ابو وليد البحيرى
30-05-2015, 02:57 PM
تقلص عضلة الضفدعة
هدى أحمد إبراهيم برعي
لا شكَّ أنه مِن الصَّعب علَينا تصوُّرُ العالم منذ قرْن مِن الزَّمان، عِندما كان استِخدام الكَهرباء في مهْدِه، فالمُفارَقة تبدو كبيرة جدًّا؛ إذ تَدخُل الكَهرباء في عددٍ كبير مِن الاستِخدامات، وقد كان لاختِراع المصباح الكَهربائي في السبعينيات مِن القرْن التاسعَ عشرَ الفضْلُ في أن تُصبِح الإضاءة واحدةً مِن أولى التطبيقات المُتوفِّرة مِن الطاقة الكَهربيَّة، وعلى الرغْم مِن مَخاطِر الكَهرباء، إلا أنَّ استِخدامها بدلاً مِن اللهَب المكشوف للإضاءة المُعتمِدة على الغاز قلَّل بشدَّة مِن مَخاطِر الحريق داخل البيوت والمصانع، أضفْ لذلك أنه كان لتأثير التَّسخين بحَرارة جول - المُستخدَم في مِصباح الإضاءة - أثرٌ مُباشِرٌ في مَجال التَّدفئة الكهربيَّة.
كذلك تُعد الكَهرباء - إلى حدٍّ كبير - مصدرًا عمَليًّا للطَّاقة يُمكِن استِخدامه في عمَليَّات التَّبريد؛ حيث إنَّ تكييف الهَواء يُمثِّل أحدَ القِطاعات التي تَزيد احتياجاتها للطَّاقة.
تُستخدَم الكَهرباء أيضًا في الاتِّصال عن بُعد، وفي الواقع كان التِّلغْراف الكَهربيُّ، الذي ابتَكره "كوك وويتستون" عام 1837، مِن أوائل تطبيقات الكَهرباء في هذا المجال، ومع وضْع أوَّل نِظام تِلغْراف عبر القارَّات، ثمَّ عبر المحيط الأطلسيِّ في الستينيات مِن القرْن التاسعَ عشرَ، سهَّلت الكَهرباء وسائل الاتِّصال، فأصبَحتْ لا تَستغرِق سِوى دقائقَ مَعدودةٍ في جميع أنحاء العالم، وعلى الرغْم مِن أنَّ تكنولوجيا الألياف البصَرية والاتِّصال عبر الأقمار الصناعيَّة قد شَغلتْ حصَّةً في سوق نظُم الاتِّصالات، ولكنْ ما زالتِ الكَهرباء جُزءًا أساسيًّا مِن هذه العمليَّة.
فضلاً عن ذلك، تَظهر تأثيرات "الكَهرومغْناطيسيَّة" بوضوح في المُحرِّك الكهربيِّ، الذي يُعدُّ وسيلةً نظيفةً وفعَّالةً لِلقُدرة المُحرِّكة، ويَسهُل تَزويد المُحرِّك الثابِت - مثْل الرَّافعة - بمصدَر للإمداد بالقُدرة، أمَّا المُحرِّك الذي يتحرَّك مع تطبيقه - مثل السيارة الكَهربيَّة - فيجب أن يَحمِل معه مَصدرًا للقُدرة كالبطَّارية.
هذا، وتستخدم الأجهِزة الإلِكْترونيَّة "التَّرانزستور"، الذي يُعدُّ مِن أهمِّ الاختِراعات في القرن العشرين، كما أنَّه وحدة بِناء أساسيَّة تَدخُل في تَكوين جميع الدَّوائر الكَهربيَّة الحَديثة، وقد تَحتوي الدائرة المُتكامِلة الحَديثة على ملْيارات مِن أَجهِزة "الترانزستور" صَغيرة الحجْم في محيط لا يَتجاوز بعض السَّنتيمترات المربَّعة[1].
نحن نستخدم الكهرباء بشكْلٍ يوميٍّ وبِصِفَة مُستمرَّة، وتلعب الكهرباء دورًا حيويًّا في توفير الراحة والأمان، والصحَّة والتَّسلية، وإنجاز الكثير مِن الأعمال لكلٍّ منَّا، ويُوجَد الآن مَصادِر متعدِّدة للكَهرباء، فيُمكِنُنا توليد الكَهرباء عن طريق الفحْم أو البترول أو الغاز، أو الطاقة النووية، أو مِن خِلال مَساقِط المياه، أو أشعَّة الشمْس، غير أنَّ مُعظمنا لم يفكِّر كيف بدأت الكَهرباء، أو كيف سيَكون شكْل الحياة بدون الكَهرباء.
