مشاهدة النسخة كاملة : المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل


ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:30 PM
المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (1/10)




د. جاسم العبودي







أ- المقدمة

إنَّ الهدف من هذه الدِّراسة المقتضَبة، هو تعريف القارئ بقصيدة فريدة[1] للمعتمد، ثُم تسليط الضَّوء على خبَرين له تركا بصماتِهما في أدب دون خوان مانويل، رائد النَّثر الأسباني في القرن 14 م، ممَّا يدخُل في حقْل التَّأثيرات بين الأدبين، وقبل هذا وذاك، لا بدَّ من تعريف موجز بالرجُلين، وإن كانت شهرة الأوَّل تُغْني عن الإطناب عنه؛ لأنَّها اجتازت حدودَ "العربيات"، فحلَّقت في سماء كثير من الآفاق، فأذْكت قرائح وذكريات، بيْنما شهرة الثاني - ولو أنَّ العربية أسهمتْ في أرْياشها - بقيت تَحوم على أرض "الأسبانيات".



نعلمُ ما وصلت إليه قرطبة من حضارة في ظِلِّ الإسلام، ولكن لا نعلم لماذا هوَت حضارتُها بسرعة متناهية؟ ألِهشاشة البِناء السياسي أو لغيابه الَّذي لَم يدرس بجدِّية بعدُ؟ حيث تمثَّل - في بعض صُوَرِه - في عجْز السُّلْطة المركزيَّة في قيادة العناصِر العرقيَّة المستوْردة إلى الأندلس، أو المولَّدة فيها؟ أو كما يقول ابن سعيد (ت 685/ 1286): "كان ولاة بني أميَّة في نهاية الانقياد للحقّ لهم أو عليْهم، وبذلِك انضبط لهم أمرُ الجزيرة، ولمَّا خرقوا هذا النَّاموس كان أوَّل ما تهتَّك أمرهم، إلى أن وقعتِ الفتنة، فظهرت ملوك الطَّوائف واستبدُّوا"[2]، وأصبح توثُّبهم على السُّلْطة مصدر إلهام الشُّعراء:


مِمَّا يُزَهِّدُنِي فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ تَلْقِيبُ مُعْتَضِدٍ فِيهَا وَمُعْتَمِدِ

أَلْقَابُ مَمْلَكَةٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الأَسَدِ



وقد ردَّ ابن اللبانة - وهو من مشاهير شعراء الأندلُس - على أبيات ابن رشيق القيرواني هذه، ووصفه بأنَّه "كلب عقور نبح"، مدافعًا عن آل عباد، ضمن كتاب ألَّفه فيهم سماه "الاعتماد في أخبار بني عباد".



ترى أكان الإسلام غريبًا في الأندلس، ولم يمنح فيها إلاَّ "جواز عبور مؤقت" ليرحَّل فيه إلى دويلات ملوك الطوئف؟ أو ما تسمِّيهم المصادر الأسبانيَّة استخفافًا بهم "مُلَيك" reyezuelo؛ وهو مصغَّر تحقيري لكلِمة "ملك".



ب- نبذة عن حياة المعتمد:

والمعتضِد[3] المذْكور في البيْت الأوَّل هو عبَّاد بن محمَّد بن عبّاد (407 -461/ 1016 - 1069)، أصبح ملِكًا (1042 - 1069) على إشبيليَّة وغيرها، وتلقَّب "بالمعتضِد" اقتفاء لسيرة المعتضد العبَّاسي، وهو - كما يصِفُه ابن بسَّام (ت 543/ 1148) -: "أسد الملوك في وقْتِه، وقُطْب رحى الفتنة"، والد المترجَم له: المعتمد، وهما من أشهر ملوك دول الطوائف؛ ملوك أشبيليَّة وغرب الأندلس[4] الَّذي وصل عددُها إلى 39 دويْلة.



ولد محمد بن عبَّاد، الملقَّب بالمعتمِد، سنة 431/ 1040، في مدينة باجة Beja البرتغالية[5]، وليس بإشبيلية كما يقول ميشال عاصي في كتابه "الشعر والبيئة في الأندلس، بيروت، 1970"، وكان أبوه قد حاول أن يُمرسه في الأدب والحكم والحرب، فعيَّنه واليًا على مدينة أُنْبَة، ثم واليًا على شِلب Silves؛ غرب البرتغال[6] سنة 444/ 1052، بعد محاصرتِها، وهو في الثَّالثة عشْرة من عمره.



وفيها توثَّقت علاقتُه بابن عمَّار (1031 - 1086) الذي يُعْرف بالمصادر الأسبانيَّة Abenámar، حيث أثّر كثيرًا على حياته، فكانا توْءمين في الشِّعْر واللَّهو، حتى نفاه المعتضد من شلب، وأبعده عن ابنِه المعتمد[7]، وقد أدَّى فشلُه في الاستِيلاء على بربر مالقة المتمرِّدين سنة 458/ 1006، إلى أن يقابله أبوه بإحجام قاسٍ، كادَ أن يُودي بحياته، ويكون أمرُه مثل مصير أخيه إسماعيل، الذي يقال: إنَّ أباه قد ***ه، ولكن سرعان ما استعْطفه بقصائد استلَّت من أبيه الصَّفح عنه.



ولمَّا تولَّى الحكم بإشبيلية بعد وفاة أبيه سنة 461/ 1069، أعاد ابن عمَّار، وعاد معه إلى مطارحاته الشعريَّة ومجالس أنسه، وابتنى قصور الثريَّا والمبارك والوحيد والزَّاهي، ولم يُهْمِل شؤون دولتِه، فاحتلَّ قرطبة 462/ 1070 التي كانت قد استعصتْ على والده، واستوْلَى على مرسية عام 471/ 1078، ولم تحقِّق معركة الزلاَّقة 479/ 1086 أهدافَها سوى سلام هشٍّ مؤقَّت وورقة اعتراف بشجاعة نادرة وتفانٍ للمعتمد، مقابل اندحار الفونسو السادس فيها أمام جيوش الأندلسيِّين والمرابطين.



