مشاهدة النسخة كاملة : إعادة إنتاج الفشل*: لماذا تديم مشاريع إعادة البناء"سراب الدولة"في الشرق الأوسط؟


aymaan noor
24-04-2017, 07:08 PM
إعادة إنتاج الفشل*: لماذا تديم مشاريع إعادة البناء"سراب الدولة"في الشرق الأوسط؟

http://www.kamellabiad.com/wp-content/uploads/2015/06/rothkopf_credit-istockphoto21.jpg

مالك عونى

أثبتت تطورات الأحداث في* ‬منطقة الشرق الأوسط،* ‬منذ* ‬غزو العراق في* ‬عام2003،* ‬وبشكل أكثر جلاء وإلحاحا،* ‬عقب الانتفاضات الشعبية،* ‬والاضطرابات والصراعات الحادة،* ‬التي* ‬تفجرت في* ‬المنطقة منذ عام* ‬2011،* ‬أن الدولة لا تزال مهمة وأساسية لأداء عدد من الوظائف الجوهرية التي* ‬لا* ‬يمكن لأي* ‬من الفاعلين الآخرين المتزايدة أدوارهم في* ‬الساحة الدولية النهوض بها*.‬

أدى انهيار عدد من دول الشرق الأوسط التقليدي،* ‬مثلما حدث في* ‬العراق،* ‬وسوريا،* ‬وليبيا،* ‬واليمن،* ‬وعدد آخر من الدول المتاخمة للمنطقة،* ‬مثلما هو الحال في* ‬أفغانستان ومالي،* ‬إلى مخاطر أمنية جمة،* ‬أبرزها خلق مناطق فراغ* ‬أمني* ‬منحت فرصا* ‬غير مسبوقة لانتشار التنظيمات الإرهابية،* ‬وعصابات الجريمة المنظمة،* ‬وتعزيز أنشطتها،* ‬وقدرتها على التجنيد،* ‬والحشد،* ‬والتخطيط،* ‬واستيعاب أي* ‬ضربات تستهدفها،* ‬فضلا عن إثارة أزمات اجتماعية وإنسانية حادة أطلقت موجات متتالية وكثيفة من المهاجرين واللاجئين*. ‬ولم* ‬يتوقف أثر هذه المخاطر وتداعياتها على حدود الإقليم،* ‬بل باتت تلك الآثار والتداعيات أزمات ذات أبعاد ما وراء إقليمية،* ‬تحمل المخاطر في* ‬بعض الأحيان إلى أربعة أقطار المعمورة بأسرها*. ‬المفارقة البارزة،* ‬في* ‬هذا الإطار،* ‬أن هذا الانهيار،* ‬وتلك الأزمات أتيا عقب محاولات تدخل عديدة،* ‬ومتنوعة الأدوات والأبعاد،* ‬قام بها أعضاء الجماعة الأورو-أطلسية لمواجهة ما سموه،* ‬وروجوا له،* ‬بعدّه فشلا للدولة في* ‬منطقة الشرق الأوسط*.‬

بدأت محاولات التدخل تلك بشكل جلي* ‬وفج في* ‬وقت مبكر،* ‬عقب هجمات الحادي* ‬عشر من سبتمبر2001،* ‬وتحديدا مع* ‬غزو الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق بدعوي محاربة الإرهاب،* ‬من خلال القضاء على الدولة الفاشلة،* ‬بحسب التصنيف والرؤية الأمريكيين،* ‬وإعادة بنائها*. ‬لكن على الرغم من ذلك،* ‬فإنه لا* ‬يمكن إغفال أن المحاولات الأمريكية لإحداث تغيير في* ‬بنية الدولة في* ‬الشرق الأوسط بدأت في* ‬وقت مبكر مع توقيع الرئيس الأمريكي* ‬الأسبق بيل كلينتون قانون تحرير العراق* ‬(Iraq Liberation Act)* ‬في* ‬31* ‬أكتوبر* ‬1998،الذي* ‬نص صراحة على العمل من أجل إحداث تغيير سياسي* ‬في* ‬العراق،* ‬وهو القانون الذي* ‬يتجاوز في* ‬غاياته حدود سياسة الاحتواء المزدوج التي* ‬اتبعتها إدارة بيل كلينتون الثانية إزاء كل من العراق وإيران*. ‬واتسع نطاق أهداف التغيير السياسي،* ‬الذي* ‬تستهدفه الولايات المتحدة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬مع إطلاق كولن باول،* ‬وزير الخارجية في* ‬الإدارة الأولي للرئيس الأمريكي* ‬جورج بوش الابن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* ‬وذلك خلال كلمة ألقاها في* ‬مؤسسة هريتاج* ‬Heritage Foundation،* ‬أحد أهم مراكز التفكير المحافظة في* ‬الولايات المتحدة،* ‬ومن أوسعها نفوذا في* ‬صنع السياسة العامة الأمريكية،* ‬خاصة في* ‬ظل الإدارات الجمهورية*. ‬استهدفت تلك المبادرة دعم ما سمته إصلاحات سياسية،* ‬واقتصادية،* ‬واجتماعية في* ‬دول الشرق الأوسط،* ‬وشمال إفريقيا،* ‬من خلال دعم الأفراد والجماعات،* ‬بعيدا عن الإطار الرسمي* ‬للدولة*.‬

