ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:32 AM
استعمال مستحضرات التجميل المشتملة على الجيلاتين
علي بن أحمد المطاع
التعريف:
الجيلاتين من اللاتينية: (Gelatus) القاسية، أو: المجمدة، هي مادة هُلاميَّة شبه صلبة وشفافة، وفي بعض الأحيان تميل للون الأصفر، عديمةُ الطعم والرائحة، موجودة في الحيوانات، خاصَّةً جلدَ الخنزير، وتتكون مع الغَلْيِ المستمر لأنسجةٍ حيوانية أو نباتية؛ ولهذا نجد الجيلاتينَ الحيوانيَّ يتكون عادةً من غَلْي سِيقان الأبقارِ والمواشي وجلودِ الخنازير، والجيلاتين النباتي يتكون عن طريق غلْيِ بعض الطحالب البحرية، والجيلاتين هو بروتين غير كامل[1].
فهو مادة بروتينية تُستخلص من جلودِ الحيوانات وعظامها، الجيلاتين صلبٌ، وعديمُ الطعم والرائحة، عندما يكون جافًّا يصبح لونُه أبيضَ تقريبًا.
أما الجيلاتين الذائبُ في الماء، فهو عديمُ اللون.
يُشكِّل الجيلاتينُ الهُلام الجامد بعد إذابتِه في ماء حار وتبريده.
لتصنيع الجيلاتين من عظام الحيوانات يجب تنظيفُ العظامِ من الدهون، ثم تُنْقَع في حمض الهيدروكلوريك لتخليصها من المعادن، وتُغْسَلُ عدَّةَ مرات في ماء نقي، تُسَخَّن العظامُ النظيفة في ماءٍ مقطرٍ في درجة حرارة 33°م لعدة ساعات، وتُستخلَص العظام، ويُعَادُ تسخينها في ماءٍ مقطرٍ درجة حرارته 39°م، يُعالج السائل كيميائيًّا لتكوين جيلاتين نقي.
وأخيرًا: يُركَّز الجيلاتين ويُبرَّد ويُشرَّح ويُجفَّف، يكون الإنتاج النهائي غالبًا على شكل مسحوق.
يُعمل جيلاتين الجلد بالطريقة نفسِها تقريبًا، إلا أن معالجة الجلد قبل التسخين مختلفة، يُستخدم الجِيرُ للتخلص من الدهون وبعض المواد الأخرى في الجلد، ثم يُغسَلُ في الماء، ويُعالَجُ بمحلول حمض الهيدروكلوريك.
الجيلاتين غذاءٌ مهم، فهو مفيدٌ بصفةٍ خاصةٍ للمرضَى والأطفال؛ لسهولة هضمه.
تَستخدِم صناعة التصوير الضوئي (الفوتوغرافي) الجيلاتينَ لطلاءِ الألواح الجافة، والأفلامِ، وأوراقِ التصويرِ الضوئي.
تُصنَّع كبسولاتُ الدواء الصلبة واللينة من الجيلاتين، مع إضافة الجليسرين لكبسولات الزيت اللينة، يستخدم العلماء الجيلاتين وسطًا تنمو فيه الأحياءُ الدقيقة[2].
وهنا أمران بين يدي الموضوع:
الأول: أنه تبين لنا استخراجُ الجيلاتين من النباتات، ومن الحيوانات من جلودها وعظامها، وهذه الحيوانات قد تكون مما أحلَّه الشرعُ، وقد تكون مما حرَّمه، والمحرمة: قد تكون لذاتِها؛ كالخنزير، أو لكونِها غيرَ مُذكَّاةٍ مثلًا بالطريقة الشرعية، والخنزيرُ: من أغنى مصادر الجيلاتين.
والثاني: أن استخدامَ الجيلاتين منتشر في الكثير من المنتجات كبعضِ الأغذية والكريمات والدهانات وأدوات التجميل والزينة ومعجون الأسنان، بل وحتى الأدوية، وهذا يدعو إلى الأخذِ بعينِ الاعتبارِ لوجودِها والنظر في حكمها.
