهل بلده. وإذا كان صاحبه غير منصف فهو يناقض نفسه، فكيف يعتمد على رجل غير ثقة في معلوماته الجغرافية سواء عن المشرق أو عن المغرب ؟!.
وإذا تتبعت كلام العمري، قدرت مدى تحامله على المغاربة، الأمر الذي يجعلك تشك في إنصافه أحيانا (و 21): "ولقد تعصب [ يعني ابن سعيد] لأفقه غاية التعصب، ووضع في ذلك كتابه المسمى (المغرب في حلى المغرب)"، وقد نسي أن المشارقة هم أول من بدؤوا بهذه التواريخ المحلية وتصانيف البلدان. ولعل أشمل قائمة عن هذه التواريخ والمصنفات ما أورده السخاوي وهي التي اعتمد عليها إلى حد كبير وأوردها الصفدي في (الوافي)[9]. وقوله (و 28): "وإن كان لبعض ملوكهم [المغاربة] تلذذ، فلعله لا يبلغ ما لبعض سوقة المشارقة"، "والمغاربة لا لهم ظاهر ولا باطن" (و 30)…إلخ.
والحقيقة أنه إذا قارننا ما خطه ابن سعيد بما كتِب في المشرق في زمانه، نجد أنه أعطى للتاريخ مفهوما أوسع وتصوراً أقل تحيزاً وأكثر إنصافاً. إن سعيه الدؤوب إلى تصوير بلده في أجمل حلية، وجرأته في دقة وصفه لأحوال البلاد المشرقية والتي بقيت متوارثة إلى اليوم، وآرائه الجغرافية، ثلاثة عناصر جلبت عليه الويلات. والغريب أن أبا الفداء والعمري؛ وهما رائدا الهجوم، يعتمدان عليه في الأطوال والأعراض والأقاليم وفي كثير من معلوماتهما الجغرافية.
إن أمانته المعهودة -وهي صفة أساسية في المؤرخ الثقة- لا يشك فيها اثنان، وإن لم يكن مؤرخاً بالمعنى الحديث، كابن خلدون مثلا، فلم تخل صفحة من (المغرب) ولا من (الشهب الثاقبة) إلا ويذكر فيها العلماء الذين أخذ عنهم، أو الكتب التي نقل منها.
امتاز ابن سعيد بملكة علمية أصيلة، ساعدته على بيان الحقائق، وربط الأمور، وسياق المعلومات الكثيرة في كلمات موجزة دون إخلال، فقد أجاد اختصار التاريخ السياسي للأندلس أو كما يسميه سلطنة المسلمين وسلطنة النصارى في جزيرة الأندلس (و 65) في أسطر سلسة.
ها هو (الشهب الثاقبة)، إحياء لذكرى مؤلفه بعد أن تراجعت شهرته في وقتنا، ارتضيت أن يكون عنوانه (الرد على الشهب الثاقبة لابن سعيد في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة)، إنصافا لشريكه العمري، أقدمه بين يديك تقرؤه في حروف جلية، بعد أن قرأته أنا في حروف غامضة لا تبين، اختلط حابل نقاطها بنابلها، فاستقام لك النص أو كاد، علَّ في مادته ما يلبي حاجتك، معززاً بهوامش وتصحيحات مما أطلعنا عليه من مخطوط أو مطبوع، موزونة أشعاره، مستقيمة آياته وأمثاله، مصحوبا بفهارس عدة تعينك على غايتك. ولا يخفى على عين القارئ الحصيف، ولا عن فكر الباحث ما بُذل فيه من جهد، وما أحرصني على أن أعرف ما لم أعرف.
راضيا أن يكون الخطأ القليل علامة على إحراز الصواب الكثير. ورحم الله امْـرَأ أهدى إلـيَّ عيوبي، وإني فيما شرعت فيه لمعترف بالعجز والقصور، لا سيما في الإطلاع على بعض المصادر التي لم تتوفر في مدريد. ومن الله الاستعانة والهداية إلى سواء الطريق.
