مشاهدة النسخة كاملة : غلاء الأسعار


abomokhtar
27-11-2016, 05:44 PM
أ.د. عبد الله بن محمد الطيار

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن شريعة الله تعالى كاملة، حاوية لكل شؤون الحياة، فلا تجد أمراً من أمور الدنيا التي يحتاجها الناس إلا وجدت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم العلاج الأمثل الناجح الذي يعالج تلك الأمور، قال تعالى:[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً](المائدة:3).
لذا وجب على المسلمين رد أمرهم إلى شريعة الله العظيمة التي تبين لهم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، وتدلهم على ما ينفعهم ولا يضرهم، ومن أجلِّ نعم الله تعالى علينا أن جعل ميزانه بينه وبين عباده هو العدل، وما قامت السماوات والأرض إلا به، قال تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ](النحل:90) وإذا كان الله تعالى من فوق سبع سماوات يأمر به وجب على الناس أن يطبقوه بينهم، وأن يعملوا على تمكينه في جميع شؤون حياتهم.
ومن حكمة الله تعالى أن أوجد لعباده طرقاً يسلكونها من أجل تيسير معاملاتهم، وإقامة وجوه الحق بينهم، وعندما خالف البشر أوامره، وعملوا بما يناقض شريعته أوقعوا أنفسهم في حرج عظيم، وظهرت بينهم بوادر الظلم والطغيان، وانتشرت بينهم العداوة والبغضاء.
وغلاء الأسعار موضوع مهم جداً، وخاصة في هذه الأزمنة المتأخرة، والتي ظهر فيها هذا الوباء العظيم، والذي أثر على حياة كثير من البشر، وأودى بهم إلى الوقوع في معاصي الله من أجل تحصيل أرزاقهم للحصول على لقمة العيش، ومعلوم أن غلاء الأسعار له أسباب كثيرة ومتعددة، ومن ذلك ـ حسب رأيي ـ:

أولاً: كثرة الذنوب والمعاصي وبعد الناس عن دينهم:
وهي من أشد الأسباب التي أظهرت هذا الوباء العظيم، ومعلوم أن الذنوب تسبب هلاك الحرث والنسل، وتسبب انتشار الفساد في البر والبحر، قال تعالى:[ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ](الروم:41)، وقوله:[وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ](الشورى:30)، والله تعالى يبتلي عباده ببعض ما كسبت أيديهم لكي ينتبهوا ويراجعوا أنفسهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المهاجرين خصال خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوهم من غيرهم فأخذوا بعض ما كان في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل ويتحروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم" (رواه البيهقي والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7978)، فهل نظر الناس لهذا الحديث العظيم الذي أوضح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أثر هذه الذنوب العظيمة التي تعود على أمة الإسلام بغير ما ترجوه.

ثانياً: حب المال، والإكثار منه:
فحب المال والحرص على كسبه بأي طريق -حتى ولو كان عن طريق الحرام -أمر مشاهد للجميع، وخاصة مع انتشار المعاملات الربوية، واختلاط الحلال بالحرام، قال تعالى:[وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً](الفجر:20)، وعندما يطغى على الناس ذلك يصبح الأمر خطيراً جدا، فيتسبب في أمور كثيرة مخالفة لشريعة الله تعالى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم" (متفق عليه).

ثالثاً: تلاعب التجار والمحتكرين بالسلع التي يحتاج إليها الناس:
فيقومون بتخزينها، وإخفائها من أجل رفع ثمنها لتحصيل أكبر كسب منها، وهذا العمل فيه إضرار بالناس، وخاصة الفقراء وأصحاب الحاجات، وهو أيضاً منهي عنه شرعاً، لأنه من الظلم الواضح البين الذي أمر الله بالبعد عنه، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي:
(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..)(رواه مسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (متفق عليه) فمن كان مؤمناً صادقاً كان لزاماً عليه ألا يضيق على إخوانه، ويمنع عنهم فضل الله تعالى باحتكاره للسلع التي يحتاجونها.

رابعاً: تقليل الكميات المرسلة من بعض الدول المصدرة لبعض السلع الضرورية:
ـ والتي يحتاج إليها الناس حاجة ضرورية ـ من أجل رفع ثمنها على المستورد، فيضطر إلى رفع ثمنها أيضاً على التجار من أجل تحصيل أكبر ربح منها، وهكذا يفعل التجار، فتنتقل السلع من جهة إلى جهة، حتى إذا وصلت إلى المستهلك أعيته من حيث قلتها وسعرها العالي.
ومما سبق من هذه الأسباب وغيرها يتبين أثر الغلاء على العباد والبلاد، وأنه يجب الوقوف أمام من يتلاعبون بمقدرات المسلمين، وأرزاقهم، والعمل على عدم احتكار الناس للسلع الضرورية، والتي لا غنى لهم عنها.

الإسلام والغلاء:
الإسلام في نظامه المالي يقر الملكية الفردية مادامت وسائل التملك مشروعة، ويقر حرية التصرف في الأموال ما دام ذلك التصرف متمشياً مع روح الشريعة، وما دامت مصلحة الفرد لا تطغى على مصلحة الجماعة، فإن حصل ظلم أو طغيان من قبل الفرد أو الجماعة أو بدأت مؤشراته تلوح في الأفق فإن في النظام الإسلامي من التدابير ما يكفل إيقاف الناس عند حدودهم، ومنع من تسول له نفسه التعدي على تلك الحدود.
والإسلام أوجد القواعد الضرورية لحفظ التوازن بين الفرد والمجتمع، والحاكم والمحكوم عن طريق النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تنهى عن الظلم والفساد والغش والاحتكار، وتنهى عن الإفراط والتفريط.
وعلى ضوء هذه القواعد كانت النصوص الواردة عن الحبيب في أمر التسعير واضحة جلية تبين أهميتها لوضع الحدود الضرورية من أجل عدم إغلاء السلع على الناس، وعدم احتكارها من جهة التجار الجشعين.
فالغلاء يحتاج إلى معالجة قوية من جهة ولي الأمر لكي، يحفظ على الناس ضرورياتهم الأساسية التي لا غنى لهم عنها، ولا يكون ذلك إلا بالنظر السديد في وضع مشكلة الغلاء وأسبابها، وكيفية معالجتها بالطرق الشرعية التي ليس فيها ظلم ولا إجحاف.
والقول بالتسعير فيه سد للذرائع، ومن الثابت أن سد الذرائع من الأدلة المعتبرة في الفقه الإسلامي وأصل من أصوله المعتمدة. ومعلوم أن سد الذرائع هو المنع من بعض المباحات لإفضائها إلى مفسدة، ومن المسلم به أن ما يؤدي إلى الحرام يكون حراماً، فترك الحرية للناس في البيع والشراء بأي ثمن دون تسعير هو أمر مباح في الأصل، ولكنه قد يؤدي إلى الاستغلال والجشع والتحكم في ضروريات الناس وأقواتهم، فيقضي هذا الأصل الشرعي بسد هذا الباب بتقييد التعامل بأسعار محددة.
وربما يقول بعض الناس إن التسعير فيه تقييد لحرية التجار في البيع وهذا ضرر بهم، والضرر منهي عنه شرعاً، فنقول: إن الضرر الحاصل من منع التسعير أعظم بكثير من الضرر الناتج من إجبار التجار على البيع بسعر، ولاشك أن الضرر الأكبر يدفع بالضرر الأصغر.
وعلى ذلك فالقول بالتسعير عند تجاوز التجار ثمن المثل في البيع يحقق مصلحة الأمة بإرخاء الأسعار، وبهذا يكون التسعير مشروعاً لما فيه من تحقيق مصلحة الجماعة التي تعتبر دليلاً صالحاً لبناء الأحكام عليها عند عامة العلماء.

