مشاهدة النسخة كاملة : المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله


ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 10:26 PM
المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله (1/3)







دار المصاحف
أ. محمد خير رمضان يوسف







للأثرياء لغةٌ لا أُتْقِنها؛ ولذلك لا أزورهم؛ حتى لا أزعجَهم بلغة العِلم، ولا يزعجوني بلغة المال، لكن الذي حَدَث أنَّني قُمْتُ بزيارةٍ لأحد كبارهم، وكان ذلك رغمًا عنِّي، فقد جاء بأخٍ لي شقيقٍ لم أَرَه منذ ربع قرن كامل، فقَدِم إلى البلد الذي أقيم فيه بواسطته؛ لِيَرَاني فقط، ثم يرجع، فكان عليَّ أن أُقَدِّمَ له واجب الشكر على الأقل، ولو لَمْ أطلب منه استقدامه؛ بل ما كنت أطلب منه ذلك، ولو لم أره حتى وفاتي.

وبدا لي في الجلسة القصيرة أن أكافئه ببضاعتي، وأردَّ له شيئًا منَ المعروف، يكون له فيه أجر كبير، وسنَّة حسنة، فأقبلتُ إليه باشًّا، وقلت: جزاكَ الله خيرًا على المكتبة التي أنشأتها - أيها الشيخ - فلا شك أنَّ الروَّاد يستفيدون منها؛ ولكن ما ميزة مكتبتكم بين المكتبات الموجودة في البلد؟

فَعَدَّد مناقبها، وذكر وظائفها، وأشار إلى الآلات الحديثة والسريعة التي اقتناها مما أفرزتها التقنيةُ الحديثةُ للمكتبات ومراكز المعلومات، وبيَّن أسعارها الغالية، وما إلى ذلك.

فقلتُ: هذا شيء طيبٌ تُشْكَرُون عليه، ويرتاح له المراجعون - إن شاء الله - ولكن كنتُ أودُّ أن تذكرَ لي الميزة التي تميَّزت بها مكتبتكم، مما لا يوجد منه في المكتبات الأخرى.

فصار يذْكُر مجموعاتِ المخطوطات، والكُتُبَ النادرة التي أَحْضَرَها، والدورياتِ القديمةَ، والبردياتِ والوثائقَ، التي قد لا توجد في مكتبات أخرى.

وما أن بدأتُ بِذِكْر سؤالي بصيغةٍ أخرى حتى لا أحرجه، إذا به يخرج عن خُلقه، ويرفع صوته، ويقوم مِن مَجْلِسه وهو غاضب، ويقول: ويقول: أنت جعلْتَ منَ المسألة ألف ليلة وليلة، ونامت شهرزاد، وسكتَ عنِ الكلام المباح، ليأتي مرة أخرى و...

وعلمتُ أن بضاعتي غير مرخَّصة عنده، ولُغَتي غير مرحَّبٍ بها في مجلسه، وتجرَّعت كأس الصبر دقائق أخرى عنده؛ لأجل شقيقي الحنون، وأجَّلْتُ الحديث عنِ المشروع المقتَرَح؛ ليكبر ويستقل، ويكون فيه خير أكثر، ويهب الله تنفيذه لمن أراد له مثوبة أكبر.

لقد أحْبَبْتُ أن أقترحَ عليه مشروع مكتبة خاصَّة بالقرآن الكريم، يمكن أن تسمَّى "دار المصاحف"؛ يُجمع فيها ما يُمكن مِن مخطوطات المصاحف الشريفة، وتصوير ما لا يمكن منها ورقيًّا، أو ميكروفيلميًّا، أو نُسَخًا على الأقراص المُدْمَجة، ويدخل في المخطوط منها ما وجد على أوراق البردي، والجلود، والعظام، والأحجار، وقشور البيض، وما إلى ذلك.

إضافةً إلى جَمْع طبعات المصاحف منذ بَدْء الطباعة حتى تاريخه، سواء كانتْ طبعاتٍ قيِّمةً أم مُزَيَّفَة، في الشرق أو الغرب، ولو نُسخةً واحدة مِن كل منها، ويكون هذا مهمة هذه المكتبة، ويمكن أن يكونَ هذا قسمًا في مكتبة كبيرة.

وفائدةُ هذه المكتبة المُتَخَصِّصة تاريخيَّة توثيقيَّة علميَّة، وهي مفيدةٌ للعلماء والباحثينَ، في دراساتهم وبُحُوثهم القرآنية، وللرد على شُكُوك المُشَكِّكينَ والمُرجفينَ في شُبُهات عقيمة لهم حول تاريخ تدوين القرآن الكريم وأطواره.

وأزعم أنها بالإضافة إلى فائدتها العلميَّة المذكورة ستكون تحفةً إسلاميَّةً، وسابقة ثقافيَّةً تراثيةً لا تقدَّر، ولا يجاريها متحفٌ أو مكتبة في تخصُّصات أخرى؛ لمكانة القرآن الكريم أولاً، ولافتخار المسلمين وتباهيهم بما يملكونه أو يرثونه من مصاحفَ مخطوطةٍ، أو أنواع وأشكال نادرة منها، ويكون من بينها ما لا يخطُر على البال، فهناك مصاحف صغيرة جدًّا لا تتجاوَز السنتمتر الواحد.

وقد عُرض أكبر مصحف في العالَم في "معرض المصحف الشريف"، الذي أُقِيمَ هذا العام (1429هـ) في طرابلس الغرب، الذي شارَكَ في كتابته (58) خطاطًا، إلى جانب عرض مصحف ذهبي يزن (500 كغ) منَ الذهب، كما عرضتْ نسخة منه صنعتْ في روسيا منَ الذَّهَب الخالص بنسبة 99.9 %، ومحفورة على 162 صفحة، وتبلغ قيمتها المالية نحو (5.6) مليون دولار، ولعلَّه السابق أو غيره.

