ابو وليد البحيرى
10-06-2015, 11:37 PM
آيـــة ســـورة طـــــه
أحمد بن بحار
نحن- المسلمون- مأمورون بتدبر كتاب الله- عز وجل، قال الحق تبارك وتعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. وقال عز وجلّ: {كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} يقول الإمام الشوكاني: «في الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر».
طمعا في التعرض لبركات تدبر كتاب الرب- جل وعلا- سأورد- إن شاء الله- في سلسلة من المقالات آيات من كتاب الله توقفتُ عندها طويلا، أعمل فيها النظر مستهديا بما قرره علماء البلاغة، واللهَ أسأل العون والتوفيق والسداد.
وفي هذا المقال سنقف مع آية سورة طه، وهي قوله- تعالى- حكاية عن موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} (طه: 18).
فقد ذكر كثير من علماء البلاغة والتفسير أن في الآية إطنابا، وأن الغرض منه التلذذ بإطالة الخطاب مع الرب- جل وعلا- إلا أن في نفسي شيئا من هذا التعليل، فالموقف والسياق لا يحتمل هذا التوجيه، بل يدفعه- فيما أحسب- ذلك أن موسى- عليه السلام- كان في موقف يقتضي منه الخوف والفزع، وقد كان ذلك من النبي "صلى الله عليه وسلم" عند نزول الوحي عليه، والسياق أن موسى عليه السلام ذهب ليأتي بقبس، فناداه الله سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 11-14) وهذا مما لاشك فيه موقف مهيب ذو جلال لاسيما أن موسى فُجِئ به، فهل هذا يتناسب مع توجيه الإطناب بالتلذذ بالخطاب؟! بل إن سعدالدين التفتازاني- رحمه الله- ذكر في المطول أن في ذكر المسند إليه- وهو في الآية الكريمة الضمير (هي)- «استلذاذا وبسطا للكلام، ولهذا يطال الكلام مع الأحباء»، وهذا القول من السعد يجعلني أمعن النظر، وأعمل الفكر فيما عنَّ لي عند قراءتي للآية، ونحن إذا ما نظرنا إلى السياق:
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى. وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 9-21).
أمكننا القول جازمين بأن موسى- عليه السلام- فجئ، وبم فجئ؟ بالإله يناديه ويكلمه، وهذا لا مرية موقف جليل ذو مهابة، وموسى- عليه السلام- كثيرا ما اعتراه الخوف الجِبِليّ الذي يعتري البشر، وفي آيات سورة طه ما يؤكد هذا الخوف منه {قال خذها ولا تخف} (طه: 21)، {قالا ربنا إننا نخاف} (طه: 45) {قال لا تخافا...} (طه: 46)، {فأوجس في نفسه خيفة موسى} (طه: 67)، وهذا التكرار لخوف موسى في هذه السورة حري بالدراسة، كما أن هناك مواضع أخرى في غير سورة طه تشير إلى خوف موسى- عليه السلام {فخرج منها خائفا يترقب} (القصص: 21)، وهذا الخوف الجِبِلي لا يعيب الأنبياء لأنهم بشر.. يقول العلامة السعدي رحمه الله- عن خوف موسى عندما ألقى السحرة عصيهم «كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره». وعليه، فإن توجيه الإطناب من موسى بأنه تلذذ في الخطاب وانبساط من موسى ليس بالوجيه- والله أعلم؛ ذلك لأنه لا يتواءم مع طبيعة النفس البشرية، كيف وهما- أي موسى وهارون- يقولان لرب العزة حين أمرهما بالذهاب إلى فرعون: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} (طه: 45)، فكيف يكون حال موسى عندما فجئ بنداء رب العزة له! إن القول بتوجيه الإطناب بالتلذذ بالخطاب في نفسي شيء منه، ومن ثمَّ أرى أن الأعلى- والله أعلم- أن يقال:
