aymaan noor
24-04-2017, 07:08 PM
إعادة إنتاج الفشل*: لماذا تديم مشاريع إعادة البناء"سراب الدولة"في الشرق الأوسط؟
http://www.kamellabiad.com/wp-content/uploads/2015/06/rothkopf_credit-istockphoto21.jpg
مالك عونى
أثبتت تطورات الأحداث في* منطقة الشرق الأوسط،* منذ* غزو العراق في* عام2003،* وبشكل أكثر جلاء وإلحاحا،* عقب الانتفاضات الشعبية،* والاضطرابات والصراعات الحادة،* التي* تفجرت في* المنطقة منذ عام* 2011،* أن الدولة لا تزال مهمة وأساسية لأداء عدد من الوظائف الجوهرية التي* لا* يمكن لأي* من الفاعلين الآخرين المتزايدة أدوارهم في* الساحة الدولية النهوض بها*.
أدى انهيار عدد من دول الشرق الأوسط التقليدي،* مثلما حدث في* العراق،* وسوريا،* وليبيا،* واليمن،* وعدد آخر من الدول المتاخمة للمنطقة،* مثلما هو الحال في* أفغانستان ومالي،* إلى مخاطر أمنية جمة،* أبرزها خلق مناطق فراغ* أمني* منحت فرصا* غير مسبوقة لانتشار التنظيمات الإرهابية،* وعصابات الجريمة المنظمة،* وتعزيز أنشطتها،* وقدرتها على التجنيد،* والحشد،* والتخطيط،* واستيعاب أي* ضربات تستهدفها،* فضلا عن إثارة أزمات اجتماعية وإنسانية حادة أطلقت موجات متتالية وكثيفة من المهاجرين واللاجئين*. ولم* يتوقف أثر هذه المخاطر وتداعياتها على حدود الإقليم،* بل باتت تلك الآثار والتداعيات أزمات ذات أبعاد ما وراء إقليمية،* تحمل المخاطر في* بعض الأحيان إلى أربعة أقطار المعمورة بأسرها*. المفارقة البارزة،* في* هذا الإطار،* أن هذا الانهيار،* وتلك الأزمات أتيا عقب محاولات تدخل عديدة،* ومتنوعة الأدوات والأبعاد،* قام بها أعضاء الجماعة الأورو-أطلسية لمواجهة ما سموه،* وروجوا له،* بعدّه فشلا للدولة في* منطقة الشرق الأوسط*.
بدأت محاولات التدخل تلك بشكل جلي* وفج في* وقت مبكر،* عقب هجمات الحادي* عشر من سبتمبر2001،* وتحديدا مع* غزو الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق بدعوي محاربة الإرهاب،* من خلال القضاء على الدولة الفاشلة،* بحسب التصنيف والرؤية الأمريكيين،* وإعادة بنائها*. لكن على الرغم من ذلك،* فإنه لا* يمكن إغفال أن المحاولات الأمريكية لإحداث تغيير في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط بدأت في* وقت مبكر مع توقيع الرئيس الأمريكي* الأسبق بيل كلينتون قانون تحرير العراق* (Iraq Liberation Act)* في* 31* أكتوبر* 1998،الذي* نص صراحة على العمل من أجل إحداث تغيير سياسي* في* العراق،* وهو القانون الذي* يتجاوز في* غاياته حدود سياسة الاحتواء المزدوج التي* اتبعتها إدارة بيل كلينتون الثانية إزاء كل من العراق وإيران*. واتسع نطاق أهداف التغيير السياسي،* الذي* تستهدفه الولايات المتحدة في* الشرق الأوسط،* مع إطلاق كولن باول،* وزير الخارجية في* الإدارة الأولي للرئيس الأمريكي* جورج بوش الابن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* وذلك خلال كلمة ألقاها في* مؤسسة هريتاج* Heritage Foundation،* أحد أهم مراكز التفكير المحافظة في* الولايات المتحدة،* ومن أوسعها نفوذا في* صنع السياسة العامة الأمريكية،* خاصة في* ظل الإدارات الجمهورية*. استهدفت تلك المبادرة دعم ما سمته إصلاحات سياسية،* واقتصادية،* واجتماعية في* دول الشرق الأوسط،* وشمال إفريقيا،* من خلال دعم الأفراد والجماعات،* بعيدا عن الإطار الرسمي* للدولة*.
تكشف تلك الوقائع،* وغيرها الكثير،* عن أن إحداث تغيير جوهري* في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط،* خاصة الدول العربية،* كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية،* منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين،* وإن بدرجات متفاوتة،* وأدوات متنوعة ومتباينة*. وكانت الحجة الرئيسية المعلنة وراء كل تلك المبادرات،* والمشاريع الهادفة لتغيير بنية الدولة العربية،* تحديدا في* الشرق الأوسط،* هي معالجة ما عدّته الولايات المتحدة وحلفاؤها عوامل فشل في* بنية تلك الدولة،* خاصة فيما* يتعلق بقدرتها على الاستيعاب السياسي،* والاجتماعي،* والاقتصادي* لجميع مكوناتها*. لكن المؤكد أن هذه الخبرة الممتدة نسبيا لإحداث تغيير في* هيكل الدولة في* الشرق الأوسط،* تحت مسميات مختلفة،* أثبتت فشلها في* معالجة جوانب فشل هذه الدولة،* ولم تكن في* أي* من تجاربها،* وبكل أنماطها،* سواء الناعمة،* كما تبدت في* مبادرات الإصلاح،* أو الخشنة،* كما تجسدت في* خبرات التدخل العسكري،* خبرة فعالة أو كفئا*. بل إنه* يمكن،* بدرجة كبيرة من التحقق،* ملاحظة أن خبرة التدخل تلك أسهمت في* مزيد من إضعاف الدولة في* الشرق الأوسط،* وإدامة فشلها،* وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة أكثر حدة،* وأخطر أثرا،* باتت تهدد ليس فقط بانهيار الدولة في* الشرق الأسط،* بل كذلك مجمل الاستقرار والأمن،* إقليميا وعالميا على السواء*.
وبالنظر إلى أن أغلب تلك المبادرات والمشاريع،* التي* تذرعت بمحاولة إصلاح الدولة في* الشرق الأوسط،* وتجنب فشلها،* نبع،* مثلما كان الحال تاريخيا في* تجارب إعادة البناء السابقة،* من داخل الجماعة الأورو-أطلسية،* والمؤسسات الدولية وثيقة الصلة بها،* ولم* ينبع بالأساس من داخل الدولة في* الشرق الأوسط،* فإنه* يتعين البحث،* من جهة،* في* أسباب فشل تلك المحاولات،* خاصة إذا ما قورنت بخبرات إعادة بناء الدولة التي* انتهجتها هذه الجماعة في* مراحل سابقة،* سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في* كل من ألمانيا واليابان،* أو عقب نهاية الحرب الباردة في* شرق أوروبا،* ومن جهة أخري في* تحديد عوامل الفشل المستعصي* على الإصلاح/إعادة البناء في* الكثير من دول الشرق الأوسط لبيان ما تستلزمه إقالة تلك المنطقة من عثراتها متعددة الأبعاد التي* باتت تهدد ليس فقط صلاحيتها،* كفاعل دولي* إيجابي،* ولكن حتى الوجود المادي* والقانوني* للكثير من دولها،* وهو الخطر المرجح امتداده إلى دول أخري عديدة في* المنطقة،* ما لم تعالج جذوره المنتجة لحالة الفشل المستعصية تلك*.
