مشاهدة النسخة كاملة : قاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره


abomokhtar
25-06-2015, 11:32 AM
شرح القاعدة:
هذه قاعدة (http://www.alukah.net/publications_competitions/0/10138) جليلة مشهورة بين العلماء على اختلاف مذاهبهم[1]، قال الجرجاني رحمه الله: "التصور: حصول صورة الشيء في العقل"[2]، وليس المقصود بالتصور الذي تعنيه القاعدة هو مجرد التصوُّر الذهني عن الشيء؛ قال أبو البقاء الكفوي رحمه الله: "والتصور قد يكون علمًا، وقد لا يكون كالتصور الكاذب"[3]، فيكون التصور المقصود في هذه القاعدة هو: التصور العلمي الدقيق عن هذا الشيء؛ لأن ذلك التصور هو الذي يضبط الذهنَ والفكر عن الخطأ، ويؤدي إلى تحديد مُحْكمٍ، وضبط علميٍّ منهجي لحقيقة الشيء وماهيَّتِه.


قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "ومن القواعد المعروفة المقررة عند أهل العلم: الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فلا تحكمْ على شيء إلا بعد أن تتصوره تصوُّرًا تامًّا؛ حتى يكون الحكم مطابقًا للواقع، وإلا حصل خللٌ كبيرٌجدًّا"[4].


وقال أيضًا: "الحكم بالشيء فرْعٌ عن تصوُّره، وإذا لم نتصورْ هذا الشيء كيف وقع فإننا لا نحكم به"[5]، وقال أيضًا: "التعريف يستلزم تصوُّر الشيء، وبعد التصوُّر يكون الحكم، ولهذا من الكلمات السائرة عند العلماء: "الحكم على الشيء فرْعٌ عن تصوُّره"[6]، وقال أيضًا: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ أي: يُذكَرُ الشيءُ وتعريفه، ثم بعد ذلك يُذكَرُ حكمُه، حتى يكون الحكم منطبقًا على معرفة الصورة"[7].

أدلة القاعدة من الكتاب والسنة:
ومما يُستأنَسُ به من الكتاب والسنة - في الجملة - للدلالة على هذه القاعدة:
أولاً: الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ [الكهف: 68]: قال السعدي وهو يُعِدُّ الفوائد في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام: "ومنها: الأمر بالتأنِّي والتثبُّت، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء، حتى يعرفَ ما يُراد منه، وما هو المقصود"[8].

قال ابن القيم في النونية:
إن البِدار برد شيء لم تُحِطْ ♦♦♦ علمًا به سببٌ إلى الحرمانِ

2- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، ويدخل في هذا كل مَن حكم على شيء قبل معرفة ماهيَّتِه؛ يعني: أن الأمر الذي لا تعلمُه ولا تتصوَّرُه، ولا تكون على بينه منه فإيَّاك أن تتكلم فيه.


قال الشنقيطي رحمه الله: "نهى جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم، ويشمل ذلك قوله: رأيتُ ولم يَرَ، وسمعتُ ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم، ويدخل فيه كلُّ قول بلا علم، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم"[9]، وقال السعدي رحمه الله: "وقوله: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]: أي: ولا تتبَّعْ ما ليس لك به علم، بل تثبَّتْ في كل ما تقوله وتفعله، فإن التثبُّت في الأمور كلِّها دليل على حسن الرأي وقوة العقل، وبه تتضح الأمور، ويُعرَفُ بعد ذلك هل الإقدامُ خير أم الإحجام؟"[10].

3- قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾ [النحل: 116]: قال صاحب الكَشَّاف: "ولا تقولوا هذا حلاٌل وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب؛ أي: لا تحرموا ولا تُحلِّلوا لأجل قولٍ تنطق به ألسنتكم، ويجول في أفواهكم، لا لأجل حجة وبينة، ولكن قولٌ ساذج، ودعوى فارغة"[11].

ثانيًا: السنة:
1- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: فإني سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ((لا يقضينَّ حَكَمٌ بين اثنين وهو غضبان))، وفي رواية: ((لا يحكمْ أحد بين اثنين وهو غضبان))[12]: قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "والتعليل أن الغضبان لا يتصوَّر القضية تصورًا تامًّا، ولا يتصورُ تطبيقها على النصوص الشرعية تطبيقًا تامًّا، والحكم لا بد فيه من تصور القضية، ثم تصور انطباق الأدلة عليها؛ لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، والحكم على الشيء لا بد فيه من معرفة المُوجب للحكم، والغضبان لا يتصور ذلك، لا القضية ولا انطباق الأحكام عليها؛ ولذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان"[13].

2- عن أبي هريرة (http://www.alukah.net/sharia/0/41718) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((... ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيقلْ خيرًا، أو ليصمت))[14]؛ وفي رواية لمسلم: ((أو ليسكت)).