عموم البلوى بهذه المركبات:
ويُعاني الكثيرُ من المقيمين والمسافرين في الدول غيرِ المسلمة من كثرةِ وجودِها في المنتجاتِ والمستحضرات، التي يَصعُبُ أحيانًا الاستغناءُ عنها؛ كالمراهمِ والكِريماتِ، ويَخفُّ الاستغناءُ عن بعضها مع نُدْرة أو انعدامِ البديلِ الذي يقوم مقامَها، وربما وجدت بعض المركبات التجميلية لإزالة بعض التشوهات الناجمة عن حروق أو حوادث أو نحوها، مما هو أقربُ إلى الدواء...إلى غير ذلك من الأمور.
وليس في بلادِ غير المسلمين فحسب، فقد صار العالمُ شبهَ قريةٍ واحدة تُروج البضائع والأدوات، وتستوردُ إلى بلاد المسلمين، ويَكثُرُ استخدامُها ويَسْهُلُ، وقليلٌ ما هم الذين يتحرَّوْن ويقرؤون مكوِّناتِ المنتجِ، ويدركون مرُكَّباته الكيميائية وتفاصيلَها.
لقد ثَقُلَ الأمرُ بهذه المنتجات الصناعية، وشق على الكثير من المسلمين الاحترازُ منها أو الاستغناءُ عنها، فضلًا عن الجهلِ وقلَّةِ التحرِّي في أوساط العامَّةِ بجزئيات تلك المركبات الصناعية، فكان اندراجُ هذه القضية تحتَ قاعدةِ عمومِ البَلْوَى أمرًا له اعتباره، والنظر في المسألة من منظور الشرع مما لا مَناصَ منه.
حكمُ المسألةِ:
بتتبع آثارِ السالكين في هذه المسألة نجدُ: أن مادة الجيلاتين المتخذة من النباتات والحيوانات الجائز أكلُها المذكَّاة شرعًا - لا إشكال فيها، ولا خلافَ، ولا مانعَ من استخدام تلك المواد؛ لأن الجيلاتين في هذه الحالة مُستخلَصٌ من طاهرٍ.
وإنما يظهر الخلافُ في المسألةِ إذا كان مصدرُ المادة "الجيلاتين" حيواناتٍ محرمةً؛ كالخنزيرِ، وما لم يُذَكَّ، فهنا ذهب أهلُ العلم مذهبَيْنِ:
أحدُهما: القطع بأن استخدام تلك المادة محرم شرعًا؛ لأن أصلَها متفق على نجاستِه وحرمةِ أكله، ولا ضرورةَ داعيةٌ إلى الانتفاعِ بها، ولا عبرةَ بتحلُّلِه؛ لأنه غير متحلِّلٍ بنفسه، وأيضًا المرءُ في غناءٍ عنه، والبديل موفور، قال الشيخ محمد المختار السلامي في بحثه المقدم إلى مجلة مجمع الفقه الإسلامي: "الخمائرُ الجيلاتين على نوعين: حيوانيةٍ، ونباتيةٍ، فالنباتية: جائزة بلا خلاف، وأما الجيلاتين الحيوانيُّ: فبعضه مستخرَجٌ من تحت جلد الخنزير، وهذا لا خلافَ في نجاستِه، وحرمةِ أكلِه، ولا ضرورةَ تدعو للانتفاع به؛ لإمكان الاستغناء عنه بالجيلاتين النباتي أو الجيلاتين الحيواني المستخرج من البقر"[3].
وجاء في قرارات وتوصيات مَجْمَعِ الفقه الإسلامي: "لا يحلُّ للمسلم استعمالُ الخمائر والجيلاتين المأخوذةِ من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائرِ والجيلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكَّاة شرعًا غنيةٌ عن ذلك[4]".