سياقات التدخل وخطاب المخاتلة*:
يكشف الاستعراض السريع السابق لمحاولات القوى* "الغربية*"،* بقيادة الولايات المتحدة،* لإحداث تغييرات جوهرية في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط،* تحت مسمي إعادة البناء،* أنها كانت سابقة لما سمي* "الحرب على الإرهاب*". كما تكشف وقائع التدخل وسيرورته،* منذ بداياته المبكرة،* عن أنه لم* يكن* يستهدف بالفعل،* خاصة في* مراحله الأولي،* بؤر الإرهاب الحقيقية،* الذي* كان* يتمدد وتتنامى قوته في* أفغانستان طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين،* في* ظل حالة جلية من فشل الدولة،* بقدر ما كان* يستهدف دولا محورية في* إعادة تعريف المصالح الأمريكية في* حقبة ما بعد الحرب الباردة،* مثلما كان الحال بالنسبة للعراق،* الذي* رغم وجود نظام استبدادي* على قمة السلطة فيه،* فإنه لم* يكن من الممكن وصفه بالدولة الفاشلة إلا في* حدود تأثيرات العقوبات الدولية،* والحصار الضار الذي* تعرض له منذ* غزوه الكويت في* أغسطس* 1990*.
وبالمثل،* فإن برامج دعم أفراد وتنظيمات خارج إطار البناء الرسمي* لمؤسسات الدولة،* التي* تم تطبيقها عقب هجمات* 11 سبتمبر* 2011،* في* إطار مبادرة باول للشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* لم تستهدف بدورها الدول الأكثر فشلا،* بل والمنهارة بالفعل عبر المنطقة،* مثل الصومال،* أو دول إفريقيا جنوب الصحراء المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،* بقدر ما استهدفت دولا محورية في* الشرق الأوسط،* مثل مصر،* وتونس،* والمغرب،* وهي* دول،* رغم الطبيعة التسلطية لأنظمتها الحاكمة في* هذا التاريخ،* لم* يكن من الممكن تصنيفها ضمن الدول الفاشلة،* أو العاجزة عن بسط هيمنتها على كامل إقليمها،* وممارسة سيادتها عليه،* أو المعرضة لمخاطر جسيمة،* جراء القصور الوظيفي* لبعض مؤسساتها*. وبالتالي،* يبدو أن استخدام فشل الدولة لتسويغ* محاولات التدخل الناعمة،* أو حتى الخشنة،* التي* قامت بها الجماعة الأورو-أطلسية لإحداث تغييرات جوهرية في* هيكل السلطة في* عدد من دول الشرق الأوسط،* لم* يكن في* أفضل الأحوال إلا خطاب مخاتلة* يُستخدم شعارات الإصلاح السياسي،* والاقتصادي،* والاجتماعي* للتمويه على أهداف أخري تندرج ضمن سياسة متواصلة لإعادة الهندسة الإقليمية،* قد تختلف في* أدواتها،* وفي* ومداها،* لكن لا تختلف في* جوهرها،* وهو إعادة تعريف الشرق الأوسط،* ورسم خرائط النفوذ فيه بما* يتوافق مع مصالح القيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي*.
وفي* هذا الإطار،* يمكن تحديد أبرز خصائص سياق خطاب الإصلاح/إعادة البناء في* الشرق الأوسط،* الذي* تم إطلاقه من قبل الجماعة الأورو-أطلسية تحت القيادة الأمريكية،* فيما* يأتي*:
1*- ارتبط نقل مفاهيم الدولة الفاشلة وإعادة البناء إلى فضاء التفاعلات الإقليمية في* الشرق الأوسط بمرحلة إعادة هندسة الولايات المتحدة لحضورها في* المنطقة*. ومع تباين الأدوات المستخدمة في* هذا السياق بين الإدارات الديمقراطية،* التي* غلب عليها استخدام أدوات السياسة الناعمة،* (غير العنيفة وغير العسكرية*)،* أو الجمهورية التي* غلب على خبرة إدارتي* جورج بوش الابن توظيفها الأدوات العسكرية،* فإن أهداف إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية الأساسية تمثلت في*:
أ*- خفض عبء دعم الحلفاء التقليديين من الحكام العرب وحمايتهم،* بعدما تراجعت أهميتهم كثيرا في* النسق الإدراكي* الأمريكي* في* ظل* "أوهام*" انتهاء التنافس القطبي* على مقدرات المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي*. وتعزز هذا الإدراك مع هجمات* 11سبتمبر* 2011* التي* تم تفسيرها،* بشكل قاصر،* بعدّها مجرد نتيجة مباشرة لدعم الولايات المتحدة لهؤلاء الحكام،* وليس جراء مجمل سياساتها وحضورها في* "الفضاء الإسلامي*" الذي* تتصوره وتستهدف تحقيقه تيارات الإسلام السياسي،* بأجنحتها وتنظيماتها المختلفة*.
ب*- إعادة تعريف المنطقة لتسع باكستان وأفغانستان في* إطار ما عُرف بـ* "الشرق الأوسط الكبير*" الذي* يستهدف بالأساس،* من جهة،* محاولة عزل الدولتين ذواتي الأغلبية المسلمة،* ودمجهما في* الفضاء الشرق الأوسطي* وصراعاته،* وليس فضاء جنوب آسيا الذي* أرادته السياسة الأمريكية خلوا من تأثيرات منظور* "الصراع مع الإسلام*"،* من جهة أخري*. ويقع في* القلب من محاولة خلق هذالارتباط الهيكلي تعزيز ارتباط دول الخليج العربية بكلتا الدولتين،* ومحاولة موازنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الباكستانية،* وبالفوضى الضاربة في* أفغانستان*. ويؤكد هذا التوجه سمت ترسيخ التباين الحضاري* المؤسس دينيا،* والذي* أطر فكريا لمبادرات إعادة البناء في* الشرق الأوسط في* النسق المعرفي* الغربي*.
جـ* - خلق فضاء صراعات جديد* يهمش من محورية القضية الفلسطينية،* بعدّها القضية المركزية التي* تأسس حولها مفهوم السياسات الشرق أوسطية طوال ما* يزيد على نصف قرن حتى مطلع الألفية الجديدة*.
2*- تأطير مبادرات الإصلاح،* وإعادة البناء ضمن فكرة* "صراع الحضارات*" التي* تجسدت فيما وراء الإنتاج المعرفي* للنخبة السياسية الأمريكية،* مثل صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس،* على مستوى رسم خرائط المنطقة،* مثلما سلفت الإشارة،* وكما تجلي في* إعادة تعريف وظيفة حلف شمال الأطلسي،* خلال قمة واشنطن في* عام* 1999،* من الدفاع عن حدود دول الحلف للدفاع عن مصالحه،* وهو التغيير الذي* تجلي في* محاولة تعزيز حضور الحلف في* هلال الأزمات الممتد من وسط آسيا وحتى شمال إفريقيا*.
