ابو وليد البحيرى
27-05-2015, 06:49 PM
النحل والعسل
عظات وعبر
﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾
لطفي مصطفى عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله - تعالى -:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 68-69].
جاءَتْ هذه الآيات في جملةٍ من الآيات، فيها تذكيرٌ من الله - سبحانه وتعالى - للإنسان بنِعَمِه؛ بأنْ أنزَل الكتاب رحمةً وهُدًى، يُحيِي به النفوس الميتة، فهو غِذاء روحي مثلما أنزل من السماء الماءَ فيُحيِي به الأرض بعد مَوْتها، وحياة الأرض فيها حَياةٌ للإنسان، كما ذكَّر الإنسان أيضًا بالعبر في الأنعام وثمرات النخيل والأعناب، ثم ذكَر الله - تعالى - ما في (نحل العسل) من فوائد مادِّيَّة وفوائد روحيَّة تُذكِّر الإنسان بنِعَمِ الله وآلائه.
﴿ وَأَوْحَى ﴾
المراد بالوحي هنا الإلهامُ والتوجيهُ والهداية بأنْ يعيشَ النحل طِبْقًا لسنن وقوانين مُعيَّنة، ونظام مُحكَم؛ ليكون مُسخَّرًا لأداء مهمَّة مُحدَّدة لخِدمة الإنسان.
﴿ رَبُّكَ ﴾
تتجلَّى بلاغةُ القُرآن في كلمة {رَبُّكَ} بدلاً من كلمة "الله"؛ لأنَّ هذه المقام ليس مَقام الألوهيَّة، ولكنَّ الوحي إلى النحل لخِدمة الإنسان هو مَقام الربوبيَّة، وأوَّل صفات الربوبيَّة خلق الإنسان، ثم يُسبِغ الرَّبُّ عليه نِعَمَه وآلاءَه، تَتْرَى في كلِّ لحظةٍ؛ لتكون سببًا في تربيته.
وجعل الله النحل هنا أسلوبًا من أساليب التربية بأنْ وهَب لنا العسل كتربيةٍ ماديَّة لأجسامنا، ثم جعل طريقة استِخراج هذا العسل والتفكير في غَرائب مَعيشة النحل نموذجًا للتربية الأخلاقيَّة والروحيَّة، والتدبُّر في عظيم صُنعه.
﴿ إِلَى النَّحْلِ ﴾
تقولُ: نحَل فلانٌ فلانًا كذا؛ أي: أعطاه ومنَحَه؛ ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]؛ أي: عطيَّة على سبيل التبرُّع.
وهكذا نرى أنَّ الله - تعالى - قد كرَّم نحل العسل بسُورةٍ من القُرآن وشرَّفَه وجعَلَه سببًا في أنْ ينقل هديَّة الله الطيِّبة - وهي العسل - إلى الإنسان.
والنحل حشرةٌ صغيرةٌ، ومع ذلك فهي سجلٌّ حافلٌ بآيات الله البيِّنات، ففيها من الغَرائب في خلقتها ومعيشتها ما جذَب العلماء الأجانب فأفنَوْا حياتهم في دِراستها، وكلَّ يومٍ تتكشَّف لنا فيها آياتُ الله.
مثلاً: نجدُ أنَّه من المألوف لدينا أنَّ كلَّ الدواب إمَّا أنْ تكون ذُكرانا أو إناثا، ولكنَّ النحل له ثلاثة أفراد هي الذكر والملكة والشغالة، وكلٌّ منها يختلف في الشكل والحجم وطول العمر والوظيفة، كما أنَّه من المشاهد أنْ تتوالَد الدوابُّ من اندِماج الحيوان المنوي للذَّكَرِ مع بُوَيضة الأنثى، ولكنَّ الذي خلَق النواميس الطبيعيَّة هو وحدَه الذي يملك تغييرها حتى يسترعي ذلك نَظَرَ الإنسان، ويرجع إلى ربِّه القادر، فنجد أنَّ ذكَر النحل ينتج من بُوَيضة الأنثى فقط بدون أنْ نأخُذ حيوانًا منويًّا تحقيقًا لقُدرة الله من ولادة سيِّدنا عيسى من السيدة مريم دون أنْ يمسَّها بشرٌ.