عندما تُذكَر كلمة الكَهرباء[2] يَتبادَر إلى الأذهان مُباشَرةً الضوءُ، والتِّلفاز، وفُرْن المايكرُوويف، والحاسوب، وغيرُها مِن الأشياء المُفيدة، غير أنَّ الأمْر أكبر مِن ذلك بكثير؛ فالكَهرباء توجَد في كلِّ ما يُحيط بِنا، في كلِّ شيء، وفي مُختَلف الصور؛ فالبرْق والسمَك الرعَّاد والشفَق القُطبيُّ الشماليُّ والصُّخور المغناطيسيَّة، وإرسال الإشارات الكهربائيَّة داخِل المخِّ البشَريِّ - ليستْ سوى أمثلة قليلة، فالكهرباء تَدخُل في تركيب كل ورقة وكل حجر، إنها في الأرض التي نسير عليها، وفي الهواء الذي نَسْتنشِقه.
ويَعرف العُلماء أنَّ كلَّ ما نَلمسه ما هو إلا تجمُّعات مِن الكَهرباء، بل إن الكَهرباء في أجسامنا هي ما يَسمَح لنا بالحرَكة والتَّفكير والتَّفاعُل مع العالَم المحيط بنا، ويُشبِه الناسُ أجهزةَ الكُمبيوتر؛ فهُم يَستخدِمون الكهرباء في تصنيف المعلومات، والتَّفاعُل مع الأوامر الوارِدة مِن الخارج، فكلُّ ما تَشعُر به يُترجَم إلى إشاراتٍ كهربيَّة تَنتقِل بين أجزاء جسْمِك ومخِّك؛ حيثُ تَجعل هذه الإشارات الدِّماغ يُحدِّد ما تراه العَين، وتَسمعه الأُذن، وتتحسَّسه الأصابع[3]، وهذه الإشارات هي التي تُسبِّبحرَكة العضَلات ونبْض القلْب، والخَلايا الدَّقيقة التي يتكوَّن منها جسمُك تَعمَل مثْل البَطاريَّات؛ حيث تُولد الكَهرباء، حيث تتحرَّك خِلالها ذرَّات مَشحونة تُسمَّى أيونات [4]، إلا أنَّنا لم نتوصَّل إلى هذه النَّتيجة إلا بعْد آلاف السِّنين مِن الجهْد المتواصِل؛ إذ كان الناس يَعتقِدون أنَّ الكَهرباء ما هي إلا شيءٌ ما، يُمكِن إضافته إلى المادَّة أو سحبُه منها؛ ولكنَّهم لم يَتبيَّنوا أنها أساس تكوين جميع المواد.
تكون الكهرباء مُختفِيَةً في المادَّة، ولا تُظهر نفسها إلا إذا حدَث ما يُظهرها، وقد يكون ذلك مِن البساطة؛ كأنْ تَسمع طقْطَقةً خَفيفةً عِند خَلعِكَ لسُترةٍ صوفيَّة، أو تَمشيط شعْرِك بمشْط، حينئذٍ ستُخبرك الفرْقَعة الخَفيفة الناتجة عن وجود شحنات مِن الكَهرباء، وقد كانتْ مثل هذه الخبْرات الأوَّليَّة مِن الأدلَّة على وجود الكَهرباء، وطالَما بَقِيَت الشِّحنة على الستْرة فإنها ستَجذِب الشَّعر أو نُتفًا صغيرةً مِن الألياف، وإذا نظرْتَ في المرآة، فسوف تُلاحِظ وقوف أطْراف شعرك.
وبتَوالي العصور، تمكَّن العُلماء والمُهندِسون مِن تَحسين وسائل الحُصول على الكَهرباء، ودراسة خواصِّها، والكشْف عن الكثير مِن الوسائل التي يُمكِن بها استِغلال الكَهرباء، كاستِخدام هذه القوَّة الكبيرة لإنارة المنازل، وإدارة آلات المَصانِع، ونقْل برامج الإذاعة والتليفزيون، وتيسير سبُل الاتِّصال بشتَّى أنحاء العالَم، وتسيير السُّفن والقِطارات، وإرشاد الطائرات إلى طَريقها في أثناء العواصِف أو الظَّلام.