ويختلف هذا التأطير الحضاري* عن التدخل الأورو-أطلسي* في* شرق أوروبا،* والذي* دفع باتجاه تعزيز الصراعات داخلها،* خاصة في* يوغوسلافيا السابقة،* في* إطار من الصراع على الجغرافيا مع بقايا الأنظمة والنخب،* ذات الانتماءات الشيوعية،* أو الارتباطات المصلحية،* أو العرقية مع الإمبراطورية الروسية المريضة في* ذلك الوقت*. وإذا كان قد تم استخدام الدين في* بعض تلك الصراعات،* فقد كان ذلك في* إطار تكتيكي* مرحلي،* لم* يهدف إلى خلق فاصل،* أو عازل ثقافي* وقيمي* مع تلك المنطقة التي* واكب محاولة إعادة بناء دولها دمجها في* الفضاء السياسي* الأوروبي،* والفضاء الأمني* الأورو-أطلسي*.
كان الأمر على خلاف ذلك في* التعاطي* مع الشرق الأوسط،* الذي* كان عزله حضاريا أحد الأهداف البارزة للسياسة الأمريكية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين*. وهو الهدف الذي* تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط*. وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري* درجة مرتفعة نسبيا من القدرة على حشد الحلفاء،* خلف سياسات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية في* الشرق الأوسط،* فإنه قلص كثيرا من فرص نجاح هذه السياسات في* واقع بات معاديا بشكل تام للحضور الغربي،* على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة،* وفي* وجدان سكانها،* ووظفتها تيارات الإسلام السياسي* المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين،* وأنصار العقلانية*.
سراب الدولة في* الشرق الأوسط وإعادة إنتاج فشلها*:
حملت هاتان الخصيصتان بذور فشل محاولات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية*. فمن جهة،* خلق التوجه الأمريكي* لإعادة الهندسة الإقليمية،* والتحرر من عبء الحلفاء التقليديين حالة من عدم الثقة،* بل والعداء،* لدي كثير من الحكام العرب النافذين في* المنطقة،* قبل انتفاضات ما تمت تسميته،* في* إطار الترويج الإعلامي* للتغيير السياسي* في* المنطقة،* "الربيع العربي*". وتجلي هذا العداء في* عمل دول عربية رئيسية على إفشال المشروع الأمريكي* لإنتاج نموذج للتغيير السياسي* في* المنطقة انطلاقا من العراق*. ومن جهة ثانية،* أتاح إطار الصراع الحضاري* لتيارات الإسلام السياسي* استغلال محاولات إعادة الهندسة الأمريكية في* المنطقة لتعزيز حضورها،* بعدّها المدافعة عن قيم المنطقة وثقافتها في* مواجهة هذا الحضور الأمريكي،* وفي* مواجهة الحكام من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على السواء*.
وتصورت إدارة جورج بوش الابن أن العراق،* الذي* أنهكته العقوبات،* قد* يمثل قصب السبق بالنسبة لطموحاتها من أجل إعادة الهندسة الإقليمية*. وافترضت السياسة الأمريكية أن إحداثها تغييرا سياسيا مواتيا وخاضعا في* العراق،* الذي* كان مستقرا إثنيا تحت حكم صدام حسين،* ولم* يشهد بروز تيارات سلفية جهادية محافظة،* رغم هزيمته الساحقة في* حرب تحرير الكويت،* وسنوات الحصار الطويلة،* سيمثل حجر الدومينو الذي* يمكنه إطلاق موجة تغيير سياسي* مدار أمريكيا عبر المنطقة*. وواجه التدخل الأمريكي* كلا جناحي* العداء اللذين استحثتهما إعادة الهندسة المتصورة أمريكيا،* وهما الأنظمة الحاكمة القلقة على وجودها،* والإسلام السياسي،* الذي* وجد أكثر تياراته محافظة فرصة* غير مسبوقة لحشد الأنصار وتعبئتهم،* ليس في* العراق فحسب،* بل عبر المنطقة بأسرها،* من خلال استحضار شعارات الصراع المقدس*.
مشهد مماثل حدث قبلا في* أفغانستان،* وكانت محصلة أولي محاولات إعادة بناء الدولة في* الشرق الاوسط بشكل مباشر،* من قبل الولايات المتحدة،* فشلا كاملا*. فشلا أطلق حجر دومينو بالفعل في* السياسة الإقليمية،* لكنه حجر دومينو الفوضى،* وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة في* الشرق الأوسط*. وسرعان ما انتقلت السياسة الأمريكية بمنطق نفعي* تام خلو من أي* التزام أخلاقي* بما ادعته محاولة لحماية المنطقة من عوامل الهشاشة التي* تودي* بدولها إلى الفشل،* وخلو حتى من أي* التزام بالقيم الليبرالية المؤسسة للدولة الأمريكية بالمعني الشتراوسي،* نحو محاولة إدارة ما سمته وزيرة الخارجية الأمريكية،* إبان إدارة جورج بوش الابن الثانية،* "الفوضى الخلاقة*"،* وليس إدارة البناء،* مثلما كان التصور الموهوم مسبقا*.
ومن دون الاستغراق في* تفاصيل ما حدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم،* حيث لا* يتسع المقام لمثل هذا التفصيل،* بات* يبدو جليا أن الرهان الأمريكي،* في* ظل عملية إدارة الفوضى تلك،* على بعض تيارات الإسلام السياسي،* التي* وسمها الخطاب السياسي* الأمريكي،* وخطابات عدد مهم من حلفائها،* لا سيما بريطانيا وألمانيا،* بـ* "المعتدلة*"،* لم* ينتج إلا مزيدا من تردي* الدول المأزومة في* المنطقة في* هاوية الفشل،* وإعادة إنتاجه،* وإدامة العوامل المحفزة لفشل دول أخري عبر الإقليم،* من دون اكثراث حقيقي* من قبل الجماعة الأورو-أطلسية بإعادة بناء الدولة في* المنطقة فعليا،* بل بمجرد إدارة الصراع على السلطة،* واحتواء التهديدات،* وإبقائها داخل المنطقة لتحترق بها دولها*.
ولعل كلمة السر في* فشل محاولات إعادة البناء،* التي* بادر المعسكر المنتصر في* الحرب الباردة،* فضلا عن الخصيصتين السالف توضيحهما،* إنما تكمن في* حقيقة أن ظاهرة الدولة التي* تعرفها المنطقة هي* في* جزء كبير منها تندرج في* إطار ما* يمكن وصفه بـ* "سراب الدولة*"،* وليس الدولة الحقيقية*.
ولتوضيح هذا المفهوم،* يتعين أن نستحضر مفاهيم الدولة التي* طورت في* إطار السيرورة السياسية الغربية*. ويمكن أن نحدد ثلاثة اقترابات شديدة الأهمية،* طورتها الأدبيات السياسية الغربية لتعريف الدولة*. أول تلك الاقترابات هو اقتراب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني* ماكس فيبر،* الذي* يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف،* وممارسة الضبط على كامل إقليمها*. ويركز هذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجود الدولة*. بينما* يذهب الاقتراب الثاني،* الذي* يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي* بيير بورديو،* خطوة أبعد،* وهو* يقرر أن* "الدولة هي* محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال*: رأس المال الإكراهي* (الجيش والشرطة*)،* ورأس المال الاقتصادي،* ورأس المال الثقافي* أو المعلوماتي،* ورأس المال الرمزي*. يمنح هذا التركيز الدولة نوعا من رأس المال الفريد،* الذي* يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها*". وبحسب هذا الاقتراب الاجتماعي،* تعد الدولة بحسب،* بورديو،* تجسيد لمجموع رءوس الأموال التي* تجعلها وحدة تتفوق على كل حائزي* القوة الآخرين*.