أمَّا البويضة إذا اندَمجتْ مع الحيوان المنوي ينتج منها ملكةٌ أو شغَّالة حسَب كميَّة الغذاء الملكي الذي تتناوَله، والذي سيأتي ذِكرُه بعدُ.
ومن المعتاد أنْ تموت الحيوانات المنويَّة لجميع الدواب بعد قَذْفِها بزمنٍ وجيز، ولكن تعجَّب معي عندما تعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد خلَق لملكة النحل (حوصلة) منويَّة تختزن فيها الحيوانات المنويَّة التي تأخُذها من عدَّة ذكور ويبلُغ عددها حوالي خمسة ملايين، وتبقى هذه الحيوانات المنويَّة تدبُّ فيها الحياة حوالي ست سنوات، وهي عُمر الملكة، ويخرج منها في كلِّ يومٍ مئاتٌ؛ لكي يتمَّ توالد النحل ويتكاثَر.
وقد يبلُغ عدد أفراد طائفة النحل مائة ألف نحلة تعيشُ في تعاوُن وتناسُق، ولكلِّ فردٍ منها عملٌ معيَّن في سنٍّ مُعيَّنة، وشعارها (الفرد في خدمة المجموع).
﴿ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾
ألهمَ الله - تعالى - النحل أنْ تتَّخذ بُيوتها من الجبال، ولم يُحدِّد الله جبلاً مُعيَّنًا؛ أي: في كلِّ جبال الأرض، ومن الشجر، ولم يُخصِّص الله - تعالى - لها شجرًا مُعيَّنًا، ولكن من كلِّ الشجر في العالَم.
﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ ثم بعد ذلك أمَرَها أنْ تأكُل من كلِّ الثَّمرات في جميع بِقاع العالم، هذه كلُّها معاني من القُرآن يُقوِّي بعضها بعضًا، وتؤكِّد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ألهمَ النحل أنْ يعيش في كلِّ شبرٍ من الأرض به جبل أو شجر حتى تكون هديَّة الله من هذا الغذاء الطيِّب في متناول يد الإنسان في كلِّ مكان.
وكيف يمكن للنحل أنْ يعيش في كلِّ مكان مع اختلاف البلاد في أجوائها؟ ذلك ممَّا جعَل كلَّ بلد تختصُّ بأنواع مُعيَّنة من الحيوانات والحشرات، وهذا أمرٌ من الله - تعالى - إلى النحل أنْ يكون الدابَّة الوحيدة التي تُشارِك الإنسان في معيشته من أقطار يُغطِّيها الثلوج بعض الشهور إلى أمصارٍ استوائيَّة لافحة الحرارة؛ ولذلك فقد هيَّأ الله - سبحانه وتعالى - لها السبيل إلى ذلك، فالله - سبحانه وتعالى - قد علَّم النحل كيف يرفَع درجة حَرارة مَسكَنه، بالتحرُّك الكثير بداخِله، كما أنَّه يستطيعُ خفْض درجةِ حَرارة بيته بتحريك أجنحته، وهكذا صار بيت النحل مُكيَّفًا مُناسبًا؛ ليتمَّ فيه تفريخ صِغار النحل على درجة حرارة 25 درجة مئويَّة تقريبًا في كلِّ بلاد العالم.
إنِّي أعتبِرُ هذه الآيات من القُرآن الكريم دليل إعجاز، وأنَّه كلامُ الله، فكيف يعلَمُ (محمد) - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمي الذي يعيشُ مع العرب محدودي الإقامة بالنِّسبة للعالَم الفسيح، أنَّ النحل يُكيِّف مسكنَه ويعيشُ في كلِّ شِبرٍ في الأرض؟ ولقد كانت هناك أقطار وجزرٌ لم تُكتَشف بعدُ وكلها يعيش فيها النحل، أيُّ إعجاز هذا؟!
وقد تعلَّم الإنسان من تكرار ملاحظته لمعيشة النحل الطبيعيَّة في أوكار الجبال وفَجوات الأشجار أنْ يبني له الخلايا بطُرُقٍ بدائيَّة من اللَّبِن (الطِّين) أو بطرقٍ حديثة على هيئة صَناديق من الخشب، ويعيشُ النحل في هذه البيوت معيشةً تشدُّ انتِباه مَن يُفكِّر في سنن الله، فهي تنطق بعظمة الخالق وإحكام صُنعِه.
