مشاهدة النسخة كاملة : مكافحة التضخم وغلاء الأسعار


ابو وليد البحيرى
31-05-2015, 01:07 PM
مكافحة التضخم وغلاء الأسعار

أ. د. علي أبو البصل

التضخم: غلاء الأسعار دون مسوغ شرعي، والدافع إليه الاستغلال، والربح السريع، وغلاء الأسعار دون مسوغ من أنواع الضرر المحرم شرعًا؛ لِما له من آثار نفسية واجتماعية واقتصادية على الفرد والمجتمع، والفقه الإسلامي يدفع الضرر قبل وقوعه، ويرفعه بعد الوقوع، بأحكام شرعية محكمة موضوعية واقعية عادلة، وقد أشرنا إلى بعض هذه الأحكام في ثنايا هذه الدراسة، وسنشير إلى ما تبقى منها بإذن الله تعالى على النحو الآتي:
أولاً: ملازمة التقوى والمروءة والاستقامة، ولا يتحقق ذلك إلا بالخوف من الله تعالى؛ لأنه اللجام القامع عن الفساد، وسببه معرفة شدة عذاب الله، والتقوى: فِعل ما أمر الله به، وترك ما نهى الله عنه، وثوابها وفق ما ورَد في كتاب الله العزيز عشرة أشياء: ولاية الله تعالى، ومحبته، ونصرته، وغفران الذنوب، وتفريج الكروب، والرزق من حيث لا يحتسب، والفرق بين الحق والباطل، والبُشرى في الدنيا والآخرة، ودخول الجنة، والنجاة من النار، وأما الاستقامة: فهي الثبات على التقوى إلى الممات، وإنما تحصل - بعد القدَر الأزليِّ والتوفيق الرباني - بمجاهدة النفس بالمعاهَدة والمرابطة، ثم المراقبة والمحاسبة، ثم المعاتبة للنفس والمعاقبة، وجماعُ الخير كله في ثلاثة أشياء: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يُذكَرَ فلا ينسى، وأن يُشكَرَ فلا يكفر[1].

ثانيًا: مراقبة الأسواق، كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام تأثَّموا من التجارة فيها، فأنزل الله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [البقرة: 198][2]، وقد اهتم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالأسواق، ومن ذلك أنه ذهب إلى سوق النبيط فنظر إليه فقال: ((ليس هذا لكم بسوق))، ثم ذهب إلى سوق فنظر إليه فقال: ((ليس هذا لكم بسوق))، ثم رجع إلى هذا السوق فطاف فيه، ثم قال: ((هذا سوقكم، فلا ينتقصن، ولا يُضرَبن عليه خراجٌ)[3].

كما مرَّ صلى الله عليه وسلم على صُبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟))، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلتَه فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشَّ فليس مني))[4].

وقد سار الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - على هذا النهج في مراقبة الأسواق وإصلاحها، حتى استقر في الفقه الإسلامي قاعدة، مُفادها: (إصلاح الأسواق حلال)[5].

والسوق موضع عصمة ومنفعة للمسلمين، فلا ينبغي للوالي أن يترك أهل الأسواق وما أرادوه من أنفسهم إذا كان في ذلك فسادٌ لغيرهم.

ومن المنكَرات المعتادة في الأسواق: الكذب في المرابحة، وإخفاء العيب، فمن قال: اشتريت هذه السلعة مثلاً بعشرة، وأربح فيها كذا، وكان كاذبًا، فهو فاسقٌ، وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتريَ بكذبه، فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكًا له في الخيانة، وعصى بسكوته، وكذا إذا علم به عيبًا فيلزمه أن ينبه المشتري عليه، وإلا كان راضيًا بضياع مال أخيه المسلم، وهو حرام، وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل مَن عرَفه تغييره بنفسه، أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره.


وفي عصرنا اتسعت الأسواق، وتقاربت، وأصبح من الضروري أن تقوم الجهات المعنيَّة بواجبها في مراقبة الأسواق، ومنع التلاعب بأرزاق الناس، وسلامة الطعام والشراب، والدواء والمسكن، من حيث الجودة والأسعار، بمنع الاحتكار والغش والتدليس، وأن يلتزم التجار بالإفصاح عن الأسعار وإعلانها للناس بشكل واضح، والالتزام بها دون تضليل أو خداع.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يوشك ألا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتظهر الفتن، ويكثُر الكذب، ويتقارب الزمان، وتتقارب الأسواق، ويكثر الهرج)) قيل: وما الهرج؟ قال: ((ال***))[6].

ثالثًا: السياسة النقدية: يجب حفظ سعر صرف النقد وعدم تذبذبه، ولا يكون ذلك إلا باعتماد الدينار الإسلامي في العالم الإسلامي، أو اعتماد أوراق نقدية إسلامية في دول العالم الإسلامي، تعتمد على غطاء كافٍ من الذهب، ولدى الدول الإسلامية احتياط كثير منه.


[1] البحر الزخار (6 /78)، والقوانين الفقهية ص438، وشرح كتاب النيل وشفاء العليل (13 /112) وما بعدها، والأحكام السلطانية ص6، والغياثي ص88.

[2] صحيح البخاري (2 /740).

[3] سنن ابن ماجه (2 /751).

[4] صحيح مسلم بشرح النووي (1 /386)، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غشَّنا فليس منا))، رقم 102.

[5] الاستذكار (6 /413).

[6] صحيح ابن حبان (15 /113).