تكشف تلك الوقائع،* ‬وغيرها الكثير،* ‬عن أن إحداث تغيير جوهري* ‬في* ‬بنية الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬خاصة الدول العربية،* ‬كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية،* ‬منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين،* ‬وإن بدرجات متفاوتة،* ‬وأدوات متنوعة ومتباينة*. ‬وكانت الحجة الرئيسية المعلنة وراء كل تلك المبادرات،* ‬والمشاريع الهادفة لتغيير بنية الدولة العربية،* ‬تحديدا في* ‬الشرق الأوسط،* ‬هي معالجة ما عدّته الولايات المتحدة وحلفاؤها عوامل فشل في* ‬بنية تلك الدولة،* ‬خاصة فيما* ‬يتعلق بقدرتها على الاستيعاب السياسي،* ‬والاجتماعي،* ‬والاقتصادي* ‬لجميع مكوناتها*. ‬لكن المؤكد أن هذه الخبرة الممتدة نسبيا لإحداث تغيير في* ‬هيكل الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬تحت مسميات مختلفة،* ‬أثبتت فشلها في* ‬معالجة جوانب فشل هذه الدولة،* ‬ولم تكن في* ‬أي* ‬من تجاربها،* ‬وبكل أنماطها،* ‬سواء الناعمة،* ‬كما تبدت في* ‬مبادرات الإصلاح،* ‬أو الخشنة،* ‬كما تجسدت في* ‬خبرات التدخل العسكري،* ‬خبرة فعالة أو كفئا*. ‬بل إنه* ‬يمكن،* ‬بدرجة كبيرة من التحقق،* ‬ملاحظة أن خبرة التدخل تلك أسهمت في* ‬مزيد من إضعاف الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬وإدامة فشلها،* ‬وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة أكثر حدة،* ‬وأخطر أثرا،* ‬باتت تهدد ليس فقط بانهيار الدولة في* ‬الشرق الأسط،* ‬بل كذلك مجمل الاستقرار والأمن،* ‬إقليميا وعالميا على السواء*.‬

وبالنظر إلى أن أغلب تلك المبادرات والمشاريع،* ‬التي* ‬تذرعت بمحاولة إصلاح الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬وتجنب فشلها،* ‬نبع،* ‬مثلما كان الحال تاريخيا في* ‬تجارب إعادة البناء السابقة،* ‬من داخل الجماعة الأورو-أطلسية،* ‬والمؤسسات الدولية وثيقة الصلة بها،* ‬ولم* ‬ينبع بالأساس من داخل الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬فإنه* ‬يتعين البحث،* ‬من جهة،* ‬في* ‬أسباب فشل تلك المحاولات،* ‬خاصة إذا ما قورنت بخبرات إعادة بناء الدولة التي* ‬انتهجتها هذه الجماعة في* ‬مراحل سابقة،* ‬سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في* ‬كل من ألمانيا واليابان،* ‬أو عقب نهاية الحرب الباردة في* ‬شرق أوروبا،* ‬ومن جهة أخري في* ‬تحديد عوامل الفشل المستعصي* ‬على الإصلاح/إعادة البناء في* ‬الكثير من دول الشرق الأوسط لبيان ما تستلزمه إقالة تلك المنطقة من عثراتها متعددة الأبعاد التي* ‬باتت تهدد ليس فقط صلاحيتها،* ‬كفاعل دولي* ‬إيجابي،* ‬ولكن حتى الوجود المادي* ‬والقانوني* ‬للكثير من دولها،* ‬وهو الخطر المرجح امتداده إلى دول أخري عديدة في* ‬المنطقة،* ‬ما لم تعالج جذوره المنتجة لحالة الفشل المستعصية تلك*.‬

