مشاهدة النسخة كاملة : تفسير قول الله تعالى ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾


ابو وليد البحيرى
28-05-2015, 12:04 AM
تفسير قول الله تعالى

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾


الشيخ محمد حامد الفقي


قول الله جل ثناؤه ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾.

قال الراغب في مفرداته: الرزق يقال للعطاء تارة، دنيويًّا كان أو أخرويًّا، والنصيب. ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة. يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علماً. قال الله ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ [المنافقون: 10] أي من المال والجاه والعلم. وكذلك قوله: ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾. اهـ وقال البغوي: الرزق: اسم لكل ما ينتفع به حتى الولد والعبد، وأصله في اللغة: الحظ والنصيب.

وقال الراغب: نفق الشيء، مضى ونفِد، وينفق: إما بالبيع، نحو نفق البيع نفاقا ومنه: نَفاق الأيم. ونفق القوم، إذا نفق سوقهم. وإما بالموت نحو: نفقت الدابة نفوقاً، وإما بالفناء نحو: نفقْت الدراهم، تُنفق، وأنفقتها. والإنفاق قد يكون في المال وغيره. ا هـ. وقال ابن العربي: ولتأليف "نفق" في لسان العرب معان، أصحها: الإتلاف. وهو المراد ههنا. يقال: نفق الزاد ينفق إذا فني - إلى أن قال: الصحيح أن المراد بقوله ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ عموم كل نفقة؛ أي سواء في ذلك الزكاة؛ ونفقة الرجل على أهله، وصدقة التطوع؛ ووفاء الحقوق الواجبة العارضة في المال باختلاف الأحوال عدا الزكاة ا هـ. ببعض تصرف.

وقال ابن جرير: وأولى التأويلات بالآية؛ وأحقها بصفة القوم: أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مؤدين، زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة أو الملك، وغير ذلك، لأن الله جل ثناؤه عمّ وصفهم، إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم، فمدحهم بذلك من صفتهم، فكان معلوماً أنه لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع، بخبر ولا غيره: إنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم، وذلك الحلال منه الذي لم يَشُبه حرام.

وقال القرطبي: (ينفقون) يخرجون. والإنفاق: إخراج المال من اليد. هذا وقد تكرر في القرآن هذا المعنى أثراً من آثار الانتفاع بروح القرآن الكريم وهدايته. قال تعالى في سورة الأنفال ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾ [الأنفال: 2، 4] وقال في سورة إبراهيم ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾ [إبراهيم: 31] وفي سورة الحج ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35] وفي سورة النمل ﴿ طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [النمل: 2، 3] وقال في سورة لقمان ﴿ الم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1، 5] وفي سورة السجدة ﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 15، 16] وفي سورة الشورى ﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾.

كما أنك لا تكاد تقرأ آية فيها ذكر الصلاة إلا وتجدها قد قرنت بالزكاة، مع كثرة تلك الآيات ووفرة عددها. وقد قال أبو بكر رضي الله عنه لما كلمه عمر رضي الله عنه في شأن قتال مانعي الزكاة "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال".

يريد أبو بكر رضي الله عنه: أن الزكاة حق المال في الإسلام، كما أن الصلاة حق النفس فيه، ويدل هذا على أنه كان من المعلوم البديهي عندهم: قتال تارك الصلاة، فقاس عليه قتال مانع الزكاة الذي خفي على عمر رضي الله عنه والذي هو أيضا بديهي عند أبي بكر لما فهم من آيات الكتاب العزيز التي قرن الله فيها أبدا بين الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله.

ولقد ذكر الله الغاية من إرسال خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وأنها تزكية الأرواح مما قذرها وتطهير القلوب مما ران عليها فاسودت وقست وتحجرت، وإنارة البصائر التي حجبتها الجاهلية الجهلاء، فقال في سورة البقرة على لسان إبراهيم ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ وقوله تعالى فيها ﴿ وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 150، 151] وقوله في سورة آل عمران ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164] وقوله في سورة الجمعة ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].

فإنهم كانت قد غلبت عليهم الحيوانية حتى أماتت روحانيتهم، وتعطلت نفوسهم اللوامة. وساقتهم هذه الحيوانية إلى انتهاك الحرمات وإتيان المنكرات، وما زالوا يغذونها بذلك حتى توحشت وانقلبت إلى سباع مفترسة، ووحوش ضارية، وإلى شياطين تملأ الأرض فسادا. ألم تر كيف كانوا يريقون الدماء أنهارا في سبيل أقل القليل من حطام الدنيا؟ ألم تر كيف زادوا على البهائم والوحوش ف***وا أولادهم خشية الفقر؟ كل ذلك إنما كان من آثار موت نفوسهم اللوامة، وفقدهم الروح التي نفخها الله في الإنسان من روحه. وكان أشد أمراضهم استعصاء، وأفتك أدوائهم إهلاكا الجهل الذي أعمى بصائرهم عن تقدير الأشياء مقاديرها؛ ووزنها بميزان الحكمة والعقل السليم فلم يفقهوا أن هذه الحياة الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار. ولم يفهموا أن السعادة فيها إنما تكون بحسن التآلف والتواد. وارتباط القلوب بعضها ببعض، وامتزاجها بإحساس واحد يوحد هذه المجموعة في وسائلها وغاياتها، وأغراضها ومقاصدها ويدعوها إلى التعاون على خير المجموع وأن حياة الفرد إنما هي من حياة المجموع. وهناء عيشه إنما هو من هناء عيش المجموع. لم يفقهوا شيئا من ذلك لغلبة المادة وحب المادة وعبادة المادة على نفوسهم؛ فقلبت حياتهم شقاء، وأصارت دنياهم جحيما مستعرا بأنواع الظلم والفساد. "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة؛ تعس عبد القطيفة؛ تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".