وهناك معارض أخرى للمصاحف تُنَظَّم في بلدان إسلامية وغير إسلاميَّة، فقد نظم مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض عرضًا خاصًّا بالمصاحف النادرة منذ سنوات قليلة، كما نظمت اليمن هذا العام (1429هـ) معرضًا لصور نوادر المخطوطات القرآنية الموجودة منها في اليمن وحدها، ابتداء منَ القرن الهجري الأول، مما كان قبل التنقيط، وما بعده.

ولعلَّ القارئ يستصعب جمع هذه المخطوطات، التي لا يتخَلَّى عنها أصحابها، أو هي غالية جدًّا، بعضها لا يقدَّر بثَمَن.

وأقول: إن هذا المشروع طيبٌ مبارك، هو الآخَر لا يقدَّر بمال، والعزم عليه والبدْء به يفتح أبوابًا وطرقًا كثيرة لِجَمْع مادته، فسماسِرة المخطوطات، والورثة الجُدد الذين تختلف هواياتهم عما كان عليه آباؤهم، وأصحاب المتاحف الشخصية، والتجار - كلُّ هؤلاءِ وأمثالهم يمكن الاعتماد عليهم في جَمْع الكثير مما يُرغب فيه، وبعد عِقْدٍ منَ الزمن يكون ما جُمِع مما لم يكن متوقَّعًا حين البدْء به.

والمشاريع الجديدة لهذا وأمثاله لا تتوَقَّف، فمنذ أيام قليلة - ذو القعدة 1429 هـ - افتتحتْ قَطَرُ أكبر متحف إسلامي، وفيه منَ التُّحَف والآثار الإسلامية ما هو نادر جدًّا، ولم يُعْرَض من قبل في أية جهة.

ومن نافلة القول أن أذكرَ أن الهدف مِن اقتراح هذا الموضوع هو لفائدة علميَّة ومعلوماتيَّة، وليستْ آثارية تراثية صرفة، فيمكن تصوير ما يلزم لهذه الدار، دون التركيز على ضرورة اقتناء أصله، فالفائدة متحَقِّقة علميًّا بذلك، وتعمل الفهارس اللاَّزمة لإبراز ما في الدار؛ ليستفيد منها الباحثون.

هذا، ولا أعرف مكتبة متَخَصِّصة في جمع مخطوطات المصحف الشريف وَحْده، أو تجمع طبعاتِه القديمةَ والجديدة، أو أيَّة مؤسسة تقوم بذلك، أو حتى أفراد.

وفي المنامة وغيرها مراكز أو "بيوت" خاصة بالمصاحف؛ لعلها تكون جزءًا منَ المشروع العام هذا.

والله الموفِّق.

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 10:31 PM
المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله (2/3)
أ. محمد خير رمضان يوسف


بنك معلومات عن القرآن الكريم



مما يُؤْسَف له أنه لا يوجد حتى الآن مجمعٌ أو مركز علمي، فيه كل المعلومات مما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه.

إن الإجلال العظيم، والتقدير الكبير الذي يكنُّه المسلمون لكتاب ربهم - شيء لا يُحَدُّ ولا يتصوَّر، وإن كل خدمة تقدَّم لكتاب الله - تعالى - تعود فائدتها إليهم؛ فهو دستورهم، ونظام حياتهم، وزادهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ولا شك أن ما كُتب عن القرآن الكريم كثير، منذ القرن الهجري الثاني وحتى يومنا هذا، وقد تنوَّعت علومه وموضوعاته، ورُتِّبت وكُتِب فيها جميعًا، وهي في ازدياد مستمر، وقد أوصل الإمام السيوطي أنواعه إلى ثمانين نوعًا في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، فزاد وفصَّل مسائلَ لم توجد في "البرهان" للزركشي.

ومن أشهر علومه: جمع القرآن، أسباب نزوله، إعرابه، غريبه، بلاغته، ناسخه ومنسوخه، أحكامه، مُجْمَله ومبيَّنه ومؤوَّله، محكمه ومتشابهه، وجوهه ونظائره، مقدِّمه ومؤخره، منطوقه ومفهومه، مُطْلَقه ومقيَّده، تفسيره، ترجمته، تجويده وقراءاته، أمثاله وقصصه، فضائله، أدعيته، آدابه، خواصه.
وله أنواع دقيقة ونادرة؛ مثل: جدله، حَضَرِيِّه وسَفَريه، نهاريه وليليه، ما تكرَّر نزولُه، صَيْفِيِّه وشِتائيه، فِراشيِّه ونَوْمِيِّه، أَرْضِيِّه وسماويه، ما تأخَّر حُكْمُه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه.

واستُحدثت علومٌ أخرى له في عصرنا؛ مثل الإعجاز العلمي فيه، والتفسير الموضوعي له، وكذا التفسير الأدبي، والعلمي، والنفسي، ومخطوطاته، وترجماته، ولعل آخرها علمُ الأصوات فيه، وهو غير التجويد، وإن تعلَّق به.

إن ما كُتب في هذه الموضوعات وغيرها، قديمًا وحديثًا - كثيرٌ جدًّا، وبخاصة إذا أُضِيف إلى الكتبِ البحوثُ، والدراسات، وأوراق الأعمال المقدَّمة إلى المؤتمرات والندوات والمُلْتقيات، بالإضافة إلى المقالات المتنوعة، ما نُشر منها وما لم ينشر.

وهي مشتَّتة مبعثرة بين المخطوطات والمطبوعات، والجرائد والمجلات، ومنها ما هو مفقود لا يُعرَف له أثر، أو هو في التراث المخبوء من التركات، أو عند التجار وسماسرة الكتب والتُّراثيات.