والحالات التي يمكن فيها التسعير من جهة ولي الأمر هي:
الأولى: حاجة الناس إلى السلعة:
فعند وجود سلعة معينة يحتاجها الناس حاجة ضرورية لا غنى لهم عنها، فهنا ينبغي لولي الأمر أن يقوم بتسعيرها خشية استغلال التجار هذه الحاجة فيرفعون سعرها، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تجاه هذه المسألة: (لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس بحاجة ماسة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل، ولو امتنع عن بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره).
والتسعير في مثل هذه الحالة علاج لحاجة العامة، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(ما احتاج إلى بيعه وشرائه عموم الناس فإنه يجب ألا يباع إلا بثمن المثل، إذا كانت الحاجة إلى بيعه وشرائه عامة، وإن ما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق فيه لله).
ويقصد رحمه الله بحقوق الله ما نعنيه اليوم بالحقوق العامة، ولا شك أن ضمان الحقوق العامة تهون في سبيله المنافع الشخصية والأطماع الفردية.
وبتوضيح أكثر فإن كفالة حق المجتمع في الحصول على حاجياته الأساسية التي يشترك في الاحتياج إليها جميع أفراده أو أكثرهم كالخبز والغذاء بصفة عامة، تستوجب تسعير هذه الأشياء طالما ظلت حاجة الناس إليها عامة، وذلك مخافة استغلال الباعة هذه الحاجة.

الثانية: حالة الاحتكار:
وهو حبس الشيء عن البيع والتداول بغرض إغلاء سعره، وهو محرم بدليل السنة المطهرة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(لا يحتكرُ إلا خاطئ)(رواه مسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(من احتكر حكرة يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطئ، وقد برئت منه ذمة الله)(رواه أحمد والحاكم، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم5349)، وقال أيضاً:(من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه)(رواه رزين، وخرجه الألباني في مشكاة المصابيح ج2 رقم 2896).
وقواعد الشريعة قد جاءت بالعدل والتيسير على الناس، ونفي الحرج والمشقة، ورفع الضرر عنهم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الحالة ـ أي حالة الاحتكار ـ:(ومثل ذلك ـ أي من حيث كونه يمنع ـ الاحتكار لما يحتاج إليه الناس، لما روى مسلم في صحيحه:(لا يحتكر إلا خاطئ)، فإن المحتكر هو الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم، ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظلم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أنه يكره الناس على بيع ما عندهم بقيم المثل). فالإكراه على البيع بقيمة المثل هو التسعير، وفي حالة الاحتكار مع حاجة الناس إلى المادة المحتكرة تشتد الحاجة إلى التسعير.

الثالثة: حالة الحصر:
وهذه الحالة تلجأ إليها بعض الدول والمجتمعات لحصر البيع في أناس مخصوصين لبعض المواد، بصرف النظر عن حصول النفع أو الضرر على المستهلكين، أو حصوله استبداداً وتحكماً واستغلالاً.
وفي مثل هذه الحالة يتمكن بعض البائعين من قصر البيع عليهم والتحكم في رقاب المشترين، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثل هذه الحالة بقوله:(... وأبلغ من هذا أن يكون الناس قد التزموا ألا يبيع الطعام أو غيره إلا أناس معروفون لا تباع تلك السلع إلا لهم ثم يبيعونها هم، فلو باع غيرهم ذلك منع ـ فهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل ، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل ... فالتسعير في مثل هذا واجب بلا نزاع).
وهذا الذي قاله شيخ الإسلام صحيح، فيجب التسعير في هذه الحالة لتفادي الظلم ودفعه عن الناس.

الحالة الرابعة: حالة التواطؤ:
وهذه الحالة تتمثل في تواطؤ البائعين وتآمرهم على التحكم في سعر بعض السلع ليبيعوها على الناس بسعر معين يحقق لهم الربح الفاحش، أو العكس فيتواطأ المشترون في شراء سلعة معينة بسعر موحد كي يهضموا حق البائعين.
وفي تلك الحالة يقول شيخ الإسلام رحمه الله:(وقد منع غير واحد من الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه القسام الذين يقتسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا، فإنهم إذا اشتركوا والناس محتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجر، فمنع البائعين الذين تواطؤوا على ألا يبيعوا إلا بثمن قدروه أولى، وكذلك منع المشترين إذا تواطؤوا على أن يشتركوا فيما يشتريه أحدهم حتى يهضموا سلع الناس أولى).
لذلك يجب في تلك الحالة فرض التسعير دفعاً للضرر.
والقاعدة العامة: في الحالات التي يجب فيها التسعير أنه كلما استولى على التجار الجشع، وتمكن من نفوسهم الطمع، وسيطرت عليهم الأنانية، وعمدوا إلى الاحتكار والاستغلال تعين على ولي الأمر التدخل بتحديد الأسعار.

كيف يقوم ولي الأمر بوضع التسعير المناسب الذي ليس فيه ضرر على البائعين أو المشترين؟
يقوم أولاً: بالاستعانة بأهل الخبرة في تحديد الثمن المناسب، كالتجار، أو أهل الاقتصاد، قال شيخ الإسلام رحمه الله في ذلك:(وأما صفة ذلك عند من جوزه فقال ابن حبيب: ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء ـ المراد تسعيره ـ ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سداد حتى يرضوا، ولا يجبرون على التسعير، ولكن عن رضا، وليس المقصود من الرضا من جانب البائعين أن يكون السعر موافقاً لهواهم محققاً لمصلحتهم الشخصية، ولكن المقصود هو أن يكون السعر عادلاً وغير مجحف بالبائعين، أي يتحقق لهم فيه ربح معقول).
واشتراط أن يكون السعر عادلاً في التسعير الإسلامي أمر لابد منه، لأن التسعير ما جعل إلا رفعاً للظلم، فلا يسوغ أن يكون هو في ذاته ظلماً.
ثانياً: مراقبة التسعير: وهذا الأمر في غاية الأهمية؛ حيث إن التجار في غالب الأحيان يحدث منهم التلاعب في الأسعار جلباً للكسب الزائد، فإذا قام ولي الأمر بوضع مراقبة عليهم عن طريق تعيين أشخاص معينين من قبل الدولة يقومون بمراقبة الأسعار والإشراف على الأسواق، فهذا يمكن له التحكم في التسعير، ويرفع الضرر بذلك عن كل من المشترين والبائعين.
وهذا بفضل الله موجود عندنا، وقد ولاه أولياء أمورنا بالغ الاهتمام، وهذا ما جعل السوق عندنا محكوماً بالمراقبة والمتابعة، وعدم الوقوع في غلاء الأسعار على الناس، ولكن للأسف الشديد عندما وجد الناس تساهلاً من بعض جهات المتابعة قاموا بالتلاعب بالأسعار، ورفع أسعار بعض السلع الضرورية للناس، وهذا يكون علاجه عن طريق تشديد المتابعة، وفرض عقوبات على من تسول له نفسه برفع الأسعار عما هو محدد من قبل ولاة الأمور.
والعقوبة التي يضعها ولاة الأمور راجعة للمصلحة العامة، فلولي الأمر تنويع العقوبات بحيث يكون هناك رادعٌ لهؤلاء المتلاعبين، بحيث تمنعهم هذه العقوبات من التلاعب بأقوات الناس وأسعارها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله:(إن عقوبات التعزير تختلف مقاديرها وصفاتها بحسب كبر الذنوب وصغرها، وبحسب حال المذنب في قلته وكثرته).

