مشاهدة النسخة كاملة : سورة الأنفال والموضوع الواحد


ابو وليد البحيرى
29-05-2015, 04:59 PM
سورة الأنفال والموضوع الواحد
سيد ولد عيسى

تُعالج السورة موضوعًا واحدًا تقريبًا، هو العلاقة بالآخَرِ سِلْمًا وحربًا، والأخلاق الإسلامية المطلوبة في هذه العلاقة، مراعيةً الظروف التي نزلت فيها، وهي بداية تشكِّل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، منبهةً على مبادئَ عامَّة، وقواعدَ أساسيَّة في التعامل مع الآخَرِ، ومذكرة أيضًا بالأهداف من وراء الصِّدام الواقع حينها بيْن المسلمين والمشركين، مبينةً في الوقت نفسِه سببَ الصراع وعِلَّته الأولى، وكل السُّورة تطفح بالعناية والرِّعاية، والقدرة على حِفْظ ونصْر وتمكين الدولة الناشئة، إذا هي سارتْ كما يرسم لها الوحي، وكما يوجِّهها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والسورة في شكلها تبدأ بمقدِّمة موجزة عن حادثة مطروحة "الأنفال"، رابطةً الحادثةَ بسِياقها، مبينةً في الوقت نفسِه علاقةَ الموضوع بالإيمان، مقدِّمة تعريفًا للمؤمِن الحق.
يلي هذه المقدِّمةَ الموجزة عرْضٌ واقعي عن الأحداث المعاشة حينها، والتعقيب عليها برَبْطها بعِللها وأسبابها (قدَرًا وشرعًا)، ويطول العرض - نسبيًّا - في المزاوجة ما بين حِكاية الواقع كما هو، وتحليله والتعقيب عليه؛ لتختمَ السُّورة من حيث بدأتْ، مبينةً الحاجة إلى المال، في التقوِّي على الأعداء، ومُجمِلة العلاقاتِ بالبشر - مسلمهم وكافِرهم - لتعودَ إلى المؤمن الحق؛ لتضيفَ إلى صفاته "الولاء، والهجرة، والجهاد"، واعدةً إيَّاه بصلاح الدارين: "مغفرة ورزق كريم".
ولنبدأ الآن مع السورة من بدايتها، نلخِّص ما يفتح الله به، وذلك في النِّقاط التالية:
أولاً: تبدأ السُّورة - كما قلنا - بالأنفال، وبيان لِمَن هي (وسواء علينا كانتِ الأنفال هي الغنائم - كما هو الظاهر من السِّياق - أو كانت الخُمُس المبيَّن لاحقًا، أو كانت ما يجعله الإمام لبعض الجيش، أو كانتْ ما جاء من المال عن طريق السرايا....إلخ) فإنَّ السورة بيَّنتْ حُكم الأنفال، وأنَّ مردَّ الحكم فيها لله ولرسوله؛ لتجعلَ السورة من ذِكْر الأنفال مدخلاً للتذكير بالإيمان، وتعريف حقيقته، مذكرةً المخاطبين بنجاتهم بوجوب طاعةِ رسول الله عليهم، وعلاقتها بالإيمان.
تبدأ هذه المقدِّمة الموجزة من قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)... إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 1 - 4].
ثانيًا: تبتدِئ السورة في عرْض أحوالِ الناس (المسلمين) قبل الأنفال، قبل النصْر وهم ما زالوا في وضْعٍ آخَرَ خائفين ذليلين يحتكر القرآن وحْدَه حقَّ التعبير الفني الحقيقي عنهم؛ (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُون) [الأنفال: 6]، ثم تُبيِّن السورة نِعم الله الكثيرة على هؤلاء كيف حَفِظهم، وثبَّت أقدامَهم، ونصرهم بملائكته، وبثَّ الرعب في قلوب أعدائهم، وجعل النُّعاس يتغشاهم (أَمَنَةً مِنْهُ)، وكيف: "ينزل عليهم من السماء ماء"؛ ليطهرهم (وَلِيُثبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) في حين حرم العدو كلَّ هذه المِنن والألطاف.