ويبني لفراخه مهدًا من عُيونٍ سداسيَّة مُتراصَّة بنِظامٍ هندسي اقتصادي مُتقَن مَتِين، ولو كانت هذه العيون على شكل دَوائر لكان بينها فَراغات فلا تكون اقتصاديَّة في المساحة، وتكون هشَّة.
وهذه العُيون مصنوعةٌ من الشمع الذي تُفرِزه الشغَّالة من حلقات بطنها، ومع أنَّ هذه العيون تبلُغ من الدقَّة في سُمكها إلى جُزْءٍ من ألفَيْ جُزءٍ من البوصة، إلا أنها تحمل من العسل مثل وزنها خمسًا وعشرين مرَّة، فما أقوى هذا الشمع الرقيق بهذا النظام الدقيق.
ومعيشة النحل في هذه البيوت حديثٌ يَطُول شرحه، فهي معيشةٌ كلها عِبَرٌ وآيات تدلُّ على قُدرة الله الحكيم في صُنعه.
﴿ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾
ألهَمَ الله - تعالى - النَّحل أنْ تأكُل من كلِّ الأزهار وهي الثمرات في المستقبل، ولا تعتمدُ على الإنسان في إطعامها.
ويأكُل النحل من كلِّ الأزهار لا يقدر على منْعها مالكٌ، بل على العكس يُرحِّب بها؛ لأنَّ النحل يكونُ في خِدمته أيضًا، فأثناء زيارة النحل للأزهار لجمْع الرحيق ينقل حُبوب اللقاح من أعضاء التذكير إلى أعضاء التأنيث في الأزهار؛ فتكون الثمار، ويتَضاعَف محصولها، ونتيجةً لذلك يربَحُ الزارع خمسين قرشًا مقابل كلِّ قرشٍ يربحه مُربِّي النحل.
ولولا وجودُ أنواع النحل لاندَثرتْ أنواعٌ كثيرة من النباتات من على وجْه الأرض.
﴿ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ﴾
أمَر الله - تعالى - النحل بالسعي وفتَح لها أبواب الرِّزق الواسعة، فهي تسلك الطُّرق مُذلَّلة سهلة فلا تمنعها الجبال؛ لأنَّ الله - تعالى - قد زوَّدَها بقوَّةٍ في طيرانها، وتبلُغ سرعتها 65 كيلو متر في الساعة، وجعَل في جَناحَيْها قوَّةً هائلة، فهي تتذَبذَبُ 11.400 ذبذبة في الدقيقة الواحدة، ويبلُغ مَدَى طيرانها في محيطٍ قدرُه ثلاثة كيلو مترات؛ وبذلك يَرزُقها الله الطعام الميسَّر من مساحةٍ قدرها 2000 فدان.
ولكي يكون طَعام النحل مُيسَّرًا له من كلِّ الأزهار كان لِزامًا عليه أنْ يستَكشِف الأزهار من مَسافات بعيدة، ولقد ذلَّل الله لها ذلك بأنْ خلَق لها خمس عُيون؛ عينان للرؤية البعيدة، وهما آيةٌ في التعقيد؛ حيث إنَّ كلاًّ منهما يتركَّب من خمسة آلاف عدسة، وأمَّا الثلاثة العيون الأخرى فهي بسيطةٌ نتناسَب مع الرُّؤية القريبة داخل مسكنها.
ولكي يكون طريق النحلة مُذلَّلاً، وجلْب رزقها مُيسَّرًا، فقد خلَق الله لها أعضاء للشم قويَّة تتركَّب من 2000 من الفتحات؛ ولهذا فهي تستطيع أنْ تميِّز بين رائحة زيت البرتقال من بين 43 رائحة أخرى من الزيوت العطريَّة.
ولا تسلُك النحل السَّهلَ جماعات بحثًا عن الرِّزق؛ حتى لا يضيع مجهودها، ولكن تُرسِل عدَّة أفرادٍ أولاً للاستِكشاف، ثم تعودُ هذه الأفراد وتُكلِّم باقي الشغَّالات عن مصدر الرحيق بلُغةٍ دَقيقة تُحدِّد فيها المسافة والاتِّجاه مع زاوية الشمس، ولو كانت محتجبةً بالسُّحب، ولقد جمَع العُلَماء الأجانب لغة النحل بالتجارب العلميَّة في مجلَّد كبير.