ولا شك أن القيام بجمع هذه المعلومات، وتخزينها بواسطة الآلات الإلكترونية الحديثة - مطلوبٌ وضروري، فإن كل دولة تجمع تراثها، وتاريخها، وآثارها، وتجنِّد علماء وخبراء؛ لتصنيف أوعية معلوماتها، وفَهْرَستها، وترتيبها، ونشرها، وتوزيعها، والدعاية لها، وكذا الجماعات الفكرية والمذهبية والدينية، والأحزاب والمراكز المتخصصة علميًّا وأدبيًّا، وهكذا الأفراد الذين يهتمون بنتاجهم، وتُتابعها نقاباتُهم ورابطاتهم وما إليها.

وكتاب الله - تعالى - أَولى من كل هذا؛ لأنه الكتاب السماوي الصحيح الوحيد على وجه الأرض، ولأنه كتاب للعالمين جميعًا، فهو موجَّه للناس كلهم، وليس لأفراد، أو جماعة، أو قوميِّة، أو زمان معين، وهذا يحفز إلى أن يكون الاهتمام به على قدر جلاله، وعالميته، وأهميته؛ فهو أكبر، وأعظم، وأجلُّ من كل كتاب، وشخص، وجماعة، ودولة، وما لم يكن كذلك، فإن التقصير فيه واضح، والمسؤولية فيه قائمة.

وليتذكر المسلمون كم تحمَّل الصحابة - رضوان الله عليهم - مسؤوليته، حتى حافظوا عليه، ودوَّنوه، وبلَّغوه، من عند أنفسهم، وبتكليف ومتابعة من أعلى منصب في الدولة، وعلينا أن نُكْمل ما قامت به الأجيال المسلمة السابقة في خدمة هذا الكتاب العظيم، ونستشعر مسؤوليتنا حقيقة تجاه ذلك، وهذا العمل جزء من العمل المطلوب منا تجاهه، وليس كله.

إنها لخيبةٌ وحسرة وألم ألاَّ يوجد حتى الآن مجمَّع معلومات، يرصد كل ما يتعلق بكتاب الله الجليل، الذي يلزم أن ينهض به، ويتحمَّل مسؤوليتَه المسلمون بطبيعة الحال، وخاصةً علماءَهم ومسؤوليهم وأثرياءهم،، وفي القيام بهذا العمل خيرٌ كثير، وفوائدُ لا تُحْصى في حياة المسلمين؛ بل هو ضروري لهم، وهم مقصرون جدًّا في تأجيله، والخير والنفع بيد الله وفي كتابه والاشتغال به.

وليتصور المرء - مثلاً - قارئًا، أو كاتبًا، أو باحثًا يريد أن يعرف موضوعًا في القرآن الكريم، هل كتب فيه؟ وأين يجده؟ وكم عقبةً سيصطدم بها حتى يصل إلى مقصوده - هذا إذا وصل - فإذا وصل، كم معلومة تفوته من أصل ما هو موجود؟

وأقرب من هذا طلاب الدراسات العليا في الجامعات، الذين إذا اختاروا موضوعًا اشترطوا عليهم ألاَّ يكون كُتِب فيه من قبل، ويُلْزَمون بالبحث والتأكد من ذلك، ويكُلَّفون بذِكر الموضوعات المشابهة لما يكتبون فيه، وذكر الفارق بينه وبينها، فكم هي المعاناة التي يجدونها حتى يُحصِّلوا أمثال هذه المعلومات!
ومثل ذلك تحقيق كتاب تراثيٍّ، ونُسَخه المشتتة، وتحصيلها.

هناك فرق كبير بين أن يبحث كل مَن يلزمه أمرٌ في القرآن، فيسأل ويبحث، وقد يسافر وينفق المال والجهد؛ حتى يحصل على ما يريد، أو جزء مما يريد، وبين أن تكون هناك مؤسسة تجمع هذه المعلومات، وتوفر جهود آلاف الساعات، وتكون المعلومات فيها أشملَ وأكثر تنويعًا على الغالب.

ولا يتصور أن يكون هذا عملاً مستحيلاً أو كبيرًا، بحيث لا يمكن حَصْرُه وجمع نواحيه؛ فإن الهمَّة والعزيمة مطلوبة، ولا يوجد يأس في حياة المسلم إذا كان متوكلاً على الله، والمشروع الذي يبدأ فيه ينمو ويكثر - بإذن الله - ويصير بعد عقد من الزمن كشجرة طيبة مباركة، تؤتي ثمارها لكل الناس، والله يوفق من أخلص في عمله، ويبارك فيه.

ويمكن الاستفادة من أعمال جاهزة، سبق أن قام بها أفراد أو مؤسسات، ثم يكمل ما بعده.

فقد قامت مؤسسة آل البيت في عمَّان بعمل شامل طيب، من خلال إصدار فهرس عام، يشمل بياناتِ جميع مخطوطات علوم القرآن في العالم، بالاستفادة من الفهارس العامة المطبوعة للمخطوطات في بلدان عديدة، وتلزم متابعة العمل وبذل الجهد؛ لإضافة ما استجدَّ من فهارس المخطوطات الجديدة، وبخاصة التي أصدرتها مؤسسة الفرقان في لندن.

وبالنسبة للكتب المطبوعة، فإن هناك "معجم مصنفات القرآن الكريم"، الذي سبق صُدوره في أربعة أجزاء منذ زمن، ويشمل المخطوط والمطبوع، ولعله صار ضِعْفَ حَجْمه، وسبق أن أعلنتْ جمعية إحياء التراث الإسلامي بالكويت عن عزمها على طبعه بزياداته الجديدة إن أمكن، ولم يصدر.

والأفضل هو القيام بعمل جديد، من خلال متابعة الببليوجرافيات الوطنية التي تُصْدِرها كل دولة، وتخزنها في أقراص.