المال: هو الطاغوت الذي طالما ملك على الإنسان كل حواسه ومشاعره ومسالكه. المال: هو العدو الألد الذي طالما نغص على الإنسان حياته. وأشقاه في أولاه وآخرته.

المال: هو الأحبولة الشيطانية التي طالما جرت الإنسان إلى مهاوي التلف: وقادته إلى الحروب الطاحنة، والأهواء الظالمة؛ والأعمال المجرمة. "والله ما الفقر أخشى عليكم. ولكن أخشى أن تفتح عليكم زينة الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم".

وآية ذلك واضحة ملموسة، فيما يضطرم به العالم اليوم من أسباب الهلاك والدمار وما تضطرب به تلك النفوس الوحشية من تعطش إلى الدماء، وما تشتعل به القلوب القاسية المتحجرة من نيران الشره والجشع، وما يتحفز به الإنسان لأخيه الإنسان في كل بقعة وفي كل أمة، تحفز الذئب لفريسته. كل ذلك من المال ومن عبادة المال ومن فتنة المال وكان أمر الله قدرا مقدورا.

ولن يزال ذلك بالناس حتى يفجر الله براكين هذه النفوس المجرمة ومخازن الغازات السامة والآلات المدمرة فتستحيل حممًا يقذف الله بها أولئك العابدين للمال، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى تأتي على عبادها فتجعلهم حصيداً كأن لم يغنوا بالأمس ثم ﴿ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35].

وإن تعجب فاعجب للإنسان، يرى هذه الجحيم ويحسها إحساساً يشوي ريحها وجهه، ويكوى جلده ثم هو يتقحمها ويلقي بيده إلى تهلكتها، ولكن سرعان ما يزول عجبك إذا تبينت أن فقد إنسانيته التي أكرمه الله بها، وحُرم من روحه وعقله الذي يميز به الخبيث من الطيب، فارتد إلى أسفل سافلين.

لذلك كله اقتضت حكمة العليم الحكيم، ورحمة الرؤوف الرحيم أن يهيئ للإنسان أسباب النجاة، وأن يضع بيده حبل الخلاص من التردي في هذه الهاوية السحيقة، فأنزل القرآن الحكيم ليشفي النفوس من تلك الأدواء ويحيى أرض القلوب بعد موتها، وينفخ في الإنسانية روح الله فتعرف مكانتها وقدرها، ودرجتها التي رفعها الله إليها، وفضلها بها على كثير ممن خلق تفضيلا، فتعلم أن حاجتها إلى المال والمادة لا تبلغ إلى هذا الحد من العبادة والفتنة، وإنما هي حاجة المسافر إلى الزاد، وأنه لأهون ما يحتاجه المسافر، وأن هناك ما هي أحوج إليه في دنياها وآخرتها. وأنت تجد الله سبحانه وتعالى أكثر في القرآن الكريم أيما إكثار من التحذير من فتنة الدنيا ومتاعها، ورغّب أشد الترغيب في تزكية النفس وتطهيرها من قذارة التعلق بالمال وعبادته، وكذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله وعمله وهديه.

والله تعالى يقرن في أكثر هذه الآيات - بل في كلها - بين الصلاة والإنفاق مما رزقهم. لأن تزكية النفس وفلاحها إنما يكون بالإقبال التام على الله وحده، والتجرد الصادق له في مقام العبودية عن كل غير، وتخليص النفس من كل العلائق الصارفة الشاغلة عن الله وجنة القرب منه في الدنيا. وفي دار القرار.

فحقيقة الصلاة: الكون مع الله بالمعنى والحقيقة؛ بالروح والقلب؛ لا بالصورة والجسم ومن حقق الله له هذه المعية على وجهها الأكمل لم يجد في نفسه فراغا ولا في قلبه محلا لغير الاستزادة من هذا القرب والمعية. ولم يكن عنده همة إلا لها، ولا انشغال إلا بها. فهو يقول في مفتتح صلاته وعند كل حركة منها "الله أكبر" فينسلخ بها عن كل شيء في الدنيا لأنه حقير كل الحقارة ويبقى خالصا لله الأكبر. وأصحاب الهمم العالية إنما يطلبون دائما المعالي. فلا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا يستبدلون الذي هو أحقر بالذي هو أكبر، وأين يجد الشح إلى نفوسهم سبيلا. وقد سد عليه كل المسالك شهود كرم وفضل الله الأكبر؟ وأين تجد الفتنة بالمال والمادة إلى قلوبهم طريقا وقد قام على باب كل منفذ إليه داعي الله الأكبر، ووازع الله الأجل الأعلى؟.