وللتوثيق، حري بي أن أقرّ وبمرارة أن هذا الكتاب عانى جزءاً من غربتي، فقد أنجزته بتأريخ السادس من ذي الحجة 1423، المصادف السابع من شباط 2003، وقد غُبطت عندما تنافست على خطبة نشره مؤسسات ومراكز وجامعات ودور نشر "عربية وإسلامية مشهورة جدا" في الخليج والعراق والسعودية ولبنان ومصر والمغرب. وطال الانتظار، وكثرت الأعذار، وبات يتنقل بين الأيدي, ويؤلمني أن أذكر أسماء من نام عندهم سنة أو سنتين، أكثر من أن يخجلهم، بعد أن وعدوه نشرا ومكافأة، حينها ترحّمت لنزار قباني لقوله[10]: "يرسلوننا من حجرة إلى حجرة/ من قبضة لقبضة/ من مالك لمالك/ من وثن لوثن/ من عدن لطنجة / من بحر بيروت إلى بحر العرب/ نبحث عن عائلة تعيلنا/ لا أحد يريدنا... من طغاة السلطة وأدعياء الثقافة". ولكن كما يقول المثل الإسباني Dios aprieta, pero no ahoga، عدت إليه بعد سنوات لأتولى أمره تصحيحا وتدقيقا وتنظيما لأفي بوعدي لصاحبنا ابن سعيد ومحبيه ، ثم أنشره على حسابي محتسبا فيه.
ــــــــــــــــــــ
[1] انظر ترجمته وسمعته في العصور الوسطى وكيفية انتقال كتبه إلى الولايات المسيحية الإسبانية والبرتغالية، وكذلك عن الإدريسي في كتابنا:
Al-Idrīsī, Los caminos de al-Andalus, C.S.I.C., ed. Jasim Alubudi, Madrid 1989, p.16-7.
[2] انظر ترجمته: Sánchez Martínez, M., “Rāzī fuente de al-‘U¼rÌ", CHI, 971pp. 7-14.
[3] البكري، جغرافية الأندلس وأوروبا، تحقيق عبد الرحمن الحجي، بيروت 1387/1968.
[4] Vallvé, J., “Una descripción de España de Ibn Gªlib”, Anuario de Filología, Barcelona 1975, pp. 369-84.
[5] في ( المقتطف لابن سعيد: 117) وردت أربعة أبيات للوزير شرف الدين البيهقي في باب الأبيات المربعة. وعرف له المحقق سيد حنفي"هو شرف الدين أبو الحسن علي بن أبي القاسم زيد البيهقي، عالم وأديب، توفى عام 565/1169. ترجمته في معجم الأدباء 5/208، وأعيان الشيعة 41/257، وهدية العارفين 1/699". وتساءل بروكلمان (تاريخ الأدب العربي: 6/40-41) بعد أن ترجم لهذا الرجل، فيما إذا كان هو نفسه صاحب "كتائب الكمائم" الذي استعمله ابن سعيد. ونستبعد أن يكون المقصود، لأن البيهقي الذي ينقل منه ابن سعيد كان في بغداد (انظر و42)، والذي ترجم له بروكلمان كان يتنقل ما بين بيهق ومرو ونيسابور والري وسرخس. وقد تعرضنا للبيهقي في هامش الورقة 41، ولكن دون الكشف عن هويته.
[6] انظر: الأنصاري، التفاعل الثقافي، بيروت 1992: 174-5.
[7] من هذه الأسماء: البحر المتوسط، البحر الشامي، البحر المتوسط الشامي، البحر المتوسط القبلي، البحر الشامي المتوسط، بحر الروم، البحر الرومي، البحر الرومي المتوسط، بحر الإسكندرية، بحر المغرب، بحر الزقاق، وربما قيل زقاق سبتة في بلاد المغرب. وعلى منوال بحر سبتة نجد "بحر جدة" (و 32)؛ أي البحر الأحمر عند ابن سعيد. انظر: القلقشندي، صبح الأعشى: 3/239-249.
[8] المقري، نفح الطيب: 1/ 212. انظر عن حياد وأمانة ابن سعيد: الأنصاري، التفاعل الثقافي، بيروت 1992: 195-6.
[9] السخاوي، الإعلان بالتاريخ، بغداد 1963: 244-291، حيث ذكر أهم هذه المصنفات.
[10] من قصيدة "لماذا يسقط متعب بن تعبان في حقوق الإنسان"، وقد ترجمتها للإسبانية مع دراسة وافية في مجلة Amanecer، مدريد، 2003، العدد 139، ص 70-71.
|