فوجود الكَهرباء اليومَ أصبَح أمْرًا مُسلَّمًا به، بل مِن الصعْب علَينا تَخيُّل العالَم بدون كهرباء؛ فالكَهرباء جزء أساسي في الحياة اليوميَّة، سواء لمُواصَلة الحياة، أو للاتِّصالات، أو لتوفير الوقْت، أو للتسلِيَة، وبالرغْم مِن ذلك ما زالتْ هُناك مناطِق عديدة في العالم مَحرومةٌ مِن التمتُّع بإمدادات يوميَّة ثابِتة مِن الكَهرباء[5].
وتتناول الصفَحات التالية تاريخ الكَهرباء بدايةً مِن المشْط، وحتَّى الموجات اللاسلكيَّة حول الأرض.
البداية:
اهتمَّ "حُكماء" الإغْريق - منذ أكثَر مِن ألفَي عام - بالأشياء التي تَحدُث مِن حَولنا، فدرَسوا حرَكة النُّجوم في السَّماء، والسُّحب والأمْطار، وفحَصوا الصُّخور والأنهار، وأمواج البِحار، وفكَّرُوا في الظَّواهر الطبيعيَّة، مُحاوِلين شرْح حُدوثِها وتَفهُّم خَصائصها، وما زال الكَثير مِن أفْكارهم قائمًا حتَّى يومِنا هذا.
كان المُفكِّر اليُونانيُّ "ديموقريطس" (460 -370 ق. م) هو أوَّل مَن صاغ فكْرةَ أنَّ كلَّ الموادِّ تتكوَّن مِن جُسيمات دقيقة، يُطلَق عليها الذرَّات[6]، وذلك حَوالَي سنة (2500 ق. م)، وكان الكيميائيَّ الإنجليزيُّ "جون دالتون" (1766- 1844) هو أوَّل مَن برهَن على ذلك[7]، وكان الإغريق أوَّل مَن لاحَظ وجودَ الكَهرباء، فمُنذ ما يَزيد على (2000) سنَةٍ مضتْ تمكَّن العالِم الإغْريقيُّ "طاليس" مِن إنتاج ومَضات كهربائيَّة بَسيطة عن طريق حكِّ قِطعَة مِن القُماش بالكَهرمان[8]، لكنَّ الأمر استغْرَق فتْرةً طويلةً مِن الوقت قبْل أن يتمكَّن الإنسان مِن تسخير هذه القوَّة لإنتاج تيَّار ثابِت مِن الكَهرباء[9].
ففي حوالَي سنَة (1620) كان عُلماء الإنجليز قد اكتَشفوا موادَّ أُخرى تَسلُك مَسلَك الكَهرمان، ويَصحُّ لها القُدرة على جذْب نُشارة الخشَب.
وأطلقوا عليها اسم الكَهرباء، نسبة إلى الكَهرمان، واصطُلح على تسمية الجسْم الذي يَحمِل الكَهرباء بأنه اكتسَب شِحنَة كهربيَّة، وبينما يُحاول الناس الحُصول على الكَهرباء بالدَّلكِ، اكتشَف عالِم ألمانيٌّ وسيلةً للحُصول على كهرباء أكثر مِن التي نَحصُل عليها بدلْك قَضيب الكَهرمان؛ حيث ثبَّت كُرةً كبيرةً مِن الكبريت على مِحْوَر يُدار بعَمود، وعِندما وضَع يدَه على الكُرَة المُتحرِّكة، سمع الكَثير مِن القَرقعَة.
وكذلك صنَع عالمٌ إنجليزيٌّ الشيء نفسَه، ولكنْ باستِخدام كُرة مُجوَّفة مصنوعة مِن الزجاج؛ حيث وضَع يده بخفَّة على الكُرة الزجاجيَّة، وبدأ في إدارة الكُرة بسرعة، وفجأةً لاحَظ وجود وهَجٍ أزرقَ أضاء الكُرة مِن الداخل، وربَّما كان هذا الضَّوء أول ضَوء كَهربيٍّ صِناعيٍّ.