وعلى ما سبق ذكره يتعين القول بالتسعير إذا توافر شرطان:
أحدهما: ألا يكون سبب الغلاء هو كثرة الطلب وقلة المعروض من السلع.
والثاني: أن تكون حاجة الناس للسلعة عامة.
فكلما كانت مصالح الناس ومنفعتهم العامة في التسعير تعين اتخاذه، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، ويكون تطبيقه بحسب وضع السوق، وحرص التجار على عدم التلاعب في الأسعار.
فإذا اندفعت حاجة الناس وقامت مصلحتهم بدون التسعير فلا داعي له، أما إذا كانت حاجة الناس لا تندفع إلا بالتسعير ولا تتحقق مصلحتهم إلا به كان لزاماً على ولي الأمر أن يسعر عليهم تسعيراً عادلاً لا ضرر فيه على البائعين أو المشترين.
هذا ما تيسر الكلام عنه في هذا الموضوع، والله أسأل أن يرد المسلمين إلى صوابهم ورشدهم، وأن يوفق ولاة أمورنا لما فيه المصلحة والخير للبلاد والعباد، وأن يحفظ علينا نعمه الظاهرة والباطنة، وألا يؤاخذنا بذنوبنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

abomokhtar
27-11-2016, 05:47 PM
مشكلة غلاء الأسعار وكيف عالجها الإسلام
د. بدر عبد الحميد هميسه

بسم الله الرحمن الرحيم

مشكلة غلاء الأسعار من المشكلات التي تواجه الشعوب والأفراد , وقد يكون لها أسبابها الطبيعية والمنطقية , فزيادة سعر المواد الخام وزيادة أسعار تكلفة الأشياء وتصنيعها ونقلها قد يكون سبباً منطقيا لارتفاع الأسعار , لكن إذا كان هذا الارتفاع غير منطقي وغير طبيعي فإن له أسبابه غير المنطقية وغير الطبيعية , فقد يكون حب الترف والحرص عليه من أهم أسباب هذا الغلاء , ومن هنا فقد حذرنا الإسلام تحذيراً شديداً من الترف والحرص عليه لأن الترف سبب لفساد الأمم ومن ثم هزيمتها وسقوطها، بل وأشد من ذلك من الركون إلى الدنيا ورغبتها عن الآخرة. ولقد ورد الترف في القرآن في مورد الذم والاقتران بالكفر والعصيان , قال تعالى : \" فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) سورة هود .
وقال : وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) سورة المؤمنون .
وقال : \" وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) سورة سبأ.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ بِهِ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ. رواه أحمد والبيهقي ورواة أحمد ثقات ( صحيح الترغيب والترهيب 2/246).

ولقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم خطورة التنعم والترفه خصوصا بعد أن اتسعت موارد الدولة وكثر المال بسبب الفتوحات, فكانوا يتعاهدون بعضهم بالنصح، وَفِي صحيح مسلم (ص 311- 606 ) عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ : كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّك وَلَا مِنْ كَدِّ أَبِيك وَلَا كَدِّ أُمِّك فَأَشْبِعْ الْمُسْلِمِينَ فِي رِحَالِهِمْ مِمَّا تَشْبَعُ مِنْهُ فِي رَحْلِك ، وَإِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ أَهْلِ الشِّرْكِ ، وَلُبُوسَ الْحَرِيرِ وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي عَوَانَةَ الْإسْفَرايِينِيّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كَمَا فِي الْفُرُوعِ : أَمَّا بَعْدُ فَاتَّزِرُوا وَارْتَدُوا ، وَأَلْقُوا الْخِفَافَ وَالسَّرَاوِيلَاتِ ، وَعَلَيْكُمْ بِلِبَاسِ أَبِيكُمْ إسْمَاعِيلَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ وَعَلَيْكُمْ بِالشَّمْسِ فَإِنَّهَا حَمَّامُ الْعَرَبِ ، وَتَمَعْدَدُوا ، وَاخْشَوْشِنُوا ، وَاخْلَوْلِقُوا ، وَاقْطَعُوا الرَّكَبَ وَانْزُوا وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ .السفاريني الحنبلي : غذاء الأل باب شرح منظومة الآداب 2/213.
فلسوف يسئل المرء عن كل نعمة وهبها الله تعالى له , قال تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) سورة التكاثر .
عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَمٍ الأَشْعَرِىِّ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِى الْعَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ وَنُرْوِيكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ . أخرجه الترمذي (3358) الصحيحة ( 539 ) ، المشكاة ( 5196 ).
دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ابنته حفصة رضي الله عنها فقدمت إليه مرقا باردا وصبت عليه زيتا فقال: أدمان في إناء واحد؟ لا آكله حتى ألقى الله عز وجل .
وقال الأشعث بن قيس لما طلب منه أن يلين اللحم بالزيت: أدمان في أدم؟ كلا، إني لقيت صاحبيَّ وصحبتهما فأخاف إن خالفتهما أن يخالف بي عنهما ولا أنزل معهما حيث ينزلان .
ولما قدم وفد البصرة ومعهم أميرهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أطعمهم عمر رضي الله عنه من طعامه، فرأى كراهتهم فقال: أيها القوم إني والله لقد أرى كراهيتكم طعامي وإني والله لو شئت لكنت أطيبكم طعاما، ثم قال: ولكني سمعت الله جل ثناؤه عير قوما بأمر فعلوه فقال : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها..) .
بل إن السلف كانوا ينهون عن مجالسة المترفين خوفا من العدوى، قال المروذي: سمعت أبا عبدالله - أحمد بن حنبل - وذكر قوما من المترفين فقال: الدنو منهم فتنة والجلوس معهم فتنة .الورع للمروزي 82.
والنصوص المحذرة من الترف لم تأت من فراغ وإنما حُذر المؤمنون منه لما فيه من مفاسد، ومن هذه المفاسد:

1- أن الترف والتنعم مؤد إلى التنافس على جمع الدنيا .
وبذلك تحصل الخصومة المؤدية إلى التفرق والقتال. قال تعالى : \" حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) سورة المؤمنون .
عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :\" إذَا مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَاءَ ( التبختر ) وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ \". أخرجه ابن المبارك في \" الزهد \" ( رقم 187) و الترمذي ( 2 / 42 - 43 الألباني في \"السلسلة الصحيحة\" 2 / 679 .

2- أن الترف والتنعم من أسباب قسوة القلب ونسيان الآخرة .
ولذا فأهل التنعم هم شرار هذه الأمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : إِنَّ شِرَارَ أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ ، وَنَبَتَتْ عَلَيْهِ أَجْسَادُهُمْ. أخرجه أحمد في \" الزهد \" ( ص - 77 ) و ابن أبي الدنيا في \" الجوع \" ( ق 9 / 1 ) السلسلة الصحيحة \" 4 / 513 .

