مشاهدة النسخة كاملة : تفسير آي الذكر الحكيم


ابو وليد البحيرى
29-05-2015, 11:49 AM
تفسير آي الذكر الحكيم




محمد أحمد دهمان





قال الله عز وجل: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا * وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 108 - 113].



تقدم في العدد الرابع تفسير ثلاث آيات قبل هذه الآيات وسبب نـزولها وها نحن نتمُّ تفسير هذه الآيات ونتبعه بما يستنتج من هذه الآيات من الأحكام والآداب فقوله عز وجل: ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ﴾ حياءً منهم ﴿ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾ فهو أحق بالحياء منه ﴿ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى ﴾ الله ﴿ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ أصل التبييت تدبير الفعل بالليل وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم بالليل نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قول طعمة ويقبل بيمينه لأنه مسلم، ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض الله تعالى بذلك فأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على سرهم وما هموا به. وفي هذه الحادثة دليل على أن الكافر وإن كان كافراً لا تجوز خيانته ولا إلحاق ما لم يقترف به بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنـزل الله وأن لا يلحق به حيف لأجل رضاء غيره ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ لا يخفى عليه شيء من أسرار عباده ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ ﴾ أي يا هؤلاء الذين ﴿ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ ﴾ عن طعمة وقومه ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ﴾ إذا أخذهم الله بعذابه فمن يقوم عنهم محامياً أمام ربهم.


ثم إن الله تعالى لما وبخهم هذا التوبيخ وبكّتهم أشد التبكيت فتح لهم باب الرحمة والغفران ليتوبوا إليه مما سبق منهم من مجادلتهم عن المبطل في باطله فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ﴾ السوء ما يسيء الإنسان به غيره كما فعل طعمة بالسرقة من قتادة واتهامه زيد بن السمين اليهودي فأساء الأول بسرقته درعه وأساء الثاني باتهامه مما هو بريء منه. وقوله أو يظلم نفسه أي فيما يعود بالسوء على نفسه خاصة ككذبه وحلفه حانثاً ﴿ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ﴾ يطلب منه مغفرة ذنوبه ﴿ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾.


فالاستغفار من الصغائر والكبائر يكفر الذنوب والآثام بشرط التوبة وإلا فإن الاستغفار مع الإصرار على الذنوب لا ينفع ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا ﴾ أي يعمل ذنباً يأثم به ﴿ فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ أي يعود وبال كسبه عليه. ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ فلا يعاقب بالذنب غير فاعله ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ﴾ قيل الخطيئة الذنب المختص بفاعله والإثم الذنب المتعدي إلى الغير ﴿ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا ﴾ أي يقذف بما جناه بريئاً منه ﴿ فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا ﴾ أي كذباً يتحير في عظمه ﴿ وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ أي ذنباً ظاهراً لأنه صار بكسب الإثم آثماً وبرميه البريء باهتاً فقد جمع بين الأمرين.


وهذه الآية مع ما قبلها عامة الحكم لأن خصوص السبب لا يمنع من إطلاق الحكم ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ ﴾ لك من عصمتك وإطلاعك على سرهم ﴿ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ﴾ أي المجادلين في الباطل ﴿ أَنْ يُضِلُّوكَ ﴾ عن القضاء بالحق وتوخي العدل ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ لأن وباله يعود عليهم ﴿ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ﴾ لأن الله قد عصمك منهم فبينت لهم حقيقة الأمر ﴿ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ من أحكام الشرع وأمور الدين وخفايا الأمور وضمائر القلوب وأحوال المنافقين وكيدهم وأسرارهم ﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ لما حباك من فضله وما شملك به من إحسانه.