ورغْم هذا فقد خلعه يوسف بن تاشفين سنة 484/ 1091 في دخولِه الثاني للأندلس، فقد اقتحم المرابطون إشبيلية عَنْوة، فخرج المعتمد يقاتلهم بنفسِه عند باب قصره غير وَجِلٍ ولا هيَّاب مدَّة ستَّة أيام، ولكن ذلك لَم يدفع عنه شيئًا، فوقع أسيرًا واستولى المرابطون على إشبيلية في 22 رجب 484 / 7 سبتمبر 1091[8]، فنُفِي مع مَن سلِم من القتْل والسَّبي من عائلته إلى أغمات، وكان قد سبق المعتمد إلى هذا المنفى عبدالله بن بلقين أمير غرناطة، ويبدو أنَّ ابن اللبانة كان حاضرًا، فرسم لنا دقائق وداع النَّاس للمعتمد:




حَانَ الوَدَاعُ فَضَجَّتْ كُلُّ صَارِخَةٍ وَصَارِخٍ مِنْ مُفَدَّاةٍ وَمِنْ فَادِي

سَارَتْ سَفَائِنُهُمْ وَالنَّوْحُ يَتْبَعُهَا كَأَنَّهَا إِبِلٌ يَحْدُو بِهَا الحَادِي

كَمْ سَالَ فِي المَاءِ مِنْ دَمْعٍ وَكَمْ حَمَلَتْ تِلْكَ القَطَائِعُ مِنْ قِطْعَاتِ أَكْبَادِ





واشتدت وطأة الأَسْرِ على زوجته اعتماد الرميكية، ولم تقوَ طويلا على مغالبة المحنة، فتُوفيت قبله، ودُفنت بأغمات على مقربة من سجنه، وطال أَسْر المعتمد فبلغ نحوَ أربع سنوات حتَّى أنقذه الموت من هوان السجْن وذلِّ السجَّان.



وكما قيل: مات بها "ذليلاً فقيرًا، على حال يوحش سماعها"، "وقد نُودي في جنازته: الصلاة على الغريب"، فلقِي ربَّه في 11 شوَّال 488/ 14 أكتوبر 1095، ودُفن إلى جانب زوجته.



ج- تساؤلات:

ولعلَّك تتساءل معي - رغْم كثْرة الدراسات عنه - ولا أُخفيكم عجزي عن إجابة ما يُطْرح هنا في عجالة كهذه، وأطمح ألاَّ تتحوَّل إلى مقالة التساؤلات: ما هي أسباب شهرة المعتمِد الملك الشَّاعر؟ هل هي لأنَّ ملوك العرب الذين عُرفت أشعارُهم قلَّة لا يتجاوزون عدد أصابع اليد؟ ولماذا "نفوس الأدباء إلى أخبارِه شديدة الطموح"؟ وهل لأنَّ الله تعالى جعل له رقَّة في القلوب كما يقول ابن الأبار؟ وكيف أنَّ طائفة من "فسّاق فاس" سُجِنوا جنب المعتمد، ثم شُفِع فيهم، بينما بقي المعتمد في حبسه؟!



وَلِمَ كلُّ هذا التعاطف معه والدفاع عنه، سواء من قِبَل شعرائه أو شعراء الأندلس، أو كتاب العرب وغيرهم؟ وهل حقًّا كان هذا التَّعاطف بسبب خلعِه؟ وهل كان يوسف بن تاشُفِين قد ظلمه؟ وهل نجح في الجمْع بين إمارة السيف والقلَم؟



وهل كان "طاغية" كأبيه أم كان رؤوفًا برعيّته؟ وَلِمَ لَمْ يُدافع عنه الناس، إذا كانوا حقًّا "قد حشروا - لوداعه بعد خلعِه - بضفتي الوادي، وبكوْه بدموع الغوادي"؟ وهل كان "فذًّا في البلاغة، طِرْفًا في الشعر والكتابة، بارع النظم والنثر، كثير الأدَب، جزل اللفظ، كثير المعاني، رقيق الحاشية، كثيف المتْن، كثير البديع، رائق الدّيباجة، لائق الاستعارة، حسن الإشارة، جمّ التوليد"، كما يقول ابن الصيرفي[9]؟... إلخ.



هذا بعض ما آمُل أن أراه في دراسة منهجيَّة، شبيهة بدراسة هنري بيريس، والتي طُبِعَت لأوَّل مرَّة في باريس عام 1937 "عن الشعر الأندلسي الفصيح في القرن الحادي عشر الميلادي"[10]، ولأهمّيَّتها تُرجمت أوَّل مرَّة للأسبانيَّة عام 1983، وبعد سنين طوال تُرْجِمت للعربية، وهذا ما أسعى إليْه هنا من خلال تسليط الضَّوء على نقْطَتين، وهما: منزلة المعتمِد من خلال "النوريَّات والحكايات".






http://www.alukah.net/userfiles/abbad%20palace%201.jpg






جوانب من القصور الملكيَّة (قصر المعتمد) في إشبيلية من الدَّاخل






http://www.alukah.net/userfiles/abbad%20palace%202%281%29.jpg





ــــــــــــــــــــــــــ

[1] - تشكل هذه القصيدة الزهرة التَّاسعة والسبعين من كتاب "مسرح الأفكار في نسمات الأزهار"، لمؤلفه أحمد بن مطير الربعي (ق 9/ 15)، تحقيق د. جاسم العبودي، طُبِع على نفقة جامعة كومبلوتنسى، مدريد 1992، وستنشر لاحقًا.
[2] المقري، نفح الطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1388/ 1968: 1/ 213.
[3] - انظر عن حياته ومصادر ترجمته مقالتَنَا عنه في دائرة المعرف الإسلاميَّة التركية: جاسم العبودي، "المعتضد بالله العبادي"، وقف الديانة التركي، الموسوعة الإسلامية، أستنبول، 2006، المجلد 31، ص 385.
[4] - عن دول الطوائف ينظر: ابن عبود، "بيبليوغرافيا لدراسة إشبيلية والأندلس في عهد ملوك الطوائف"، مجلة البحث العلمي، المغرب، 1979، ع 29 - 30: 263 - 297.
[5] - باجة هي من الكور الغربيَّة التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عباد، وتقع اليوم ضمن حدود البرتغال، وتبعد حوالي 222 كم عن مدينة إشبيلية الأسبانية.
[6] الحميري، روض المعطار، بيروت 1988: 35/ 106، 8/ 111، 115، 161.
[7] انظر: جمعة شيخة، "النقد السياسي في الشعر العربي بالأندلس"، ملتقى الدراسات المغربية الأندلسية، 26 - 28 أبريل 1993، الدار البيضاء 1995: 103 - 137، خاصة ص 110، 129.
[8] انظر: ابن عبود، "دولة بين عباد: تحليل لقيامها وسقوطها"، مجلة البحث العلمي، ع 32، 1981: 37 - 73؛ العسلي، المعتمد وابن تاشفين، بيروت 1405 هـ.
[9] ابن الخطيب، أعلام الأعلام، بيروت 1956: 157.
[10] Pérès, Henry: Esplendor de al-Andalus. Traducción de Mercedes García-Arenal, Madrid, 1ª ed., 1983; 2ª ed., Hiperión, 1990.

