مشاهدة النسخة كاملة : نتكاملُ أو نتآكل


abomokhtar
09-12-2016, 10:23 AM
وجود التباين الفطري بين الناس في القدرات العقلية والبدنية أمرٌ مهم جدا في إيجاد التوازن في حياتهم، ولو كانوا متساويين بدرجة واحدة لاختلَّ التوازن واضطرب المجتمع.

وميول الناس المختلفة هي التي تضع محدّداتٍ لشخصية الفرد التي تدفعه لتبنّي رؤية معينة وجماعة معينة قد تختلف في أولوياتها ونهجها عن الجماعات الأخرى.
فتنوّع الميول والطبائع يؤدي إلى تنوع التخصصات، وهذه الأخيرة تؤدي إلى التكامل في سد حاجات الأمة.

فهناك ميولٌ علمية بحثية، وهناك ميول دعوية حركية، وأخرى ميول سياسية فكرية، وأخرى عسكرية جهادية، وأخرى مسلكية تربوية، وهكذا. وفي كل نوع أقسام ودرجات.
وتنتظم هذه الميول في مشتركاتٍ يتولد عنها تياراتٌ واقعية في الميدان، وهو أمرٌ إيجابيّ صحيّ وُجِد في أفضل قرن وأصلح جيل عرفه التاريخ. فرفقُ أبي بكر، وحزمُ عمر، وكرمُ عثمان، وشجاعة علي، وعلم ابن مسعود، وقراءة أبيّ، وشاعرية حسان، وحنكة خالد في الحرب، ودهاء عمرو في السياسة...إلخ، كلها صفات متمّمة لبعضها، فيكمِّل بعضهم بعضا ولا يحطِمه أو يُسقطه، وينتظم المجتمع وكأنه لوحة فسيفسائية بديعة في تكامل أجزائها وانسجام ألوانها.

فبالرغم من اشتراكهم في أصل صفات الخير وأعمال البر إلا أنَّ تفوقًا ما في وصفٍ ما كان يميز كل فرد عن الآخرين، ويجعله مقدَّما وبارعا في مجاله أكثر منهم.

عندما تغيب هذه الرؤية التكاملية يحل محلها التعصب والشعور بالوحدوية والوصاية على الدين والدعوة، فلا يرى المرء إلا نفسه وجماعته، وكل من خرج عن فكر جماعته ونهجها فهو ضال هالك، يجب التصدي له والتحذير منه.
وأنا لا أتكلم هنا بالطبع عن الاختلاف الجوهري في بنية المنهج وأصل الاعتقاد الموجود بالفعل عند الفِرق النارية الضالة التي خالفت السنة والجماعة، بل أريد اختلاف الميول والتخصصات الذي ينتج عنه اختلاف نوع الأداء والسلوك الذي يصبُّ في اتجاه واحد وهو إقامة دين الله تعالى في الناس، بالثوابت والقطعيات كحد أدنى.

ويقابل فقه التنوع التكاملي فقه استنساخ الشخصية أو (القَولبة)، وهو أن يكون جميع المسلمين نسخة طبق الأصل من شخص معين، وهو ممتنع شرعا وعقلا وعرفا، وهو خلاف إرادة الله القدرية في تنوع البشر واختلافهم، (ولا يزالون مختلفين).

إنَّ الجانب المذموم في الحزبية المقيتة هو التعصب وقِصَر النظر وأحادية الرؤية، والخروج من سعة الإسلام إلى ضيق الجماعة، واعتقاد الوصاية على الأمة، وهو ما يلزم منه إسقاط الآخرين وازدراء جهودهم.
ومَكمن الخطر الأكبر أن يصل الاعتداد بالنفس والجماعة إلى درجة اعتقاد أنهم هم الأمة وكل من خالفهم خارج عنها.

وغياب الوعي عند الجماعات الإسلامية بفقه التكامل في الأمة أدى إلى هذا التشقق والتشرذم وذهاب الريح وسقوط الهيبة أمام الأعداء بالرغم من ارتفاع عديدها بين الأمم.

وبعبارة أخرى أقول:

هو التآكل الذي يحل محل التكامل عند غيابه ولا بد.