وأشير إلى عمل آخر يُستفاد منه، وهو تصنيف ما أثير من شبهات حول القرآن الكريم، من خلال الكتب والدراسات التي ألَّفها الملحدون، والعلمانيون، وأهل الكتاب، والمناوئون عامة، والخروج بكتاب مرجعي شامل، يردُّ على جميع هذه الشبهات، ونشره بلغات عالمية، وتوزيعه على مستوى دولي؛ حتى لا تبقى حُجَّة لأحد في عدم اتِّباع كتاب رب العالمين، وليكون تَبْرِئةً لذِمَّة المسلمين، وتبليغًا منهم لكتاب ربهم، ويكون هذا جزءًا من مشروع إسلامي عالمي لإخراج إصدارات موسوعية شاملة، في الموضوعات المهمة التي تخص دينهم، فهم مسؤولون عن تبليغ دين التوحيد، وتوصيله إلى الناس بلغاتهم.

إن جمع هذه المعلومات وتخزينها في وسائط إلكترونية، ومتابعة ما يستجدُّ منها، بالتعاون مع الجامعات والمراكز، والجمعيات والمؤسسات الثقافية، والمكتبات ومراكز المعلومات ودور النشر، وما إليها، وتجنيد الخبراء في مجال المكتبات والمعلومات، والإعلام والدعاية والنشر لأجل ذلك، وتصميم مواقع، وإصدار دوريات، ومتابعة نشاطات في هذا الشأن - كلُّ هذا يساعد على نشر ثقافة إسلامية وقرآنية عامة، وعلاقات ثقافية بين الشعوب الإسلامية خاصة، من خلال التنبيه إلى ترجمة الأعمال العلمية الرصينة التي كُتِبت في التفسير وعلوم القرآن إلى لغات عالمية، كما أن قيام مجموعة من المتخصصين بتصنيف هذه المعلومات موضوعيًّا يُبْرز النقصَ الحاصل في هذا المجال؛ مثل معرفة التفاسير التي تُرْجمت، واللغات التي لم تُترجم معاني القرآن إليها بعدُ، ويبعث الأمر على نشاطات فكرية وثقافية جديدة، من خلال ما تطرق إليه بلغات دون أخرى، والمعلومة تقدح المعلومة فتثيرها، والعلمُ يزيد بين اثنين.

إن إنشاء بنك معلومات عن القرآن الكريم، تأخَّر كثيرًا في ظل الثورة العلمية والثقافية، التي تنامت مع الاختراعات الجديدة في الطباعة والتخزين إلكترونيًّا، وسهل لنا ما لم نحلم به قبل سنوات، ولنقارن ما كان يقوم به أجدادنا من نسخ مخطوطات في شهور وسنوات، وهو في يومنا هذا لا يحتاج إلى أكثر من النسخ واللصق في ثوانٍ.

إننا أمة علم وإيمان، وأصحاب دعوة ورسالة، ودعاة إصلاح وتغيير، وعلينا أن نُثْبت أننا كذلك علميًّا وعمليًّا، وهذا اقتراح "معلوماتي" يتعلق بمصادر العلم والثقافة، والمعلومات جمع معلومة، والمعلومة من العلم، والعلم نحن له إن شاء الله، وهو في دعوتنا قائم على الحق، والعدل، والتوحيد، والنصح لكل الناس.

وقد أشير أخيرًا إلى أمر؛ لئلا يلتبس على القارئ أمرُه، وهو "المركز العالمي للقرآن الكريم"، الذي أسَّسه أحمد صبحي منصور، وهو مؤسس فرقة القرآنيين بمصر، ومنكر للسنة النبوية، أنشأه بأمريكا بعد تدريسه في جامعة هارفارد بسنة واحدة، ويُعتبر هاربًا من ملاحقات قضائية بمصر، حيث كان أستاذًا في جامعة الأزهر، ثم طُرد منها لإنكاره السنَّة.

أما كان على أهل السنة أن يكونوا سبَّاقين إلى إنشاء مركز عالمي لكتاب ربهم بحق؟!

أدعو الله - تعالى - أن يُلْهِم هذا المشروعَ القرآني عقولاً، ويحمس نفوسًا، ويثيرَ عزائم، لإيجاده على خريطة الواقع قريبًا - إن شاء الله.

ابو وليد البحيرى
26-05-2015, 10:39 PM
المسلمون والتقصير في خدمة كتاب الله (3/3)
أ. محمد خير رمضان يوسف




التفسير الصحيح للقرآن الكريم



مدخل:
هل هناك تفسير صحيح لكتاب الله تعالى؟
من المؤسف أن أقول للقارئ: إنني لا أعرفُ له وجودًا، حتى عام 1420هـ على الأقل! وهذا أمر يدعو إلى العجب حقًّا، على الرغم من الاهتمام العظيم بالقرآن الكريم، ومن كثرة أهل العلم والتفسير على مدى قرون طويلة.

وعلى الرغم من أهمية هذا النوع من التفسير من بين جميع التفاسير التي وجدت، المأثورة المُسْنَدة، وتفاسير الرأي، والنحوية، والبلاغية، والفقهية، والإشارية، والبسيطة، والوسيطة، والموجَزة.

فأنواع التفاسير معروفة لدى القارئ، وكلها فيها الصحيح وغيره، وآراء وأقوال وروايات متعدِّدة، وفيها ما هو متبايِن ومخالف لبعضها البعض، وإذا أضيف إليها أسباب النزول، وفضائل الآيات والسور، ووجوه من القراءات، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما يورده المفسرون، كثر الضعيف، وربما الموضوع.

ولست بصدد بيان أهمية التفسير الصحيح من بين الأنواع الأخرى منه، فالماء الزلال الذي يأتي من عين صافية، غير الماء الذي يجري ويختلط به الطين وغيره، وتَزَوُّد المسلم بالمعلومات الصحيحة دون غيرها يُشَكل شخصيته الثقافية القوية، غير المضطربة، وغير المعوجَّة، ما عدا التأثيرَ السيئ لآراء وأفكار قد لا تكون سديدة، ولا يَخفى ما للإسرائيليات، والخرافات، والأحاديث الموضوعة من تأثير على عقيدة المسلمين، حيث يتناقلها بعضهم على أنها من الدين، فيكون من واجب العلماء الذَّودُ عن دين الله وتفسير كتابه، وتصفية ما شابه مما ليس منه.