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:31 PM
المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (2/10)




د. جاسم العبودي






د - شهرة استحقاق أم شهرة تعاطف؟
د-1- من 1846 إلى 1920
لم يكن المعتمد أوَّل ملك أُنزل عن عرشه، فهل كان من طراز خاص؟ وهل حقًّا ما يقول جبرائيل جبور[1]: "ولستُ أعلم رجُلاً في تاريخِنا العربي، أو في تاريخ الأُمَم الأخرى كان لنكبتِه من الأثر مثلُ ما كان لنكبة الملك الشاعر"؟

لنرَ - كما قُلْنا في البداية - من خلال بعض المؤلَّفات فيما إذا كانت شهرته قد اجتازت حقًّا حدود العربيات، فأذْكت قرائح وذكريات، وهو ما يشدّ عزم جبور في بعْض خطوط مقولته السَّابقة، ولنبدأ في ليدن سنة 1846 - 1853، حين طَبع فيها دوزي تاريخَه عن بني عباد، مدافعًا عن آل عباد حتَّى النخاع، فعادت الابتسامة للمعتمد، وإن كانا يتكلَّمان لُغَتين مختلِفَتين، ويَدينان بثقافَتَيتن متضادَّتين.

ويغادر هولندا إلى برلين سنة 1865 بدعْوة من سكاك، فيحتضِنُه في كتابه "شعر العرب وفنهم في أسبانيا وصقلية"[2]، ولعلَّ التعاطُف مع المعتمد كان سببًا مهمًّا في ترجمة هذا الكتاب من الألمانيَّة إلى الأسبانيَّة في إشبيلية عام 1881 م، وآخر طبعة له اطَّلعتُ عليها كانت في مدريد سنة 1988.

ولم يكسُه شكيب أرسلان - وهو الأمير - بما يليق بالأمراء، لا في (خلاصتِه، ط 1، 1897، ط 2، 1925)، ولا من (الحلل السندُسية، ط 1936).

وتأبى إشبيلية - موطن عرشِه المنهار - إلاَّ أن تَحتفل به، فينبري بلاس إنفانته[3] (1885 - 1936) لهذا، فيؤلّف عنه سنة 1920 كتيِّبًا صغيرًا بعنوان (المعتمد، آخر ملك لإشبيلية)، وهو عرض تراجيدي لممْلكة المعتمد، دون الرُّجوع إلى المصادر العربيَّة.

ورغم أنَّ البرتغال لم تتأسَّس إلاَّ عام 1145، فإنَّ بعض البرتغاليِّين حريصون على اعتبار المعتمد شاعرًا برتغاليًّا - عربيًّا، مفتخرين به أيَّما افتخار، فقد اعتنَوا بترجمة أشعاره ودراستها وتدريسها إلى اليوم، وأقاموا في 1928 حفلاً رسميًّا كبيرًا في مدينة شِلْب Silves تكريمًا للرَّجُل، وقد كان من الحاضرين بلاس إنفانته Blas Infante، سافر من إشبيلية إلى شِلْب خصيصًا لهذا الغرض، قبل الموعِد بأرْبع سنوات؛ أي: في 1924.

هذا الرَّجُل يعتبر الأب الروحي للأندلس الحاليَّة، وواضع كلِمات النَّشيد الوطني لأندلثيّا إلى اليوم، فقد سعى إلى تأسيس فكرة أندالُوثِيَّا Andalucía حديثة تكون بمثابة استِمْرار للأندلس السابقة، إلى أن اغتالتْه قوَّات فرانكو.

وفي 28 شباط (فبراير) من كلِّ سنة، يَحتفل الأندلسيُّون بيوم الأندلس، مستحْضرين بلاس إنفانته والمعتمد وغيرهما ممَّن ينتمون إلى الأمَّة الأندلسيَّة. وممَّا يذكر أنَّه بعد وضع كتابه هذا عام 1920، ورغْم ظروف الحرب بين الخطابي والأسبان، قام بزيارة قبر المعتمد في أغمات.
د -2. من 1924 إلى 1965
ونجد المعتمد في القاهرة سنة 1924 م حيث يسعد حينًا بمصاحبة أحمد ضيف وكامل الكيلاني؛ لأنَّهما - على الأقل - نالا له من المرابطين وشيخهم يوسف بن تاشفين، أملاً في عطائه، بعد أن نُسي حاله.

وفي سنة 1928 استقبله آنخل غونثالث بالنثيا Ángel González Palencia في كتابه "تاريخ الفكر الأندلسي: 86 - 107"، حيث اعتبره من "شعراء العربيَّة الذين أجمع النَّاس على الإعجاب بهم في العالم الإسلامي كلِّه".

وقبْله كتب عنه غارثيا غومث García Gómez: "إذا كان لا بدَّ من تصوير المِحْنة العامة التي شملت الشعر خلال ذلك العصر في صورة شخصٍ واحد من أهله، فليس أوْفق لذلك من المعتمد بن عباد؛ صاحب إشبيلية (1068 - 1091)، كان أبوه المعتضد صاحب الأفاعيل الشنيعة وأبناؤه جميعًا كلّهم شعراء، ولكنَّه بَزَّهم جميعًا، وفاق كلَّ معاصريه في ذلك المضمار؛ لأنَّه كان يمثل الشِّعر من ثلاثة وجوه: أوَّلها: أنَّه كان ينظم شعرًا يُثير الإعجاب، وثانيها: أنَّ حياته كانت شعرًا حيًّا، وثالثها: أنَّه كان راعي شُعراء الأندلس أجمعين، بل شعراء الغرْب الإسلامي كلّه، فإلى بلاطه لجأ شُعراء صقلية وإفريقية عندما غزا النورمان بلادَهم، واستولَوْا على بعضها وهدَّدوا الباقي". "تاريخ الفكر الأندلسي: 89".

وفي عام 1932 ألْحق الكيلاني وعبدالرحمن خليفة ما تيسَّر لهما من أشعارِه، في ذيل "ديوان ابن زيدون"، ص 377 - 400.

ويطول التغرُّب عليه، ولا أحدَ يواسيه، حتَّى دعتْه تطْوان سنة 1941، على لسان أحمد بلا فريج، ثُمَّ عبدالسلام الطود سنة 1946، ولكنَّه كان يقدِّم رِجْلاً ويؤخِّر أخرى؛ لأنَّ شبح "قمعستان الأغماتية" يلاحِقُه أينما حلَّ، وزاده أنَّه لم يحصل منهما على "شهادة اعتراف بظلم، ولا صكّ تعويض عن السّنين الجحاف".