ولا يسلُك النحل السُّبل عبثًا طُول النهار، ولكن في مواعيد مُحدَّدة وهي الأوقات التي تُفرِز فيها الأزهار الرحيق؛ لأنَّ هذا الوقت يتوقَّف على العوامل الجويَّة.
﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
إنَّ من آيات الله البيِّنات في قُدرته أنْ أخرَجَ من بُطون النحل طَعامًا شهيًّا، ولأنَّ الله - تعالى - أمَر النحل أنْ تأكُل من كلِّ الأزهار، فكان طبيعيًّا أنْ يختلف العسل في ألوانه، فمنه الأحمرُ والأبيضُ والأصفرُ.
وقد أوصى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأكْل العسل؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ أخي استَطلَق بطنه، فقال: ((اسقِهِ عسَلاً)) فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيتُه عسلاً فما زاده إلا استِطلاقًا، قال: ((اذهَبْ فاسقِه عسَلاً))، فذهب فسقاه عسَلاً، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استِطلاقًا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صدَق الله وكذَب بطنُ أخيك، أذهَبْ فاسقِه عسَلاً))، فذهب فسَقاه عسَلاً فبَرِئ، ويبدو من هذا الحديث أنَّ الاستِشفاء بالعسَل يتطلَّب مُداوَمة تناوُله فترةً، وهذا ما ثبَت طبيًّا.
وفي الصحيحين أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُعجِبه الحلواء والعسل.
وقد روى البخاري عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الشفاء في ثلاثة: في شَرطة مِحجَم، أو شَربة عسل، أو كيَّة بنار، وأَنهَى أمَّتي عن الكيِّ)).
وذكَر ابن ماجه في "سننه" عن عبدالله بن سعود قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بالشِّفائين: العسل والقُرآن)).
يتبع
عظات وعبر
﴿ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ﴾
لطفي مصطفى عبدالله
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله - تعالى -:
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 68-69].
جاءَتْ هذه الآيات في جملةٍ من الآيات، فيها تذكيرٌ من الله - سبحانه وتعالى - للإنسان بنِعَمِه؛ بأنْ أنزَل الكتاب رحمةً وهُدًى، يُحيِي به النفوس الميتة، فهو غِذاء روحي مثلما أنزل من السماء الماءَ فيُحيِي به الأرض بعد مَوْتها، وحياة الأرض فيها حَياةٌ للإنسان، كما ذكَّر الإنسان أيضًا بالعبر في الأنعام وثمرات النخيل والأعناب، ثم ذكَر الله - تعالى - ما في (نحل العسل) من فوائد مادِّيَّة وفوائد روحيَّة تُذكِّر الإنسان بنِعَمِ الله وآلائه.
﴿ وَأَوْحَى ﴾
المراد بالوحي هنا الإلهامُ والتوجيهُ والهداية بأنْ يعيشَ النحل طِبْقًا لسنن وقوانين مُعيَّنة، ونظام مُحكَم؛ ليكون مُسخَّرًا لأداء مهمَّة مُحدَّدة لخِدمة الإنسان.
﴿ رَبُّكَ ﴾
تتجلَّى بلاغةُ القُرآن في كلمة {رَبُّكَ} بدلاً من كلمة "الله"؛ لأنَّ هذه المقام ليس مَقام الألوهيَّة، ولكنَّ الوحي إلى النحل لخِدمة الإنسان هو مَقام الربوبيَّة، وأوَّل صفات الربوبيَّة خلق الإنسان، ثم يُسبِغ الرَّبُّ عليه نِعَمَه وآلاءَه، تَتْرَى في كلِّ لحظةٍ؛ لتكون سببًا في تربيته.
وجعل الله النحل هنا أسلوبًا من أساليب التربية بأنْ وهَب لنا العسل كتربيةٍ ماديَّة لأجسامنا، ثم جعل طريقة استِخراج هذا العسل والتفكير في غَرائب مَعيشة النحل نموذجًا للتربية الأخلاقيَّة والروحيَّة، والتدبُّر في عظيم صُنعه.