والمطَّلع على التفاسير القديمة خاصة يعلم ما فيها من إسرائيليات وغيرها، كما تتعدد أقوال المفسرين في بيان معاني آيات، ويوردون آثار التابعين وأتباعهم بكثرة، حتى يضيع القارئ بينها.

المقصود بالصحيح:
إن المقصود بالصحيح هو ما ذكره المفسِّرون والعلماء من أن أفضل وأصح تفسير هو تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسيره بالسنة النبوية الكريمة، ثم بأقوال الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين نهلوا من مَعِين السنة، وأخذوا العلم من رسول هذه الأمة - صلى الله عليه وسلم - ثم بأقوال تابعيهم - رحمهم الله - الذين تعلموا على أيديهم، وروَوا عنهم علوم الإسلام.

فهل هناك تفسير شامل مقتصر على ما ذُكر؟

إن الأمر ليس بهذه السهولة:
أ- فتفسير آيات القرآن يجب أن تكون صحيحة؛ حتى تفسَّر بآياتٍ من مثلها، والآيات المشابهة قد تكون من باب المبيِّن للمجمَل – يعني: تفصيلاً للموجز - وقد تكون هناك دلالات إضافية في الآية لمناسبة ما؛ لما فيها من زيادة كلمة أو كلمتين عن مثيلتها، فتحتمل زيادة معنى، وقد يكون التفسير قابلاً لهذا أو ذاك، أو لكليهما، فاحتمال أكثر من وجه وارد في الآيات لهذا السبب أو غيره؛ بل أعتبر ذلك من وجوه إعجاز القرآن الكريم، فقد تدلُّ الآية على معنيين يكون كلاهما صحيحًا؛ فقوله – تعالى -: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، يعني: حتَّى يبلغَ الهديُ مكان ***ه، وهو للمُحصَر في المكان الذي حُصِرَ فيه، ولغير المحصَر في مِنى، فالآية شملت المعنيَين، وقد أورد العلماء تفصيلاً في هذا، وذكروا أن الحقَّ لا يتعدَّد، وأن الصحيح معنى منه، وما إلى ذلك.

ب- أما التفسير بالسنة، فينبغي ألا يُلْتَفت إلى غيره إذا صحَّ الحديث، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بكتاب الله - تعالى - وتفسيره له وحي من الله، فيكون أصحَّ شيء.

ولا يُستبعد أن يقوم المفسِّر بتفسير آيات على غير ما فسَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن مطلعًا على قوله - عليه الصلاة والسلام - فقوله - تعالى -: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3]، معناه: ومن شرِّ القمر إذا دخل في الخسوف؛ دليلُه ما قالته عائشة - رضي الله عنها -: نظر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى القمرِ فقال: ((يا عائشة، استَعيذي بالله من شرِّ هذا، فإن هذا الغاسقُ إذا وقب))؛ رواه الترمذي، والحاكم، وأحمد بإسناد صحيح.

لكن المفسرين يوردونها بمعنى: "الليل إذا أظلم"، وأصرَّ بعضهم على هذا المعنى بعد اطِّلاعه على تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، وذكرَ أن هذا التفسير لا يتعارض مع تفسيره - عليه الصلاة والسلام!

قلت: الظلام ينتشر عند الخسوف أيضًا، وخاصة عند اكتمال دخوله إلى منطقة ظل الأرض، حيث يخسف كامل قرص القمر؛ لكن المعنى الصحيح الأول هو ما ذكره النبي - عليه الصلاة والسلام - والتوسع فيه قد يكون ممكنًا، ولكن يورد الأصل الذي لا شك فيه على أنه هو المقصود، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - ويذكر هنا أيضًا الحديث أو الحادثة التي تورد عند قوله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24].

والذي يسدُّ نقصًا في هذا هو أن سنته - صلى الله عليه وسلم - مبيِّنة للقرآن، وإن لم يذكر أنها تفسير للآية كذا، فتفاصيل الصلاة، والصوم، والحج، وغيره - موجودة في السنة الصحيحة، وقد أحسن ابن كثير والقرطبي في تفسيريهما، وغيرهما من مفسري المأثور والأحكام، في هذا المجال خاصة.

وتبرز هنا مشكلات:
الأولى: أنه لم يصحَّ من تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل، وقد كانت لي جولة مبدئية بين ما صحَّ من تفسيره - عليه الصلاة والسلام - في الصحيحين وسنن أخرى، فكان في نحو مائة آية، وقد استخرجت منها "الأربعين التفسيرية"، وهي إحصاء مبدئي محدود، فيكون أكثر بالبحث والدراسة - إن شاء الله.

الثاني: أنني وقفت على أكثر من عنوان باسم "تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم"، ولكن لم أجده مخطوطًا، ولا مطبوعًا، فلعله من المفقود.

الثالث: أنه مثل غيره من الأحاديث، الذي فيه الصحيح وغيره، فلا بدَّ من فرزه وتصفيته؛ ليُعْتَمد الصحيح منه.

وإن أهم عمل في هذا هو جمع ما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التفسير.

ج- وبالنسبة لأقوال الصحابة - رضوان الله عليهم - في التفسير، فينبغي أن تخرَّج كذلك؛ ليُعلمَ الصحيح منه، ويُعْتمد بعد تفسير رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويُرَكَّز من بينها على تفسير ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو حبر الأمَّة، وأعظم مفسِّر في الصحابة، وقد لاحظت أن مفسرين يوردون قوله، ثم يختارون لتفسير الآية قولاً آخر، ليس هو من أقوال الصحابة أصلاً، حتى عند ابن كثير - رحمه الله - أحيانًا، ولا يعني هذا أن تفسيره - رضي الله عنه - مقدَّس لا يتجاوز إلى غيره، ولكن يؤخذ في الاعتبار جيدًا، فقد دعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي تخريجه، وهو أعلم الصحابة بالتفسير، ونحن هنا في مجال اختيار الصحيح والأَولى.