ولمَّا لَم يجد في بساتين البستاني في بيروت عام 1946، ما عهده ولا حتَّى في واحدة من حدائق "القصر الزاهي، ولا الثريَّا، ولا المبارك ولا الوحيد" شدَّ الرِّحال في السَّنة نفسها إلى بالتيمور، فشدَّ أزْره نايكل[4] في كتابه "الشعر الأندلسي"، فوصل صوْتُه مدويًّا على الأقل إلى نصف متكلِّمي الإنجليزيَّة.

وهدى الله له أحمد بدوي وحامد عبدالمجيد، فتعهَّدا له بكلِّ ما استطاعا جَمع ديوانِه مستقِلاًّ سنة 1951، في القاهرة.

ولم يغمره علي أدْهم بما كان يبغي، ولكنَّ روحه سكنتْ إلى علي دياب، حين ذكره بأيَّام لهوه وعزِّه، وأجلسه على مائدة الغزَل مع ابن زيدون.

ثمَّ خطف رجله منها إلى دمشق سنة 1955، ولكنَّه لم يسمع من الركابي إلاَّ كلامًا معادًا.

وفي عام 1958، كان له أوَّل لقاء فاتر مع صلاح خالِص في بغداد (المعتمد بن عباد)، وباقر سماكة؛ وذلك بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة برشلونة في (الأدب الأندلسي في شتى عصوره).

ويذهب - وبين يديْه قصيدة النيلوفر والتي ننشُرها هنا لأوَّل مرَّة - معاتبًا جبرائيل جبور في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت عام 1963، على قوله: "إنَّ المعتمد لم يلتفِتْ إلى شعر الطبيعة الذي ازدهر في عصره"، وانقشعتْ سحابة العتاب، عندما قدمت له طالبتُه هلدا شعبان، وانفرجت أساريره من أنَّ امرأة عربيَّة قد تذكَّرته، وجاءتْه وبين يديْها صحائف ماجستير (المعتمد بن عباد: الملك الشاعر).
د - 3- من 1966 إلى 1979 (وفيها 2006)
ويدخُل في مرحلة جديدة، يؤنِسُه فيها - رغم رُعْب العقول - كلام ابن خلدون "وصار طرفُ الملك بعده حسيرًا"، وجهود طائفة من أعضاء جمعيَّات محترفي القلم، حيث يَحظى بمؤازرَتِهم على الحصول على "شبه وثيقة سفر عالميَّة"، تؤهله إلى أن يسمع صوْته بلغات أخرى، فتقربه من أذْهان كانت قد أبت سماعه، وشارك بعض منها في يومٍ ما بإذْلاله؛ فترجم له صلاح خالص كثيرًا من شعره إلى الفرنسيَّة، وطبع بالجزائر سنة 1966 عن (نشوء دولة بني عباد).

ويحصل محمد مجيد السَّعيد على ماجستير من جامعة القاهرة في (الشعر في ظل بني عباد) سنة 1969، وتُطْبع فيما بعد بالنجف، وسمع صوته في جامعة كولمبيا سنة 1971، ثُم ثلاث من قصائده في باريس سنة 1973 على يد سيكندلن[5]، الذي جعل منهما كتابًا جديًّا عن الوزن والبنية الشعرية عند المعتمد، وظهر في ليدن 1974، ثم يحتفل به مونرو[6] في لندن في نفس السنة، فيترجم له بإنجليزيَّة متعاطفة بعضًا من قصائده.

ويعود متعبًا إلى تونس سنة 1975، بدعْوة من السويسي لطبع ديوانه ثانية، ولكنَّه خرج منه مغاضبًا؛ لأنَّه لم يلق الدِّفْء في طبعته الَّتي هي سلخ لطبعة القاهرة، ويبدو أنَّ السويسي أحسَّ بذنب داخلي، فكتب عنْه بالفرنسيَّة [7] سنة 1977، ثُم بالعربية عام 1985: (ملك إشبيلية الشاعر)، في حملة استرضائِه، وكسب ودِّه.

وفي سنة 1994 تعرَّفت على ميغيل هيجرتي؛ أستاذ في قسم اللغة العربية في جامعة غرناطة، فأفادني أنَّه ترجم عددًا من قصائد المعتمد[8]، سنة 1979، بعنوان (قصائد المعتمد)، ولما اطَّلعت عليها كانت عبارة عن ترجمة أوَّليَّة.

ثم عاد وأضاف إليْها قصائد أخرى بلغت 160 قصيدة، فنشَرَها بعنوان (المعتمد الإشبيلي: أشعاره الكاملة)[9] في غرناطة سنة 2006، زاعمًا أنَّها جميع قصائده، ولم يطَّلع على قصائد أخرى؛ ومنها هذه القصيدة التي ننشُرها هنا، ممَّا أزعج المعتمد كثيرًا، ولاسيَّما أنَّه قد نعته وبالنَّصِّ: "قاتل بدون شفقة".

انظرْ أسلوب المترجم هذا لتَحْكُم على درجة دقَّته في البحث: "إنَّ المعتمد عندما فقد كلَّ شيء، ذهب إلى أغمات لقضاء بقية أيامه".

علاوة على أنَّ ترجمته هي جافَّة، تنمُّ عن معرفة ضحْلة بالعربيَّة وبلاغتها.

والسطور التي كتَبَها بلديُّنا صبيح صادق[10] عن هذا الكتاب بعنوان "المستعْرب الإسباني ميغيل هاجرتي يُعيد ترجمة شعر المعتمد بن عباد"، كنتُ آمل أن تكون مقالاً نقديًّا وليس كلام جرائد.











http://www.alukah.net/userfiles/1%2824%29.jpg






نافذة من نوافذ قصره



http://www.alukah.net/userfiles/2%2825%29.jpg

البهو المطل على حدائقه


http://www.alukah.net/userfiles/3%2813%29.jpg

جانب من داخل القصر



http://www.alukah.net/userfiles/4%288%29.jpg

القصر من الخارج



ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] جبور، "المعتمد بن عباد، الملك الشاعر"، الأبحاث، بيروت، حزيران 1963: 185 -216.
[2] Schack, Adolf Friedrich von: Poesía y arte de los árabes en España y Sicilia. Trad. del alemán por Juan Valera.
[3] Blas Infante, Motamid: último rey de Sevilla, Sevilla ,1920.
[4] Nykl, A.R.: Hispano-Arabic poetry and its relations with de Old Provençal troubadours, Baltimore 1946.
[5] Scheindlin, Raymond P.: Form and structure in the poetry of Al-Mutamid Ibn Abbad. Leiden: Brill, (1974).
[6] Monroe, James T.: Hispano-Arabic poetry, Los ángeles- London, 1974.
[7] Souissi, Ridha. Al Mutamid Ibn Abbad et son oeuvre poétique: étude des thèmes. Université de Tunis, 1977.
[8] Hagerty ed., Miguel José: Poesia: Al-Mutamid. Barcelona: Antoni B., 1979.
[9] Al-Mutamid de Sevilla: Poesía completa, Granada, EditorialComares, 244 páginas, 2006

[10] جريدة الشرق الأوسط (السبـت 26 جمادى الثاني 1427 هـ، 22 يوليو 2006 ، العدد 10098).

