مشاهدة النسخة كاملة : تفسير قول الله تعالى ﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾


ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 10:24 PM
تفسير قول الله تعالى



﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾


الشيخ محمد حامد الفقي




"الإقامة" تكون من أقام العود، فاستقام، أي قومه وعدله. أومن "قامت السوق" أي نفقت السلع، وكثر البيع والشراء فيها، أومن "قام بالأمر" إذا جد فيه وشمر له، واهتم برعايته وحفظه.



وكل واحد من هذه المعاني أعتقد - والله أعلم - أنه ملحوظ في (يقيمون الصلاة) التي وصف الله تعالى به ﴿ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ [البقرة: 2، 3] فإن الصلاة تكون مستقيمة، إذا روعيت فيها النصوص الواردة عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا قام بها المصلي محققا اتباع قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي": قنوت وإخبات، وخشوع وضراعة، وذلة ومسكنة، لله الأكبر الذي قام بين يديه يناجيه، ويمرغ وجهه في التراب افتقارا إلى عفوه ومغفرته، وشدة احتياج إلى مرضاته وحسن مثوبته. فإذا تهيأ للوقوف فكر في قلبه وروحه كيف يستطيع أن يحضرهما خطر هذا الموقف، وعظم شأن الله الأكبر الذي سيتشرف بالمثول بين يديه، وأن الانصراف عنه بعد الإقبال عليه، والإعراض عنه بعد التوجه إليه، شقاء ما بعده شقاء وخسران ما أشده من خسران، وهو الذي بيده كل الخير وهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير.



فإذا قال "الله أكبر" قالها مع لسانه قلبه وكل جارحة فيه؛ وسرت مع كل قطرة من دمه، وجرت في كل ذرة من ذرات جسمه، ولازمها كل الملازمة استصغاره لكل شيء إلا الله الأكبر، واحتقاره للدنيا وما فيها ومن فيها، وأن جميع ما فيها ومن فيها لا يساوي جناح بعوضة ولا أقل من ذلك، وكل أمرها من عسر ويسر، وضيق وسعة؛ وشدة ورخاء وكرب وفرج، كل ذلك هين كل الهون أمام (الله أكبر) فألقى حملها عن كاهله، وفرغ منها قلبه وطهره من أقذارها كما طهر أعضاءه بالوضوء، وسلم قلبه من أمراضها وعللها التي طالما عوقته عن الله الأكبر، والتي طالما قامت عقبة دون وصوله إلى الله الأكبر. فإذا ما قرأ ورتل كلام الله الأكبر - وقد دخل في حضرة القدس - شهد قلبه من لذة معاني الذكر الحكيم ومن أنوار آي القرآن الكريم ما يصفى قلبه من البقية القليلة التي لعل الشيطان قد دسها في زاوية من زواياه، وسمت روحه إلى عليين مع ذلك الشهود القرآني، وصعدت نفسه مع ذلك الكلم الطيب إلى مقام القرب والوصل مع المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون. وهكذا شهوده في الركوع، والرفع من الركوع والسجود والجلوس وتسبيحها وأذكارها، وكل تنقلات الصلاة يشهد أن الله حبيبه ينقله من روضة إلى روضة، ومن جنة إلى جنة.



من صلى كذلك؛ وأنعم الله عليه بتلك النعمة التي لا تدانيها نعمة، يكون أقام الصلاة وأتى بها على وجه الاستقامة الذي يحبه الله من عبده والذي هو هدى خير المهتدين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.



ومن هدي إلى هذه الصلاة، فإنه لا يجد نعيم روحه، ولذة قلبه، وقرة عينه إلا فيها. فيداوم عليها؛ ويكثر منها؛ ويجافي جنبه عن المضاجع لها وفيها، ويداوم قلبه على الحضور فيها مع الله الأكبر، ويشمر عن ساق الجد في مضمارها آناء الليل وأطراف النهار، وفي العشي والإبكار. ثم هي تحضه على كل خير فيزداد من الله الأكبر قربا. وتزعه عن كل شر ليكون أبعد عن الشيطان عدوه المبين وحزبه الخاسرين.



وعلى عكس هذا من لم يرفع بها رأسا، ولم يشعر قلبه عظمة الله الأكبر، فلم يخشع لها قلبه، ولا ذل بها جسمه، ولا رتل القرآن ترتيلا، وكان في قيامه مستهترا، وفي ركوعه ورفعه وسجوده نافراً، وفي كل صلاته مسرعاً مهرولا، كأنه قائم بين يدي أكره المكروهين لقلبه، ومكلم أبغض المبغوضين لنفسه. محروم من نعيمها، مطرود عن حياض قدسها وأنسها، فهذا قد أمال عود الصلاة، لا بل أماتها حساً ومعنى؛ وهذا تكون الصلاة أثقل شيء على نفسه، وأبغض شيء إلى قلبه ﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 142].