د- ثم يأتي تفسير التابعين، وهو كثير، ومفيد، لو أنه نُخِل، ويُعتمد بعد تفسير الصحابة - رضوان الله عليهم - مع تفصيل للمتخصصين في ذلك.

وإذا سألنا عن تفسير أو تفاسير جَمَعت كل هذه الشروط؛ أعني: تفسير القرآن بالقرآن، وما ورد من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الصحابة والتابعين في التفسير - فالجواب أنها موجودة مع زيادات أتباع التابعين وغيرهم، وأولها تفسير ابن جرير الطبري، ولعل آخرها "الدر المنثور في التفسير بالمأثور"، للسيوطي - رحمه الله - وهذا النوع يُسَمَّى "التفسير بالمأثور"، وفيه ما هو مسنَد، وما هو غير مسند، ولكن المشكلة تكمن في أن فيها الصحيح والضعيف والموضوع، والمطلوب في هذا الاقتصار على الصحيح منه.

المشكلة والحل في كتب التفسير المأثور:
لقد تبيَّن للقارئ أن التفسير بالمأثور – الذي يكون هو المعتمد – يحتاج إلى فرز الصحيح من بين رواياته؛ فأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التفسير مبثوثة في كتب الأحاديث والتفسير وغيرهما، وأقوال الصحابة فيها، وفي كتب السيرة، والتاريخ، والفقه، والزهد، وأقوال التابعين كذلك، وقد ذكرنا أن الإمام السيوطي جمعها في تفسير "الدر المنثور"، ولا شك أنه يُستدرك عليه كما يُستدرك على غيره، فقد بحثت عن أقوال صحابة وتابعين في هذا التفسير، فلم أجدها فيه.

فالأمر يحتاج إلى متابعة، وتخريج ما يلزم، وقد صدر تفسير السيوطي المذكور محققًا بإشراف أو تحقيق الأستاذ عبدالله بن عبدالمحسن التركي، وفيه تخريج وحل لمشكلة ومشكلات منه، لكن التخريج ليس لكله، فبعضها غير مُسْنَد، والحكم على الحديث والأثر والخبر يكون من خلال السند، وتفسير ابن كثير كذلك، ثم إن هذا وذاك ليس فيه اقتصار على الصحيح؛ بل فيه ما هو دون الصحيح، ودون الضعيف.

فالأمر يحتاج إلى خطوات، من الجمع الشامل، ثم التحقيق والتخريج الوافي، ثم فرز الصحيح منه.

ولا شك أن هناك اعتراضاتٍ في طريق ما هو صحيح أيضًا، من حيث تعدُّدُ الروايات عن شخص واحد في التفسير نفسه، كما يروى عن ابن عباس وغيره، وأحيانًا من حيث الاختلاف في حكم الحديث والأثر، ثم اختلاف بعض الصحابة والتابعين في تفسير آيات عديدة، وقبل هذا وجود آيات مشكِلة ومتشابهة، وإذا كان بعض المفسرين قد خاضوا فيها، وبعضهم قرَّب المعنى، فإن بعضها لا يمكن التأكيد على معناها، مثل الحروف المقطَّعة الواردة في أوائل بعض السور.

هذا إضافة إلى آيات كثيرة لم يَرِد في تفسيرها أحاديث، ولا أقوال الصحابة ولا التابعين، وبعضها غير واضح وغير كافٍ، ولذلك انبسط الشيخ ابن عاشور في تفسيره كثيرًا من صنيع أصحاب "معاني القرآن" في تفسير ألفاظ وآيات كثيرة في القرآن لغويًّا ونحويًّا، مما يساعد على فهم المقصد والمعنى من آيات كثيرة، وهو يدخل ضمن التفسير بالرأي.

المشروع المقترح:
أشير أولاً إلى أنه لا مطمع لنا في تفسير شامل للقرآن، يُحكم عليه بالصحة مطلقًا؛ نظرًا لعدم وجود تفسير كامل من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - له، وفي ذلك حِكْمة، وحتى التفسير المأثور عنه - عليه الصلاة والسلام - قليل كما ذكرتُ، وهذا القليل فيه الصحيح وما دونه، وكذلك أقوال الصحابة لو جمعت، لما كان لكامل القرآن، و"تفسير ابن عباس" المطبوع قديمًا ليس هو تفسيره بحق، وأقوال التابعين تقاس على ما سبق.

الأمر الآخر هو اختلاف الاتجاهات، تبعًا للمدارس والمذاهب التي ينتمي إليها المسلمون، فإن بعضهم لا يقبل تفسير آياتٍ، ولو كانت من عند ابن عباس - رضي الله عنهما - الذي دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((اللهمَّ فقِّهه في الدِّين، وعلِّمهُ التأويل))؛ (رواه أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه"، وصححه الشيخ شعيب)، ثم آيات الأحكام في القرآن التي اختلف الفقهاء في كثير منها، فصارت هناك مذاهب، أكثر من الأربعة التي يعرفها القارئ.

كما أن هناك علومًا كثيرة للقرآن الكريم يمكن إدراجها ضمن التفسير؛ ليزداد وضوحًا عند القارئ، مثل أسباب النزول وغيرها.

وهذا الذي أذكره؛ لأخلص إلى أن التفسير المقترح ينبغي أن يجتمع له أعلام وتخصصات متنوعة، فالتفسير فيه أنواع من العلوم، من فقه، ونحو، وقراءات... ويعني هذا أن قيام شخص واحد بهذا العمل يكون صعبًا جدًّا، فلا بدَّ من جهد جماعي له، وهذه الجماعة تكون مختارةً من أفضل العلماء وأكثرهم خبرة في التفسير أولاً، ثم في تخصصات أخرى تدخل في التفسير.