وهكذا أفتى الشيخ محمدُ بنُ عبداللطيف آلُ سعد بقوله: "لا يجوزُ استعمالُ هذه الخمائر والجيلاتين المستخلصة من الخنزير، لا سيما إذا لم تكن هناك ضرورة"[5].
وبهذا نَخْلُصُ إلى هذا الرأي المعتبر لأصل المادة وعدم استحالتِها، وإمكانية الاستغناء عنها، موصلًا إلى الحرمة المانعة من استعمال المواد المحتوية على مادة الجيلاتين، وهو قولٌ وجيهٌ وحَريٌّ بالاعتبار.
ثانيهما: الجوازُ؛ نظرًا لما يظهر من استحالة للمادة وزوال حقيقتها، فحكمُها حكمُ النجاسةِ التي انغمرت في الماء الكثير، وذهب أثرُها، فكيف لو انضافت إلى ذلك مشقةٌ في اجتنابها، أو ضرورة إلى استخدامها؛ نتيجةَ انتشارها وكثرة دخولها في المواد المستعملة في العالم كله، والناس ليسوا سواء في الفِطْنة لما تحتويه المركبات الكيميائية والتنقيب عنها.
وبهذا قال القاضي محمد تقي الدين العثماني: إن كان العنصرُ المستخلصُ من الخنزيرِ تستحيلُ ماهيَّتُه بعملية كيمياوية، بحيث تنقلب حقيقتُه تمامًا، زالت حرمتُه ونجاستُه، وإن لم تنقلب حقيقته، بقي على حرمتِه ونجاسته؛ لأن انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة عند الحنفية[6].
وبهذا أجاب فضيلة الشيخ محيي الدين قادي في بحثِه المقدَّمِ إلى مجلةِ مَجْمَعِ الفقه الإسلامي[7]، مستندًا إلى أن مادة الجيلاتين تحتوي على نسب ضئيلة من عظمة من الخنزير، وأن هذه النسبة الضئيلة جدًّا يمكن استحالتها وزوالها، معتمدًا على ما نقله العلماءُ من الخلاف حول الاستحالة إن كانت بنفسها أو بمعالجة، كالقمح النجس يزرع فينبت، فهو طاهر، والخمر إذا تحجر؛ أي: جمد وصار طرطارًا على المشهورِ، وكذلك إن صارت خلاًّ، ونحوها من المسائل، ثم أردف بكلامٍ لابن تيميةَ قال فيه: "الاستقراءُ دلَّنا: أن كل ما بدأ الله بتحليله وتبديله من ***ٍ إلى ***ٍ؛ مثلَ جعلِ الخمرِ خلاًّ، والدَّم منيًّا، والعَلقة مضغةً، ولحم الجلاَّلةِ الخبيث طيبًا، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المسقَى بالنجسِ إذا سُقِيَ بالماء الطاهر وغيرِ ذلك، وأنه يزول حكم التنجيسِ، ويزول حقيقة النجس، واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولُها من حال إلى حال، ويبدلها خلقًا بعد خلق، ولا التفاتَ إلى موادها وعناصرها.
وأما ما استحالَ بسبب كسْبِ الإنسان كإحراقِ الرَّوثِ حتى يصيرَ رَمادًا، ووضعِ الخنزير في الملاحةِ حتى يصيرَ مِلحًا، ففيه خلافٌ مشهورٌ، وللقول بالتطهير اتجاهٌ وظهورٌ"[8].
ثم قال [الشيخ محيي الدين قادي]: وانطلاقًا من كل النصوص الفقهيةِ التي نُقلِت، والمقتضيةِ أن النجاسة تطهُرُ بالاستحالة، أفتي إخواني المسلمين في بلاد الغُربةِ وغيرها من بلاد الإسلام بحليَّة ما تستعمل فيه الخمائرُ والجيلاتين المذكورة، واستعمالُ غيره من الخمائر النباتية، أو الجيلاتين التي تحتوي على نسب من عظْمِ حيواناتٍ مُذكَّاةٍ ويحلُّ لنا أكلُها كالبقر - أَوْلَى وأَدْخلُ في بابِ اتِّقاءِ ما يريب، والله أعلم[9].