عادة تعودوها، أو ابتغاء أمر من مفاتن الدنيا يرتجونه بهذه الألعوبة التي يسمونها الصلاة، أو تسويغاً للأجر الذي ينتظره في لهفة آخر كل شهر؛ والذي يطلب في سبيله مرضاة كل أحد إلا مرضاة الله الأكبر، ويتملق لكل أحد إلا لله الأكبر، أولئك هم أبعد الناس عن إقامة الصلاة ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 16].



وأنه ليدهشك من هؤلاء ما ترى عند تهيئهم للصلاة: من تنطع في الوضوء والطهارة ووسوسة متكلفة عند افتتاح الصلاة، والصياح بالنية المبتدعة الطويلة الممقوتة؛ فيوهمك هذا في أول أمرك بهم أنهم يتحفظون للصلاة، ويتهيبون من الصلاة، لذلك هم يوسوسون ويتنطعون، ويتغالون ويتشددون حتى يخرج بهم تشددهم عن السنة النبوية السمحة إلى ما يسمونه مساعدة اللسان للقلب في النية؛ وبئس ما يصنعون. يوهمك هذا أنهم يتحفظون للصلاة، فما تكاد تدخل معهم حتى تراهم ذهبوا يخبطونها خبط عشواء وينقرونها نقر الغراب ويمرون ألفاظ القرآن على ألسنتهم في عنجهية وتخلع واستهتار، يتمايلون ذات اليمين وذات الشمال عجباً وتيهًا بذلك المنصب الذي لا يفقهون معناه وبذلك المقام الذي لاحظّ لهم منه إلا الصورة؛ وهم بالقلوب ميتون. فما أسمج هؤلاء وأبغضهم عند الله وعند الناس. عافانا الله ووقانا شر ذلك.



"الصلاة": هي الصلة بين العبد وبين ربه؛ وهي مظهر الذلة والعبودية للحي القيوم وهي رياض القرب التي يحظى فيها العبد الفقير الذليل البائس المسكين بمناجاة الله العلي الأعلى؛ القوي العزيز، الغني الحميد.



يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا قام يصلي فإنه إنما يناجي ربه، فلينظر أحدكم من يناجي" ويقول "يقول الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي؛ ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين" قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي؛ وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل" الله أكبر، ما أعظم هذه الكرامة وأشرف هذا المقام؛ وألذ هذا الخطاب في الصلاة؛ لو كانوا يفقهون.



الصلاة: هي المنحة الإلهية والنفحة القدسية التي نفح الله الكريم الحليم بها نبيه صلى الله عليه وسلم؛ إذ رفعه في ليلة المعراج إلى أعلى عليين، وحظى رسول الله الحبيب في ذلك المقام العلي بخلع القبول من حبيبه الرحمن الرحيم، وقدم لتلك التحية والهدية بتحيات ملائكة السماء وخزَّانها، والأنبياء الذين أحلهم الله بها، وأقامهم في ذلك المقام للاحتفاء بحبيبه عند مقدمه عليه، وليتلقوه بما هو له أهل من الإكرام، وكل يتلقاه "مرحباً به ونعم المجيء جاء، مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح".



وقد كان ذلك جزاء صبره صلى الله عليه وسلم على ما لقي من المشركين ومن أهل الطائف حين ذهب يعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إلى الله، فتلقوه بشر ما يلقى عدو عدوه، يقذفونه من أفواههم بما يدمي الفؤاد، ويرمونه من أيديهم بما أدمى قدميه الشريفتين، ثم يقول لملك الجبال وقد قال له "إن الله بعثني أكون تحت أمرك فيهم؛ فمرني فيهم بما شئت، أطبق عليهم الأخشبين - دعهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله".



الله أكبر. تلك هي المحبة الصادقة لله، لم تبق له في نفسه صلى الله عليه وسلم مثقال ذرة من حظ، ولم تجعل في قلبه أي ناحية يتوجه بها إلى الغضب لنفسه والانتقام لها ممن بلغ في أذاها أشد ما يتصور عدو خصيم.



فبماذا يكافئ الله حبيبه الصادق في حبه؟ وماذا يمنحه من آيات الرضى، وماذا يسبغ عليه من ضوافي القبول والصِّلات؟



أدناه ثم أدناه، وأراه من آياته الكبرى، وأشرق عليه من أنوار التجليات الإلهية ما ملأ قلبه بلذة القرب، وأنعش روحه بنعيم الوصل مع حبيبه الأجل الأعلى.