وتؤكِّد السورة قبلَ هذا كله على أنَّ هذا الوضع غيرُ سليم، فالحق اتَّضح، وهؤلاء المشرِكون أخرجوكم وآذوكم وقاتلوكم، وبالتالي لا معنى للتكاسُل، ولا للخور والجبن أمامَهم، فليس الوضع كما كان في مَكَّة، هناك كان الوضع (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ)[النساء: 77]، وحينها كان المسلِمون يُطالِبون بالقِتال والدِّفاع عن أنفسهم، فلا يؤذن لهم، أمَّا الآن فالإذن قد جاء بالقِتال؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)[الأنفال: 39].
رابعًا: من خلال هذا المدخل أرادتِ السورة أن تُبيِّن أصلَ الصِّراع، ومبدأه ومنشأه، وغايته:
أ‌- أصْل الصراع: ترجع السورة ذلك إلى سَببٍ رئيس له عِدَّة مظاهر للتجلِّي، أما السبب فهو: الحرابة.
وأمَّا مظاهرها، فتتجلَّى في:
1- المكر الهادف إلى:
أ- محاولة سجنِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - سجنًا يمنعه من إبلاغ الدَّعوة، ونشْر الرسالة.
ب- محاولة اغتياله، عن طريق عصابة مجرِمين مختلطين، يصعُب الانتقام والقِصاص منهم.
ج- نفيه إلى جِهةٍ يكون نفيها إليها سببًا للقضاء على دعوته، وإخراجه مرغمًا مِن أرْضه ووطنه.
وهذا ما بينتْه الآية: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) [الأنفال: 30]، وأنَّه: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)[الأنفال: 33]، وحين نُدرك أنَّ العذاب الذي حلَّ بهم ليس عذابًا سماويًّا محضًا، وإنما جاء على أيدي "المستضعفين"، يتَّضح لنا المعنى أكثر.
2- الظلم الواقع على أصحابه، والذي طالهم في مكة أجمعين - تقريبًا - ولاحقهم بعدَ الهجرة إلى الحبشة، متابعةً للأشخاص، ومصادرةً للحريات، (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)[البروج: 8].
3- الإنفاقات السخية على الحَرْب ضدَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومعاشِر المؤمنين في الدولة الفتية، وهذا ربَّما ورد التنبيهُ إليه فقط؛ ليجعلَه المؤمنون في الحسبان؛ لأنَّه ليس من أعمال ما قبل المعركة، وسيرتَّب عليه أمر ما في المستقبل.
4- التخويف والتهديد، الذي جعل المسلمين في أشدِّ الخوف، يخافون أن يتخطَّفهم الناس.
5- صد المسلمين عن المسجد الحرام ومنعهم من عمارته.
6- مشاقَّة المسلمين، ومحاربتهم ظلمًا وعدوانًا، حتى كأنَّ لسان حال المسلمين يصرخ: (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) [المائدة: 59].
ويصيح: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ)[غافر: 28].
وهذا ما بينتْه السورة في غير ما آية: مثل: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال: 13]، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)[الأنفال: 36]، (يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ)[الأنفال: 34]، (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ)[الأنفال: 26].
غاية الصراع:
لا تُطلق السورة الصِّراع أبديًّا سرمديًّا، وإنما الصِّراع مرتبط بأسبابه، فهو يتوقَّف بمجرَّد رجوع المعتدين عن الاعتداء، وتمام ذلك بأن تكون "كلمة الله هي العليا"؛ لكي تضمنَ الحرية للناس، فيعبدوا ربَّهم لا يخافون، ويقوموا بالعدل للناس، على أساس: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون: 6]، وأساس: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، وأساس: ((خلُّوا بيني وبين الناس))[1]، وأساس الاحتواء لا الإلغاء، مع الدعوة بالحِكمة والموْعظة الحَسَنة، والجِدال بالتي هي أحسن، وتعقيب الله - تعالى - على قوله: (فَإِنِ انْتَهَوا) بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 39]، كأنَّ الآية تشير إلى قوله - تعالى - في الآية الأخرى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية: 22]، أو إلى قوله: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [الشورى: 48]، وما في معناهما من الآيات.