الترجيحُ، والتوصيةُ بأمرين:
ومن هنا، يمكننا القول: بأن عمومَ البلوَى بهذه المصنَّعات والمنتجات التي وصلَتْ إلى بلادنا - يُنْبِئ بجواز استخدام تلك المستحضرات؛ دفعًا للمشقة، وتكليفِ الناسِ بما لا يطيقون تتبُّعَه وتحرِّيَه، وما دامتِ الاستحالةُ ممكنة، وزوال أصل المادة النجسة ممكنًا، فالجواز أمكن لا شك إن دعت إلى ذلك ضرورة، أو شق التجنب.
مع التذكير بأهمية أمرين:
♦ تطويرُ المجالات الصناعية والإنتاجية التي تتحرى اجتناب ما فيه شبهة أو ريبة، والجهاتُ المعنِيَّة بهذا الأمر: الحكومات، والجهات المنتجة والمصنعة، والمختبرات المعتمد عليها في التركيب.
♦ تحرِّي الأحوطِ ما أمكن، والتقلُّلُ مما فيه خلاف عند أهل العلم، كما هي عليه مسألتنا هذه، فلكلا الفريقين دليلُه وحجتُه، وهما من القوة بمكان، فالاتِّقاء لما يريب أحوطُ وأسلَمُ.
والله الموفق.
________________________________
[1] موسوعة ويكيبيديا.
[2] الموسوعة العربية العالمية (حرف الجيم).
[3] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2233).
[4] قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص: 17).
[5] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2192).
[6] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2210).
[7] انظر المجلة (2/ 2281).
[8] مجموع الفتاوى (21/ 601).
[9] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2281).
علي بن أحمد المطاع
التعريف:
الجيلاتين من اللاتينية: (Gelatus) القاسية، أو: المجمدة، هي مادة هُلاميَّة شبه صلبة وشفافة، وفي بعض الأحيان تميل للون الأصفر، عديمةُ الطعم والرائحة، موجودة في الحيوانات، خاصَّةً جلدَ الخنزير، وتتكون مع الغَلْيِ المستمر لأنسجةٍ حيوانية أو نباتية؛ ولهذا نجد الجيلاتينَ الحيوانيَّ يتكون عادةً من غَلْي سِيقان الأبقارِ والمواشي وجلودِ الخنازير، والجيلاتين النباتي يتكون عن طريق غلْيِ بعض الطحالب البحرية، والجيلاتين هو بروتين غير كامل[1].
فهو مادة بروتينية تُستخلص من جلودِ الحيوانات وعظامها، الجيلاتين صلبٌ، وعديمُ الطعم والرائحة، عندما يكون جافًّا يصبح لونُه أبيضَ تقريبًا.
أما الجيلاتين الذائبُ في الماء، فهو عديمُ اللون.
يُشكِّل الجيلاتينُ الهُلام الجامد بعد إذابتِه في ماء حار وتبريده.
لتصنيع الجيلاتين من عظام الحيوانات يجب تنظيفُ العظامِ من الدهون، ثم تُنْقَع في حمض الهيدروكلوريك لتخليصها من المعادن، وتُغْسَلُ عدَّةَ مرات في ماء نقي، تُسَخَّن العظامُ النظيفة في ماءٍ مقطرٍ في درجة حرارة 33°م لعدة ساعات، وتُستخلَص العظام، ويُعَادُ تسخينها في ماءٍ مقطرٍ درجة حرارته 39°م، يُعالج السائل كيميائيًّا لتكوين جيلاتين نقي.
وأخيرًا: يُركَّز الجيلاتين ويُبرَّد ويُشرَّح ويُجفَّف، يكون الإنتاج النهائي غالبًا على شكل مسحوق.