إن موسى توجس خيفة من الاستفهام، وهو استفهام ليس الغرض منه طلب الفهم، وإنما المؤانسة، والتقرير، والتنبيه والإيقاظ، وهو ما أشار إليه الزمخشري، وأبوالسعود. وأما المؤانسة، فلم أرَ من أشار إليها- فيما وقفت عليه- وهي دالة على رحمة الله بعباده، وعلمه بما توسوس به نفوسهم، فموسى عبد من عباد الله كلمه الله تكليما، وهذا كما تقدم موقف جليل عظيم ذو مهابة، ونحن نعلم ما كان من النبي "صلى الله عليه وسلم" حين قال له جبريل- عليه السلام: {اقرأ}. فكيف بموسى! وهو الذي كان يسير ليلا يلتمس قبسا، والمعلوم من البلاغة ضرورة أن حال المتكلم والمخاطب معا لهما الأثر الرئيس في هيئة الكلام، يقول الإمام عبدالقاهر الجرجاني- رحمه الله: «إن الألفاظ تقع مرتبة على المعاني المترتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل»، وهذا الكلام من الإمام من أجل وأنفع ما تجده في كتب البلاغة والنقد، نعم؛ لأنه يفتح لك الباب على مصراعيه لتلج قلب المتكلم وعقله، ونحن إذا نظرنا إلى تركيب الآية الكريمة نجد {هي عصاي}، وكان مقتضى الظاهر أن يحذف المسند إليه (هي) لأنه معلوم، ولكن الذكر فيه توكيد، وهذا يعضد ما ذهبتُ إليه من أن موسى كأنه استشعر أن في العصا أمرا ربما يسبب له عقوبة أو مؤاخذة ونحو ذلك، فأكد ليدفع عن نفسه كل ما لاح له من تبعات الاستفهام، وبعض العلماء يرى أن من طرق القصر تعريف الطرفين (هي) (عصاي) بالإضافة، ولم يقل: هي عصا. http://www.alwaei.com/site/files/6113/2388/7693/90_opt.jpeg
إن موسى كان في حال من استشعر الخوف من توجيه الاستفهام {وما تلك بيمينك يا موسى} ظنا منه أن ثمة ما يؤاخذ به بسبب العصا، مما جعله يقول- تبعا لمقتضى حاله: {هي عصاي} ولعلنا نلحظ الإضافة، فهذه الإضافة لها قيمة رفيعة جدا في بناء الجملة، وهي تعضد الذي تراءى لي عند قراءة هذه الآيات الكريمات؛ لأنها تتضمن نفي كل ما هو خلاف كونها عصاه هو، ثم إنه- عليه السلام- عدد استعمالاته لها، وكل ما ذكر مما ليس فيه تبعة عليه، وهذا يتسق غاية الاتساق مع حال موسى، وفي توجيه الاستفهام رحمة من الله بعبده الصالح، فهذا الكلام من شأنه أن يهدئ من روع موسى، ويعيده إلى شيء محسوس بيمينه طالما صحبه، وغير خافٍ أن تحول الخطاب من الله عن الله- جل وعلا- إلى الحديث عن العصا يجعل موسى أسكن جنانا وأهدأ نفسا، ومن ثمَّ يهيئه لتلقي الخطاب الإلهي ورؤية المعجزة الكبرى، وهذا لا يصطدم مع ما ذكرتُ، وإنما هو معه في وفاق، ولعلنا نلحظ- أيضا- أنه ذكر أنه يستخدمها في الهش على غنمه وأنه يتوكأ عليها، وهذا فيه إظهار شيء من الضعف مشوب بشيء من طلب الرحمة، ومن ثم تتجلى لنا رحمة الله- عز وجل- من الاستفهام الذي ذكر علماء البلاغة والتفسير أن الغرض منه التقرير والإيقاظ والتنبيه، وهذا حسن جدا، ودقيق جدا، ولكنهم لم يولوا- فيما أعلم- حال المخاطب الخائف عناية نستنبطها من إطناب جوابه عن الاستفهام الذي من شأنه أن يهدئ من روع موسى، ويعيده إلى شيء محسوس في يمينه، ومن ثم يؤهله لتلقي الخطاب الإلهي، ورؤية المعجزة في العصا، وهذا الأخير هو ما نبه إليه العلماء فيما وقفتُ عليه.
وهو ما لمحته من كلام الزمخشري- رحمه الله: «وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته» ثم في قوله- أيضا- في تفسيره للإجمال بعد الإطناب {ولي فيها مآرب أخرى} (طه: 18).
«وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل»، فالقول الأول ليس بالأعلى عندي.
وقد وجدت بعد ذلك حذفا عجبا، وهو في قوله تعالى {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 21) (لا تخف) بحذف المعمول، نعم.. الذهن ينصرف مباشرة إلى أن تقدير الحذف: لا تخف منها، ولكنه لا يأبى أن يكون المعمول عاما لكل خوف، ومنه الخوف الذي اعترى موسى عليه السلام لهيبة الموقف.
والله تعالى أعلم.