يركز كلا الاقترابين السابقين على الطبيعة الإكراهية لوجود الدولة،* في* حين* يذهب الاقتراب الثالث والأخير خطوة أبعد من الاقترابين السابقين،* حيث* يحاول دمج القبول الطوعي* للمجتمع بحقيقة وجود الدولة واستمرارها*. يعكس هذا الاقتراب تعريف أحد أبرز دارسي* الأمن الدولي،* باري* بوزان،* للدولة،* حيث* يقول* "توفر السيادة العامل الجوهري* الذي* يميز الدولة عن* غيرها من الوحدات الاجتماعية الأخرى*. الدولة هي* الصمغ* الذي* يربط حزمة الإقليمي*-السياسي*-الاجتماعي* معا*".
وإذا كان ممكنا أن نجد الدولة بالمعني الإكراهي* الاحتكاري* الذي* قدمه الاقترابان الأولان في* عدد من الدول في* الشرق الأوسط،* فإن الدولة،* بمعناها الأخير الذي* يقدمه بوزان،* هي* ظاهرة نادرة الوجود في* الشرق الأوسط*. وباستثناء إسرائيل التي* تمثل دولة عنصرية الطابع،* فإن أبرز نماذج دولة بوزان في* الشرق الأوسط هي* الدولة المصرية التي* تكونت لحمتها القومية عبر تاريخ ممتد من التفاعلات بين البشر،* والأرض،* والسلطة بشكل لا* يتيح أي* انفصال بينها*. ولعل هذا الميراث التاريخي* هو فقط الذي* يمكنه أن* يفسر بقاء تلك الدولة عبر كل الأزمات الحادة التي* جابهتها،* وعبر قدرتها على مواجهة حالات الانهيار* غير المسبوقة،* التي* شهدتها المنطقة في* السنوات الست الأخيرة،* رغم الوضع الاقتصادي* المأزوم للدولة،* ومحاولات استنزافها خارجيا وداخليا،* وتعرض قدرتها على الإكراه لقدر* غير بسيط من التآكل،* في* ظل أزمتها الاقتصادية الممتدة*. ويمكن أن نلمح بعض مقومات دولة بوازن تلك،* بدرجات متفاوتة،* في* كل من المغرب،* وإيران،* وتركيا*. عدا ذلك فإن،* أغلب دول المنطقة لا تمثل،* وفقا لهذا المعني سوي حالة* "سراب الدولة*"،* وهي* حالة لا تتحقق فيها هذه اللحمة بين المجتمع والسلطة،* والإقليم بعيدا عن الطابع الإكراهي،* أو الاحتكاري للثروة*.
وفضلا عن حداثة نشأة الدولة في* الشرق الأوسط،* فإن ما* يمكن أن* يفسر العجز عن الانتقال بها من الدولة المصطنعة إلى دولة قومية حقيقية بالمعني الإدماجي* السابق الإشارة إليه،* هو هيمنة نسق الإقصاء في* بنائها على حساب خلق بوتقة صهر تستوعب على الأقل الجزء الأكبر المتنوع من سكانها*. وكانت لعنة الموارد وطبيعتها الريعية،* فضلا عن التدخلات الخارجية،* عاملين أساسيين في* تكريس نسق الإقصاء في* بناء الدولة في* الشرق الأوسط،* لكن لا* يمكن إنكار أثر الاستسلام النخبوي لكلا العاملين في* إدامة هذه الحالة وتكريسها*.
في* هذا الإطار فقط،* يمكن فهم لماذا تديم مبادرات إعادة البناء الأورو-أطلسية حالة فشل الدولة في* المنطقة،* وتهدد بانتشارها،* حال تعرض القدرة الإكراهية أو الاحتكارية-الرعوية للدول التي* لا تزال تحتفظ بصورة الاستقرار إلى التآكل؟*. ويمكن تحديد أبرز عوامل قصور تلك المبادرات عن تجاوز هذه الحال فيما* يأتي*:
أ*- تركيزها على فكرة التغيير السلطوي* بعدّه الركيزة الأساسية لإعادة البناء،* بينما تغيب عن بنية الدولة الفعلية المقومات الإدماجية الرئيسية من اقتصاد حديث لا* يرتهن للمنطق الريعي،* وعقد اجتماعي* توافقي* لا* يمكن أن تخلقه إلا إرادة واعية حازمة وقوية من قبل قادة الرأيأي* والنخب المؤثرة،* أو* "ضريبة دم*" شديدة التكلفة بدأت المنطقة في* سدادها بالفعل*.
ب*- الرهان على تيارات الإسلام السياسي* كبديل للأنظمة الحليفة التقليدية،* بعدّ* تلك التيارات الأجدر على حشد الجماهير*. لكن هذه الرؤية تتغافل عن حقيقة مهمة دفعت السياسة الأوروبية ثمنا باهظا لتجاوزها،* إبان الحروب الدينية،* وهي* أن تيارات السياسة الدينية لا تعدّ* الدولة،* بمفهومها القومي* القائم على التنوع،* إلا عرضا،* فاسدا* يتعين تجاوزه*. وبالتالي،* فإن إحلال هؤلاء محل النخب الحاكمة التقليدية لا* يعني* فقط إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمت القداسة،* ولكن* يعني* أيضا،* وبشكل أكثر خطورة،* إهدار معني الدولة القومية بتنوعها،* مما* يهدد بمزيد من حالات الصراع الأهلي،* وانهيار الدول،* وانتشار التطرف والإرهاب*.
جـ* - القبول بمنطق تقسيم الدول القائمة،* وإنتاج خريطة* "وستفالية*" جديدة للدولة في* المنطقة على أسس إثنية،* لا* يمثل إلا هروبا من مواجهة عوامل الأزمة الحقيقية التي* أسهمت سياسات المعسكر الأورو-أطلسي* في* تكريسها،* إبان الحرب البادرة،* من خلال دعم الأنظمة التسلطية،* وحفزت على تفجيرها بعد انتهاء الصراع القطبي*. كما* يهدد مثل هذا القبول ليس فقط بجعل المنطقة موئلا دائما للتطرف والإرهاب،* ولكن أيضا بدفعها نحو حالة مستدامة من حروب الوكالة،* خاصة مع بروز العديد من قوى المراجعة في* النظام الدولي* التي* ترتبط مصالحها بشكل وثيق ومتنام بالمنطقة،* خاصة روسيا والصين*.
لا* يتعين أن* يعيد التاريخ ذاته،* مثلما ذهبنا آنفا عند الحديث عن ضريبة الدم التي* بدأت المنطقة في* دفعها بالفعل*. ويمكن لحالة مراجعة نخبوية جذرية من قبل السلطات الحاكمة في* كثير من دول المنطقة لمقدرات وجودها أن تيسر السبيل أمام فتح المجال لخلق بوتقة صهر تأخرت كثيرا،* لكن لم* ينعدم فرص استحضارها،* سواء في* الدول التي* لا تزال قادرة على حفظ درجة من درجات الاستقرار،* أو حتى الدول التي* عانت ويلات الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة*. ويبقي أخيرا تأكيد أن نجاح الدولة المصرية في* الخروج من عثرتها التنموية سيمثل نموذجا وطنيا رائدا* يمكنه أن* يقدم بديلا للمنطقة،* ويقودها بعيدا عن مبادرات إدامة فشل الدولة،* وهندسة المنطقة على أنقاضها التي* تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأورو-أطلسيون*.
http://www.kamellabiad.com/wp-content/uploads/2015/06/rothkopf_credit-istockphoto21.jpg
مالك عونى
أثبتت تطورات الأحداث في* منطقة الشرق الأوسط،* منذ* غزو العراق في* عام2003،* وبشكل أكثر جلاء وإلحاحا،* عقب الانتفاضات الشعبية،* والاضطرابات والصراعات الحادة،* التي* تفجرت في* المنطقة منذ عام* 2011،* أن الدولة لا تزال مهمة وأساسية لأداء عدد من الوظائف الجوهرية التي* لا* يمكن لأي* من الفاعلين الآخرين المتزايدة أدوارهم في* الساحة الدولية النهوض بها*.