ومضتْ سنَوات كثيرة قبْل أن تُكتَشفَ الأشياء التي تبدو مألوفةً وبَسيطةً لنا[10]، ففي (1733) اكتشَف الفَرنسيُّ "شارل دوفاي" (1698- 1739) وجود شِحنة كَهربائيَّة مُوجَبة وأُخرى سالِبة، وأنَّ الشِّحنتَين مِن طَبيعة واحِدة تَتنافَران، وشِحنتَين مُتَعارضتَين تَتجاذبان[11].
كانتْ أوَّل بطَّارية كهربائيَّة هي "قنينة ليد" - و"ليد" هو اسْم المَدينة الهُولنديَّة التي اختُرعتْ فيها - تلك كانتْ قنينةً مَليئةً بالماء، سدادتها الزجاجية يَخترِقها مِسمار يَطول السائل، وعن طريق المِسمار، تبثُّ شِحنة في الماء المعزول داخِل الزجاج، فإذا حدَث تماسٌّبين المِسمار ومُوصِّل آخَر نتجَتْ عن ذلك شَرارة[12].
الكهرباء أساس تَكوُّن المادَّة وتَماسُك الذرَّات:
فسَّر قانون الجذْب والتنافُر الكثيرَ مِن الأمور التي حيَّرت العُلماء، ومع ذلك طالَبوا بالمزيد، فلمْ يُعرَف ما يَحدُث للمادَّة عِندما تُشحَن كهربيًّا إلا منذ حوالَي أوائل القرْن العشرين، بعد أن ظلَّ هذا الأمر مَجهولاً وقتًا طويلاً.
ومِن المُدهِش أنه لكَي نتعرَّف هويَّة الكَهرباء ونتفهَّم خواصَّها، علَينا أن نَعرِف ممَّ تتركَّب المادة العاديَّة؛ مع نهايات القرن التاسعَ عشَر، عرَف العلماء أنَّ أيَّ شيء يتكوَّن مِن مجموعة مِن الجُسَيمات الدَّقيقة التي لا تُرى بالعَين المجرَّدة، تُسمَّى الذرَّات Atoms، وفي التسعينيات مِن القرْن التاسعَ عشَر بيَّن الإنجليزي "ج.ج. تومسون" (1856 - 1940) أنه يوجَد أيضًا جُسَيمات أصغَر تُسمَّى الإلكترونات، ثم بيَّن النيوزيلندي "إرنست رذر فورد" (1871- 1937) أنَّ مُعظَم الذرات عبارة عن فراغ به نُقطة دقيقة كثيفة في المركز يُطلَق عليها النواة[13]، تَبلُغ المسافة مِن النواة وحتَّى أقرب إلكترون 5000 مرة حجْم النواة، فإذا كان عرْض النواة 1 سم يكون أقرب إلكترون على بعد 50 مترًا[14]، فالموادُّ التي بين أيدينا مِن الجسْم الرَّقيق إلى الصلْب الجامد، هي في حقيقة الأمر ليستْ مُلتحِمة الأجزاء؛ وإنما تتكوَّن مِن دقائق مُتناهِيَة في الصِّغَر؛ "الإلكترونات Electrons"، سالبة التَّكهرُب، ثمَّ اكتُشفتْ في الذرَّة جُسَيمات تَحمِل شِحنة موجبةً أُطلِق عليها اسم "البروتونات Protons"، واكتُشف بعد ذلك أنَّ تلك الجُسَيمات تَنقسم بدورها إلى كواركات وأنَّ الكواركات واللبتونات هي الجُسَيمات الأساسيَّة المُكوِّنة للمادة[15]، وبعد بحوث كبيرة جدًّا أثبَت العُلماء وجود نوع ثالث مِن الجُسَيمات داخل النواة أطلق عليه اسم "النيوترونات Neutrons"، وهو مُتعادِل كهربيًّا؛ أيْ: لا تظهر عليه أي شِحنة كهربيَّة، أمَّا وزنُه، فيُساوي تقريبًا وزْن البروتون.
ويختلف عدد البروتونات والنيوترونات في النوى المُختلِفة للذرَّات المُتباينة؛ فعلى سبيل المثال: يتكوَّن الفحْم مِن ذرَّات كربُون، وتَحتوي نواة ذرَّة الكربون على 6 بروتونات و6 نيوترونات، أمَّا نواة ذرَّة الحَديد، فتحتوي على 26بروتونًا و 30نيوترونًا، أمَّا ذرَّة، الرَّاديُوم فتَحتوي على 88بروتونًا و 138نيوترونًا[16].