سياقات التدخل وخطاب المخاتلة*:‬

يكشف الاستعراض السريع السابق لمحاولات القوى* "‬الغربية*"‬،* ‬بقيادة الولايات المتحدة،* ‬لإحداث تغييرات جوهرية في* ‬بنية الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬تحت مسمي إعادة البناء،* ‬أنها كانت سابقة لما سمي* "‬الحرب على الإرهاب*". ‬كما تكشف وقائع التدخل وسيرورته،* ‬منذ بداياته المبكرة،* ‬عن أنه لم* ‬يكن* ‬يستهدف بالفعل،* ‬خاصة في* ‬مراحله الأولي،* ‬بؤر الإرهاب الحقيقية،* ‬الذي* ‬كان* ‬يتمدد وتتنامى قوته في* ‬أفغانستان طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين،* ‬في* ‬ظل حالة جلية من فشل الدولة،* ‬بقدر ما كان* ‬يستهدف دولا محورية في* ‬إعادة تعريف المصالح الأمريكية في* ‬حقبة ما بعد الحرب الباردة،* ‬مثلما كان الحال بالنسبة للعراق،* ‬الذي* ‬رغم وجود نظام استبدادي* ‬على قمة السلطة فيه،* ‬فإنه لم* ‬يكن من الممكن وصفه بالدولة الفاشلة إلا في* ‬حدود تأثيرات العقوبات الدولية،* ‬والحصار الضار الذي* ‬تعرض له منذ* ‬غزوه الكويت في* ‬أغسطس* ‬1990*.‬

وبالمثل،* ‬فإن برامج دعم أفراد وتنظيمات خارج إطار البناء الرسمي* ‬لمؤسسات الدولة،* ‬التي* ‬تم تطبيقها عقب هجمات* ‬11 سبتمبر* ‬2011،* ‬في* ‬إطار مبادرة باول للشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،* ‬لم تستهدف بدورها الدول الأكثر فشلا،* ‬بل والمنهارة بالفعل عبر المنطقة،* ‬مثل الصومال،* ‬أو دول إفريقيا جنوب الصحراء المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،* ‬بقدر ما استهدفت دولا محورية في* ‬الشرق الأوسط،* ‬مثل مصر،* ‬وتونس،* ‬والمغرب،* ‬وهي* ‬دول،* ‬رغم الطبيعة التسلطية لأنظمتها الحاكمة في* ‬هذا التاريخ،* ‬لم* ‬يكن من الممكن تصنيفها ضمن الدول الفاشلة،* ‬أو العاجزة عن بسط هيمنتها على كامل إقليمها،* ‬وممارسة سيادتها عليه،* ‬أو المعرضة لمخاطر جسيمة،* ‬جراء القصور الوظيفي* ‬لبعض مؤسساتها*. ‬وبالتالي،* ‬يبدو أن استخدام فشل الدولة لتسويغ* ‬محاولات التدخل الناعمة،* ‬أو حتى الخشنة،* ‬التي* ‬قامت بها الجماعة الأورو-أطلسية لإحداث تغييرات جوهرية في* ‬هيكل السلطة في* ‬عدد من دول الشرق الأوسط،* ‬لم* ‬يكن في* ‬أفضل الأحوال إلا خطاب مخاتلة* ‬يُستخدم شعارات الإصلاح السياسي،* ‬والاقتصادي،* ‬والاجتماعي* ‬للتمويه على أهداف أخري تندرج ضمن سياسة متواصلة لإعادة الهندسة الإقليمية،* ‬قد تختلف في* ‬أدواتها،* ‬وفي* ‬ومداها،* ‬لكن لا تختلف في* ‬جوهرها،* ‬وهو إعادة تعريف الشرق الأوسط،* ‬ورسم خرائط النفوذ فيه بما* ‬يتوافق مع مصالح القيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي*.‬