3- أن الأمة المترفة أسرع إلى الفناء والهزيمة من غيرها.
قال تعالى : \" وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) سورة الإسراء .
قال الرازي في تفسيره :\" في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } في تفسير هذا الأمر قولان :
القول الأول : أن المراد منه الأمر بالفعل ، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون : معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات ، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب «الكشاف» : ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون ، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه ، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ { فَفَسَقُواْ } يدل عليه يقال : أمرته فقام ، وأمرته فقرأ لا يفهم منه ، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول : إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له ، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به ، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها ، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق. تفسير الرازي 10/20.
وقال الطبري : \" اختلف القرّاء في قراءة قوله(أمَرْنَا مُتْرَفِيها) فقرأت ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق(أمَرْنا) بقصر الألف وغير مدها وتخفيف الميم وفتحها. وإذا قرئ ذلك كذلك، فإن الأغلب من تأويله: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا فيها بمعصيتهم الله، وخلافهم أمره، كذلك تأوّله كثير ممن قرأه كذلك. تفسير الطبري 17/403.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا وَيُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا. أخرجه أحمد2/303(8017) و\\\"مسلم\\\" 1/76 و\\\"التِّرمِذي\\\" 2195 .

وقد قال ابن خلدون في الفصل الثامن عشر من مقدمته: \" وانغماس القبيل في النعيم وسبب ذلك أن القبيل إذا غلبت بعصبيتها بعض الغلب استولت على النعمة بمقداره وشاركت أهل النعم والخصب في نعمتهم وخصبهم، وضربت معهم في ذلك بسهم وحصة بمقدار غلبها واستظهار الدولة بها. فإن كانت الدولة من القوة بحيث لا يطمع أحد في انتزاع أمرها ولا مشاركتها فيه، أذعن ذلك القبيل لولايتها، والقنوع بما يسوغون من نعمتها ويشركون فيه من جبايتها، ولم تسم آمالهم إلى شيء من منازع الملك ولا أسبابه، إنما همتهم النعيم والكسب وخصب العيش والسكون في ظل الدولة إلى الدعة والراحة والأخذ بمذاهب الملك في المباني والملابس، والاستكثار من ذلك والتأنق فيه بمقدار ما حصل من الرياش والترف وما يدعو إليه من توابع ذلك. فتذهب خشونة البداوة وتضعف العصبية والبسالة، ويتنعمون فيما آتاهم الله من البسطة. وتنشأ بنوهم وأعقابهم في مثل ذلك من الترفع عن خدمة أنفسهم وولاية حاجاتهم، ويستنكفون عن سائر الأمور الضرورية في العصبية، حتى يصير ذلك خلقاً لهم وسجية فتنقص عصبيتهم وبسالتهم في الأجيال بعدهم يتعاقبها إلى أن تنقرض العصبية، فيأذنون بالانقراض. وعلى قدر ترفهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك، فإن عوارض التعرف والغرق في النعيم كاسر من سورة العصبية التي بها التغلب. وإذا انقرضت العصبية قصر القبيل عن المدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم سواهم. فقد تبين أن الترف من عوائق الملك. والله يؤتي ملكه من يشاء. مقدمة ابن خلدون 69.
والترف يدفع ثمنه الفقراء , قال أبو يعلى الخليلي في \" فوائده ص 4 \" \" قال إسماعيل بن يحيى المزني يقول لا تشاور من ليس في بيته دقيق ، فإنه مدله العقل وأنشأ يقول :
من ليس في البيت دقيقه *** قل في الناس صديقه
وجفاه أقرباه *** وأخوه وشقيقه
ومشكلة غلاء الأسعار لها حلول في شريعة الله عز وجل ، منها :

1- تربية الضمير على التقوى والمراقبة :
الدليل على ذلك : قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) \" الأعراف 96 \" ، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ . وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ) \" المائدة 65 ، 66 \" ، فالتقوى هي سبب لسعة الأرزاق والبركة فيها ، قال تعالى : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ) \" الطلاق \"

2- كثرة الاستغفار والدعاء:
الدليل : قال تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) \" نوح \" ، قال ابن صبيح : شكا رجل إلى الحسن البصري الجدوبة فقال له : استغفر الله . وشكا آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله . وقال له آخر : ادع الله أن يرزقني ولداً ، فقال له : استغفر الله . وشكا إليه آخر جفاف بستانه ، فقال له : استغفر الله . فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ما قلت من عندي شيئاً ، إن الله تعالى يقول في سورة نوح : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا . وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) . تفسير القرطبي 18/302.
الدليل : قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) \" الأنعام 42 ، 43 \" ،قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - : \" ( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء ) يعني الفقر والضيق في العيش ، ( وَالضَّرَّاء ) وهي الأمراض والأسقام والآلام ، ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) أي : يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون ، ( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ) أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا ( وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) أي : ما رقت ولا خشعت ، ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) أي : من الشرك والمعاصي \" ( تفسير ابن كثير جـ3/186 سورة الأنعام )