فإما أن نرضى بالتكامل، أو نصبر على مر التآكل.

جمال الباشا

abomokhtar
09-12-2016, 10:37 AM
الإنسان بطبعه يميل إلى من وافقه وينفر عمن خالفه، ولا يمكنه دفع ذلك بحال، وعنه تنشأ التكتلات البشرية الكبيرة منها والصغيرة.

وكلما انتقلنا إلى أطروحات فكرية أعمق وتفاصيل أدق اتسعت مساحة الخلاف ونشأت دوائر تكتلية أضيق.
فالجماعة الكبيرة التي تجمعها أصول كلية واحدة، إذا أغرقت في الجزئيات تباينت لديها وجهات النظر ونشأ بين أبنائها الاختلاف، وهو بطبيعة الحال ظاهرة صحية تغذي الفكر وتثري الموضوع محل البحث، إذا ضبطت بالمعايير العلمية والأدبية.

إن وجود الجماعات الإسلامية في ميدان العمل الإسلامي بهذه الرؤية أمر لا يمكن دفعه بل يجب تقبله مع العمل على إنضاجه وترشيده.
أما قولبة الأتباع وختمهم بطابع واحد ففيه تعطيل للقدرات وحجر على العقول ومصادرة للإبداع، وينتج عنه في الغالب ردات فعل عكسية من التابع على المتبوع، ولو بعد حين.

إن تشكل التيارات الإسلامية المختلفة في إطار الهدف الواحد والغاية النبيلة الواضحة، وهي دعوة الناس إلى ما تضمنه معنى الشهادتين، وإخضاع المجتمع إلى حكم الله وسلطانه، هو اختلاف في الوسائل والأولويات والموازنات، ومبنى ذلك على اختلافهم في المدارك والنظر، ثم تباينهم في الطبائع والأمزجة والميول الفطرية والنفسية والتربوية.
وكل ما تقدم يكشف لك عن حقيقة الدعوات التي تتجاهل هذه المسلمات وتريد أن تقفز عليها، بدعوتها لتوحيد الأفكار الجزئية والتنوعية.
فأعلنت عداءها وحربها على كل الجماعات الإسلامية الصالحة العاملة في الميدان، وأصبحت أداة تشتيت وتمزيق في الأمة وهي تريد جمعها على المستحيل.

لقد صار ذم الحزبية والتحذير منها بالمطلق على ألسنة هذه الفئة هاجسا لدعاتهم لا يكاد يخلو منه مقال أو خطبة أو درس، بمناسبة وبدون مناسبة.
ومستندهم في ذلك عامة النصوص الآمرة بالاجتماع، الناهية عن التفرق والنزاع.
فأسقطوا هذه النصوص على جميع الاجتهادات بما في ذلك ما كان ظني الدلالة، وأسقطوها كذلك على اختلاف الوسائل وهو حتمي.

ويلزمهم من هذا تضليل جماهير الأمة من المدارس الفقهية المختلفة، بل تضليل السلف الصالح بما فيهم الصحابة الكرام، بل يلزمهم تضليل أنفسهم وجماعتهم بالضرورة.
لأنهم كذلك حزبيون وإن حاربوا الحزبية المقيتة عند مخالفيهم.
ووقعوا في كل المحاذير التي نقموها من الآخرين.

لقد دعوا إلى نبذ الجماعات الإسلامية ومحاربتها فانشغلوا بحربها عمن هو أولى بتلك الحرب منها، من المنافقين في الداخل، وصنوف الأعداء في الخارج.
فانحاز إليهم من وافق منهجهم، فكان ماذا؟

كل من وافقهم في نبذ الحزبية قربوه وكل من خالفهم فيها أقصوه.

فكان ماذا؟

تكتل جديد يحارب كل الجماعات والأحزاب الإسلامية، وشعاره لا حزبية في الإسلام ، وصار له رموز يتعصب لهم، ثم مركز علمي باسم إمامهم يجمعهم ويعقدون فيه دوراتهم التي ترسخ فكرهم ومنهجهم.
فأصبح ينطبق عليه في الحقيقة وصف الحزب وإن لم يشعروا، ويصدق عليه في نظري تسميته بحزب "اللاحزب".

جمال الباشا