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:32 PM
المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (3/10)




د. جاسم العبودي



د-4- من 1980 إلى 2009:
ثم ينقلب غاضبًا إلى مكَّة المكرمة سنة 1980، لحضور رسالة ماجستير يوسف حوالة، ولا يخفى مروره الخاطِف على العسلي في (المعتمد وابن تاشفين)، والذي طُبع في بيروت سنة 1985، وربَّما سعد فيها من بعيد، عندما تشرَّفت مجلات باتّخاذ اسمه عنوانًا لها، مثل: "سلسلة المعتمد، التراث والعلوم والثقافة والتَّاريخ واللغة والأدب والمعرفة"[1].

ويعود منها مسرعًا عام 1985 وقد أنْهكه التغرُّب ككثيرٍ من عرب اليوم، إلى مسقط رأسه باجة، ويكاد الفرَح ي***ه اشتياقًا لها، ورغْم تشفُّعات ألفيس له في كتابه (المعتمد) أوقِف ساعات على حدودِها؛ لأنَّ تاريخ "وثيقة سفره المؤقت" يوشك أن ينفد.

وتغار منها شرق الأندلس فتختار إليه ممثلاً عنها سنة 1982 إحدى أستاذاتِها المعروفات روبيرا[2] فتُترجم له بلغة عذْبة أسبانية 12 قصيدة من روائع شعره، كما كتبت عن "بعض المشاكل التاريخيَّة في سيرة المعتمد[3]: الاستيلاء على شلب وزواجه من الرميكية".

وتتنافس اللغات والبلدان على كسب ودِّ صاحبنا المعتمد وأشعاره[4]، ولاسيَّما باللغة الأسبانية، وبعضها يحنّ إلى أيَّام عزِّه وشهرته، وفي سنة 1999، صدر في إشبيلية كتاب[5] بعنوان (شعر من الأندلس)، يضم بين جناحيه أشهر شعراء الأندلس وسيرهم.

يقال - كما قرأت -: إنَّ أبرز الترجمات الإيطالية لشعر المعتمد بعنوان (المعتمد بن عباد: Rime)، وضعه الإيطاليَّان ماريا تيريسا ماسْكَري وفِنتشنصو بيازّا[6].

الشَّاعر المعروف والكاتب الشيلي سيرخيو ماثِييَّاس(1938م) Sergio Macías، الذي يعيش في إسبانيا منذ أن ترك بلاده إثْر سقوط حكومة سلفادور اللندي عام 1973، قد عايش التراث الأندلسي عن كثب، فترك فيه بصمات واضِحة المعالم، فألَّف كتابه (مخطوطة الأحلام) 'El manuscrito de los sueños' ونشره عام 1994 باللغتين الأسبانية والعربيَّة، حيث قام بالتَّرجمة العربية الشّاعر المغربيّ عبدالسّلام مصباح، ولقي إقبالاً كبيرًا في المغرب، كما أُقيم له حفلة تقديم عام 2008 في جِيكْلانا Chiclana (إشبيلية)، وهو ديوان شعريّ يتناول سيرة الشّاعر المعتمد، لاسيما وأنَّه ترك وراءه جدلاً محتدمًا، شرقًا وغربًا، منهم مَن ينتصِر له ومنهم مَن يثور عليه.

وقد اختُصِر تاريخ دول الطوائف الأمس واليوم في اسم المعتمد، فأصبح يعبِّرُ عن حكايات المجد، وازدهار الشعر، والانكسار، والإخلاص، والاغتيالات، والشرْذمة والفرقة، من خلال قصَّة الحب الخالدة بين المعتمد واعتماد الرميكية.

إنَّ شيوع هذا الاسم هو تارة لجمال الاسم ورنينه أو لأسطوريَّته، وأخرى لحمولته الأندلسيَّة والجيوسياسية، وثالثة لأبعاده الإنسانيَّة الدّرامية وما إليها من حالات، المهم أن اسم المعتمد حاضر في عقول وعيون الناس، على المستويين الشعبي والرسمي.

ولذلك احتُفِيَ به في المهرجان الوطني العشرين للشعر المغربي الحديث في مدينة شِفْشاوِن، في الأوَّل والثاني والثَّالث من تموز 2005، ولكنَّه كان يصرخ "المؤمن لا يُلْدَغ من جحر مرتين".

هـ - التنافس ما بين إشبيلية والمغرب:
وهكذا يتأصَّل حبه في القلوب، ويتوارث ما بين الأجيال؛ لأنَّ الله – حقًّا - رقَّق له قلوب مَن قرأ له، أو سمع نتفًا من أشعاره، فتنتاب المرْء عبرة عندما يعايشه عن قرب، وهذا ما حوَّله إلى أسطورة تزْداد وتتعمَّق مع مرور السنين، وسيظلّ مصدر إلهام وذكرى.

تصوَّرْ، حتى هو في القبر أصبح مصدر جذب؛ يرحل إليه عشَّاقه ومحبّوه، فيقصدونه من جهات شتَّى للعظة والتدبر، قطع مسافات شاسعة من الأندلس وعبر المحيط، وتحمل تلك الصحراء القافلة، ليقف شاعره ابن عبدالصمد على قبره، ويبكِي ويُبكي الحاضرين، فيكون أوَّل مَن زاره ووقف على قبره.

ثمَّ تتَّسع القائمة؛ فذلك ابن الخطيب - وزير غرناطة وشاعِرُها وكاتبها - هو الآخر يزوره، وتصل القائمة إلى العصر الحديث، فيزوره بلاس إنفانته، عبدالله عنان؛ من مؤرّخي الأندلس، غارثيا غومث؛ شيخ المستشرقين الأسبان، ويكتب مقالة عن [7] "قبر مفترض للمعتمد في أغمات".

والحديث بالحديث يذكر، فإذا كانت المغرب قد سعتْ أن تكسب ودَّ زوَّاره وعشَّاقه،واعترافًا ضمنيًّا بِما ناله من حَيْف، فشيَّدت له ضريحًا سنة 1970 م، بأغمات على بعد 35 كم عن مراكش، وهو عبارة عن قبَّة مصغَّرة طبق الأصل للقبَّة المرابطيَّة بمراكش، تحتضِن قبره وقبر زوْجته وابنهما، وتزينها بعض الأبيات الشِّعْريَّة التي نظمها المعتمد قبل وفاته، وطلب أن تكتب على قبره.