فالصِّراع إذًا محدَّد الغاية والهدف، ليس من أجْل الصِّراع، وإنما مِن أجل قيمةٍ أسْمى كما سيتضح لاحقًا في قضية الأسرى.
خامسًا: تَعُود السورة مرة أخرى للمال "الغنائم"؛ لتبينَ أنَّ خُمُس هذه الغنائم لله ورسوله، ولذي القُرْبى، واليتامى والمساكين، وابن السبيل، ثم تربط الحُكم بالإيمان - كما في سابقاتها - وتبدأ مباشرةً في تبيين حال الناس؛ (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) [الأنفال: 41]، مبينة أنَّ الصِّراع جاء لإقامة الحُجَّة، أو بالتعبير القرآني: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال: 42].
وبعدَ هذا المقتطف الموجَز تعود السورة إلى رسْم الصورة التي يجب أن تكونَ عليها الثُّلَّة المؤمنة، والدولة الناشئة، وذلك عن طريق المقارنة بيْن مجموعتين وحالتين:
الحالة الأولى: حالة المسلمين وهم مستضعفون في الأرْض، يخافون أن يتخطَّفهم الناس، مهدَّدون لا يستطيعون أن يعبدوا الله كما يشاؤون.
حال المسلمين الآن - وهم أمامَ المواجهة الحتمية – (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)[الأنفال: 6]، لتذكِّرَهم بأنَّ الجهاد من أجْل ألاَّ يعودوا إلى مِثل هذه الحال، أو بتعبير القرآن: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال: 45]، فلا فلاح ولا نجاح، ولا صلاح ولا قيامَ لهذه الدولة وهذه الأمَّة، إلا بهذا الطريق الأوْحد؛ طريق الجهاد والكفاح.
وأما المجموعتان: فصف المؤمنين الذين تبيَّن نُبْل هدفهم، وسمو غايتهم، وبين الكافرين الذين خرجوا مِن ديارهم:
* بطرًا.
* رئاء الناس.
* يصدون عن سبيل الله.
لتكونَ هذه الغايات كلُّها ضدَّ الغايات التي خرج المسلمون مِن أجلها، وهذه الأخلاق ضد أخلاق المؤمنين، الذين يريدون أن تكون كلمةُ الله هي العليا، الذين (يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)[الحج: 39].
الذين يَثبتون - كثبات مبدئهم - ويذكرون الله كثيرًا عندَ المواجهة في تواضُع جمٍّ، وإخبات منقطع النظير[2].
بينما غاية الصف الثاني يُحدِّدها زعيمه في "أن نَرِد بدرًا، ونشرب الخمر، وننحر الجزر، وتُغنِّي لنا القينات، وتسمع بنا العرب"، ولكن هيهات! "إنَّ الله مع المؤمنين".
ولا يقتصر التمايزُ بين الفريقين على هذا القَدْر، بل هو تمايز في دار الجزاء، فهؤلاء (أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران: 169][3] ، وأولئك: (الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) [الأنفال: 50]، ليس ظلمًا، وإنما (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة: 82]، بل كما قال الله عنهم في هذه الآيات: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ)[الأنفال: 51]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال: 53]؛ لتتقرّرَ النتيجة النهائية، والقاعدة القدرية التي لا تختلُّ، التي تقْضي بجزاء الظالِم على ظُلْمه، ومعاقبته على ما فرَّط - إنْ عاجلاً أو آجلاً – (وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) [الأنفال: 54]، كما أهْلك فرعون ومَن قَبْله والمؤتفكات، يهلك هؤلاء، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف: 35].