﴿ إِلَى النَّحْلِ ﴾
تقولُ: نحَل فلانٌ فلانًا كذا؛ أي: أعطاه ومنَحَه؛ ﴿ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾ [النساء: 4]؛ أي: عطيَّة على سبيل التبرُّع.
وهكذا نرى أنَّ الله - تعالى - قد كرَّم نحل العسل بسُورةٍ من القُرآن وشرَّفَه وجعَلَه سببًا في أنْ ينقل هديَّة الله الطيِّبة - وهي العسل - إلى الإنسان.
والنحل حشرةٌ صغيرةٌ، ومع ذلك فهي سجلٌّ حافلٌ بآيات الله البيِّنات، ففيها من الغَرائب في خلقتها ومعيشتها ما جذَب العلماء الأجانب فأفنَوْا حياتهم في دِراستها، وكلَّ يومٍ تتكشَّف لنا فيها آياتُ الله.
مثلاً: نجدُ أنَّه من المألوف لدينا أنَّ كلَّ الدواب إمَّا أنْ تكون ذُكرانا أو إناثا، ولكنَّ النحل له ثلاثة أفراد هي الذكر والملكة والشغالة، وكلٌّ منها يختلف في الشكل والحجم وطول العمر والوظيفة، كما أنَّه من المشاهد أنْ تتوالَد الدوابُّ من اندِماج الحيوان المنوي للذَّكَرِ مع بُوَيضة الأنثى، ولكنَّ الذي خلَق النواميس الطبيعيَّة هو وحدَه الذي يملك تغييرها حتى يسترعي ذلك نَظَرَ الإنسان، ويرجع إلى ربِّه القادر، فنجد أنَّ ذكَر النحل ينتج من بُوَيضة الأنثى فقط بدون أنْ نأخُذ حيوانًا منويًّا تحقيقًا لقُدرة الله من ولادة سيِّدنا عيسى من السيدة مريم دون أنْ يمسَّها بشرٌ.
أمَّا البويضة إذا اندَمجتْ مع الحيوان المنوي ينتج منها ملكةٌ أو شغَّالة حسَب كميَّة الغذاء الملكي الذي تتناوَله، والذي سيأتي ذِكرُه بعدُ.
ومن المعتاد أنْ تموت الحيوانات المنويَّة لجميع الدواب بعد قَذْفِها بزمنٍ وجيز، ولكن تعجَّب معي عندما تعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - قد خلَق لملكة النحل (حوصلة) منويَّة تختزن فيها الحيوانات المنويَّة التي تأخُذها من عدَّة ذكور ويبلُغ عددها حوالي خمسة ملايين، وتبقى هذه الحيوانات المنويَّة تدبُّ فيها الحياة حوالي ست سنوات، وهي عُمر الملكة، ويخرج منها في كلِّ يومٍ مئاتٌ؛ لكي يتمَّ توالد النحل ويتكاثَر.
وقد يبلُغ عدد أفراد طائفة النحل مائة ألف نحلة تعيشُ في تعاوُن وتناسُق، ولكلِّ فردٍ منها عملٌ معيَّن في سنٍّ مُعيَّنة، وشعارها (الفرد في خدمة المجموع).
﴿ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾
ألهمَ الله - تعالى - النحل أنْ تتَّخذ بُيوتها من الجبال، ولم يُحدِّد الله جبلاً مُعيَّنًا؛ أي: في كلِّ جبال الأرض، ومن الشجر، ولم يُخصِّص الله - تعالى - لها شجرًا مُعيَّنًا، ولكن من كلِّ الشجر في العالَم.
﴿ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ ثم بعد ذلك أمَرَها أنْ تأكُل من كلِّ الثَّمرات في جميع بِقاع العالم، هذه كلُّها معاني من القُرآن يُقوِّي بعضها بعضًا، وتؤكِّد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ألهمَ النحل أنْ يعيش في كلِّ شبرٍ من الأرض به جبل أو شجر حتى تكون هديَّة الله من هذا الغذاء الطيِّب في متناول يد الإنسان في كلِّ مكان.