فإنَّ إشبيلية صرخت وتحدَّت: نحن أوْلى بمليكنا الشاعر، وبُحَّت أصواتٌ بنقل جثمانه من المغرب إلى إشبيلية، كما فعل الأسبان عندما نقلوا رفات سان إيسيدورو San Isidoro من إشبيلية، لما كانت تحت حكم العرب.


http://www.alukah.net/userfiles/image/1%281%29.JPGhttp://www.alukah.net/userfiles/image/2%282%29.JPG




http://www.alukah.net/userfiles/image/3%281%29.JPG
صورتان داخليتان للقصر حيث تبدو عليهما الآيات القرآنية




http://www.alukah.net/userfiles/image/4.JPG



http://www.alukah.net/userfiles/image/5.JPG
مقرنصات سقف القصر


http://www.alukah.net/userfiles/image/6.JPG
ضريح المعتمد بن عباد وزوجته الرميكية وابنهما في أغمات على بعد 35 كم من مراكش، وقد أُنشئ عام 1970م


http://www.alukah.net/userfiles/image/7.JPG
قبر المعتمد وزوجته الرميكية وابنهما في أغمات



http://www.alukah.net/userfiles/image/8.JPG

لوحة في داخل ضريح المعتمد وقد كتب عليها أبيات من شعره قالها قبل وفاته وطلب أن تكتب على قبره.






ـــــــــــــــــ
[1] انظر: ديوان المعتمد بن عباد، جمع وتحقيق السويسي، تونس 1975، انظر تقريظًا لهذه الطبعة بقلم محمد اليعلاوي في: حوليات الجامعة التونسية،ع 13، 1975: 273 - 281، ابن قنفذ، الوفيات، الرباط 1976: 260، ملاحظة رقم 2، أحمد ضيف، بلاغة العرب في الأندلس، القاهرة 1924: 101 - 120؛ الطود، بنو عباد بإشبيلية، تطوان 1946؛ البستاني، أدباء العرب في الأندلس، ج 3، بيروت 1946؛ الركابي، في الأدب الأندلسي، دمشق، 1956، صلاح خالص، إشبيلة في القرن الخامس الهجري: دراسة أدبية تاريخية لنشوء دولة بني عباد في إشبيلية وتطور الحياة الأدبية فيها، بيروت 1982، علي أدهم، المعتمد بن عباد، ضمن سلسلة أعلام العرب، القاهرة د ت، علي دياب، الغزل الأندلسي في القرن الخامس الهجري: ابن زيدون والمعتمد نموذجًا، د. ت. ولا مكان الطبع، يوسف أحمد حوالة، بنو عباد في إشبيلية، رسالة ماجستير، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة أم القرى، السويسي، ملك إشبيلية الشاعر: المعتمد بن عباد، تونس 1985.
[2] Al-Mu'tamid Ibn ‘Abbad. Poesías, Antología bilingüe, ed. María Jesús Rubiera Mata, Madrid, I.H.A.C, 1982, 2ª ed.1987.
[3] María Jesús Rubiera Mata: Algunos problemas cronológicos en la biografía de al-Mu'tamid de Sevilla: la conquista de Silves y el matrimonio con Rumaykiyya. Actas de las Jornadas de Cultura Árabe e Islámica: (1978), 1981.
[4] انظر مقال "ملك إشبيلية الشاعر" في:Rose M. Esber, "The Poet-King of Seville", Saudi Aramco World, January-February 1993, pp. 12-18.
[5] Mª Lourdes Íñiguez Barrena, Francisca Íñiguez Barrena: Poesía de al-Andalus, Sevilla, 1999.
[6] Maria Teresa Mascari, Vincenzo Piazza: Al-Mu'tamid b. 'Abbad, Rime, Lychnis, 2003.
[7] Emilio García Gómez, Supuesto sepulcro de Mu'tamid de Sevilla en Agmat. Al-Andalus: Revista de las Escuelas de Estudios Árabes de Madrid y Granada, Vol. 18, Nº 2, 1953 pp. 402-411.

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:33 PM
المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (4/10)




د. جاسم العبودي

و- ازدهار وأفول

Florecimiento y ocaso

بعد أن تناثر عقْد الخلافة في قرطبة، قام على أنقاضِها رُؤساء الطَّوائف، وأُمراء الجماعات البربريَّة[1]، وفتيان صقالبة القصور الَّذين وصل عددهم إلى 39 دويلة، وأصبحوا بين فكَّي كماشة؛ بين نار النَّصارى في الشَّمال ونار البربر في الجنوب، وقد وهن أمرُهم وأضعفَهم التَّرف والبذخ، لا يكاد سلطانُ أحدٍ منهم يتعدَّى حدود بلده[2]، فكانت دويلاتُهم أشبه بِجمهوريات إيطالية في ثياب شرقية.

وتنافسوا في اجتذاب الشعراء، ولعلَّهم أرادوا بِهذا إعادة هيْبة السُّلطان الضَّائعة، "ولم تزل الشُّعراء تتهادى بيْنهم تَهادِي النَّسيم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتْكة البرَّاض"، كما يقول الشقندي (ت 629/1232).

وكلٌّ يقول: هأنذا، فقد عُرف ابن ذي النون - صاحب طُلَيْطلة - بالبذخ البالغ، وبذَّ ابن طاهر - صاحب مرسية - أقْرانه بالنثر، وامتاز ابن رزين - صاحب السَّهلة - أنْداده في الموسيقا، وامتاز المتوكل - صاحب بطليوس - بالعلم الغزير، واختصَّ المقتدر بن هود - صاحب سرقسطة - بالعلوم، واشتُهر المعتمد بالشعر، وإن كان صفة غالبة للكلّ.

ولقد بلغ الأدب منزلة كبيرة في النّضوج في القرْن الحادي عشَر الميلادي، ليس بسبب تشْجيع وتنافُس هؤلاء الرُّؤساء فقط، وإنَّما أصلاً ضِمْن سلسلة التدرُّج الطبيعي له.

فقد غدا - كما يقول القزويني - حتَّى الفلاح في قرية شلب يرتَجل ما شئت من الأشعار، فيما شئت من الموضوعات، ويؤكّد هذا أيضًا ما سيرْويه الجنان لأبي عمران موسى بن سعيد وصاحبه في وادي الألواح (انظر فيما بعد: ز- المعتمد والنَّوْرِيَّات).