يُعمل جيلاتين الجلد بالطريقة نفسِها تقريبًا، إلا أن معالجة الجلد قبل التسخين مختلفة، يُستخدم الجِيرُ للتخلص من الدهون وبعض المواد الأخرى في الجلد، ثم يُغسَلُ في الماء، ويُعالَجُ بمحلول حمض الهيدروكلوريك.
الجيلاتين غذاءٌ مهم، فهو مفيدٌ بصفةٍ خاصةٍ للمرضَى والأطفال؛ لسهولة هضمه.
تَستخدِم صناعة التصوير الضوئي (الفوتوغرافي) الجيلاتينَ لطلاءِ الألواح الجافة، والأفلامِ، وأوراقِ التصويرِ الضوئي.
تُصنَّع كبسولاتُ الدواء الصلبة واللينة من الجيلاتين، مع إضافة الجليسرين لكبسولات الزيت اللينة، يستخدم العلماء الجيلاتين وسطًا تنمو فيه الأحياءُ الدقيقة[2].
وهنا أمران بين يدي الموضوع:
الأول: أنه تبين لنا استخراجُ الجيلاتين من النباتات، ومن الحيوانات من جلودها وعظامها، وهذه الحيوانات قد تكون مما أحلَّه الشرعُ، وقد تكون مما حرَّمه، والمحرمة: قد تكون لذاتِها؛ كالخنزير، أو لكونِها غيرَ مُذكَّاةٍ مثلًا بالطريقة الشرعية، والخنزيرُ: من أغنى مصادر الجيلاتين.
والثاني: أن استخدامَ الجيلاتين منتشر في الكثير من المنتجات كبعضِ الأغذية والكريمات والدهانات وأدوات التجميل والزينة ومعجون الأسنان، بل وحتى الأدوية، وهذا يدعو إلى الأخذِ بعينِ الاعتبارِ لوجودِها والنظر في حكمها.
عموم البلوى بهذه المركبات:
ويُعاني الكثيرُ من المقيمين والمسافرين في الدول غيرِ المسلمة من كثرةِ وجودِها في المنتجاتِ والمستحضرات، التي يَصعُبُ أحيانًا الاستغناءُ عنها؛ كالمراهمِ والكِريماتِ، ويَخفُّ الاستغناءُ عن بعضها مع نُدْرة أو انعدامِ البديلِ الذي يقوم مقامَها، وربما وجدت بعض المركبات التجميلية لإزالة بعض التشوهات الناجمة عن حروق أو حوادث أو نحوها، مما هو أقربُ إلى الدواء...إلى غير ذلك من الأمور.
وليس في بلادِ غير المسلمين فحسب، فقد صار العالمُ شبهَ قريةٍ واحدة تُروج البضائع والأدوات، وتستوردُ إلى بلاد المسلمين، ويَكثُرُ استخدامُها ويَسْهُلُ، وقليلٌ ما هم الذين يتحرَّوْن ويقرؤون مكوِّناتِ المنتجِ، ويدركون مرُكَّباته الكيميائية وتفاصيلَها.
لقد ثَقُلَ الأمرُ بهذه المنتجات الصناعية، وشق على الكثير من المسلمين الاحترازُ منها أو الاستغناءُ عنها، فضلًا عن الجهلِ وقلَّةِ التحرِّي في أوساط العامَّةِ بجزئيات تلك المركبات الصناعية، فكان اندراجُ هذه القضية تحتَ قاعدةِ عمومِ البَلْوَى أمرًا له اعتباره، والنظر في المسألة من منظور الشرع مما لا مَناصَ منه.
حكمُ المسألةِ:
بتتبع آثارِ السالكين في هذه المسألة نجدُ: أن مادة الجيلاتين المتخذة من النباتات والحيوانات الجائز أكلُها المذكَّاة شرعًا - لا إشكال فيها، ولا خلافَ، ولا مانعَ من استخدام تلك المواد؛ لأن الجيلاتين في هذه الحالة مُستخلَصٌ من طاهرٍ.