أدى انهيار عدد من دول الشرق الأوسط التقليدي،* مثلما حدث في* العراق،* وسوريا،* وليبيا،* واليمن،* وعدد آخر من الدول المتاخمة للمنطقة،* مثلما هو الحال في* أفغانستان ومالي،* إلى مخاطر أمنية جمة،* أبرزها خلق مناطق فراغ* أمني* منحت فرصا* غير مسبوقة لانتشار التنظيمات الإرهابية،* وعصابات الجريمة المنظمة،* وتعزيز أنشطتها،* وقدرتها على التجنيد،* والحشد،* والتخطيط،* واستيعاب أي* ضربات تستهدفها،* فضلا عن إثارة أزمات اجتماعية وإنسانية حادة أطلقت موجات متتالية وكثيفة من المهاجرين واللاجئين*. ولم* يتوقف أثر هذه المخاطر وتداعياتها على حدود الإقليم،* بل باتت تلك الآثار والتداعيات أزمات ذات أبعاد ما وراء إقليمية،* تحمل المخاطر في* بعض الأحيان إلى أربعة أقطار المعمورة بأسرها*. المفارقة البارزة،* في* هذا الإطار،* أن هذا الانهيار،* وتلك الأزمات أتيا عقب محاولات تدخل عديدة،* ومتنوعة الأدوات والأبعاد،* قام بها أعضاء الجماعة الأورو-أطلسية لمواجهة ما سموه،* وروجوا له،* بعدّه فشلا للدولة في* منطقة الشرق الأوسط*.
بدأت محاولات التدخل تلك بشكل جلي* وفج في* وقت مبكر،* عقب هجمات الحادي* عشر من سبتمبر2001،* وتحديدا مع* غزو الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق بدعوي محاربة الإرهاب،* من خلال القضاء على الدولة الفاشلة،* بحسب التصنيف والرؤية الأمريكيين،* وإعادة بنائها*. لكن على الرغم من ذلك،* فإنه لا* يمكن إغفال أن المحاولات الأمريكية لإحداث تغيير في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط بدأت في* وقت مبكر مع توقيع الرئيس الأمريكي* الأسبق بيل كلينتون قانون تحرير العراق* (Iraq Liberation Act)* في* 31* أكتوبر* 1998،الذي* نص صراحة على العمل من أجل إحداث تغيير سياسي* في* العراق،* وهو القانون الذي* يتجاوز في* غاياته حدود سياسة الاحتواء المزدوج التي* اتبعتها إدارة بيل كلينتون الثانية إزاء كل من العراق وإيران*. واتسع نطاق أهداف التغيير السياسي،* الذي* تستهدفه الولايات المتحدة في* الشرق الأوسط،* مع إطلاق كولن باول،* وزير الخارجية في* الإدارة الأولي للرئيس الأمريكي* جورج بوش الابن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* وذلك خلال كلمة ألقاها في* مؤسسة هريتاج* Heritage Foundation،* أحد أهم مراكز التفكير المحافظة في* الولايات المتحدة،* ومن أوسعها نفوذا في* صنع السياسة العامة الأمريكية،* خاصة في* ظل الإدارات الجمهورية*. استهدفت تلك المبادرة دعم ما سمته إصلاحات سياسية،* واقتصادية،* واجتماعية في* دول الشرق الأوسط،* وشمال إفريقيا،* من خلال دعم الأفراد والجماعات،* بعيدا عن الإطار الرسمي* للدولة*.
تكشف تلك الوقائع،* وغيرها الكثير،* عن أن إحداث تغيير جوهري* في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط،* خاصة الدول العربية،* كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية،* منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين،* وإن بدرجات متفاوتة،* وأدوات متنوعة ومتباينة*. وكانت الحجة الرئيسية المعلنة وراء كل تلك المبادرات،* والمشاريع الهادفة لتغيير بنية الدولة العربية،* تحديدا في* الشرق الأوسط،* هي معالجة ما عدّته الولايات المتحدة وحلفاؤها عوامل فشل في* بنية تلك الدولة،* خاصة فيما* يتعلق بقدرتها على الاستيعاب السياسي،* والاجتماعي،* والاقتصادي* لجميع مكوناتها*. لكن المؤكد أن هذه الخبرة الممتدة نسبيا لإحداث تغيير في* هيكل الدولة في* الشرق الأوسط،* تحت مسميات مختلفة،* أثبتت فشلها في* معالجة جوانب فشل هذه الدولة،* ولم تكن في* أي* من تجاربها،* وبكل أنماطها،* سواء الناعمة،* كما تبدت في* مبادرات الإصلاح،* أو الخشنة،* كما تجسدت في* خبرات التدخل العسكري،* خبرة فعالة أو كفئا*. بل إنه* يمكن،* بدرجة كبيرة من التحقق،* ملاحظة أن خبرة التدخل تلك أسهمت في* مزيد من إضعاف الدولة في* الشرق الأوسط،* وإدامة فشلها،* وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة أكثر حدة،* وأخطر أثرا،* باتت تهدد ليس فقط بانهيار الدولة في* الشرق الأسط،* بل كذلك مجمل الاستقرار والأمن،* إقليميا وعالميا على السواء*.
وبالنظر إلى أن أغلب تلك المبادرات والمشاريع،* التي* تذرعت بمحاولة إصلاح الدولة في* الشرق الأوسط،* وتجنب فشلها،* نبع،* مثلما كان الحال تاريخيا في* تجارب إعادة البناء السابقة،* من داخل الجماعة الأورو-أطلسية،* والمؤسسات الدولية وثيقة الصلة بها،* ولم* ينبع بالأساس من داخل الدولة في* الشرق الأوسط،* فإنه* يتعين البحث،* من جهة،* في* أسباب فشل تلك المحاولات،* خاصة إذا ما قورنت بخبرات إعادة بناء الدولة التي* انتهجتها هذه الجماعة في* مراحل سابقة،* سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في* كل من ألمانيا واليابان،* أو عقب نهاية الحرب الباردة في* شرق أوروبا،* ومن جهة أخري في* تحديد عوامل الفشل المستعصي* على الإصلاح/إعادة البناء في* الكثير من دول الشرق الأوسط لبيان ما تستلزمه إقالة تلك المنطقة من عثراتها متعددة الأبعاد التي* باتت تهدد ليس فقط صلاحيتها،* كفاعل دولي* إيجابي،* ولكن حتى الوجود المادي* والقانوني* للكثير من دولها،* وهو الخطر المرجح امتداده إلى دول أخري عديدة في* المنطقة،* ما لم تعالج جذوره المنتجة لحالة الفشل المستعصية تلك*.