ثم تعطف الجليل الرحيم فمنح حبيبه صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام الأعلى ما به يذكر ليلة المعراج، ويستحضر لذة الوصال، ويجد لقلبه لذة القرب مع الله، وكان ذلك هو "الصلاة" ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم "وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكان يقول "يا بلال أرحنا بالصلاة" وإذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ذلك لأن لذة روحه، ورياض أنسه: أن يكون قريباً من ربه، وأن يتصل قلبه بربه، وأن تعرج روحه إلى الأفق الأعلى، كما عرجت مع جسمه الشريف يقظة في تلك الليلة المشهودة.



وكذلك المتقون الذين يؤمنون بالغيب إذا قاموا في الصلاة عرجت أرواحهم إلى حظيرة القدس؛ وسمت نفوسهم إلى الأفق الأعلى، وكانوا مع الله حساً ومعنى، ظاهراً وباطناً، لا يشغلهم عنه شاغل؛ ولا يصرفهم عن وجهه الكريم صارف ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].



وإن أردت شاهدًا على ذلك، فانظر كيف جعل الله البقعة التي يقوم عليها المصلي ماثلا بين يدي ربه مولياً وجهه تجاه وجه الله الكريم، جعل هذه البقعة كأنها حرم مقدس، لا يحل أن يشغلها أحد ولا بالمرور "وإذا علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لودّ أن يقف أربعين" و"إنما المار بين يدي المصلي شيطان" فادفعه؛ فإن لم يندفع فقاتله، فإنما هو شيطان.



يالله، ما أعجب أمر الصلاة، وما أعظم شأنها!! ولكن أكثر الناس لا يفقهون ولا يعقلون ولا يتذكرون، هم عن الصلاة غافلون لاهون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.



إن الصلاة لأعظم خطراً عند الله مما يتصور الناس فلقد منحها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فوق سبع سموات إذ رفعه إلى الأفق الأعلى. وما كان ذلك إلا لأن منزلة الصلاة عند الله وشرفها يستدعي أن لا يخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ذلك المقام الرفيع، إشعارا بخطر شأنها وعظيم قدرها. وقد ذكر عنها في كتابه الكريم ما لم يذكر عن أي عبادة أخرى ولقد سماها الله تعالى الإيمان في قوله ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ لأنها أوضح صورة وأبينها لما يكون في القلب من الإيمان.



وقد جاء في الحديث "على قدر حظ العبد من الصلاة على قدر حظه من الإسلام، فمن لاحظ له في الصلاة فلا حظ له في الإسلام" فإن رأيت العبد يحرص على أدائها في أوقاتها مع الجماعة في خشوع واستكانة ويطيل القراءة ويرتلها ويطيل ركوعها وسجودها..



ويسرع المرور فيها وفي أذكارها؛ فاعلم بأن حظه من الإسلام على قدر هذه الاستهانة. ومن ضيعها مرة واحدة ولم يصل، فلا شك أن قلبه خراب من الإيمان؛ وأنه لم يذق للإيمان طعما ولا وجد له ريحا. وأني والله لأعجب أشد العجب لمن يداخله أقل شك في كفر تارك الصلاة، بعد ما ذكر الله في كتابه ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ وبعد قول النبي صلى الله عليه وسلم "من ترك الصلاة فقد أشرك، ومن تركها فقد كفر" في كثير من الأحاديث الصحيحة، وبعد أن يعلم أن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها إلى حد أن كانت آخر وصية له وهو مقبل على الآخرة "اتقوا الله في الصلاة" وأول وصية أبي بكر رضي الله عنه لعماله "ألا وإن أهم أمركم عندي الصلاة، فإن من ضيعها فهو لغيرها أضيع، ألا وإن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل" وكذلك عمر رضي الله عنه وغيرهما من كبار الصحابة. حكى غير واحد من العلماء: إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة.



أعجب لمن يصلي ويذوق حلاوة مناجاة ربه في الصلاة، واتصال قلبه في الصلاة، بربه، وسمو روحه وصعودها إلى حضرة القدس في الصلاة، وشهوده لمقام العبودية؛ ومقام الربوبية إذ يتنزل من الربوبية إلى العبودية في الصلاة، ويشهد قلبه من نفحات ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ ويصعد على معارج ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ويدخل في رياض القرآن الكريم يقتطف من ثماره الجنية ويجني من قطوفه الدانية ما يزرى على كل متاع الدنيا القليل، ويتصاغر عنده الملوك والرياسات والأموال والدور والقصور...



أعجب أشد العجب لمن يشهد قلبه كل ذلك وأكثر من ذلك في الصلاة حين يتوجه بوجهه إلى الله؛ كيف يخالجه أقل الريب في كفر من حرم نفسه من كل هذه النفحات وأعرض عن الله وعن ذكر الله، وعن الفلاح وعن أسباب الفلاح؟ وماذا هو الإيمان الذي لم يشرق في القلب من نوره ما يكون أول آثاره الحرص على الصلاة وإجابة داعي الله إلى الفلاح وسعادة الدنيا والآخرة في ذكر الله الأكبر، والقيام مع الله الأكبر والكلام مع الله الأكبر؟! أما أنا فالحمد لله الذي أنقذ قلبي من مثل هذه الشكوك في كفر تارك الصلاة وأنه لاحظ له في الإسلام مهما عمل غيرها من شيء. ولئن مات على ذلك فأكون مجرماً إن صليت عليه أو دفنته مع المسلمين.