ومشكلة الآيات التي لم تفسَّر من قِبَل السلف يمكن حلها باختيار ما اتفق عليه المفسرون أو أكثرهم، أو ما يناسب العصر مما تَحقَّق منه أو ثبت علميًّا، وفي كلام المفسرين اتفاق أو تقارب شديد في آيات كثيرة، فإن أكثر القرآن واضح، يفهمه المسلمون حتى لو لم يكونوا علماء؛ بل إن التعمُّق في معنى آيات وتبسيطها أذهبَ جَمالَ تفسيرها السهل، ومدلولها الواضح الذي لا غبار عليه.

أما في مجال العقيدة واختلاف بعض المسلمين في تفسير آيات تتعلق بها؛ مثل الأسماء والصفات، فإما أن تبقى على ظاهرها، ويذكر فيها ما ذكره معْظم المفسرين، أو يورد قول الصحابة والتابعين فيها وإن بدا فيها الاختلاف؛ فإن اطلاع القارئ على ذلك يخفف عليه ما يسمعه من تشديد في الأمر، والاختلاف وارد، ولا يمكن إزالته كله، ومن المؤسف ألا يطيق بعضهم إيراد وجوه من التفسير أو التأويل، التي صحت عن ابن عباس، أو غيره من الصحابة - رضوان الله عليهم - لمجرد أنها لا توافق مذهبهم العقدي! فالصحيح يُذكر، سواء أُخِذَ به أم لم يؤخَذ.

والآيات المتشابهات يقال فيها ما ذُكر أيضًا، وإذا فسِّرت بما ذكره أكثر المفسرين، فإنه يذكر للقارئ أن تفسيرها هذا ظني، وأنها من المتشابِه الذي استأثر الله بعلمه، وكذلك الأمر في الحروف المقطَّعة، التي مال معظم المفسرين – وخاصة في عصرنا - إلى أنها تدل على أن القرآن مكون من هذه الحروف وأمثالها، التي يكتبها ويتكلم بها الناس، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، دليلاً على إعجازه، وهو ظنيٌّ كما لا يخفى، فلم يرد في تفسيرها حديث صحيح.

والأفضل أن يكون التفسير الصحيح المقترح في حجمين: مبسوط، ووسيط أو موجز، يكون الأول للعلماء، وطلبة العلم، والمثقفين المتعلمين، والآخر عام للجميع، فيكون ملائمًا لهذا العصر، سهلاً واضحًا في كلماته، ومعانيه، ومدلولاته؛ ليناسب أهلَه ولغتهم ومستواهم، الذين يغلب عليهم قلة العلم بالإسلام.

ونخلص إلى أن التفسير الصحيح يكون:

- بتفسير القرآن بالقرآن.

- وتفسير القرآن بالسنة.

- وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وخاصة ابن عباس - رضي الله عنهما.

- وبتفسير التابعين تلامذة الصحابة - رضي الله عنهم.

- وما لم يفسَّر مما سبق يؤخذ ما اتفق عليه المفسرون، أو ما كان عليه أكثرهم، بعناية وتحقيق، فلا بأس من الاستدراك والتعقيب، وخاصة ما يتعلق بالأمور العلمية وما إليها، فإن المفسرين ينقل بعضهم من بعض، حتى يظن أحيانًا أنه قول جمهورهم، فليسوا جميعًا عارفين بموضوعات القرآن كلها، فينقلون ما قصر فَهْمُهم فيه، وما لم يبلغه علمهم منه، ربما هكذا دون تمحيص، مثل القول بأن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني، فقد قرأت في تفسيرٍ حديث أنه قول جمهور المفسرين – أي: عامتهم - ولهذا أورده هو أيضًا على أنه هو المعتمد، وهو قول لا يُعتمد البتة، فالمقدوني من تلامذة أرسطو الفيلسوف اليوناني المعروف، وتذكر الكتب الأجنبية أنه كان يعبد الأصنام، وي*** لها القرابين، وذو القرنين قبله بقرون، حاكم مؤمن صالح.

- وآيات الأحكام يختار الأصح مما اختلف فيه الفقهاء، ويؤخذ بعين الاعتبار اختلافات الفقهاء، ويبيَّن ذلك في التفسير الكبير، مراعاة للمذاهب الإسلامية المنتشرة في العالم.

اللجنة المكلفة بالتفسير، والأمل في صدور تفسير صحيح للقرآن الكريم:
إن اللجنة المكلَّفة بالتفسير تكون مختارةً من تخصصات شتى في العلوم الإسلامية كما قلنا، وأبرزها التفسير والعلوم المتصلة بالقرآن مباشرة، وهم كثر بحمد الله، ويشار إليهم بالبنان من خلال مؤلفاتهم، ودروسهم، وخبراتهم الطويلة في هذا، ولا يُكْتفى بشخص واحد من كل تخصص؛ بل يكونون عدة أشخاص؛ حتى لا يطغى عليه صبغة العمل الفردي أو القريب منه.

والتفسير المأمول صدورُه من هذه اللجنة هو أن يكون صحيحًا، غير مخالف لما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وتضع هذه اللجنة الأسس والشروط والقواعد الملائمة لذلك، وقد أشير إلى بعضها.

وقد يستغرب القارئ ألا تكون هناك جهة قد اضطلعت بهذا الأمر حتى الآن، على الرغم من أهمية هذا التفسير في حياة المسلمين كلهم!

أقول: لا شك أن جهاتٍ قامت بقريب من هذا الأمر المقترح، وهي لا تَقْدم على عمل تفسير إلا بهدف أن يكون صحيحًا، لكنها قد لا تستطيع أن تسمِّيَه بهذا الاسم؛ لما ذكرنا من الاختلافات الواردة في التفاسير، ولم أطَّلع على التفاسير التي كتبت في اللغات الأخرى، واطلعت على مجموعة طيبة منها بالعربية، وليس كلها، من ذلك تفسير موجَز أصدرته وزارة الأوقاف بالسعودية، وهو مختصر جدًّا.