وعليه فإن المرء إذا أراد أن يتكلَّم عن حكم شيء فليُفكِّر قبلَ كلامِه، فإن عَلِم أنه يدرك هذا الشيء ويتصورُه على ما هو عليه فليَتكلَّمْ، وإن كان لا يعلمُ حقيقةَ هذا الشيء فليُمسِكْ عن الكلام؛ لأن السلامة في السكوت؛ ولذلك قيل: وكيف يُبيِّنُ الحكم من لم يتبيَّنِ السؤال تمامَ التبين؟ ولذلك كان من آداب طالب العلم كما ذكر الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: "التأمل: فإن مَن تأمل أدرك، وقيل: (تأمَلْ تُدرْك)، وعليه فتأمل عند التكلم: بماذا تتكلم؟ وما هي عائدتُه؟ وتأمل عند سؤال السائل كيف تتفهم السؤال على وجهه؛ حتى لا يحتمل وجهين؟ وهكذا"[15]؛ وذلك لأن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره.


أهمية هذه القاعدة:
تظهر أهمية هذه القاعدة في أن صحة الحكم على أي شيء؛ من واقعة، أو مسألة، أو نازلة، أو قضية، أو الإجابة عن أي سؤال - لا تكون إلا بعد أن يتصوَّرَ الإنسان الشيء المسؤول عنه تصورًا صحيحًا كاملاً، ويَفهَمَ حقيقتَه ومعناه فهمًا دقيقًا؛ ليتمكَّنَ من الحكم عليه؛ لأن الحكم على الشيء بالنفي أو الإثبات فرع عن تصوره، فصحة الحكم تتوقف على صحة التصور، وكم يُؤتى الإنسان من جهة جهله بحقيقة الأمر الذي يتحدث فيه!


ولذا كان الخلل الحاصل في الوصول إلى الحكم الصحيح فيما يعرض على أهل العلم والإفتاء وطلبة العلم والدعاة من مسائل أو قضايا، سببُه عدمُ تصوُّرِ الشيء على ما هو عليه، فكم من فتاوى صدرت وكان منشأ الخلل فيها هو عدم تحديد التصور، أو الخطأ فيه؛ ومن أمثلة ذلك كثير من الفتاوى المتعلقة بأحداث واقعة في بعض البلدان، والمفتي ليس على دراية أو تصور بواقع هذه الأحداث والنوازل، فيفتي بما يخفى عليه، وربما أخذ بتصور غيره وهو تصور قاصر؛ فحمله ذلك عن بلوغ إدراك الأمر على حقيقته؛ فعجَّل بالحكم قبل أن يتثبَّت، وقد قيل: "وما آفة الأخبار إلا رواتُها"؛ فيأتي بأضرار كثيرة، وهذا مشاهد.


وقِسْ على ذلك ما يستجدُّ من مصطلحات، أو أفكار أو معتقدات؛ كالديمقراطية، والليبرالية، والعلمانية، والدولة المدنية، والعولمة، والحداثة، والتنوير، وتداول السلطة، وغير ذلك من المصطلحات الوافدة علينا بسبب الغزو الفكري، حيث عجَّل بعضهم في قبولها والدعاية لها وترويجها على ظاهرها؛ باعتبارها فرجًا ومخرجًا لحال المسلمين اليوم من الأزمات، دون أن تُحرَّر هذه المصطلحات، والمعتقدات، والأفكار، أو تصورها على حقيقتها ومعرفة مآلاتها، فلا بد أن نتصور مفهوم هذه المصطلحات عند أهلها أولاً، ثم ننظر في الكتاب والسنة؛ لنلتمِسَ حكم الله فيها من التحريم أو الكراهة أو الإباحة، أما أن تَصدُرَ الأحكام، فتعطى مثل هذه الأفكار والمعتقدات الصِّبغة الشرعية، أو يُهوَّن من خطرها، رغم وجود التعريفات الصريحة الصادرة من أهلها، التي فيها تعارض وتصادم ظاهر للكتاب والسنة - فهذا فيه فساد عريض.


ومن هنا كان التصور الصحيح والإلمام الشامل لكل جوانب المسألة المطروحة للبحث هو الأصل؛ لأن العلم بحقائق الأشياء والوعي بمعانيها يُعدُّ مدخلاً أساسيًّا لتصورها، وعلى هذا فقِسْ؛ ولذا قال السعدي رحمه الله: "ينبغي للحاكم ألا يحكم حتى يحيطَ علمًا بالحكم الشرعي الكلي، وبالقضية الجزئية من جميع أطرافها، ويُحسِنُ كيف يُطبِّقُها على الحكم الشرعي"[16].


وفي مَعْرِض ذكر شروط الفتوى قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يُشترط لجواز الفتوى شروط، منها: أن يتصور السؤالَ تصورًا تامًّا؛ ليتمكن من الحكم عليه، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره..."[17].


ولابن القيم رحمه الله كلام نفيس في بيان ما يُعين المفتي على التمكُّن من الفهم، فقال: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع (http://www.alukah.net/sharia/0/62784/)، والفقه فيه، واستنباط علمِ حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يُحيطَ به علمًا.


والنوع الثاني: فهمُ الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومَن تأمَّل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله"[18].