3- التكافل الاجتماعي وأداء الزكاة والصدقات .
الزكاة عون للفقراء والمحتاجين ، تأخذ بأيديهم لاستئناف العمل والنشاط إن كانوا قادرين ، وتساعدهم على ظروف المعيشة إن كانوا عاجزين ، فتحمي المجتمع من الفقر والدولة من الإرهاق والضعف ، وعدم إخراج الزكاة سبب من أسباب البلاء والغلاء ، ومن أسباب العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع لغياب التكافل فيما بينهم ، أما إخراج الزكاة فهو سبب البركة وسبب المحبة والمودة بين أفراد المجتمع . قال صلى الله عليه وسلم : \" من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له و من كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له \" ( صحيح : صحيح الجامع‏ 6497 ).
قال الشاعر:
الله أعطاك فابذل من عطيته * * * فالمال عاريّة والعمْر رحالُ
المال كالماء إِنْ تحبس سواقِيَه يأسن* * * وإن يجرِ يعذب منه سلسالُ
وقال أبو العلاء:
ياقوتُ ما أنتَ يا قوتٌ ولا ذهبُ * * * فكيف تُعجِزُ أقواماً مساكينا
واحسبُ الناس لو اعطوا زكاتهُمُ* * * لما رأيت بني الإعدام شاكِينا
فإن تعِشْ تبصر الباكين قد ضحكوا * * * والضاحكينَ لِفُرطِ الجهل باكينا
لا يتركن قليلَ الخير يفعلُه من * * * نالَ في الأرض تأييداً وتمكينا
4 – التربية على الرضا والقناعة بما قسم الله تعالى .
قال صلى الله عليه وسلم : \" … وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس … \" ( حسن : صحيح سنن الترمذي 1876 ) ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير : \" ابن أختي ، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار يعني لا يطبخون شيئاً قال عروة : فقلت : ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان : التمر والماء \" ( رواه البخاري 6459 ، ومسلم 2973 )
عَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ ، أَبِي الْبَخْتَرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الأَنْمَارِيُّ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ ، قَالَ : مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً ، فَصَبَرَ عَلَيْهَا ، إِلاَّ زَادَهُ اللهُ عِزًّا ، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ ، إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ ، قَالَ : إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلْمًا ، فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَيَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً ، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ ، يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا ، فَه ُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ ِللهِ فِيهِ حَقًّا ، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا ، فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ. أخرجه أحمد 4/231 (18194) و\"التِّرمِذي\" 2325 صحيح ، ابن ماجة ( 4228 ).
رَوَى جَابِرٌ قَالَ رَأَى عُمَرُ لَحْمًا مُعَلَّقًا فِي يَدِي فَقَالَ : مَا هَذَا يَا جَابِرُ ؟ فَقُلْتُ : اشْتَهَيْتُ لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ ، فَقَالَ أَوَ كُلَّمَا اشْتَهَيْتَ اشْتَرَيْتَ يَا جَابِرُ ؟ أَمَا تَخَافُ هَذِهِ الْآيَةَ : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } .ابن مفلح : الآداب الشرعية 3/341.
قال الخليفة هشام بن عبد الملك لسالم بن عبد الله بن عمر عند الكعبة: سلني حاجتك، فقال: والله إني لأستحي أن أسأل في بيته غيره.فلما خرج من المسجد قال هشام الآن خرجت من بيت الله فاسألني، فقال: من حوائج الدنيا أم الآخرة؟ قال: من حوائج الدنيا، فقال سالم: ما سألتها ممن يملكها، فكيف أسالها ممن لا يملكها.( الصفدي : الوافي بالوفيات 15 / 54).
كان مالك بن دينار يمشي في سوق البصرة فرأى التين فاشتهاه و لم يكن معه نقود فخلع نعله و أعطاه لبائع التين فقال : لا يساوي شيئا فأخذ مالك نعله و انصرف فقيل للرجل إنه مالك بن دينار فملأ الرجل طبقا من التين و أعطاه لغلامه ثم قال له : ألحق بمالك بن دينار فإن قبله منك فأنت حر.... فعدا الغلام وراءه فلما أدركه قال له اقبل مني فإن فيه تحريري . فقال مالك : إن كان فيه تحريرك فإن فيه *****ي . فألح الغلام عليه فقال : أنا لا أبيع الدين بالتين ولا آكل التين إلى يوم الدين.
جاء في بعض الآثار أن الله أوحى إلى موسى - عليه السلام - : يا موسى لا تخافنَّ غيري ما دام ليَ السُّلطان ، وسلطاني دائمٌ لا ينقطعُ ، يا موسى ، لا تهتمَّنَّ برزقي أبداً ما دامت خزائني مملوءةً ، وخزائني مملوءةٌ لا تفنَى أبداً ، يا موسى لا تأنس بغيري ما وجدتَني أنيساً لك ، ومتى طلبتني وجدتني ، يا موسى ، لا تأمن مكري ما لم تَجُزِ الصِّراطَ إلى الجنة .( ابن رجب : شرح جامع العلوم والحكم 28).
قال أبو العتاهية :
لا تخضعن لمخلوق على طمع * * فإن ذلك نقص منك في الدين
لا يستطيع العبد أن يعطيك خردلة * * إلا الذي سواك من طين
فلا تصاحب غنيا تستعز به* * وكن عفيفا وعظم حرمة الدين
واسترزق الله مما في خزائنه* * فإن رزقك بين الكاف والنون
واستغن بالله عن دنيا الملوك كما* * استغن الملوك بدنياهم عن الدين
يقول الشاعر :
دع المقادير تجري في أعنتها * * * ولا تبيتن إلا خالي البال
ما بين طرفة عين وإنتباهتها * * * يغير الله من حال إلى حال
فكن بين الناس كالميزان معتدلا * * * ولا تقولن ذا عمي وذا خالي
لا يقطع الراس إلا من يركبها * * * ولا يرد المنايا كثرة المال
وقال آخر :
دعِ الحرصَ على الدنيا * * * وفي العيش فلا تطمَع
فلا تجمع من المال * * * فما تدري لمَن تجمع
فإن الرزق مقسوم * * * وسوءَ الظنِّ لا ينفع
5- التربية على الاعتدال ونبذ الترف والإسراف .
ومن الترف المستشري في المجتمع الإكثار من المطعومات كما ونوعا، وقد ذكر بعض أطباء المسلمين أن الله تعالى جمع الطب في نصف آية وهي قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) سورة الأعراف.
قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَالبَسُواْ وَتَصَدَّقُواْ في غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا شِئْتَ وَالبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ . الألباني في صحيح النسائي (2399).
والسرف المذموم في الأكل والشرب نوعان : التخليط والتنويع في الطعام والإكثار منه والسمنة الناتجة عنهما.
فأما التخليط والتنويع في الطعام فقد ورد ذمه بصيغ شتى، فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من أقوام همهم بطونهم وشهواتهم فيكثرون من التنويع في الأطعمة والأشربة فقد روى الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ:\"سَيَكُونُ رِجَالٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَيَشْرَبُونَ أَلْوَانَ الشَّرَابِ، وَيُلْبِسُونَ أَلْوَانَ اللِّبَاسِ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي الْكَلامِ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ أُمَّتِي\".صحيح الترغيب والترهيب 2/232.
قال تعالى : ( وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا . إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ) \" الإسراء 26 ، 27 .
فلو أن كل مسلم التزم شرع الله تعالى في أفراحه لتغلب على غلاء الأسعار على الأقل على مستوى أسرته ، ولو أن كل مسلم التزم شرع الله تعالى في أحزانه ولم ينفق الأموال الطائلة على إقامة السرادقات واستئجار المقرئين وغير ذلك لتغلب على مشكلة غلاء الأسعار على الأقل على مستوى أسرته .

6- مقاومة الاحتكار والاستغلال.
الاحتكار معناه : تخزين السلع والبضائع الخاصة بأقوات الناس حتى تنفد من السوق ويرتفع سعرها ، ثم يبيعها بأضعاف أضعاف سعرها الأول ، وهذا حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : \" لا يحتكر إلا خاطئ \" ( صحيح : رواه مسلم 1605 ) ، والخاطئ : هو العاصي الآثم . قال العلماء : الحكمة في تحريم الاحتكار : دفع الضرر عن عامة الناس كما أجمع العلماء على أنه لو كان عند إنسان طعام ، واضطر الناس إليه ، ولم يجدوا غيره ، أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس . ( انظر صحيح مسلم بشرح النووي 5/346 ).
فمن أسباب غلاء الأسعار تصرفات وسلوكيات رجال الأعمال من تجار ومصنعين ووسطاء المخالفة لأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية مثل : الاحتكار والتكتلات المغرضة ، والغش ، والتطفيف ، وانخفاض الجودة ، ونحو ذلك ، ولقد نهى الإسلام عن هذه السلوكيات الاقتصادية السيئة .
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى.أَخْرَجَهُ أحمد 2/33 (4880).
فيجب منع الاحتكار بكافة صوره وأشكاله وحيله ويجب على ولاة الأمر اتخاذ التدابير لحماية المستهلك من التجار الجشعين الذين لا يهمهم إلا انتفاخ جيوبهم.
قال الشاعر:
سيفتح باب إذا سد باب* * * نعم وتهون الأمور الصعاب
ويتسع العيش من بعد ما* * * تضيق المذاهب فيها الرحاب
مع الهم يسران هون عليك* * * فلا الهم يجدي ولا الاكتئاب
7- ثقافة التعامل مع الغلاء.
جاء في الأثر أن الناس في زمن الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاؤوا إليه وقالوا:نشتكي إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟فقالوا: نحن نشتكي غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس في أيدينا؟ فقال قولته الرائعة: اتركوه لهم.
بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطرح بين أيدينا نظرية أخرى في مكافحة الغلاء، وهي إرخاص السلعة عبر إبدالها بسلعة أخرى؛ فعن رزين بن الأعرج مولى لآل العباس، قال: غلا علينا الزبيب بمكة، فكتبنا إلى علي بن أبي طالب بالكوفة أن الزبيب غلا علينا، فكتب أن أرخصوه بالتمر أي استبدلوه بشراء التمر الذي كان متوافراً في الحجاز وأسعاره رخيصة، فيقلّ الطلب على الزبيب فيرخص. وإن لم يرخص فالتمر خير بديل.
قال محمود الوراق:
إني رأيت الصبر خير معول * * * في النائبات لمن أراد معولا
ورأيت أسباب القناعة أكدت * * * بعرى الغنى فجعلتها لي معقلا
فإذا نبا بي منزل جاوزته * * * وجعلت منه غيره لي منزلا
وإذا غلا شيء علي تركته * * * فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
فاللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والشقاء , وقنعنا بما رزقتنا وارزقنا الحلال وبارك لنا فيه .

abomokhtar
27-11-2016, 05:50 PM
ملخص الخطبة
1- غلاء المعيشة من العقوبات الربانية. 2- ظاهرة ارتفاع الأسعار. 3- السبب الرئيس في ارتفاع الأسعار. 4- مظاهر الفساد في هذا الزمان. 5- سلب الله تعالى النعمة عن بعض الأمم السابقة. 6- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 7- الحث على التعاون والتكاتف والاقتصاد في المعيشة. 8- كلمة للتجار.