وكيف يمكن للنحل أنْ يعيش في كلِّ مكان مع اختلاف البلاد في أجوائها؟ ذلك ممَّا جعَل كلَّ بلد تختصُّ بأنواع مُعيَّنة من الحيوانات والحشرات، وهذا أمرٌ من الله - تعالى - إلى النحل أنْ يكون الدابَّة الوحيدة التي تُشارِك الإنسان في معيشته من أقطار يُغطِّيها الثلوج بعض الشهور إلى أمصارٍ استوائيَّة لافحة الحرارة؛ ولذلك فقد هيَّأ الله - سبحانه وتعالى - لها السبيل إلى ذلك، فالله - سبحانه وتعالى - قد علَّم النحل كيف يرفَع درجة حَرارة مَسكَنه، بالتحرُّك الكثير بداخِله، كما أنَّه يستطيعُ خفْض درجةِ حَرارة بيته بتحريك أجنحته، وهكذا صار بيت النحل مُكيَّفًا مُناسبًا؛ ليتمَّ فيه تفريخ صِغار النحل على درجة حرارة 25 درجة مئويَّة تقريبًا في كلِّ بلاد العالم.
إنِّي أعتبِرُ هذه الآيات من القُرآن الكريم دليل إعجاز، وأنَّه كلامُ الله، فكيف يعلَمُ (محمد) - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمي الذي يعيشُ مع العرب محدودي الإقامة بالنِّسبة للعالَم الفسيح، أنَّ النحل يُكيِّف مسكنَه ويعيشُ في كلِّ شِبرٍ في الأرض؟ ولقد كانت هناك أقطار وجزرٌ لم تُكتَشف بعدُ وكلها يعيش فيها النحل، أيُّ إعجاز هذا؟!
وقد تعلَّم الإنسان من تكرار ملاحظته لمعيشة النحل الطبيعيَّة في أوكار الجبال وفَجوات الأشجار أنْ يبني له الخلايا بطُرُقٍ بدائيَّة من اللَّبِن (الطِّين) أو بطرقٍ حديثة على هيئة صَناديق من الخشب، ويعيشُ النحل في هذه البيوت معيشةً تشدُّ انتِباه مَن يُفكِّر في سنن الله، فهي تنطق بعظمة الخالق وإحكام صُنعِه.
ويبني لفراخه مهدًا من عُيونٍ سداسيَّة مُتراصَّة بنِظامٍ هندسي اقتصادي مُتقَن مَتِين، ولو كانت هذه العيون على شكل دَوائر لكان بينها فَراغات فلا تكون اقتصاديَّة في المساحة، وتكون هشَّة.
وهذه العُيون مصنوعةٌ من الشمع الذي تُفرِزه الشغَّالة من حلقات بطنها، ومع أنَّ هذه العيون تبلُغ من الدقَّة في سُمكها إلى جُزْءٍ من ألفَيْ جُزءٍ من البوصة، إلا أنها تحمل من العسل مثل وزنها خمسًا وعشرين مرَّة، فما أقوى هذا الشمع الرقيق بهذا النظام الدقيق.
ومعيشة النحل في هذه البيوت حديثٌ يَطُول شرحه، فهي معيشةٌ كلها عِبَرٌ وآيات تدلُّ على قُدرة الله الحكيم في صُنعه.
﴿ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾
ألهَمَ الله - تعالى - النَّحل أنْ تأكُل من كلِّ الأزهار وهي الثمرات في المستقبل، ولا تعتمدُ على الإنسان في إطعامها.
ويأكُل النحل من كلِّ الأزهار لا يقدر على منْعها مالكٌ، بل على العكس يُرحِّب بها؛ لأنَّ النحل يكونُ في خِدمته أيضًا، فأثناء زيارة النحل للأزهار لجمْع الرحيق ينقل حُبوب اللقاح من أعضاء التذكير إلى أعضاء التأنيث في الأزهار؛ فتكون الثمار، ويتَضاعَف محصولها، ونتيجةً لذلك يربَحُ الزارع خمسين قرشًا مقابل كلِّ قرشٍ يربحه مُربِّي النحل.
ولولا وجودُ أنواع النحل لاندَثرتْ أنواعٌ كثيرة من النباتات من على وجْه الأرض.