أحمد بن بحار
نحن- المسلمون- مأمورون بتدبر كتاب الله- عز وجل، قال الحق تبارك وتعالى: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. وقال عز وجلّ: {كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} يقول الإمام الشوكاني: «في الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر».
طمعا في التعرض لبركات تدبر كتاب الرب- جل وعلا- سأورد- إن شاء الله- في سلسلة من المقالات آيات من كتاب الله توقفتُ عندها طويلا، أعمل فيها النظر مستهديا بما قرره علماء البلاغة، واللهَ أسأل العون والتوفيق والسداد.
وفي هذا المقال سنقف مع آية سورة طه، وهي قوله- تعالى- حكاية عن موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى} (طه: 18).
فقد ذكر كثير من علماء البلاغة والتفسير أن في الآية إطنابا، وأن الغرض منه التلذذ بإطالة الخطاب مع الرب- جل وعلا- إلا أن في نفسي شيئا من هذا التعليل، فالموقف والسياق لا يحتمل هذا التوجيه، بل يدفعه- فيما أحسب- ذلك أن موسى- عليه السلام- كان في موقف يقتضي منه الخوف والفزع، وقد كان ذلك من النبي "صلى الله عليه وسلم" عند نزول الوحي عليه، والسياق أن موسى عليه السلام ذهب ليأتي بقبس، فناداه الله سبحانه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (طه: 11-14) وهذا مما لاشك فيه موقف مهيب ذو جلال لاسيما أن موسى فُجِئ به، فهل هذا يتناسب مع توجيه الإطناب بالتلذذ بالخطاب؟! بل إن سعدالدين التفتازاني- رحمه الله- ذكر في المطول أن في ذكر المسند إليه- وهو في الآية الكريمة الضمير (هي)- «استلذاذا وبسطا للكلام، ولهذا يطال الكلام مع الأحباء»، وهذا القول من السعد يجعلني أمعن النظر، وأعمل الفكر فيما عنَّ لي عند قراءتي للآية، ونحن إذا ما نظرنا إلى السياق:
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي. إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى. فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى. وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 9-21).
أمكننا القول جازمين بأن موسى- عليه السلام- فجئ، وبم فجئ؟ بالإله يناديه ويكلمه، وهذا لا مرية موقف جليل ذو مهابة، وموسى- عليه السلام- كثيرا ما اعتراه الخوف الجِبِليّ الذي يعتري البشر، وفي آيات سورة طه ما يؤكد هذا الخوف منه {قال خذها ولا تخف} (طه: 21)، {قالا ربنا إننا نخاف} (طه: 45) {قال لا تخافا...} (طه: 46)، {فأوجس في نفسه خيفة موسى} (طه: 67)، وهذا التكرار لخوف موسى في هذه السورة حري بالدراسة، كما أن هناك مواضع أخرى في غير سورة طه تشير إلى خوف موسى- عليه السلام {فخرج منها خائفا يترقب} (القصص: 21)، وهذا الخوف الجِبِلي لا يعيب الأنبياء لأنهم بشر.. يقول العلامة السعدي رحمه الله- عن خوف موسى عندما ألقى السحرة عصيهم «كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره». وعليه، فإن توجيه الإطناب من موسى بأنه تلذذ في الخطاب وانبساط من موسى ليس بالوجيه- والله أعلم؛ ذلك لأنه لا يتواءم مع طبيعة النفس البشرية، كيف وهما- أي موسى وهارون- يقولان لرب العزة حين أمرهما بالذهاب إلى فرعون: {قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} (طه: 45)، فكيف يكون حال موسى عندما فجئ بنداء رب العزة له! إن القول بتوجيه الإطناب بالتلذذ بالخطاب في نفسي شيء منه، ومن ثمَّ أرى أن الأعلى- والله أعلم- أن يقال:
إن موسى توجس خيفة من الاستفهام، وهو استفهام ليس الغرض منه طلب الفهم، وإنما المؤانسة، والتقرير، والتنبيه والإيقاظ، وهو ما أشار إليه الزمخشري، وأبوالسعود. وأما المؤانسة، فلم أرَ من أشار إليها- فيما وقفت عليه- وهي دالة على رحمة الله بعباده، وعلمه بما توسوس به نفوسهم، فموسى عبد من عباد الله كلمه الله تكليما، وهذا كما تقدم موقف جليل عظيم ذو مهابة، ونحن نعلم ما كان من النبي "صلى الله عليه وسلم" حين قال له جبريل- عليه السلام: {اقرأ}. فكيف بموسى! وهو الذي كان يسير ليلا يلتمس قبسا، والمعلوم من البلاغة ضرورة أن حال المتكلم والمخاطب معا لهما الأثر الرئيس في هيئة الكلام، يقول الإمام عبدالقاهر الجرجاني- رحمه الله: «إن الألفاظ تقع مرتبة على المعاني المترتبة في النفس المنتظمة فيها على قضية العقل»، وهذا الكلام من الإمام من أجل وأنفع ما تجده في كتب البلاغة والنقد، نعم؛ لأنه يفتح لك الباب على مصراعيه لتلج قلب المتكلم وعقله، ونحن إذا نظرنا إلى تركيب الآية الكريمة نجد {هي عصاي}، وكان مقتضى الظاهر أن يحذف المسند إليه (هي) لأنه معلوم، ولكن الذكر فيه توكيد، وهذا يعضد ما ذهبتُ إليه من أن موسى كأنه استشعر أن في العصا أمرا ربما يسبب له عقوبة أو مؤاخذة ونحو ذلك، فأكد ليدفع عن نفسه كل ما لاح له من تبعات الاستفهام، وبعض العلماء يرى أن من طرق القصر تعريف الطرفين (هي) (عصاي) بالإضافة، ولم يقل: هي عصا. http://www.alwaei.com/site/files/6113/2388/7693/90_opt.jpeg
إن موسى كان في حال من استشعر الخوف من توجيه الاستفهام {وما تلك بيمينك يا موسى} ظنا منه أن ثمة ما يؤاخذ به بسبب العصا، مما جعله يقول- تبعا لمقتضى حاله: {هي عصاي} ولعلنا نلحظ الإضافة، فهذه الإضافة لها قيمة رفيعة جدا في بناء الجملة، وهي تعضد الذي تراءى لي عند قراءة هذه الآيات الكريمات؛ لأنها تتضمن نفي كل ما هو خلاف كونها عصاه هو، ثم إنه- عليه السلام- عدد استعمالاته لها، وكل ما ذكر مما ليس فيه تبعة عليه، وهذا يتسق غاية الاتساق مع حال موسى، وفي توجيه الاستفهام رحمة من الله بعبده الصالح، فهذا الكلام من شأنه أن يهدئ من روع موسى، ويعيده إلى شيء محسوس بيمينه طالما صحبه، وغير خافٍ أن تحول الخطاب من الله عن الله- جل وعلا- إلى الحديث عن العصا يجعل موسى أسكن جنانا وأهدأ نفسا، ومن ثمَّ يهيئه لتلقي الخطاب الإلهي ورؤية المعجزة الكبرى، وهذا لا يصطدم مع ما ذكرتُ، وإنما هو معه في وفاق، ولعلنا نلحظ- أيضا- أنه ذكر أنه يستخدمها في الهش على غنمه وأنه يتوكأ عليها، وهذا فيه إظهار شيء من الضعف مشوب بشيء من طلب الرحمة، ومن ثم تتجلى لنا رحمة الله- عز وجل- من الاستفهام الذي ذكر علماء البلاغة والتفسير أن الغرض منه التقرير والإيقاظ والتنبيه، وهذا حسن جدا، ودقيق جدا، ولكنهم لم يولوا- فيما أعلم- حال المخاطب الخائف عناية نستنبطها من إطناب جوابه عن الاستفهام الذي من شأنه أن يهدئ من روع موسى، ويعيده إلى شيء محسوس في يمينه، ومن ثم يؤهله لتلقي الخطاب الإلهي، ورؤية المعجزة في العصا، وهذا الأخير هو ما نبه إليه العلماء فيما وقفتُ عليه.
وهو ما لمحته من كلام الزمخشري- رحمه الله: «وقالوا: إنما سأله ليبسط منه ويقلل هيبته» ثم في قوله- أيضا- في تفسيره للإجمال بعد الإطناب {ولي فيها مآرب أخرى} (طه: 18).
«وقالوا: إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه وقالوا: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل»، فالقول الأول ليس بالأعلى عندي.
وقد وجدت بعد ذلك حذفا عجبا، وهو في قوله تعالى {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} (طه: 21) (لا تخف) بحذف المعمول، نعم.. الذهن ينصرف مباشرة إلى أن تقدير الحذف: لا تخف منها، ولكنه لا يأبى أن يكون المعمول عاما لكل خوف، ومنه الخوف الذي اعترى موسى عليه السلام لهيبة الموقف.
والله تعالى أعلم.