يتبع
هدى أحمد إبراهيم برعي
لا شكَّ أنه مِن الصَّعب علَينا تصوُّرُ العالم منذ قرْن مِن الزَّمان، عِندما كان استِخدام الكَهرباء في مهْدِه، فالمُفارَقة تبدو كبيرة جدًّا؛ إذ تَدخُل الكَهرباء في عددٍ كبير مِن الاستِخدامات، وقد كان لاختِراع المصباح الكَهربائي في السبعينيات مِن القرْن التاسعَ عشرَ الفضْلُ في أن تُصبِح الإضاءة واحدةً مِن أولى التطبيقات المُتوفِّرة مِن الطاقة الكَهربيَّة، وعلى الرغْم مِن مَخاطِر الكَهرباء، إلا أنَّ استِخدامها بدلاً مِن اللهَب المكشوف للإضاءة المُعتمِدة على الغاز قلَّل بشدَّة مِن مَخاطِر الحريق داخل البيوت والمصانع، أضفْ لذلك أنه كان لتأثير التَّسخين بحَرارة جول - المُستخدَم في مِصباح الإضاءة - أثرٌ مُباشِرٌ في مَجال التَّدفئة الكهربيَّة.
كذلك تُعد الكَهرباء - إلى حدٍّ كبير - مصدرًا عمَليًّا للطَّاقة يُمكِن استِخدامه في عمَليَّات التَّبريد؛ حيث إنَّ تكييف الهَواء يُمثِّل أحدَ القِطاعات التي تَزيد احتياجاتها للطَّاقة.
تُستخدَم الكَهرباء أيضًا في الاتِّصال عن بُعد، وفي الواقع كان التِّلغْراف الكَهربيُّ، الذي ابتَكره "كوك وويتستون" عام 1837، مِن أوائل تطبيقات الكَهرباء في هذا المجال، ومع وضْع أوَّل نِظام تِلغْراف عبر القارَّات، ثمَّ عبر المحيط الأطلسيِّ في الستينيات مِن القرْن التاسعَ عشرَ، سهَّلت الكَهرباء وسائل الاتِّصال، فأصبَحتْ لا تَستغرِق سِوى دقائقَ مَعدودةٍ في جميع أنحاء العالم، وعلى الرغْم مِن أنَّ تكنولوجيا الألياف البصَرية والاتِّصال عبر الأقمار الصناعيَّة قد شَغلتْ حصَّةً في سوق نظُم الاتِّصالات، ولكنْ ما زالتِ الكَهرباء جُزءًا أساسيًّا مِن هذه العمليَّة.
فضلاً عن ذلك، تَظهر تأثيرات "الكَهرومغْناطيسيَّة" بوضوح في المُحرِّك الكهربيِّ، الذي يُعدُّ وسيلةً نظيفةً وفعَّالةً لِلقُدرة المُحرِّكة، ويَسهُل تَزويد المُحرِّك الثابِت - مثْل الرَّافعة - بمصدَر للإمداد بالقُدرة، أمَّا المُحرِّك الذي يتحرَّك مع تطبيقه - مثل السيارة الكَهربيَّة - فيجب أن يَحمِل معه مَصدرًا للقُدرة كالبطَّارية.
هذا، وتستخدم الأجهِزة الإلِكْترونيَّة "التَّرانزستور"، الذي يُعدُّ مِن أهمِّ الاختِراعات في القرن العشرين، كما أنَّه وحدة بِناء أساسيَّة تَدخُل في تَكوين جميع الدَّوائر الكَهربيَّة الحَديثة، وقد تَحتوي الدائرة المُتكامِلة الحَديثة على ملْيارات مِن أَجهِزة "الترانزستور" صَغيرة الحجْم في محيط لا يَتجاوز بعض السَّنتيمترات المربَّعة[1].
نحن نستخدم الكهرباء بشكْلٍ يوميٍّ وبِصِفَة مُستمرَّة، وتلعب الكهرباء دورًا حيويًّا في توفير الراحة والأمان، والصحَّة والتَّسلية، وإنجاز الكثير مِن الأعمال لكلٍّ منَّا، ويُوجَد الآن مَصادِر متعدِّدة للكَهرباء، فيُمكِنُنا توليد الكَهرباء عن طريق الفحْم أو البترول أو الغاز، أو الطاقة النووية، أو مِن خِلال مَساقِط المياه، أو أشعَّة الشمْس، غير أنَّ مُعظمنا لم يفكِّر كيف بدأت الكَهرباء، أو كيف سيَكون شكْل الحياة بدون الكَهرباء.