سياقات التدخل وخطاب المخاتلة*:
يكشف الاستعراض السريع السابق لمحاولات القوى* "الغربية*"،* بقيادة الولايات المتحدة،* لإحداث تغييرات جوهرية في* بنية الدولة في* الشرق الأوسط،* تحت مسمي إعادة البناء،* أنها كانت سابقة لما سمي* "الحرب على الإرهاب*". كما تكشف وقائع التدخل وسيرورته،* منذ بداياته المبكرة،* عن أنه لم* يكن* يستهدف بالفعل،* خاصة في* مراحله الأولي،* بؤر الإرهاب الحقيقية،* الذي* كان* يتمدد وتتنامى قوته في* أفغانستان طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين،* في* ظل حالة جلية من فشل الدولة،* بقدر ما كان* يستهدف دولا محورية في* إعادة تعريف المصالح الأمريكية في* حقبة ما بعد الحرب الباردة،* مثلما كان الحال بالنسبة للعراق،* الذي* رغم وجود نظام استبدادي* على قمة السلطة فيه،* فإنه لم* يكن من الممكن وصفه بالدولة الفاشلة إلا في* حدود تأثيرات العقوبات الدولية،* والحصار الضار الذي* تعرض له منذ* غزوه الكويت في* أغسطس* 1990*.
وبالمثل،* فإن برامج دعم أفراد وتنظيمات خارج إطار البناء الرسمي* لمؤسسات الدولة،* التي* تم تطبيقها عقب هجمات* 11 سبتمبر* 2011،* في* إطار مبادرة باول للشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* لم تستهدف بدورها الدول الأكثر فشلا،* بل والمنهارة بالفعل عبر المنطقة،* مثل الصومال،* أو دول إفريقيا جنوب الصحراء المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،* بقدر ما استهدفت دولا محورية في* الشرق الأوسط،* مثل مصر،* وتونس،* والمغرب،* وهي* دول،* رغم الطبيعة التسلطية لأنظمتها الحاكمة في* هذا التاريخ،* لم* يكن من الممكن تصنيفها ضمن الدول الفاشلة،* أو العاجزة عن بسط هيمنتها على كامل إقليمها،* وممارسة سيادتها عليه،* أو المعرضة لمخاطر جسيمة،* جراء القصور الوظيفي* لبعض مؤسساتها*. وبالتالي،* يبدو أن استخدام فشل الدولة لتسويغ* محاولات التدخل الناعمة،* أو حتى الخشنة،* التي* قامت بها الجماعة الأورو-أطلسية لإحداث تغييرات جوهرية في* هيكل السلطة في* عدد من دول الشرق الأوسط،* لم* يكن في* أفضل الأحوال إلا خطاب مخاتلة* يُستخدم شعارات الإصلاح السياسي،* والاقتصادي،* والاجتماعي* للتمويه على أهداف أخري تندرج ضمن سياسة متواصلة لإعادة الهندسة الإقليمية،* قد تختلف في* أدواتها،* وفي* ومداها،* لكن لا تختلف في* جوهرها،* وهو إعادة تعريف الشرق الأوسط،* ورسم خرائط النفوذ فيه بما* يتوافق مع مصالح القيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي*.
وفي* هذا الإطار،* يمكن تحديد أبرز خصائص سياق خطاب الإصلاح/إعادة البناء في* الشرق الأوسط،* الذي* تم إطلاقه من قبل الجماعة الأورو-أطلسية تحت القيادة الأمريكية،* فيما* يأتي*:
1*- ارتبط نقل مفاهيم الدولة الفاشلة وإعادة البناء إلى فضاء التفاعلات الإقليمية في* الشرق الأوسط بمرحلة إعادة هندسة الولايات المتحدة لحضورها في* المنطقة*. ومع تباين الأدوات المستخدمة في* هذا السياق بين الإدارات الديمقراطية،* التي* غلب عليها استخدام أدوات السياسة الناعمة،* (غير العنيفة وغير العسكرية*)،* أو الجمهورية التي* غلب على خبرة إدارتي* جورج بوش الابن توظيفها الأدوات العسكرية،* فإن أهداف إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية الأساسية تمثلت في*:
أ*- خفض عبء دعم الحلفاء التقليديين من الحكام العرب وحمايتهم،* بعدما تراجعت أهميتهم كثيرا في* النسق الإدراكي* الأمريكي* في* ظل* "أوهام*" انتهاء التنافس القطبي* على مقدرات المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي*. وتعزز هذا الإدراك مع هجمات* 11سبتمبر* 2011* التي* تم تفسيرها،* بشكل قاصر،* بعدّها مجرد نتيجة مباشرة لدعم الولايات المتحدة لهؤلاء الحكام،* وليس جراء مجمل سياساتها وحضورها في* "الفضاء الإسلامي*" الذي* تتصوره وتستهدف تحقيقه تيارات الإسلام السياسي،* بأجنحتها وتنظيماتها المختلفة*.
ب*- إعادة تعريف المنطقة لتسع باكستان وأفغانستان في* إطار ما عُرف بـ* "الشرق الأوسط الكبير*" الذي* يستهدف بالأساس،* من جهة،* محاولة عزل الدولتين ذواتي الأغلبية المسلمة،* ودمجهما في* الفضاء الشرق الأوسطي* وصراعاته،* وليس فضاء جنوب آسيا الذي* أرادته السياسة الأمريكية خلوا من تأثيرات منظور* "الصراع مع الإسلام*"،* من جهة أخري*. ويقع في* القلب من محاولة خلق هذالارتباط الهيكلي تعزيز ارتباط دول الخليج العربية بكلتا الدولتين،* ومحاولة موازنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الباكستانية،* وبالفوضى الضاربة في* أفغانستان*. ويؤكد هذا التوجه سمت ترسيخ التباين الحضاري* المؤسس دينيا،* والذي* أطر فكريا لمبادرات إعادة البناء في* الشرق الأوسط في* النسق المعرفي* الغربي*.
جـ* - خلق فضاء صراعات جديد* يهمش من محورية القضية الفلسطينية،* بعدّها القضية المركزية التي* تأسس حولها مفهوم السياسات الشرق أوسطية طوال ما* يزيد على نصف قرن حتى مطلع الألفية الجديدة*.
2*- تأطير مبادرات الإصلاح،* وإعادة البناء ضمن فكرة* "صراع الحضارات*" التي* تجسدت فيما وراء الإنتاج المعرفي* للنخبة السياسية الأمريكية،* مثل صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس،* على مستوى رسم خرائط المنطقة،* مثلما سلفت الإشارة،* وكما تجلي في* إعادة تعريف وظيفة حلف شمال الأطلسي،* خلال قمة واشنطن في* عام* 1999،* من الدفاع عن حدود دول الحلف للدفاع عن مصالحه،* وهو التغيير الذي* تجلي في* محاولة تعزيز حضور الحلف في* هلال الأزمات الممتد من وسط آسيا وحتى شمال إفريقيا*.