وتفسير آخر أصدرته الوزارة نفسها في مصر، يبدو أنه كان في عهد وزارة محمد الأحمدي أبو النور، فقد صدر تحت إشرافه، وطُبع بعنوان: "المنتخب في تفسير القرآن الكريم"، ووصفه بقوله: "كتب بأسلوب علمي، يعتمد على أصول التفسير وقواعده"، وذكرت لجنة القرآن والسنة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: أن المجلس "شكل لجانًا علمية من جهابذة العلماء، وفطاحل الباحثين والمفكرين؛ ليتوفروا على تأليف هذا التفسير بأسلوب عصري، سهل مبسط، واضح العبارة، وجيز لا يَخِلُّ ولا يُمَلُّ، بعيد عن الخلافات المذهبية، والمصطلحات الفنية، والحشو والتعقيدات اللفظية؛ حتى يكون على حالة مرْضية من الصلاحية لترجمته".

ويبدو أنه لاقى قبولاً، فقد طبع طبعات عديدة، رأيت منها الطبعة الثانيةَ عشرةَ، الصادرة سنة 1406هـ.

ولا شكَّ أنه عمل طيب، ولكن لو وجِّه هذا الجهد إلى تَتَبُّع ما هو صحيح من التفسير، لكان أفضل.

وهناك توجيه آخر في إمكانية القيام بهذا العمل، فلا يُشْترط أن تكون اللجنة قائمة في مكان معين، وتتابع جهدها لسنوات؛ بل يمكن أن يوزَّع العمل على المتخصصين في جهات عملهم، وقد قام أستاذ التفسير القدير مصطفى مسلم بعمل شبيه بهذا، فقد اقترح وأشرف من خلال اهتمامه بالتفسير الموضوعي وتدريسه لسنوات، على تفسير موضوعي للقرآن الكريم بأسلوب علمي، وذلك من خلال توزيع هذا العمل على أساتذة جامعيين في أكثر من دولة، وتجمَّعت لديه أعمالهم، وقام بمراجعتها أساتذة متخصصون، ويبدو أنه تحت الطبع، وأنا أكتب هذا المقال (أواخر 1429هـ) أو أنه صدر، وذكر أن هذا تفسير موضوعي لسور القرآن، وأنه في المرحلة القادمة سيكون هناك تفسير موضوعيٌّ آخر شامل للقرآن الكريم، وليس لكل سورة على حدة، وكان ذلك بتمويل من كلية الشريعة بجامعة الشارقة.

ومع جلالة هذا العمل وما يليه، وفائدته التي لا تُنْكَر، إلا أن هذا الجُهد لو وجِّه إلى عمل تفسير صحيح للقرآن الكريم، لكان أفضل، وأكثرَ قبولاً وانتشارًا، وأكثر فائدة بالتأكيد، فإنه يعتمد الأهم، ثم يعمل في المهم وما يليه، والتفسير الموضوعي وغيره يجب أن يكون قائمًا على أسس صحيحة، فما الذي يختاره الأساتذة الذين وضعوا هذا التفسير من بين التفاسير، وكيف عرفوا أن ما اختاروه هو التفسير الصحيح المختار؟ فلا بد من معرفة الصحيح أولاً، ثم التفنن في تبويبه.

أما بالنسبة للأعمال الفردية – أعني: ما اهتم منها بالصحيح منه فقط - فلا أعرف سوى عمل الأستاذ القدير حكمت بشير ياسين، أستاذ التفسير بالمدينة المنورة، الذي علمت منه أولاً أنه يجمع ما ورد من روايات عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في التفسير، ولعله الصحيحُ منها، واقترحت عليه أن يسميه "تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، لكن يبدو أنه توسَّع في عمله، فجمع إليه الرواياتِ الصحيحةَ للصحابة، ومَن بعدَهم مِن التابعين في التفسير، وصدر عمله المبارك هذا بعنوان: "التفسير الصحيح: موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور"، الذي صدر سنة 1420هـ في أربعة أجزاء، ثم اختصره وصدر بعنوان: "التفسير المختصر الصحيح من موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور"، الذي صدر سنة 1426هـ في 640 ص، لكن يبدو أنه نُقد في عمله هذا من قِبَل أساتذة الحديث الشريف، فالأمر كله يتوقف على المهارة في التخريج، والتمكن منه، بعد جمع الروايات، والتخريج ليس سهلاً.

هذا؛ ويمكن لمن يعملون في المشروع المقترَح المبارك أن يستفيدوا كثيرًا من التفاسير التالية: تفسير ابن جرير الطبري، ثم تفسير ابن كثير، ثم "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" للسيوطي، الذي صدر بتحقيق جيِّد كما ذكرت، وكذلك من رسائلَ جامعيةٍ عديدة، قام أصحابها بتحقيق وتوثيق وتخريج أقوال السلف في التفسير، وهي موزعة ومشتتة في مباحث وموضوعات عدة، بين الحديث والتفسير وغيره.

وأدعو إلى مراجعة العمل الذي قام به الأستاذ حكمت بشير، من قِبل اللجنة العلمية المكلَّفة بالمشروع المقترَح، فإذا وافقت عليه، فإنه يمكن اعتماده والعمل على نشره عالميًّا، أو تعديل ما يلزم منه، أو الزيادة عليه، وقد يعتبر هذا العمل الجليل الرائد في مجاله، والعمل الجماعي يفضل على الفردي هنا، ففرق بين عقل وعقول تجتمع على التفسير، وكتاب الله أعظم من أن يحيط بعلمه شخص واحد؛ ولذلك لا يخلو تفسيره من نظرات.

إن كتاب الله - تعالى - يجب أن يكون أولَ اهتمام المسلمين وعلمائهم ومفسريهم، وإن الاجتماع على عمل تفسير صحيح له هو أهم ما يقومون به، والعزيمة تأتي بعد النية الصادقة، والإخلاص في العمل، والله الهادي.