ولما سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمن عزم على فعل محرم عزمًا جازمًا فعجز عنه، هل يأثم بمجرد العزم؟


فأجاب بقوله: "الحمد لله، هذه المسألة ونحوها تحتاج قبل الكلام في حكمها إلى حسن التصور لها..."[19].


وابن تيمية رحمه الله يُبيِّنُ الأصل في الفتوى المبني على معرفة الواقعة، وحسن التصور لها، ثم معرفة الأدلة الشرعية وحكم الله فيها[20].


وقال العلامة الألباني رحمه الله: "كثير من العلماء قد نصُّوا على أنه ينبغي على من يتولَّون توجيه الأمة، ووضع الأجوبة لحل مشاكلهم - أن يكونوا عالمين وعارفين بواقعهم؛ لذلك كان من مشهور كلماتهم: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفة (الواقع) المحيط بالمسألة المراد بحثها؛ وهذا من قواعد الفتيا بخاصة، وأصول العلم بعامة"[21].


وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "لذلك يجبُ على الإنسان أن يتصور الشيء تصورًا تامًّا قبل أن يَحكُمَ عليه"[22].


وأوصى يحيى بن خالد - وهو البرمكي وزير هارون الرشيد - ابنَه جعفرًا فقال: "لا تُردَّ على أحد جوابًا حتى تفهم كلامه، فإن ذلك يصرفُك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهلَ عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمتَه فأجِبْه، ولا تعجَلْ بالجواب قبل الاستفهام، ولا تستحِ أن تستفهمَ إذا لم تفهم؛ فإن الجواب قبل الفَهم حمقٌ"[23].


ومن ذلك أيضًا: أنك لو أردتَ أن تَردَّ على صاحب باطل وأنت لا تعرف باطله، لا يمكن أن تَرُدَّ عليه ردًّا صحيحًا قويًّا يدحض باطله، فلا بد أن تعرف باطله لتردَّ عليه، وهذه طريقة العلماء؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما أراد تفنيد أقوال الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين - درس أقوالهم وطرقَهم ومصطلحاتهم، وعرفها؛ فتمكَّن من ردِّ باطلهم.


ومن ذلك أيضًا: التأمُّل قبل الكلام؛ حتى يكون صوابًا، قال النووي رحمه الله: "وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبَّره في نفسه قبل نطقِه، فإن ظهرت مصلحته تكلَّم، وإلا أمسك"[24].


وسئل الإمام الشافعي رحمه الله عن مسألة فسكت؛ فقيل: ألا تجيب؟ فقال: "حتى أدري الفضل في سكوتي، أو في الجواب"[25].


ولله درُّ القائل:
فكم ندمتُ على ما كنت قلت به ♦♦♦ وما ندمت على ما لم أكن أقلِ


وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "فتأمل بما تتكلم به، وما هي فائدة الكلام؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))[26]"[27].


ومِن هنا تأتي أهمية إبراز هذه القاعدة النافعة في عموم حياة المسلم

[1] مجموع الفتاوى لابن تيمية (6/ 295)، غمز عيون البصائر (2/ 314)، البحر الرائق (1/ 232)، الفواكه الدواني (1/ 112)، تحفة المحتاج (1/ 287)، مغني المحتاج (3/ 498)، حاشية الجمل (1/ 170)، حاشية البجيرمي (1/ 97)، حواشي الشرواني (1/ 287)، (6/ 206)، شرح الكوكب المنير (1/ 50).

[2] التعريفات (ص: 59).

[3] الكليات (ص: 290).

[4] شرح الأصول من علم الأصول (ص: 604).

[5] الشرح الممتع (15 / 330).

[6] الشرح الممتع (8/ 106).

[7] الشرح الممتع (6/ 501).

[8] تيسير الكريم الرحمن (ص: 484)، تيسير اللطيف المنان (ص: 257).

[9] أضواء البيان (3/ 145).

[10] تيسير اللطيف المنان (ص: 50).

[11] تفسير الكشاف (2/ 598)، وانظر: أضواء البيان (2/ 462).

[12] أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717).

[13] الشرح الممتع (15/ 299-300).

[14] أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47).

[15] حلية طالب العلم (ص: 16).

[16] بهجة قلوب الأبرار (ص: 178).

[17] الأصول من علم الأصول (ص: 83).

[18] "إعلام الموقعين" (1/ 165-166) بتصرف.

[19] مجموع الفتاوى (10/ 270-271).

[20] انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 233).

[21] سؤال وجواب حول فقه الواقع (ص: 14).

[22] شرح الأصول من علم الأصول (ص: 604).

[23] جامع بيان العلم وفضله (1/ 584) رقم (1001).

[24] صحيح مسلم شرح النووي (18/ 117).

[25] نقله ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص: 74)، والنووي في "المجموع" (1/ 40)، وابن حمدان في "صفة الفتوى والمفتي" (ص:10)، وابن القيم في "إعلام الموقعين" (6/ 134).

[26] مر تخريجه.

[27] شرح حلية طالب العلم (ص: 191).



ساعد عمر غازي (http://www.alukah.net/authors/view/home/7697/)