ويختلف هذا التأطير الحضاري* عن التدخل الأورو-أطلسي* في* شرق أوروبا،* والذي* دفع باتجاه تعزيز الصراعات داخلها،* خاصة في* يوغوسلافيا السابقة،* في* إطار من الصراع على الجغرافيا مع بقايا الأنظمة والنخب،* ذات الانتماءات الشيوعية،* أو الارتباطات المصلحية،* أو العرقية مع الإمبراطورية الروسية المريضة في* ذلك الوقت*. وإذا كان قد تم استخدام الدين في* بعض تلك الصراعات،* فقد كان ذلك في* إطار تكتيكي* مرحلي،* لم* يهدف إلى خلق فاصل،* أو عازل ثقافي* وقيمي* مع تلك المنطقة التي* واكب محاولة إعادة بناء دولها دمجها في* الفضاء السياسي* الأوروبي،* والفضاء الأمني* الأورو-أطلسي*.
كان الأمر على خلاف ذلك في* التعاطي* مع الشرق الأوسط،* الذي* كان عزله حضاريا أحد الأهداف البارزة للسياسة الأمريكية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين*. وهو الهدف الذي* تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط*. وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري* درجة مرتفعة نسبيا من القدرة على حشد الحلفاء،* خلف سياسات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية في* الشرق الأوسط،* فإنه قلص كثيرا من فرص نجاح هذه السياسات في* واقع بات معاديا بشكل تام للحضور الغربي،* على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة،* وفي* وجدان سكانها،* ووظفتها تيارات الإسلام السياسي* المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين،* وأنصار العقلانية*.
سراب الدولة في* الشرق الأوسط وإعادة إنتاج فشلها*:
حملت هاتان الخصيصتان بذور فشل محاولات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية*. فمن جهة،* خلق التوجه الأمريكي* لإعادة الهندسة الإقليمية،* والتحرر من عبء الحلفاء التقليديين حالة من عدم الثقة،* بل والعداء،* لدي كثير من الحكام العرب النافذين في* المنطقة،* قبل انتفاضات ما تمت تسميته،* في* إطار الترويج الإعلامي* للتغيير السياسي* في* المنطقة،* "الربيع العربي*". وتجلي هذا العداء في* عمل دول عربية رئيسية على إفشال المشروع الأمريكي* لإنتاج نموذج للتغيير السياسي* في* المنطقة انطلاقا من العراق*. ومن جهة ثانية،* أتاح إطار الصراع الحضاري* لتيارات الإسلام السياسي* استغلال محاولات إعادة الهندسة الأمريكية في* المنطقة لتعزيز حضورها،* بعدّها المدافعة عن قيم المنطقة وثقافتها في* مواجهة هذا الحضور الأمريكي،* وفي* مواجهة الحكام من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على السواء*.
وتصورت إدارة جورج بوش الابن أن العراق،* الذي* أنهكته العقوبات،* قد* يمثل قصب السبق بالنسبة لطموحاتها من أجل إعادة الهندسة الإقليمية*. وافترضت السياسة الأمريكية أن إحداثها تغييرا سياسيا مواتيا وخاضعا في* العراق،* الذي* كان مستقرا إثنيا تحت حكم صدام حسين،* ولم* يشهد بروز تيارات سلفية جهادية محافظة،* رغم هزيمته الساحقة في* حرب تحرير الكويت،* وسنوات الحصار الطويلة،* سيمثل حجر الدومينو الذي* يمكنه إطلاق موجة تغيير سياسي* مدار أمريكيا عبر المنطقة*. وواجه التدخل الأمريكي* كلا جناحي* العداء اللذين استحثتهما إعادة الهندسة المتصورة أمريكيا،* وهما الأنظمة الحاكمة القلقة على وجودها،* والإسلام السياسي،* الذي* وجد أكثر تياراته محافظة فرصة* غير مسبوقة لحشد الأنصار وتعبئتهم،* ليس في* العراق فحسب،* بل عبر المنطقة بأسرها،* من خلال استحضار شعارات الصراع المقدس*.
مشهد مماثل حدث قبلا في* أفغانستان،* وكانت محصلة أولي محاولات إعادة بناء الدولة في* الشرق الاوسط بشكل مباشر،* من قبل الولايات المتحدة،* فشلا كاملا*. فشلا أطلق حجر دومينو بالفعل في* السياسة الإقليمية،* لكنه حجر دومينو الفوضى،* وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة في* الشرق الأوسط*. وسرعان ما انتقلت السياسة الأمريكية بمنطق نفعي* تام خلو من أي* التزام أخلاقي* بما ادعته محاولة لحماية المنطقة من عوامل الهشاشة التي* تودي* بدولها إلى الفشل،* وخلو حتى من أي* التزام بالقيم الليبرالية المؤسسة للدولة الأمريكية بالمعني الشتراوسي،* نحو محاولة إدارة ما سمته وزيرة الخارجية الأمريكية،* إبان إدارة جورج بوش الابن الثانية،* "الفوضى الخلاقة*"،* وليس إدارة البناء،* مثلما كان التصور الموهوم مسبقا*.
ومن دون الاستغراق في* تفاصيل ما حدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم،* حيث لا* يتسع المقام لمثل هذا التفصيل،* بات* يبدو جليا أن الرهان الأمريكي،* في* ظل عملية إدارة الفوضى تلك،* على بعض تيارات الإسلام السياسي،* التي* وسمها الخطاب السياسي* الأمريكي،* وخطابات عدد مهم من حلفائها،* لا سيما بريطانيا وألمانيا،* بـ* "المعتدلة*"،* لم* ينتج إلا مزيدا من تردي* الدول المأزومة في* المنطقة في* هاوية الفشل،* وإعادة إنتاجه،* وإدامة العوامل المحفزة لفشل دول أخري عبر الإقليم،* من دون اكثراث حقيقي* من قبل الجماعة الأورو-أطلسية بإعادة بناء الدولة في* المنطقة فعليا،* بل بمجرد إدارة الصراع على السلطة،* واحتواء التهديدات،* وإبقائها داخل المنطقة لتحترق بها دولها*.
ولعل كلمة السر في* فشل محاولات إعادة البناء،* التي* بادر المعسكر المنتصر في* الحرب الباردة،* فضلا عن الخصيصتين السالف توضيحهما،* إنما تكمن في* حقيقة أن ظاهرة الدولة التي* تعرفها المنطقة هي* في* جزء كبير منها تندرج في* إطار ما* يمكن وصفه بـ* "سراب الدولة*"،* وليس الدولة الحقيقية*.
ولتوضيح هذا المفهوم،* يتعين أن نستحضر مفاهيم الدولة التي* طورت في* إطار السيرورة السياسية الغربية*. ويمكن أن نحدد ثلاثة اقترابات شديدة الأهمية،* طورتها الأدبيات السياسية الغربية لتعريف الدولة*. أول تلك الاقترابات هو اقتراب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني* ماكس فيبر،* الذي* يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف،* وممارسة الضبط على كامل إقليمها*. ويركز هذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجود الدولة*. بينما* يذهب الاقتراب الثاني،* الذي* يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي* بيير بورديو،* خطوة أبعد،* وهو* يقرر أن* "الدولة هي* محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال*: رأس المال الإكراهي* (الجيش والشرطة*)،* ورأس المال الاقتصادي،* ورأس المال الثقافي* أو المعلوماتي،* ورأس المال الرمزي*. يمنح هذا التركيز الدولة نوعا من رأس المال الفريد،* الذي* يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها*". وبحسب هذا الاقتراب الاجتماعي،* تعد الدولة بحسب،* بورديو،* تجسيد لمجموع رءوس الأموال التي* تجعلها وحدة تتفوق على كل حائزي* القوة الآخرين*.