عندما تُذكَر كلمة الكَهرباء[2] يَتبادَر إلى الأذهان مُباشَرةً الضوءُ، والتِّلفاز، وفُرْن المايكرُوويف، والحاسوب، وغيرُها مِن الأشياء المُفيدة، غير أنَّ الأمْر أكبر مِن ذلك بكثير؛ فالكَهرباء توجَد في كلِّ ما يُحيط بِنا، في كلِّ شيء، وفي مُختَلف الصور؛ فالبرْق والسمَك الرعَّاد والشفَق القُطبيُّ الشماليُّ والصُّخور المغناطيسيَّة، وإرسال الإشارات الكهربائيَّة داخِل المخِّ البشَريِّ - ليستْ سوى أمثلة قليلة، فالكهرباء تَدخُل في تركيب كل ورقة وكل حجر، إنها في الأرض التي نسير عليها، وفي الهواء الذي نَسْتنشِقه.
ويَعرف العُلماء أنَّ كلَّ ما نَلمسه ما هو إلا تجمُّعات مِن الكَهرباء، بل إن الكَهرباء في أجسامنا هي ما يَسمَح لنا بالحرَكة والتَّفكير والتَّفاعُل مع العالَم المحيط بنا، ويُشبِه الناسُ أجهزةَ الكُمبيوتر؛ فهُم يَستخدِمون الكهرباء في تصنيف المعلومات، والتَّفاعُل مع الأوامر الوارِدة مِن الخارج، فكلُّ ما تَشعُر به يُترجَم إلى إشاراتٍ كهربيَّة تَنتقِل بين أجزاء جسْمِك ومخِّك؛ حيثُ تَجعل هذه الإشارات الدِّماغ يُحدِّد ما تراه العَين، وتَسمعه الأُذن، وتتحسَّسه الأصابع[3]، وهذه الإشارات هي التي تُسبِّبحرَكة العضَلات ونبْض القلْب، والخَلايا الدَّقيقة التي يتكوَّن منها جسمُك تَعمَل مثْل البَطاريَّات؛ حيث تُولد الكَهرباء، حيث تتحرَّك خِلالها ذرَّات مَشحونة تُسمَّى أيونات [4]، إلا أنَّنا لم نتوصَّل إلى هذه النَّتيجة إلا بعْد آلاف السِّنين مِن الجهْد المتواصِل؛ إذ كان الناس يَعتقِدون أنَّ الكَهرباء ما هي إلا شيءٌ ما، يُمكِن إضافته إلى المادَّة أو سحبُه منها؛ ولكنَّهم لم يَتبيَّنوا أنها أساس تكوين جميع المواد.
تكون الكهرباء مُختفِيَةً في المادَّة، ولا تُظهر نفسها إلا إذا حدَث ما يُظهرها، وقد يكون ذلك مِن البساطة؛ كأنْ تَسمع طقْطَقةً خَفيفةً عِند خَلعِكَ لسُترةٍ صوفيَّة، أو تَمشيط شعْرِك بمشْط، حينئذٍ ستُخبرك الفرْقَعة الخَفيفة الناتجة عن وجود شحنات مِن الكَهرباء، وقد كانتْ مثل هذه الخبْرات الأوَّليَّة مِن الأدلَّة على وجود الكَهرباء، وطالَما بَقِيَت الشِّحنة على الستْرة فإنها ستَجذِب الشَّعر أو نُتفًا صغيرةً مِن الألياف، وإذا نظرْتَ في المرآة، فسوف تُلاحِظ وقوف أطْراف شعرك.
وبتَوالي العصور، تمكَّن العُلماء والمُهندِسون مِن تَحسين وسائل الحُصول على الكَهرباء، ودراسة خواصِّها، والكشْف عن الكثير مِن الوسائل التي يُمكِن بها استِغلال الكَهرباء، كاستِخدام هذه القوَّة الكبيرة لإنارة المنازل، وإدارة آلات المَصانِع، ونقْل برامج الإذاعة والتليفزيون، وتيسير سبُل الاتِّصال بشتَّى أنحاء العالَم، وتسيير السُّفن والقِطارات، وإرشاد الطائرات إلى طَريقها في أثناء العواصِف أو الظَّلام.