الخطبة الأولى
أيها الناس، إن من العقوبات التي يسلطها الله على بعض خلقه ويرسلها عليهم غلاءَ الأسعار وارتفاعَ قيم الأشياء وزيادتَها عن المعتاد، ولأجل ذلك كان النبي يدعو على المشركين بغلاء الأسعار وقحط الأمطار كما جاء في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري رحمه الله أن من دعاء النبي في القنوت: ((اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، اللهم سنين كسني يوسف))، قال العلماء كما في عمدة القاري (14/204): "اشدد وطأتك عليهم بالهزيمة والزلزلة وغير ذلك من الشدائد كالغلاء العظيم والموت الذريع ونحوهما، والمراد بالسنين جمعُ سنةٍ وهي الغلاء".
وإنه لا يخفى ـ يا عباد الله ـ ما يعاينه الناس في هذه الأيام من استعار الأسعار واشتعالها وغلاء الأثمان وارتفاعِها، حتى غدا بعض الفقراء والمعدمين لا يستطيعون الحصول على الأشياء الضرورية إلا بمشقة فادحة. فما أسبابُ ارتفاع الأسعار؟ وما الموقفُ الصحيحُ حيالَ ذلك؟
إنه قد يكون وراء ذلك أسباب اقتصادية أو أسباب أخلاقية أو غيرُها من الأسباب، إلا أن السبب الأعظم الذي تنتج عنه الشدائد والمصائب ـ ومنها القحطُ والغلاء والفتنُ والبلاء ـ هو معصية الله عز وجل والبعد عن طاعته، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165]، وقال عز وجل: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: 63].
وبعد أن عرفنا هذه النصوص الكريمة فكيف يستغرب الغلاء وأصناف الأطعمة تجمع في المناسبات فوق الحاجة ثم يكون مصيرها إلى النفايات والمزابل؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد كثر الربا والمعاملاتُ الماليةُ المحرمة؟! أم كيف يستغرب الغلاء وقد ضيعت الصلاة وتركت الزكاة وشربت الخمور وقطّعت الأرحام وكثر الزنا وانتشرت الموسيقى والمعازف وكثر الجهل وتُرك الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر؟!
إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وإن لنا في سير الغابرين عبرةً وذكرى، فهؤلاء آل فرعون ابتلاهم الله بالسنين والمجاعات ونقصِ الثمرات لعلهم يذكرون، لكنهم عصوا واستمروا في طغيانهم يعمهون، فأرسل الله عليهم الطوفان الذي يغرق أشجارهم، والجراد الذي يأكل ثمارهم، والقمّل الذي يؤذيهم ويزعجهم، والضفادع التي تملأ أوعيتهم ويجدونها على فرشهم وملابِسهم، والدم فإذا أراد أحدهم أن يشرب ماءً انقلب دمًا، فلا يشربون إلا دمًا ولا يطبخون إلا في دم، ولم يزجرهم ذلك عن معصية الله، بل استكبروا في الأرض وكانوا قومًا مجرمين، فانتقم الله منهم وأغرقهم في اليم بأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا عنها غافلين.
وهؤلاء قوم سبأ في اليمن أنعم الله عليهم بالأرزاق الكثيرة، وساق عليهم النعم الوفيرة، وجعل لهم جنتين عظيمتين يأكلون من ثمارهما المتنوعة من غير كدّ ولا تعب، يقول قتادة رحمه الله: "كانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها زنبيل فيتساقط الثمر في الزنبيل حتى يمتلئ من غير أن تحتاج إلى قطفه؛ وذلك لكثرته ونضجه واستوائه"، لكنهم أعرضوا وكفروا بأنعم الله فانتقم الله منهم وأرسل عليهم سيلاً عَرِمًا شديدًا، فبدل الثمار النضيجة والمناظر الحسنة بشجرٍ كثير الشوك قليل الثمر، ومزقهم الله كل ممزق، وجعلهم أحاديث للناس، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31].
هذه سنة الله في الأمم السابقة، ليس بينه وبين أحدٍ من عباده نسب إلا بطاعته، فالكريم عنده من أطاعه واتقاه، والذليل من أعرض عنه وعصاه، فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتوبوا إلى الله لعلكم تفلحون، واحذروا من أسباب سخطه وعقابه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].



الخطبة الثانية
الحمد لله الذي قدّر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ثم يميتهم ويحييهم كما بدا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله دعا أمته إلى كل خير وحذرهم من أسباب الردى، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن سار على منهجه واستن بسنته.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، واستقيموا كما أمرتم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أول ما يُدفع به الغلاء ويرفع به البلاء هو التوبة إلى الله عز وجل، فإنه ما رفع بلاء إلا بتوبة، وإن التوبة هي سبب نزول البركات كما أن المعاصي هي سبب القحط والغلاء، كما قال الله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96]، وإنا مقبلون على شهر كريم تقبل فيه الطاعات وتقال فيه العثراتُ، وهو شهر رمضان، فليراجع كل منا نفسهَ، وليحاسبها على تقصيرها، ولينزع عما هو فيه من الغفلة، وليعلم أنه مقبل على رب كريم ودودٍ رحيم، وسعت رحمته كل شيء، وعمت كل حي، يقول لعباده متحببًا إليهم: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
ثم إنه ـ يا عباد الله ـ يجب التعاون والتكافل في ظلّ غلاء الأسعار، ورحمةُ اليتامى والأراملِ والفقراءِ والضعفاء، فالغني في دين الإسلام يحمل الفقير، والقوي يحمل الضعيف، ويخفف معاناتَه وآلامَه، والصدقةُ يعظم ثوابها في أوقات الحاجات، كما يعظم ثوابها في الأزمنة الفاضلة والأمكنة الفاضلة.
كما أنه يجب الاقتصادُ في النفقة، وعدمُ الإسرافِ والتبذير، وعدمُ البخل والتقصير، كما قال الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67]، وكان من دعاء النبي : ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى)).
وليحذر التجار من الجشع والطمع والأنانية، وليرحموا الفقراء والمعوزين، وليجعلوا غلاء الأسعار فرصةً للإحسان إلى الناس، وسيجدون بركةَ ذلك ـ إن شاء الله ـ في أموالهم وأحوالهم، وقد جاء في مسند الإمام أحمد عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله : ((من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقًا على الله أن يُقعده بعَظمٍ من النار يوم القيامة)) يعني: يقعده في مكان عظيمٍ منها، وهذا وعيد شديد وزجر أكيد عن إغلاء الأسعار ورفِعها؛ لأن من مقاصد الشريعة المطهرة في البيع والشراء أن تسير الأسعار في طريق تحصل به مصلحةُ التجار ومصلحةُ بقية الناس، من غير إضْرارٍ بأحدٍ على حساب الآخر، وهذا من عدل الشريعة ومراعاتها لجلب المصالح ودرء المفاسد.
كما أنه ينبغي مخاطبة المسؤولين في هذه البلاد وتذكيرُهم بحقوق الرعية ومناصحتُهم، كما قال في حديث تميم الداري : ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم))، وولاة الأمر في هذه البلاد ـ بحمد لله ـ حريصون على تحقيق مصالح الناس ورفع الضراء عنهم، نسأل الله أن يعليَ كلمته، ويعزَّ دينه وأولياءَه، إنه سميع مجيب.
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...