سابعًا: العلاقات:
مِن هنا تبدأ السورة في ضبْط علاقات المؤمنين بغيرهم، موضحةً ضوابطَ لتلك العلاقات مِن قبيل:
1- أخْذ الحَيْطة والحذر؛ لأنَّهم: (يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) [الأنفال: 56].
2- عدم غَدْرهم، وردّ العهود إليهم إنْ خِيف منهم غَدْرٌ: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)[الأنفال: 58]، وهنا يُدرِك المسلمون أنَّ حاميَهم الله، وأنَّ النصر لا يُنال بالخِداع الكاذب (وإنْ كانت الحَرْب خدعة)، وإنَّما حَسْبُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "الله"، ومَن اتبعه مِن المؤمنين.
3- الاستعداد: وأخْذ العُدَّة ليس بهدف الحرْب ولا للرغبة فيها، وإنما من أجل:
* إرْهاب العدو: وهو ما يُعرَف بالرُّعْب التوازني، الذي يَحول دون الصِّدام المباشر، هذا من ناحية.
* ومن ناحية أخرى: إرْهاب الأعداء المجهولين - بالنسبة للمخاطبين - الذين يُبيِّتون للمسلمين الكيد، بعاملِ نفسية الجاهلية التي لا تَعرِف إلا العدوان، فهؤلاء يردَعُهم التسلُّح؛ ولذلك حين غلب المسلمون قريشًا دخل الناس في دِين الله أفواجًا؛ لأنَّ كثيرًا من الناس لا يكونون إلاَّ مع الغالب.
4- الإنفاق في سبيل الله؛ لتحقيق غاية "الإعداد"، فإذا كان أولئك (يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال: 36]، فهؤلاء ينفقون أموالَهم للدعوة إلى سبيل الله، وحِماية جُنْد الله.
5- إن جنحوا للسلم فاجنحْ لها، ولكن مع الضوابط السابقة، مِن الإعداد؛ حتى لا يطمع الذي في قلْبه مرض، والحَذَر حتى لا يَمِيلُوا عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً.
ثامنًا: بناء على هذه التوجيهات، وعلى ما تقدَّمها في السورة، تأتي توضيحاتٌ للمباحِث المالية، والتصوُّرية التي أجملتِ السورةُ الحديثَ عنها في البداية؛ لتبينَ أمورًا لا بدَّ من التنبيه إليها:
1- أنه لا ينبغي الحِرْص على الدنيا وطلبها، ونسيان الهدف الأوَّل من القِتال، وهو ((لِتَكُونَ كَلِمةُ الله هي العليا))، بل يجب النظرُ إلى الحرب باعتبار الغاية، وأمَّا الأَسْر فلينظر إليه باعتباره وسيلة مِن وسائل إعلاء كلمة الله، لا باعتباره وسيلةً لجمْع المال، وهذا - إن شاء الله - هو العِلَّة المقصودة من العِتاب في قضية الأَسْر مِن أجل الفداء، ثم إقرار ما كان؛ لتبيين الغاية مِن الأَسْر؛ ولهذا قال الله - تعالى -: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) [الأنفال: 69].
2- أنَّ وقت المفاصلة الآن حان، فالناس قِسمان: مؤمن وكافِر، والمؤمنون قسمان:
* مؤمِن مهاجر، أو في حُكم المهاجِر كالأنصار: فهذا له الولاءُ والنصرة[4]، وله مِن الحقوق مِثْل ما عليه مِن الواجبات.
* مؤمِن غير مهاجر: له النصرة على أيِّ أجنبي[5] يظلمه، ويُضايقه في دِينه.
والكفَّار يُنظِّمون علاقتهم فيما بينهم: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [الأنفال: 73]، وهم أقسامٌ كذلك، ذكرتِ الآية منهم قسمين:
* كافِر محارِب: بيننا وبينه ما بين المحاربين، أو على حدِّ تعبير حسان بن ثابت:
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ *** سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
* كافر معاهد: نَفِي له بعهده، ونستعين بالله عليه؛ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [الأنفال: 61].