وقد اجتمع في عهد دول الطَّوائف[3] شعراء كبار، لقِي فيه شعرُهم سوقًا رائجة، عدَّهُ كثيرون "قمة ازدِهار الشعر الأندلسي"، وهو عندي ازدهار ثم أفول، وإن ظهرت صيْحات بإعادة النَّظر حول هذا الازدهار[4]، وقد استندوا على نظريَّة "تفوُّق العنصر الأندلسي"، وهي نظريَّة لا تخلو من تعصُّب، نجِد جذورَها في رسالة الشقندي.

ليس من الغريب وأمير الدَّولة العبادية المعتمد (431/ 1040 - 488/ 1095)، ووزيرها ابن عمَّار (1031 - 1086) - شاعران، أن يظفر الشّعر بحظْوة كبيرة في بلاطِها، فقد كان المعتمِد نقَّادة دقيقًا للشِّعْر، لا يُجيز إلاَّ الجيِّد منه، وكان لفطرتِه الشِّعْرية وسخائِه أثر كبير في احتواء أهل الشِّعر، فتبارى في مدْحه كبارُ الشُّعراء والأعلام، بعد أن وجدوا في حِضْنِه ضالَّتهم، فاتَّجهوا إليْه من أنْحاء الجزيرة وخارجها.

لذلك قال عنه ابن خاقان (ت 529/ 1134): "ملِك قمَعَ العدا، وجمَع الباس والندا ... فاجتمع تحت لوائِه من جماهير الكماة، ومشاهير الحماة، فأصبحت حضرتُه ميدانًا لرهان الأذهان، وغاية لرمْي هدَف البيان".

وكان عبدالجبار بن حمديس الصقلي أحد شعراء بلاط المعتمد، وهاجر من بلدِه صقلية عندما استوْلى عليْها النورمان سنة 470/ 1078، وحظِي من المعتمد بِمكانة رفيعة، وقد رافقه إلى ميادين حروبه، كما رافق المعتمد أثناء أسْره إلى أغمات، واجتهد في التَّخفيف عنه بقصائدَ رقيقة.

كما حفل بلاطُه بابن زيدون (394 - 463/ 1003 - 1070) حاسد ابن عمَّار وعدوّه، وابن اللبانة الدَّاني الذي يعدُّ مثالاً في الوفاء وإخلاص الود، وقد أقام إلى جانبِه يؤنسه في سجنه. وكذلك ابنته بثيْنة قد بيعت سبية عندما استولَى المرابطون على إشبيلية، فاشتراها تاجر إشبيلي وفكَّ أسرها، فكتبت إلى أبيها أبياتًا رائعة تستأذِنه في الزَّواج من ابن منقِذها، ولا ننسى ابن عبدالصمد الذي بكى وأبْكى النَّاس على قبره، وابن وهبون، وابن عبدون، و"الجارية العبادية" التي أهْداها له مجاهد صاحب دانية، والرَّاضي بن المعتمد.

لذلك تحوَّل قصره[5] إلى منتدى لهم وكانت لهم "الدَّار المخصوصة بالشُّعراء، يجتمعون فيها كلَّ اثنين، لا يسمح لغيرهم فيها"، وقد جعل آل عباد لهم "ديوانًا تسجَّل فيه أسماؤهم، وتُمنح لهم مرتَّبات من ذلك الديوان، وفي عهْد المعتمد كان ابن ماضي هو المشرف عليه"[6].

ومن هذا المنطلق جاء وصف الشقندي لبني عباد: "كان لهم من الحنوّ على الأدَب ما لم يقُم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤُهم صدورًا في بلاغَتَي النَّظْم والنَّثْر، مشاركين في فنون العِلْم".

والمدقِّق لشِعْر المعتمد يَجد فيه شاعرًا صنعتْه أحداث عصره، وكرَّس له ردحًا كبيرًا من حياتِه، لا يقلُّ باعًا عن هؤلاء الشُّعراء وغيرهم، خاصَّة في منفاه، حيث صِدْقُ العاطفة، وعذوبة الخيال الممْزوج بالمرارة، وصفاء ورقّة الكلمة المعبرة، لاسيَّما عند تذكره لاغتِيال أولادِه على أيدي المرابطين، والحالة المفْجِعة لزوْجته وبناته وهنَّ يغزلْن لكسْب لقمة عيشِهِنَّ، بعد عزّ وارِف.

وهكذا تحول المعتمد بشعْرِه جنب شعر فحول شعراء عصره كابن اللبانة، إلى قصائد خالدة يتأثَّر بها كلُّ مَن قرأها، ويتَّعظ بها كلُّ ذي قلب سليم.


أضف إليْها أنَّه دخل من حيثُ لا يدري سلَّة الرمزيَّة المتناقضة: العزّ والجاه، الفقْر والإذْلال، المُلك والسجْن، الرَّأفة والجفاوة والقسْوة، النَّعيم والشَّقاء، الأمن والسبي، الازدهار والرقي، والتخلف والجهل.

فأصبح مادَّة دسمة للأفكار والأقلام والفنّ، فقد كتب عنه - بالإضافة إلى ما ذكرنا سابقًا - أشهر شعراء أسبانيا المعاصرين: رفائيل أَلبرتي[7] (Rafael Alberti 1902 - 1999)، وأحد ألمع ما يسمَّى "بالعصر الفضي" للأدب الأسباني، وآخر ما يسمّونهم "بجيل 27".

كما أُسِّست جامعة في المغرب تحمِل اسمه، وصدرت "سلسلة المعتمد بن عباد للتاريخ الأندلسي ومصادره"، ومنها مقالات ابن عبود وغيرها عن دول الطَّوائف، وهكذا.

بينما غلب على شعْرِه أيَّام ملوكيَّته البذخ والقصْف واللَّهو بأنواعه، وحبّ الطبيعة، وهيامه بزوْجته الرميكيَّة الروميَّة الأصل وأمّ أولاده، والتي اشتقَّ لها من اسمه اسم اعتماد، والملقَّبة في داخل القصْر وخارجه "بالسيدة الكبرى"؛ لعلو منزلتها، وهيبتها ومشاركتها في أمور الدَّولة.