غازي بن مرشد العتيبي

abomokhtar
27-11-2016, 05:53 PM
أسباب غلاء الأسعار
واقتراح الحلول للتغلب عليها
*
*
بحث أعده
الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي
للمشاركة في مؤتمر مكافحة غلاء الأسعار
المنعقد تحت رعاية وزارة التجارة والصناعة بدولة الكويت
بتاريخ 12-14/10/2008م
*
*
*
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
*
تمهيد:
كم كان بودي لو أكون بينكم الآن مستمعا ومستفيدا لما يتقدم به السادة الفضلاء المتخصصون في علوم الاقتصاد، لدراسة هذه الظاهرة المزعجة، ظاهرة غلاء الأسعار، لأنني لا أدعي أنني من المتخصصين في هذا الفن، ولكن رغبة بعض المسؤولين عن هذا المؤتمر في مشاركتي فيه دعتني إلى أن أقبل المشاركة وأبين ما يمكن أن يشارك فيه الفقه الإسلامي في هذا المجال، ولهذا أرجو أن تعذروني إذا لم استعمل في كلمتي هذه المصطلحات الاقتصادية الحديثة، اكتفاء مني بإشارة ملخصة لما يمكن أن يساهم به الفقه الإسلامي في هذا المضمار.
وبادي ذي بدء أقول لكم إن التجارة مما شرعه الله تعالى وأباحه لعباده، بل وشجع وحض عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ) رواه الترمذي، وذلك لما للتجارة من أثر كبير في تيسير حياة الناس.
وفي الوقت نفسه أبين أن الغاية الأساس للتجارة شرعا هي تأمين السلع التي يحتاج الناس إليها في حياتهم، بأفضل صورة، وأرخص ثمن، وأيسر طريق، ولتأمين هذه الغاية أذن الشارع الإسلامي للتجار بالربح، ولولا ذلك لعزفوا عن التجارة، ولضاق الناس بأنفسهم ذرعا، فالربح للأغنياء وسيلة لا غاية، فلا يجوز لهم أن يقلبوا الآية، فيجعلوا الربح غاية أساسا في هذا المضمار.
وبعد هذه المقدمة أقدم نظرات شرعية أرى أنها تلقى ضوءا جليا على ظاهرة غلاء الأسعار، مستعينا بالله تعالى في اقتراح ما تمليه الشريعة الإسلامية الغراء في معالجة هذا الموضوع المهم، بعد بيان أسبابه:
*
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
على المسلمين جميعا أن يعلموا أن الرازق هو الله تعالى وحده، وأنه غني لا ينفد ما عنده، وأنه كريم لا يبخل على عباده، وأنه سبحانه وتعالى يبتلي عباده أحيانا بشيء من قلة المال أوالرزق، ليبلوهم أيهم أحسن عملا، قال سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) ، وقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ) رواه مسلم.
وغلاء الأسعار أمر يعترض البلاد كلها في بعض الأوقات، وقد عرض للمسلمين في السابق مرات كثيرة، إن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد عدد من الصحابة الأجلة، وكانوا يستعينون عليه بالدعاء والصلاة، ومن ذلك صلاة الاستسقاء عندما يحتبس المطر، وهو سبب مهم من أسباب الغلاء.
*
أسباب غلاء الأسعار
غلاء الأسعار في البلاد له أسباب كثيرة، أهمها:
1)) قلة الإنتاج، أو قلة المطروح للبيع من السلع التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، مما ينتج عنه عدم القدرة على تلبية الطلب، فتزداد الأسعار، فإذا زادت قل الطلب عليها مرة ثانية، فإذا قل الطلب عليها نزلت، فإذا نزلت زاد الطلب عليها فغلت، وهكذا.
وقلة الإنتاج لها أسباب كثيرة، منها:
القحط وقلة الأمطار.
ومنها الكسل وعدم الرغبة في العمل.
ومنها بعض التشريعات الجائرة التي تثنى النشطاء عن العمل.
ومنها الجهل بطرق الإنتاج.
ومنها شيوع الربا والفوائد المحرمة.
ومنها احتكار السلع من الجشعين من التجار، بغية حجبها عن المستهلكين مدة لترتفع أسعارها.
ومنها وعلى رأسها جميعا معصية الخلق للخالق رب العالمين.
*
2)) كثرة الطلب على وجه لا يكون الجاهز من الحاجات كافيا لتغطيته، وكثرة الطلب لها أسباب كثيرة، منها:
كثرة النسل.
ومنها كثرة الغنى.
ومنها سوء التصرف والتبذير.
*
طرق معالجة غلاء الأسعار
تكون معالجة غلاء الأسعار بشكل منطقي بمعالجة أسباب ارتفاعها، فإذا عولجت الأسباب عادت الأسعار إلى مستوى معتدل، وبيان ذلك فيما يلي:
1)) معالجة قلة الأمطار، تكون بالاستعانة بالأنهار والعيون ومصادر المياه الطبيعية، والاستفادة منها بأحسن الطرق وأيسرها، ومنع التبذير فيها، واختيار أنواع المزروعات التي يكفيها القليل من الماء، والتقليل من المزروعات التي تحتاج إلى ماء كثير، ثم استعمال أفضل الطرق في ري المزروعات، ورسم طريق ذلك يحتاج إلى دراسات المتخصصين.
ولا ننسى في هذا المجال صلاة الاستسقاء التي يسن أن يجتمع فيها عباد الله تعالى في جانب من أرض الله تعالى، متقشفين لابسين الثياب البسيطة، ضارعين إلى الله تعالى بقلوب منكسرة أن يسقيهم المطر، ثم يصلون لله صلاة جماعية، ويدعون الله تعالى بعدها أن يكرمهم ويرزقهم ويسقيهم الغيث.
2)) معالجة الكسل وقلة الرغبة في العمل في الإنتاج زراعيا كان أو صناعيا أو كيماويا أو غير ذلك، وذلك بوضع الحوافز للعمل، مالية كانت أو اجتماعية أو غير ذلك، وتيسير سبل العمل لكل من يستطيعه.
3)) إعادة النظر في التشريعات التي قد تكون جائرة وتنفر العمال وأصحاب رؤوس الأموال من إقامة المشاريع الزراعية والصناعية وغيرها، ودراستها دراسة علمية واعية بواسطة متخصصين من العلماء، بعيدين عن الأهواء والاتجاهات الفكرية المحدودة والعقيمة، ثم العمل على تعديل هذه التشريعات بما يزيد الحافز إلى العمل والإنتاج، فكم من مزرعة أغلقت، وكم من مصنع أغلق، وذلك بعد تأميمها في كثير من البلدان في العالم.
4)) تخفيف الضرائب على وسائل الإنتاج قدر الإمكان، ليميل الناس إليها، ويزدادوا منها، فيكثر الإنتاج وتنزل الأسعار، ثم العمل على تحسين دخل الفرد الفقير والمتوسط، ورفع الرواتب والأجور بما يرفع العنت عن المحتاجين، ويخفف ضائقة الغلاء عنهم، لأن الأغنياء لا يضرهم الغلاء كثيرا، وربما يزيد في أرباحهم، أما الفقراء ومتوسطو الدخل، فهم الذين يعانون من الغلاء.
5)) تسهيل طرق تبادل السلع بين الشعوب والأمم بأقل التكاليف، فكثيرا ما يَفْضُل منتج ما عند أمة لأسباب كثيرة، وهي في الوقت نفسه محتاجة لإنتاج فاضلٍ عند أمة أخرى، فإذا سهَّلت الحكومات طريق تبادل الإنتاج مع تخفيف الضرائب والرسوم، تسهل الأمر، ونزلت الأسعار عند الجميع.
6)) التدريب المهني على جميع وسائل الإنتاج التي تحتاج إليها الأمة، وذلك بفتح المعاهد المهنية الميسرة له، سواء في الزراعة أو الصناعة أو التجارة، لأن إحجام كثير من العمال والأثرياء عن الإنتاج سببه جهلهم به.