وإني لأعجب كذلك أشد العجب ممن يشك في أن الصلاة موقوتة وقتها الله العليم الحكيم على ساعات اليوم، بحيث يكون للعبد منها تشريفات يحظى فيها بالاتصال بربه في كل فترة اتصالا يصفى قلبه من كدر الشيطان ووساوسه؛ ومن قذر الدنيا ومفاتنها "مثل الصلاة كمثل نهر جار أمام بيت أحدكم يغتسل فيه في اليوم والليلة خمس مرات".



وأن الصلاة إنما شرعت لتلك الاغتسالات القلبية، ولذلك الصفاء الروحي ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ فلن تكون صلاة حتى تحقق هذا المعنى، وتملأ نفس المصلي حياء من الله، وخشية لله؛ وكفًا عن محارم الله؛ وبعداً عن مساخط الله؛ وإلا لم تكن صلاة. وليس يتحقق منها ذلك إلا على ذلك النظام البديع المحكم والتوقيت المفروض الذي وقّته الله الحكيم الخبير.



فكيف يتصور متصور أن رجلا أضاع صلاة الأمس وحرم قلبه من هذا الاغتسال وحرم نفسه من هذا الغذاء، لا غذاء لها سواه وقطع عن القلب مادة حياته من ذكر الله وتراكم عليه من الظلم ما ران عليه بما كسب - كيف يستطيع أن يصليها اليوم، بل كيف يستطيع أن يقضي صلاة العام الفائت في هذا العام وهكذا؟ إن من يقول هذا ويتصوره لم يعرف حقيقة الصلاة، ولم يقدر قدر الصلاة، حتى ظن أنها كالدين في الذمة مهما ماطلت صاحبه لابد أن تؤديه وإن طالت المماطلة. ما ظن ذلك الظن إلا لعدم فهمهم لحكمة الله؛ وصريح كلامه وصرائح أقوال نبيه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولأنهم لم يشهدوا في الصلاة بقلوبهم ما هي الصلاة؛ فكانوا بذلك الظن من المفتونين.



وهذا قول الله تعالى في خاتمة آية صلاة الخوف حالة الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه الذي وصفه النبي بأنه ذروة سنام الإسلام ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ وهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول "إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار؛ وعملا بالنهار لا يقبله بالليل" فإذا كان عمل النهار لا يقبل في الليل التالي لذلك النهار، فكيف يعقل أن يقبل بعد شهر أو سنة أو أكثر؟ أهم يظنون أنفسهم أفقه بالدين، وأعلم بأسرار الشريعة من أبي بكر وإخوانه من الصحابة الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه؟ أم إنهم قد ظنوا الدين هذه الرسوم الظاهرة التي شغلتهم عن لب الدين وحقيقته، وخاب ظنهم وكانوا من الخاسرين. وما ولد في قلوبهم هذه الظنون الخاطئة إلا حرمانهم من منابع الدين القرآنية والنبوية، فوردوا موارد كدرة بالأهواء والآراء؛ وظلمات النفوس المفتونة بالدنيا، ورياستها وتمشيخها وحب الظهور والأحدوثة فيها، فحرموا لذلك من الروح القرآنية والنفحات الحديثية؛ فقست قلوبهم وما كانوا مهتدين.



ألا إنه لا دين، لا إيمان، لا إسلام، لا فقه؛ لا توحيد، لا أصول، لا فروع، لا عبادات، لا طهارات؛ لا أحكام، لا أخلاق، لا آداب؛ لا صلاح؛ لا إصلاح، لا شيء من كل ذلك إلا من منبع قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم.



ومن طلب شيئاً من ذلك من غير قال الله وقال الرسول، فطلبه ضائع، وسعيه في تباب؛ ومن ظن أن كتابا أو كتباً تغني في التوحيد أو في الفروع أو في الأحكام عن قال الله وقال الرسول، فقد ضل كل الضلال، وإن زعم أنه خير المهتدين، فهو من أجهل الجاهلين وأخسر الخاسرين.



ونسأل الله العافية والهداية إلى الصراط المستقيم. اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وشفاء صدورنا، وإمامنا في العلم والفقه والتوحيد والأخلاق والآداب والدنيا والآخرة، واجعل سنة نبيك أحب إلينا من الماء الزلال، ولا تورد قلوبنا في الدنيا غير حوضها لنحظى بحوض النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ونسعد بشفاعته.