وإنما يظهر الخلافُ في المسألةِ إذا كان مصدرُ المادة "الجيلاتين" حيواناتٍ محرمةً؛ كالخنزيرِ، وما لم يُذَكَّ، فهنا ذهب أهلُ العلم مذهبَيْنِ:
أحدُهما: القطع بأن استخدام تلك المادة محرم شرعًا؛ لأن أصلَها متفق على نجاستِه وحرمةِ أكله، ولا ضرورةَ داعيةٌ إلى الانتفاعِ بها، ولا عبرةَ بتحلُّلِه؛ لأنه غير متحلِّلٍ بنفسه، وأيضًا المرءُ في غناءٍ عنه، والبديل موفور، قال الشيخ محمد المختار السلامي في بحثه المقدم إلى مجلة مجمع الفقه الإسلامي: "الخمائرُ الجيلاتين على نوعين: حيوانيةٍ، ونباتيةٍ، فالنباتية: جائزة بلا خلاف، وأما الجيلاتين الحيوانيُّ: فبعضه مستخرَجٌ من تحت جلد الخنزير، وهذا لا خلافَ في نجاستِه، وحرمةِ أكلِه، ولا ضرورةَ تدعو للانتفاع به؛ لإمكان الاستغناء عنه بالجيلاتين النباتي أو الجيلاتين الحيواني المستخرج من البقر"[3].
وجاء في قرارات وتوصيات مَجْمَعِ الفقه الإسلامي: "لا يحلُّ للمسلم استعمالُ الخمائر والجيلاتين المأخوذةِ من الخنازير في الأغذية، وفي الخمائرِ والجيلاتين المتخذة من النباتات أو الحيوانات المذكَّاة شرعًا غنيةٌ عن ذلك[4]".
وهكذا أفتى الشيخ محمدُ بنُ عبداللطيف آلُ سعد بقوله: "لا يجوزُ استعمالُ هذه الخمائر والجيلاتين المستخلصة من الخنزير، لا سيما إذا لم تكن هناك ضرورة"[5].
وبهذا نَخْلُصُ إلى هذا الرأي المعتبر لأصل المادة وعدم استحالتِها، وإمكانية الاستغناء عنها، موصلًا إلى الحرمة المانعة من استعمال المواد المحتوية على مادة الجيلاتين، وهو قولٌ وجيهٌ وحَريٌّ بالاعتبار.
ثانيهما: الجوازُ؛ نظرًا لما يظهر من استحالة للمادة وزوال حقيقتها، فحكمُها حكمُ النجاسةِ التي انغمرت في الماء الكثير، وذهب أثرُها، فكيف لو انضافت إلى ذلك مشقةٌ في اجتنابها، أو ضرورة إلى استخدامها؛ نتيجةَ انتشارها وكثرة دخولها في المواد المستعملة في العالم كله، والناس ليسوا سواء في الفِطْنة لما تحتويه المركبات الكيميائية والتنقيب عنها.
وبهذا قال القاضي محمد تقي الدين العثماني: إن كان العنصرُ المستخلصُ من الخنزيرِ تستحيلُ ماهيَّتُه بعملية كيمياوية، بحيث تنقلب حقيقتُه تمامًا، زالت حرمتُه ونجاستُه، وإن لم تنقلب حقيقته، بقي على حرمتِه ونجاسته؛ لأن انقلاب الحقيقة مؤثر في زوال الطهارة والحرمة عند الحنفية[6].