7)) محاربة الربا والفوائد على القروض، وتشجيع المضاربة والمشاركات المالية بأنواعها المختلفة، لأن الفوائد الربوية تعني أن يكسل الأغنياء، ويتعب الفقراء، أما المشاركات والمضاربات بأنواعها فتعني أن يشترك الجميع في بذل الجهد في التنمية، ومن هنا نفهم معنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:275) وقوله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) (البقرة:276) ، وقوله سبحانه:: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فإنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة:279).
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (دِرْهَمٌ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ زَنْيَةً) رواه الإمام أحمد في مسنده.
وما يعانيه العالم كله عامة، والعالم الغربي خاصة، وأمريكا بالأخص، من مشكلات اقتصادية، سببه الربا المحرم، وهي خير شاهد على حرمة الربا، والحرية غير المنضبطة.
8)) ترشيد الاستهلاك، وتعليم الناس ودعوتهم بكل الطرق المتاحة إلى التدبر والتريث في الاستهلاك، وعدم التبذير، وعدم الإنفاق فيما لا يحتاجون إليه حاجة حقيقية، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف:31)، وقوله سبحانه: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) (الإسراء:27)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ) رواه مسلم.
وبخاصة الكماليات، فإن الواجب التقلل منها قدر الإمكان، والتركيز على تأمين الضروريات والحاجيات التي يتطلبها كل الناس.
وقد اشتد غلاء اللحم في زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرة، وطَلب منه بعض الصحابة التسعير، فقال لهم أرخصوه أنتم، فقالوا كيف نرخصه وليس عندنا؟! قال: اتركوه لهم، فتركوه اليوم الأول، وتركوه اليوم الثاني، فإذا بالجزارين ينادونهم: هلموا -يا جماعة- للحم، قالوا: لا، أنتم أغليتموه علينا، ثم رخصوه لهم.
9)) دعوة الناس وتشجيعهم على التخفف من المتطلبات قدر الإمكان، ومن الكماليات خاصة، والاكتفاء بالقليل عن الكثير، والالتفات عن كثرة المتطلبات إلى حسن الاستفادة من هذه المتطلبات، فكثير من الحفلات يكون مصير الكثير مما يقدم فيها إلى علبة الزبالة، ولو اكتفى القائمون عليها بالقدر الذي يحتاجون إليه من ذلك لاستغنوا عن الكثير الذي يغني من يحتاج إليه.
10)) الدعوة إلى تنظيم النسل، والعزوف عن كثرة النسل الذي لا يمكن إدارته وصيانته وترشيده وتعليمه، فكثير من البلدان الفقيرة تجد النسل فيها بغير حدود، مما يعمل على زيادة الطلب مع قلة ذات اليد، وينتهي إلى ارتفاع الأسعار، وهو مأذون به شرعا ما دام في حدود الحاجة الملحة.
11)) دعوة الأغنياء إلى الاستثمار في بطون الفقراء، بدفع الزكاة وكثرة الصدقة، فإن في ذلك تقليل قدرة الأغنياء على الشراء وكثرة الطلب للسلع، وزيادة أجرهم عند الله تعالى، وفي الوقت نفسه يسهل على الفقراء الحصول على ضرورياتهم بما حصلوا عليه من الأغنياء من المال، فيقل ألمهم، وقد وعد الله تعالى المتصدقين من الأغنياء بكثرة الأجر، فقال سبحانه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:261)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ قَالَ فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ فِي الْمَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ) رواه الترمذي.
12)) منع الاحتكار، ومنع الغش والنجش والتغرير، والتسعير على المحتكرين من قبل ولي الأمر، على وجه يؤمن السلعة للفقير ولا يضر بالغني أو المنتج للسلعة قدر الإمكان، لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ) رواه ابن ماجه والدارمي، ومن هذا الباب تحديد أرباح التجار، بما يؤمن لهم موردا مناسبا دون أن يلحق بالعامة الضرر، ولكن ذلك محصور في الضروريات فقط من حاجات الناس، ولا يجوز التوسع فيه إلى الكماليات، (فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَقَتَادَةُ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلا مَالٍ) رواه ابن ماجه وأبو داود وغيرهما.
13)) توجيه الإعلام نحو التقليل من الدعاية للسلع عامة، والترفيهية أو الكمالية خاصة، لأن لذلك أثرا كبيرا في كثرة الإنفاق عند الناس.
14)) الدعوة إلى اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة به وطلب المدد منه سبحانه، مع كثرة الاستغفار، لقوله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً) (نوح:10-12).
*
توصيات لمكافحة الغلاء:
1)) الاستعانة بجميع طرق الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، ومنابر المساجد، في الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك، والبعد عن التبذير، وتأكيد حرمة وأضرار التبذير من النواحي الشرعية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية.
2)) العناية بأمور التصدير والاستيراد، ودراستها دراسة علمية، وتيسيرها بكل السبل الممكنة، لتوفير جميع الاحتياجات اللازمة للأمة، وتصدير الفائض عنها، لتنتفع به الأمم الأخرى.
3)) سد أبواب الاقتراض والإقراض بالربا، وفتح أبواب المشاركات بكل طرقها الإسلامية.
4)) الدعوة إلى الالتجاء إلى الله تعالى، وعبادته، والدعاء له سبحانه بأن يفرج عن الأمة في كل أمورها، ومحاربة الموبقات والمخالفات الشرعية.
5)) مراقبة التجار، وضبط مخالفاتهم واحتكاراتهم وجميع طرق الغش التي قد يلجؤون إليها، ومعاقبتهم عليها، والعمل على تسعير ضروريات الأمة إذا زادت أسعارها عن قدرة العامة على الحصول عليها، ولكن يراعي في هذه الحال ندرة المادة وارتفاع ثمنها.
6)) تشجيع الأغنياء على دفع زكاة أموالهم للفقراء والمحتاجين، لتسهيل حصولهم على ضرورياتهم.
7)) عناية الدولة بموظفيها وعمالها بزيادة رواتبهم قدر إمكاناتها، وبخاصة أصحاب الدخل المحدود من هؤلاء، بغية تيسير حصولهم على ضرورياتهم.
‏*************************************** الأربعاء‏ 17‏ رمضان‏ 1429هـ و ‏17‏/9‏/2008م
*
أ.د.أحمد الحجي الكردي
****** خبير في الموسوعة الفقهية
* وعضو هيئة الفتوى في دولة الكويت

أبو إسراء A
28-11-2016, 03:35 PM
جزاك الله خيرا