أراد قوم طعمة بن أبيرق أن يلبسوا الحق بالباطل وكانوا حديثي عهد بالإسلام ولم تكن سماحة الإسلام وعدله تمكنت من قلوبهم فغلبتهم العادات الجاهلية وثارت فيهم النعرة الطائفية فقاموا يتعصبون لابن عمهم وإن كان مجرماً، ويرمون بذلك الإثم من هو بريء منه، فجاء القرآن العظيم ماحياً ومبطلاً لهذه العادات الجاهلية ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، وقد زجرهم أشد الزجر مبيناً الطريق الذي يسلكه من وقع منه سوء أو إثم ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾ [النساء: 110]، لا أن يقترف إثماً آخر بإصراره على إثمه وإلقاء تبعة جرمه على من هو بريء منه ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ﴾ [النساء: 112].


وإنه يستنتج من هذه الحادثة والآيات الواردة فيها أمور:
1- سماحة الإسلام وعدله وسلامته من التعصب لفرد على آخر ولو غير مسلم فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالحق بتجريم المسلم وتبرئة اليهودي غير المسلم.



2- إن الكافر وإن كان كافراً لا يجوز إلحاق ما لم يعترف به بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنـزل الله وأن لا يلحق به حيف لأجل رضاء غيره ﴿ إِنَّا أَنـزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 105]، والناس لفظ عام يشمل المسلم وغير المسلم.


3- إيقاظ الحكام إلى التروي في مسائل التهم والتحقيق فيها بتؤدة وأناءة وأن لا يؤخذوا بكثرة الشهود والالتماسات والشفاعات ودفاع المحامين تأمل آية: ﴿ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ ﴾ [النساء: 113].


4- ليس لآل المجرم وعشيرته أن يجادلوا عن قريبهم المجرم ويتعصبوا له فيضيعون حق خصمه ويكونون شركاء معه في الإثم كما مر في آية (109) وكما في آية ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ[1]مِنْهَا﴾ [النساء: 85].


5- ليس للمحامي أن يدافع عن المبطل ﴿ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ﴾ [النساء: 107].


انصر أخاك ظالماً أو مظلومًا:
سئلت منذ مدة قريبة عن هذه الجملة هل هي آية من القرآن الكريم؟ فأجبت السائل أنها ليست من القرآن الكريم وإنما هي من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بالسائل ينكمش وجهه وآثار الحيرة والاندهاش تظهران عليه فسألته عن السبب. فقال منذ زمن قصير كان يضمه مجلس فيه أحد رجال الكنيسة والكهنوت وأنه قال لهذا المسلم إن هذه الجملة هي من قواعد دينكم وأنها آية من قرآنكم يريد بذلك وصم المسلمين بالتعصب فقلت له حينئذ هون عليك فالأمر أسهل مما يجول في صدرك إن لهذا الحديث بقية تفسر هذا الإبهام الذي فيه وذكرت له بقية الحديث فذهب شاكراً وأسارير الفرح تظهر في وجهه وكان بجانبي أحد الأصدقاء يسمع ما جرى بيننا من الكلام فجاءني بعد أيام قليلة وأخبرني بأنه جمعه مجلس بمسيحي متعلم فجرى الحديث بينهما لأن فاجأه المسيحي بهذا الحديث المبتور مثبتاً به تعصب المسلمين. فناقشه حينئذ الحساب وبين له تتمة الحديث.


والحديث رواه البخاري عن أنس مرفوعاً وبقيته: قال يا رسول الله: هذا ننصره مظلوماً فكيف ننظره ظالماً؟ قال تأخذ فوق يده وفي رواية للبخاري: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه، وفي رواية للبخاري أيضاً: فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره. ورواه مسلم بلفظ: لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً فإن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوماً فلينصره، ورواه ابن عساكر والدارمي عن جابر بلفظ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً إن يك ظالماً فاردده عن ظلمه وإن يك مظلوماً فانصره.


وبعد فإن تتمة هذا الحديث وما مر آنفاً من تبرئة اليهودي وتجريم المسلم في حادثة سرقة الدرع وما جاء في تفسير الآيات الآنفة الذكر لأعظم دليل على فساد هذه المزاعم الباطلة.

المصدر: مجلة التمدن الإسلامي، السنة الثانية، العدد السادس، 1356هـ - 1937م


[1] أي نصيب منها.