ــــــــــــــــــ
[1] Rafael Valencia Rodríguez: Taifas Andaluzas, Almorávides y Almohades. Conocer Andalucía. Sevilla. Tartessos. 2001. Pag. 167-203. الطوائف والمرابطين والموحدين.
[2] Viguera, María Jesús: De las taifas al reino de Granada: al-Andalus, siglos XI-XV, Temas de hoy, 1995; Ídem, Los reinos de taifas y la invasión magrebíes: al-Anda, Barcelona: RBA, 2006. الكتاب الأول (من دول الطوائف إلى مملكة غرناطة)، والثاني: (دول الطوائف والغزو المغربي للأندلس).
[3] Rodolfo Gil Grimau, Fátima Roldán Castro: Corpus aproximativo de una bibliografía española sobre Al-Andalus, Sevilla, Ediciones Alfar, 1993.(فهرس تقريبي للمصادر الأسبانية حول الأندلس).
[4] الطاهري، دراسات ومباحث في تاريخ الأندلس، الدار البيضاء، 1993.
[5] Risala sobre los palacios abbadíes de Sevilla de Abu Yacfar Ibn Ahmad de Denia. Traducción y estudio de Rocío Lledó Carrascosa, Sharq al-Andalus, nº 3, 1986, pp. 191-200. رسالة أبي جعفر أحمد الداني حول القصور العبادية في إشبيلية.
[6] ابن ثقفان، عبدالله علي، المجالس الأدبية في الأندلس، السعودية، 1994/1415: 20.
[7] عبدالله إجبيلو، "المعتمد ملك إشبيلية وشاعرها بقلم رفائيل ألبرتي"، مجلة كلية الآداب، تطوان، ع 1، 1407/1993: 185-193.

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 05:35 PM
المعتمد بن عباد ودون خوان مانويل (5/10)




د. جاسم العبودي






ز- المعتمد والنَّوْرِيَّات











Al-Mu'tamid y la poesía floral




إنَّ القصيدة التي أشرنا إليها في هذا البحث لهي خير دليل على سموّ شاعريَّة المعتمد، والتي تَجعله في عالم "النَّوْرِيَّات" صنو صنوبري الأندلس ابن خَفاجَة الشُّقْرِي (450 - 533/ 1058 - 1138) "شاعر الأندلس في وصف الأزْهار والأنهار وما أشبه" كما يقول ابن سعيد، وقد لقَّبه النَّاس بالجَنّان لكثرة ما وصف الرياض، أو ابن أخته: ابن الزَّقاق (490 - 530/ 1096 - 11359)، وقد بقِي تأثيرُهُما في هذا الأسلوب إلى نهاية أعصُر غرناطة[1].

والقصيدة هي:
"قال ابن سعيد: وأخبرني والدي - أبو عمرن موسى 573 - 640/ 1177 - 1243]: أنَّه خرج في زمن الصّبا إلى وادي الألواح[2] بظاهر إشبيلة، ومعه أبو الحسن المريني الشاعر، فتفرَّجا عند الأصيل على ما هنالك من النَّيلُوفَر، فلمَّا حان وقت انغلاقِه، أقبل عليهما جنان وأتْحفهما بريحان وثمر، ثمَّ قال لهما:
إنَّ المعتمد بن عباد كان مولعًا بالرَّاحة على هذا النهر، يتعشَّق النَّظر إلى هذا النيلوفر[3]، وفيه يقول [من السَّريع]:

رَأَيْتُ فِي البِرْكَةِ نَيْلُوفَرًا فَقُلْتُ: مَا سُكْنَاكَ وَسْطَ البِرَكْ؟
فَقَالَ لِي: غَرِقْتُ فِي أَدْمُعِي وَصَادَنِي غُنْجُ الظِّبَا فِي شَرَكْ
فَقُلْتُ: مَا بَالُكَ مُسْتَوْحِشًا وَمَا الَّذِي - بِاللَّهِ - قَدْ غَيَّرَكْ؟
فَقَالَ لِي: أَلْوَانُ أَهْلِ الهَوَى صُفْرٌ وَلَوْ ذُقْتَ الهَوَى صَفَّرَكْ



قال: فاستحسنَّا ذلك، وترحَّمْنا على ابن عباد، وقلْنا لأبي الحسن: ألا تنظم شيئًا في هذا المكان؟ فقال: مَن الذي ينطق بعد سماعه هذه الأبيات؟".

(انظر: الحديقة الشعرية في الأندلس)

http://www.alukah.net/userfiles/image/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%81%D8%B11. JPG
النَّيلُوفَر


http://www.alukah.net/userfiles/image/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%81%D8%B12. JPG
النَّيلُوفَر


http://www.alukah.net/userfiles/image/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%81%D8%B13. JPG
النَّيلُوفَر


http://www.alukah.net/userfiles/image/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%81%D8%B14. JPG
النَّيلُوفَر


http://www.alukah.net/userfiles/image/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D9%84%D9%88%D9%81%D8%B15. JPG
النَّيلُوفَر



ـــــــــــــــــــ

[1] Rachel Arié, España musulmana (siglos VIII-XV). Tomo III de la Historia de España dirigida por Manuel Tuñón de Lara, Barcelona, Labor, 1982-1983.(أسبانيا الإسلامية: من القرن الثامن إلى الخامس عشر الميلادي).





[2] تعدّ هذه الملاحظة الوحيدة التي بين أيدينا عن وادي الألواح، الكائن بشرق إشبيلية، بينما تناولت المصادر الأخرى أماكن أُنس أخرى، مثل: مرج الفضة، والسلطانية، وودايد العروس، وودادي الطلح، ومنظرة الفنت، انظر عنها:
Bosch Vila, J.: La Sevilla islámica (712- 1248), Sevilla, 1984. (إشبيلية الإسلامية)

[3] النيلوفر - كما ذكره السيوطي (المختار من حسن المحاضرة: 34) - *** نبات مائية، فيه أنواع تنبت في الأنهار والمناقع، وأنواع تزرع في الأحواض لورقها وزهرها، وهو اسم فارسي معناه "النيلي الأجنحة" و"النيلي الأرياش"، ومن عاداته أن يحول وجهَه نحو الشمس إذا طلعت، فيزيد في انفتاحه بزيادة علوّ الشمس، فإذا أخذت في الهبوط، ابتدأ ينضمّ حتَّى ينضم انضمامًا كاملا عند الغروب، ويبقى كذلك اللَّيل كلَّه، فإذا طلعت الشَّمس أخذ في الانفتاح، ويسمَّى أيضا "عرائس النيل" أو "حشيشة السمك"، وقد ذكر أوْصافه هذه الشَّاعر المرسي ابن وهبون؛ الملقَّب بالدمغة في ثلاثة أبيات رائعة، احتفظ بها ابن شاكر الكتبي (فوات الوفيات، ط. محمد محيي الدين عبدالحميد: 1/ 514). عبدالحفيظ منصور في (فهرس مخطوطات المكتبة الأحمدية بتونس، ص 115) ذكر مقامة الرياحين أو المقامة الورديَّة في المفاخرة بين الورد والنرجس والياسمين والبان والنسرين والبنفسج والنيلوفر والرَّيحان لعبدالرحمن السيوطي، وقد انتقلت هذه الكلِمة من العربية بنفس اللفظ إلى اللغة الأسبانية nenúfar.