فوجود الكَهرباء اليومَ أصبَح أمْرًا مُسلَّمًا به، بل مِن الصعْب علَينا تَخيُّل العالَم بدون كهرباء؛ فالكَهرباء جزء أساسي في الحياة اليوميَّة، سواء لمُواصَلة الحياة، أو للاتِّصالات، أو لتوفير الوقْت، أو للتسلِيَة، وبالرغْم مِن ذلك ما زالتْ هُناك مناطِق عديدة في العالم مَحرومةٌ مِن التمتُّع بإمدادات يوميَّة ثابِتة مِن الكَهرباء[5].
وتتناول الصفَحات التالية تاريخ الكَهرباء بدايةً مِن المشْط، وحتَّى الموجات اللاسلكيَّة حول الأرض.
البداية:
اهتمَّ "حُكماء" الإغْريق - منذ أكثَر مِن ألفَي عام - بالأشياء التي تَحدُث مِن حَولنا، فدرَسوا حرَكة النُّجوم في السَّماء، والسُّحب والأمْطار، وفحَصوا الصُّخور والأنهار، وأمواج البِحار، وفكَّرُوا في الظَّواهر الطبيعيَّة، مُحاوِلين شرْح حُدوثِها وتَفهُّم خَصائصها، وما زال الكَثير مِن أفْكارهم قائمًا حتَّى يومِنا هذا.
كان المُفكِّر اليُونانيُّ "ديموقريطس" (460 -370 ق. م) هو أوَّل مَن صاغ فكْرةَ أنَّ كلَّ الموادِّ تتكوَّن مِن جُسيمات دقيقة، يُطلَق عليها الذرَّات[6]، وذلك حَوالَي سنة (2500 ق. م)، وكان الكيميائيَّ الإنجليزيُّ "جون دالتون" (1766- 1844) هو أوَّل مَن برهَن على ذلك[7]، وكان الإغريق أوَّل مَن لاحَظ وجودَ الكَهرباء، فمُنذ ما يَزيد على (2000) سنَةٍ مضتْ تمكَّن العالِم الإغْريقيُّ "طاليس" مِن إنتاج ومَضات كهربائيَّة بَسيطة عن طريق حكِّ قِطعَة مِن القُماش بالكَهرمان[8]، لكنَّ الأمر استغْرَق فتْرةً طويلةً مِن الوقت قبْل أن يتمكَّن الإنسان مِن تسخير هذه القوَّة لإنتاج تيَّار ثابِت مِن الكَهرباء[9].
ففي حوالَي سنَة (1620) كان عُلماء الإنجليز قد اكتَشفوا موادَّ أُخرى تَسلُك مَسلَك الكَهرمان، ويَصحُّ لها القُدرة على جذْب نُشارة الخشَب.
وأطلقوا عليها اسم الكَهرباء، نسبة إلى الكَهرمان، واصطُلح على تسمية الجسْم الذي يَحمِل الكَهرباء بأنه اكتسَب شِحنَة كهربيَّة، وبينما يُحاول الناس الحُصول على الكَهرباء بالدَّلكِ، اكتشَف عالِم ألمانيٌّ وسيلةً للحُصول على كهرباء أكثر مِن التي نَحصُل عليها بدلْك قَضيب الكَهرمان؛ حيث ثبَّت كُرةً كبيرةً مِن الكبريت على مِحْوَر يُدار بعَمود، وعِندما وضَع يدَه على الكُرَة المُتحرِّكة، سمع الكَثير مِن القَرقعَة.
وكذلك صنَع عالمٌ إنجليزيٌّ الشيء نفسَه، ولكنْ باستِخدام كُرة مُجوَّفة مصنوعة مِن الزجاج؛ حيث وضَع يده بخفَّة على الكُرة الزجاجيَّة، وبدأ في إدارة الكُرة بسرعة، وفجأةً لاحَظ وجود وهَجٍ أزرقَ أضاء الكُرة مِن الداخل، وربَّما كان هذا الضَّوء أول ضَوء كَهربيٍّ صِناعيٍّ.