﴿ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ﴾
أمَر الله - تعالى - النحل بالسعي وفتَح لها أبواب الرِّزق الواسعة، فهي تسلك الطُّرق مُذلَّلة سهلة فلا تمنعها الجبال؛ لأنَّ الله - تعالى - قد زوَّدَها بقوَّةٍ في طيرانها، وتبلُغ سرعتها 65 كيلو متر في الساعة، وجعَل في جَناحَيْها قوَّةً هائلة، فهي تتذَبذَبُ 11.400 ذبذبة في الدقيقة الواحدة، ويبلُغ مَدَى طيرانها في محيطٍ قدرُه ثلاثة كيلو مترات؛ وبذلك يَرزُقها الله الطعام الميسَّر من مساحةٍ قدرها 2000 فدان.
ولكي يكون طَعام النحل مُيسَّرًا له من كلِّ الأزهار كان لِزامًا عليه أنْ يستَكشِف الأزهار من مَسافات بعيدة، ولقد ذلَّل الله لها ذلك بأنْ خلَق لها خمس عُيون؛ عينان للرؤية البعيدة، وهما آيةٌ في التعقيد؛ حيث إنَّ كلاًّ منهما يتركَّب من خمسة آلاف عدسة، وأمَّا الثلاثة العيون الأخرى فهي بسيطةٌ نتناسَب مع الرُّؤية القريبة داخل مسكنها.
ولكي يكون طريق النحلة مُذلَّلاً، وجلْب رزقها مُيسَّرًا، فقد خلَق الله لها أعضاء للشم قويَّة تتركَّب من 2000 من الفتحات؛ ولهذا فهي تستطيع أنْ تميِّز بين رائحة زيت البرتقال من بين 43 رائحة أخرى من الزيوت العطريَّة.
ولا تسلُك النحل السَّهلَ جماعات بحثًا عن الرِّزق؛ حتى لا يضيع مجهودها، ولكن تُرسِل عدَّة أفرادٍ أولاً للاستِكشاف، ثم تعودُ هذه الأفراد وتُكلِّم باقي الشغَّالات عن مصدر الرحيق بلُغةٍ دَقيقة تُحدِّد فيها المسافة والاتِّجاه مع زاوية الشمس، ولو كانت محتجبةً بالسُّحب، ولقد جمَع العُلَماء الأجانب لغة النحل بالتجارب العلميَّة في مجلَّد كبير.
ولا يسلُك النحل السُّبل عبثًا طُول النهار، ولكن في مواعيد مُحدَّدة وهي الأوقات التي تُفرِز فيها الأزهار الرحيق؛ لأنَّ هذا الوقت يتوقَّف على العوامل الجويَّة.
﴿ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾
إنَّ من آيات الله البيِّنات في قُدرته أنْ أخرَجَ من بُطون النحل طَعامًا شهيًّا، ولأنَّ الله - تعالى - أمَر النحل أنْ تأكُل من كلِّ الأزهار، فكان طبيعيًّا أنْ يختلف العسل في ألوانه، فمنه الأحمرُ والأبيضُ والأصفرُ.
وقد أوصى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأكْل العسل؛ ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ أخي استَطلَق بطنه، فقال: ((اسقِهِ عسَلاً)) فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيتُه عسلاً فما زاده إلا استِطلاقًا، قال: ((اذهَبْ فاسقِه عسَلاً))، فذهب فسقاه عسَلاً، ثم جاء، فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استِطلاقًا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صدَق الله وكذَب بطنُ أخيك، أذهَبْ فاسقِه عسَلاً))، فذهب فسَقاه عسَلاً فبَرِئ، ويبدو من هذا الحديث أنَّ الاستِشفاء بالعسَل يتطلَّب مُداوَمة تناوُله فترةً، وهذا ما ثبَت طبيًّا.
وفي الصحيحين أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يُعجِبه الحلواء والعسل.
وقد روى البخاري عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الشفاء في ثلاثة: في شَرطة مِحجَم، أو شَربة عسل، أو كيَّة بنار، وأَنهَى أمَّتي عن الكيِّ)).
وذكَر ابن ماجه في "سننه" عن عبدالله بن سعود قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بالشِّفائين: العسل والقُرآن)).
يتبع