يركز كلا الاقترابين السابقين على الطبيعة الإكراهية لوجود الدولة،* في* حين* يذهب الاقتراب الثالث والأخير خطوة أبعد من الاقترابين السابقين،* حيث* يحاول دمج القبول الطوعي* للمجتمع بحقيقة وجود الدولة واستمرارها*. يعكس هذا الاقتراب تعريف أحد أبرز دارسي* الأمن الدولي،* باري* بوزان،* للدولة،* حيث* يقول* "توفر السيادة العامل الجوهري* الذي* يميز الدولة عن* غيرها من الوحدات الاجتماعية الأخرى*. الدولة هي* الصمغ* الذي* يربط حزمة الإقليمي*-السياسي*-الاجتماعي* معا*".
وإذا كان ممكنا أن نجد الدولة بالمعني الإكراهي* الاحتكاري* الذي* قدمه الاقترابان الأولان في* عدد من الدول في* الشرق الأوسط،* فإن الدولة،* بمعناها الأخير الذي* يقدمه بوزان،* هي* ظاهرة نادرة الوجود في* الشرق الأوسط*. وباستثناء إسرائيل التي* تمثل دولة عنصرية الطابع،* فإن أبرز نماذج دولة بوزان في* الشرق الأوسط هي* الدولة المصرية التي* تكونت لحمتها القومية عبر تاريخ ممتد من التفاعلات بين البشر،* والأرض،* والسلطة بشكل لا* يتيح أي* انفصال بينها*. ولعل هذا الميراث التاريخي* هو فقط الذي* يمكنه أن* يفسر بقاء تلك الدولة عبر كل الأزمات الحادة التي* جابهتها،* وعبر قدرتها على مواجهة حالات الانهيار* غير المسبوقة،* التي* شهدتها المنطقة في* السنوات الست الأخيرة،* رغم الوضع الاقتصادي* المأزوم للدولة،* ومحاولات استنزافها خارجيا وداخليا،* وتعرض قدرتها على الإكراه لقدر* غير بسيط من التآكل،* في* ظل أزمتها الاقتصادية الممتدة*. ويمكن أن نلمح بعض مقومات دولة بوازن تلك،* بدرجات متفاوتة،* في* كل من المغرب،* وإيران،* وتركيا*. عدا ذلك فإن،* أغلب دول المنطقة لا تمثل،* وفقا لهذا المعني سوي حالة* "سراب الدولة*"،* وهي* حالة لا تتحقق فيها هذه اللحمة بين المجتمع والسلطة،* والإقليم بعيدا عن الطابع الإكراهي،* أو الاحتكاري للثروة*.
وفضلا عن حداثة نشأة الدولة في* الشرق الأوسط،* فإن ما* يمكن أن* يفسر العجز عن الانتقال بها من الدولة المصطنعة إلى دولة قومية حقيقية بالمعني الإدماجي* السابق الإشارة إليه،* هو هيمنة نسق الإقصاء في* بنائها على حساب خلق بوتقة صهر تستوعب على الأقل الجزء الأكبر المتنوع من سكانها*. وكانت لعنة الموارد وطبيعتها الريعية،* فضلا عن التدخلات الخارجية،* عاملين أساسيين في* تكريس نسق الإقصاء في* بناء الدولة في* الشرق الأوسط،* لكن لا* يمكن إنكار أثر الاستسلام النخبوي لكلا العاملين في* إدامة هذه الحالة وتكريسها*.
في* هذا الإطار فقط،* يمكن فهم لماذا تديم مبادرات إعادة البناء الأورو-أطلسية حالة فشل الدولة في* المنطقة،* وتهدد بانتشارها،* حال تعرض القدرة الإكراهية أو الاحتكارية-الرعوية للدول التي* لا تزال تحتفظ بصورة الاستقرار إلى التآكل؟*. ويمكن تحديد أبرز عوامل قصور تلك المبادرات عن تجاوز هذه الحال فيما* يأتي*:
أ*- تركيزها على فكرة التغيير السلطوي* بعدّه الركيزة الأساسية لإعادة البناء،* بينما تغيب عن بنية الدولة الفعلية المقومات الإدماجية الرئيسية من اقتصاد حديث لا* يرتهن للمنطق الريعي،* وعقد اجتماعي* توافقي* لا* يمكن أن تخلقه إلا إرادة واعية حازمة وقوية من قبل قادة الرأيأي* والنخب المؤثرة،* أو* "ضريبة دم*" شديدة التكلفة بدأت المنطقة في* سدادها بالفعل*.
ب*- الرهان على تيارات الإسلام السياسي* كبديل للأنظمة الحليفة التقليدية،* بعدّ* تلك التيارات الأجدر على حشد الجماهير*. لكن هذه الرؤية تتغافل عن حقيقة مهمة دفعت السياسة الأوروبية ثمنا باهظا لتجاوزها،* إبان الحروب الدينية،* وهي* أن تيارات السياسة الدينية لا تعدّ* الدولة،* بمفهومها القومي* القائم على التنوع،* إلا عرضا،* فاسدا* يتعين تجاوزه*. وبالتالي،* فإن إحلال هؤلاء محل النخب الحاكمة التقليدية لا* يعني* فقط إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمت القداسة،* ولكن* يعني* أيضا،* وبشكل أكثر خطورة،* إهدار معني الدولة القومية بتنوعها،* مما* يهدد بمزيد من حالات الصراع الأهلي،* وانهيار الدول،* وانتشار التطرف والإرهاب*.
جـ* - القبول بمنطق تقسيم الدول القائمة،* وإنتاج خريطة* "وستفالية*" جديدة للدولة في* المنطقة على أسس إثنية،* لا* يمثل إلا هروبا من مواجهة عوامل الأزمة الحقيقية التي* أسهمت سياسات المعسكر الأورو-أطلسي* في* تكريسها،* إبان الحرب البادرة،* من خلال دعم الأنظمة التسلطية،* وحفزت على تفجيرها بعد انتهاء الصراع القطبي*. كما* يهدد مثل هذا القبول ليس فقط بجعل المنطقة موئلا دائما للتطرف والإرهاب،* ولكن أيضا بدفعها نحو حالة مستدامة من حروب الوكالة،* خاصة مع بروز العديد من قوى المراجعة في* النظام الدولي* التي* ترتبط مصالحها بشكل وثيق ومتنام بالمنطقة،* خاصة روسيا والصين*.
لا* يتعين أن* يعيد التاريخ ذاته،* مثلما ذهبنا آنفا عند الحديث عن ضريبة الدم التي* بدأت المنطقة في* دفعها بالفعل*. ويمكن لحالة مراجعة نخبوية جذرية من قبل السلطات الحاكمة في* كثير من دول المنطقة لمقدرات وجودها أن تيسر السبيل أمام فتح المجال لخلق بوتقة صهر تأخرت كثيرا،* لكن لم* ينعدم فرص استحضارها،* سواء في* الدول التي* لا تزال قادرة على حفظ درجة من درجات الاستقرار،* أو حتى الدول التي* عانت ويلات الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة*. ويبقي أخيرا تأكيد أن نجاح الدولة المصرية في* الخروج من عثرتها التنموية سيمثل نموذجا وطنيا رائدا* يمكنه أن* يقدم بديلا للمنطقة،* ويقودها بعيدا عن مبادرات إدامة فشل الدولة،* وهندسة المنطقة على أنقاضها التي* تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأورو-أطلسيون*.