وبهذا أجاب فضيلة الشيخ محيي الدين قادي في بحثِه المقدَّمِ إلى مجلةِ مَجْمَعِ الفقه الإسلامي[7]، مستندًا إلى أن مادة الجيلاتين تحتوي على نسب ضئيلة من عظمة من الخنزير، وأن هذه النسبة الضئيلة جدًّا يمكن استحالتها وزوالها، معتمدًا على ما نقله العلماءُ من الخلاف حول الاستحالة إن كانت بنفسها أو بمعالجة، كالقمح النجس يزرع فينبت، فهو طاهر، والخمر إذا تحجر؛ أي: جمد وصار طرطارًا على المشهورِ، وكذلك إن صارت خلاًّ، ونحوها من المسائل، ثم أردف بكلامٍ لابن تيميةَ قال فيه: "الاستقراءُ دلَّنا: أن كل ما بدأ الله بتحليله وتبديله من ***ٍ إلى ***ٍ؛ مثلَ جعلِ الخمرِ خلاًّ، والدَّم منيًّا، والعَلقة مضغةً، ولحم الجلاَّلةِ الخبيث طيبًا، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المسقَى بالنجسِ إذا سُقِيَ بالماء الطاهر وغيرِ ذلك، وأنه يزول حكم التنجيسِ، ويزول حقيقة النجس، واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولُها من حال إلى حال، ويبدلها خلقًا بعد خلق، ولا التفاتَ إلى موادها وعناصرها.
وأما ما استحالَ بسبب كسْبِ الإنسان كإحراقِ الرَّوثِ حتى يصيرَ رَمادًا، ووضعِ الخنزير في الملاحةِ حتى يصيرَ مِلحًا، ففيه خلافٌ مشهورٌ، وللقول بالتطهير اتجاهٌ وظهورٌ"[8].
ثم قال [الشيخ محيي الدين قادي]: وانطلاقًا من كل النصوص الفقهيةِ التي نُقلِت، والمقتضيةِ أن النجاسة تطهُرُ بالاستحالة، أفتي إخواني المسلمين في بلاد الغُربةِ وغيرها من بلاد الإسلام بحليَّة ما تستعمل فيه الخمائرُ والجيلاتين المذكورة، واستعمالُ غيره من الخمائر النباتية، أو الجيلاتين التي تحتوي على نسب من عظْمِ حيواناتٍ مُذكَّاةٍ ويحلُّ لنا أكلُها كالبقر - أَوْلَى وأَدْخلُ في بابِ اتِّقاءِ ما يريب، والله أعلم[9].
الترجيحُ، والتوصيةُ بأمرين:
ومن هنا، يمكننا القول: بأن عمومَ البلوَى بهذه المصنَّعات والمنتجات التي وصلَتْ إلى بلادنا - يُنْبِئ بجواز استخدام تلك المستحضرات؛ دفعًا للمشقة، وتكليفِ الناسِ بما لا يطيقون تتبُّعَه وتحرِّيَه، وما دامتِ الاستحالةُ ممكنة، وزوال أصل المادة النجسة ممكنًا، فالجواز أمكن لا شك إن دعت إلى ذلك ضرورة، أو شق التجنب.
مع التذكير بأهمية أمرين:
♦ تطويرُ المجالات الصناعية والإنتاجية التي تتحرى اجتناب ما فيه شبهة أو ريبة، والجهاتُ المعنِيَّة بهذا الأمر: الحكومات، والجهات المنتجة والمصنعة، والمختبرات المعتمد عليها في التركيب.
♦ تحرِّي الأحوطِ ما أمكن، والتقلُّلُ مما فيه خلاف عند أهل العلم، كما هي عليه مسألتنا هذه، فلكلا الفريقين دليلُه وحجتُه، وهما من القوة بمكان، فالاتِّقاء لما يريب أحوطُ وأسلَمُ.
والله الموفق.
________________________________
[1] موسوعة ويكيبيديا.
[2] الموسوعة العربية العالمية (حرف الجيم).
[3] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2233).
[4] قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي (ص: 17).
[5] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2192).
[6] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2210).
[7] انظر المجلة (2/ 2281).
[8] مجموع الفتاوى (21/ 601).
[9] مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/ 2281).