وأما القسم الثالث، وهو المحايد: فلم يَرِدْ ذِكرُه صريحًا في هذه الآيات، وإنْ كان في قوله - تعالى -: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال: 60] ما يشير إلى مَن هم في ظاهرهم محايدون (مسكوت عنهم)، وفي باطنهم: (يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْل) [النساء: 108].
خاتمة:
بهذا تكون السورةُ قد انتظمتْ من أولها إلى آخِرِها في تنظيم هذا المجتمع الفتيِّ في هذه الناحية الحساسة (ناحية العلاقات)، وبيَّنت له أُسسَ التعامل مع الآخرين، وغايات الحرْب والسِّلم، وأخلاقهما، وعرَّجت في الخِتام على تتمةِ بيان الإيمان، وعلاقته بالعمل، وبالولاء السِّياسي، فبذلك ينتظمُ نِظامَ الحياة إيمانٌ وعمل، وولاءٌ وانحياز، دِين ودنيا، سياسة وإيمان، وثروة، خُلُق وقوَّة، فتنتظم هنا الدنيا والآخرة، ويتجاور عالَم الشهود وعالم الغيب، ويَميزُ الله الخبيثَ مِن الطيب، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف: 8].
ــــــــــــــــ
[1] وهذا جلي في تعليق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على طلب عُتبة بن ربيعة من قومه أن يرجعوا - حين علم بنجاة العير - ويتركوا بين محمَّد وبين الناس، فإن عزَّ عزُّوا، وإلا كانوا قد كفوه؛ حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إن يكن فيهم خير، ففي صاحِب الجمل الأحمر عني عتبة بن ربيعة إن يُطيعوه يرشدوا))، تاريخ الإسلام للذهبي (2/ 54).
[2] جاءتِ الآيات فيما بعدُ بتوضيح كيفية الثبات، ومتى يلزم، وكم العدد الذي يثبت المسلِم أمامَه، والعدد الذي لا يجب عليه الثباتُ أمامه، وهذا موضَّح في الآيات: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال: 65]، و(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّه) [الأنفال: 66]، وبغضِّ النظر عمَّا قيل من نسخ أو عدمه في الآيات، وبغض النظر عن ((لن تغلب اثنا عشر ألفًا من قِلَّة...))، وبغض النظر عن كون ثبات النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واجبًا عليه، وكون ذلك من خصائصه، بغضِّ النظر عن كلِّ هذا، فأظن أنَّ الذي يثبت أمام العدو راجيًا فضلَ الله ومثوبته، مراعيًا الشروطَ والأهداف، والعِلل والغايات، ينال أجْرَه عند الله - إن شاء الله.
[3] - لم تذكر هذه السورة - سورة الأنفال - أنَّ شهداء المسلمين في الجنة، كما ذكرتْ ذلك في شهداء أحد، وربَّما يرجع ذلك إلى قِلَّة عدد المستشهدين من ناحية، وطيب نفوس المسلمين واستعدادهم للموْت يومَ بدر من ناحية أخرى، في حين وقعتْ حسرةٌ واستفسار في أُحد كان جوابه: (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
[4] وهنا لا ندخل في التفاصيل المتعلِّقة بالإرث بيْن المهاجرين والأنصار، الوارد في الحديث الصحيح، فبالرغم من صحَّة الحديث يبقى لفظُ الآية أشملَ من مجرَّد هذا النوع من الولاء.

[5] المراد بالأجنبي هنا مَن لا يربطه بالمسلمين عهدٌ أو ميثاق، وليس بينه وبينهم حرب، وهو المحايد بمعنًى مِن المعاني.

محمود حربي
05-06-2015, 04:26 AM
شكرررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررر رررررررررررررررررررررررررررا وبارك الله وفيك وجزاك كل خير

على العربى
09-08-2016, 10:26 PM
جزاك الله خيراً وبارك فيك