ومضتْ سنَوات كثيرة قبْل أن تُكتَشفَ الأشياء التي تبدو مألوفةً وبَسيطةً لنا[10]، ففي (1733) اكتشَف الفَرنسيُّ "شارل دوفاي" (1698- 1739) وجود شِحنة كَهربائيَّة مُوجَبة وأُخرى سالِبة، وأنَّ الشِّحنتَين مِن طَبيعة واحِدة تَتنافَران، وشِحنتَين مُتَعارضتَين تَتجاذبان[11].
كانتْ أوَّل بطَّارية كهربائيَّة هي "قنينة ليد" - و"ليد" هو اسْم المَدينة الهُولنديَّة التي اختُرعتْ فيها - تلك كانتْ قنينةً مَليئةً بالماء، سدادتها الزجاجية يَخترِقها مِسمار يَطول السائل، وعن طريق المِسمار، تبثُّ شِحنة في الماء المعزول داخِل الزجاج، فإذا حدَث تماسٌّبين المِسمار ومُوصِّل آخَر نتجَتْ عن ذلك شَرارة[12].
الكهرباء أساس تَكوُّن المادَّة وتَماسُك الذرَّات:
فسَّر قانون الجذْب والتنافُر الكثيرَ مِن الأمور التي حيَّرت العُلماء، ومع ذلك طالَبوا بالمزيد، فلمْ يُعرَف ما يَحدُث للمادَّة عِندما تُشحَن كهربيًّا إلا منذ حوالَي أوائل القرْن العشرين، بعد أن ظلَّ هذا الأمر مَجهولاً وقتًا طويلاً.
ومِن المُدهِش أنه لكَي نتعرَّف هويَّة الكَهرباء ونتفهَّم خواصَّها، علَينا أن نَعرِف ممَّ تتركَّب المادة العاديَّة؛ مع نهايات القرن التاسعَ عشَر، عرَف العلماء أنَّ أيَّ شيء يتكوَّن مِن مجموعة مِن الجُسَيمات الدَّقيقة التي لا تُرى بالعَين المجرَّدة، تُسمَّى الذرَّات Atoms، وفي التسعينيات مِن القرْن التاسعَ عشَر بيَّن الإنجليزي "ج.ج. تومسون" (1856 - 1940) أنه يوجَد أيضًا جُسَيمات أصغَر تُسمَّى الإلكترونات، ثم بيَّن النيوزيلندي "إرنست رذر فورد" (1871- 1937) أنَّ مُعظَم الذرات عبارة عن فراغ به نُقطة دقيقة كثيفة في المركز يُطلَق عليها النواة[13]، تَبلُغ المسافة مِن النواة وحتَّى أقرب إلكترون 5000 مرة حجْم النواة، فإذا كان عرْض النواة 1 سم يكون أقرب إلكترون على بعد 50 مترًا[14]، فالموادُّ التي بين أيدينا مِن الجسْم الرَّقيق إلى الصلْب الجامد، هي في حقيقة الأمر ليستْ مُلتحِمة الأجزاء؛ وإنما تتكوَّن مِن دقائق مُتناهِيَة في الصِّغَر؛ "الإلكترونات Electrons"، سالبة التَّكهرُب، ثمَّ اكتُشفتْ في الذرَّة جُسَيمات تَحمِل شِحنة موجبةً أُطلِق عليها اسم "البروتونات Protons"، واكتُشف بعد ذلك أنَّ تلك الجُسَيمات تَنقسم بدورها إلى كواركات وأنَّ الكواركات واللبتونات هي الجُسَيمات الأساسيَّة المُكوِّنة للمادة[15]، وبعد بحوث كبيرة جدًّا أثبَت العُلماء وجود نوع ثالث مِن الجُسَيمات داخل النواة أطلق عليه اسم "النيوترونات Neutrons"، وهو مُتعادِل كهربيًّا؛ أيْ: لا تظهر عليه أي شِحنة كهربيَّة، أمَّا وزنُه، فيُساوي تقريبًا وزْن البروتون.
ويختلف عدد البروتونات والنيوترونات في النوى المُختلِفة للذرَّات المُتباينة؛ فعلى سبيل المثال: يتكوَّن الفحْم مِن ذرَّات كربُون، وتَحتوي نواة ذرَّة الكربون على 6 بروتونات و6 نيوترونات، أمَّا نواة ذرَّة الحَديد، فتحتوي على 26بروتونًا و 30نيوترونًا، أمَّا ذرَّة، الرَّاديُوم فتَحتوي على 88بروتونًا و 138نيوترونًا[16].
يتبع