ذلك هو بعض السر في اقتران الصلاة بالإنفاق في آي القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وإنك لتشهد آثار هذا في خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حال أصحابه البررة المتقين. فهذا رسول الله كان عنده مما أفاء الله عليه من مال بني النضير ومن سهمه في خيبر وغير ذلك من المال الوفير الكثير. ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة في طعام أهله. وهذا خليفته الصديق رضي الله عنه. وسهامه من الغنائم؛ وأرباحه من التجارة ما هي. مات فقيراً. لقد ﴿ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ فيسره الله لليسرى لقد كان ﴿ يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ وهذا عمر كان تاجراً وزارعا، وكان أنشط العاملين ثم كان يرقع ثيابه ويأكل أخشن الطعام.

وهذا عثمان يخرج عن مئات الأفراس وعشرات آلاف الدنانير لبئر رومة، ولغزوة العسرة ولغير ذلك. وهؤلاء زوجاته صلى الله عليه وسلم يأتيهن عطاؤهن عشرات الآلاف. فيأتي وقت إفطارها فلا تجد إلا الماء والتمر؟.

وهؤلاء النساء المؤمنات يُدعون إلى الصدقة بكلمة فيمتلئ ثوب بلال نقوداً وأنواعا من الحلي مما يخلعن من آذانهن وأيديهن وأرجلهن.

أين ذهبت كل أموال هؤلاء المهتدين في سبيل الله: في الخيل والسلاح عدة للجهاد وللفقراء والمساكين من ذوي القربى وغير ذوي القربى.

أولئك الذين كانوا بالأمس ي***ون أولادهم خشية الفقر والجوع. أصبحوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقاهم الله شح أنفسهم بالإسلام فأولئك هم المفلحون. ولقد كانوا كلما ازدادت ثقتهم بما عند الله، ويقينهم بما في خزائنه وإيمانهم بحسن مثوبته وخلفه فأعطوا وأقرضوا الله، كلما أمطر الله عليهم من شآبيب فضله وخيره وبره ما يزيدهم يقينا وإيمانا: ملكا عريضا، ومالا وفيرا، وأرضا واسعة، وعزة وقوة، وهيبة ومنعة ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40].

لقد كانوا يفسرون القرآن بأعمالهم قبل أقوالهم، وصفاتهم قبل مقالاتهم. وأخلاقهم قبل أقلامهم. فكانوا أئمة الهدى ومصابيح الدجى رضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام أحسن الجزاء.

ولكنك اليوم واجد قولاً طويلاً؛ وكلاماً عريضاً، وأقلاماً فياضة وألسنة فصيحة وخطباً رنانة. ومقالات طنانة: في تأويل القرآن وتفسيره والذهاب بألفاظه وآياته كل مذاهب القول، والبراعة في توليده من الفروض والواجبات والسنن والمستحبات. والمحرمات والمكروهات والتفنن في ذلك، والمجادلات، وطول المناقشات في الإعراب والمجازات وأنواع تلك الفنون ما ملأ القماطر بالمجلدات فأما الأعمال والأخلاق والقلوب فهي من كل ذلك خاويات فارغات.

كم نمقت الخطب والمقالات في الغيرة على الإسلام؛ والدفاع عن الإسلام ورد غارة الأعداء عن الإسلام. وكم استطالت الأقلام والألسنة في ذلك ليل نهار. فهل اقترنت تلك الأقلام بالأيدي تعمل بما تقول والأيدي تمتد إلى الجيوب وإلى خزائن الأموال المكدسة تنفق في سبيل الله وتقوم بنصيبها من الشكر لمسديها والمتفضل بها؟ وهل فكرت نفس من تلك النفوس في أن تتزكى من عبادة المال والفتنة به وتتشبه ولو بالنساء المؤمنات السابقات؟ كلا بل لا تزال عبادة المال تنمو وتتغلغل في نفوسنا؛ وتملك علينا كل سبيل وطريق، وتدعونا إلى التقاطع، والتحاسد والتدابر، والكيد والدس وانتهاز الفرص لكل ما يجلب ذلك ولو كان من شر ما يغضب الله ويستوجب أعظم سخطه. فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وهل كل ذلك من آثار الصلاة التي قرنها الله في كل آي الذكر الحكيم بالإنفاق مما رزقنا الله؟ كلا.

إذن فنحن بأشد الحاجة إلى علاج أنفسنا بالصلاة الحقة الصادقة التي تنهانا عن كل تلك الفواحش، وتطهرنا من كل ذلك القذار، وتزكي أرواحنا من كل هذه الخبائث وتجعلنا مع الله حقيقة لا وهماً وخيالًا، ليكون الله معنا حقاً لا بالأماني، وتذكر قلوبنا بعظمة الله وفضل الله وجلال الله ليذكرنا الله الذي يقول ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [الحشر: 19].

وفقنا الله لذكره وشكره وحسن عبادته.