وفي* ‬هذا الإطار،* ‬يمكن تحديد أبرز خصائص سياق خطاب الإصلاح/إعادة البناء في* ‬الشرق الأوسط،* ‬الذي* ‬تم إطلاقه من قبل الجماعة الأورو-أطلسية تحت القيادة الأمريكية،* ‬فيما* ‬يأتي*:‬

1*- ‬ارتبط نقل مفاهيم الدولة الفاشلة وإعادة البناء إلى فضاء التفاعلات الإقليمية في* ‬الشرق الأوسط بمرحلة إعادة هندسة الولايات المتحدة لحضورها في* ‬المنطقة*. ‬ومع تباين الأدوات المستخدمة في* ‬هذا السياق بين الإدارات الديمقراطية،* ‬التي* ‬غلب عليها استخدام أدوات السياسة الناعمة،* (‬غير العنيفة وغير العسكرية*)‬،* ‬أو الجمهورية التي* ‬غلب على خبرة إدارتي* ‬جورج بوش الابن توظيفها الأدوات العسكرية،* ‬فإن أهداف إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية الأساسية تمثلت في*:‬

أ*- ‬خفض عبء دعم الحلفاء التقليديين من الحكام العرب وحمايتهم،* ‬بعدما تراجعت أهميتهم كثيرا في* ‬النسق الإدراكي* ‬الأمريكي* ‬في* ‬ظل* "‬أوهام*" ‬انتهاء التنافس القطبي* ‬على مقدرات المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي*. ‬وتعزز هذا الإدراك مع هجمات* ‬11سبتمبر* ‬2011* ‬التي* ‬تم تفسيرها،* ‬بشكل قاصر،* ‬بعدّها مجرد نتيجة مباشرة لدعم الولايات المتحدة لهؤلاء الحكام،* ‬وليس جراء مجمل سياساتها وحضورها في* "‬الفضاء الإسلامي*" ‬الذي* ‬تتصوره وتستهدف تحقيقه تيارات الإسلام السياسي،* ‬بأجنحتها وتنظيماتها المختلفة*.‬

ب*- ‬إعادة تعريف المنطقة لتسع باكستان وأفغانستان في* ‬إطار ما عُرف بـ* "‬الشرق الأوسط الكبير*" ‬الذي* ‬يستهدف بالأساس،* ‬من جهة،* ‬محاولة عزل الدولتين ذواتي الأغلبية المسلمة،* ‬ودمجهما في* ‬الفضاء الشرق الأوسطي* ‬وصراعاته،* ‬وليس فضاء جنوب آسيا الذي* ‬أرادته السياسة الأمريكية خلوا من تأثيرات منظور* "‬الصراع مع الإسلام*"‬،* ‬من جهة أخري*. ‬ويقع في* ‬القلب من محاولة خلق هذالارتباط الهيكلي تعزيز ارتباط دول الخليج العربية بكلتا الدولتين،* ‬ومحاولة موازنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الباكستانية،* ‬وبالفوضى الضاربة في* ‬أفغانستان*. ‬ويؤكد هذا التوجه سمت ترسيخ التباين الحضاري* ‬المؤسس دينيا،* ‬والذي* ‬أطر فكريا لمبادرات إعادة البناء في* ‬الشرق الأوسط في* ‬النسق المعرفي* ‬الغربي*.‬

جـ* - ‬خلق فضاء صراعات جديد* ‬يهمش من محورية القضية الفلسطينية،* ‬بعدّها القضية المركزية التي* ‬تأسس حولها مفهوم السياسات الشرق أوسطية طوال ما* ‬يزيد على نصف قرن حتى مطلع الألفية الجديدة*.‬

2*- ‬تأطير مبادرات الإصلاح،* ‬وإعادة البناء ضمن فكرة* "‬صراع الحضارات*" ‬التي* ‬تجسدت فيما وراء الإنتاج المعرفي* ‬للنخبة السياسية الأمريكية،* ‬مثل صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس،* ‬على مستوى رسم خرائط المنطقة،* ‬مثلما سلفت الإشارة،* ‬وكما تجلي في* ‬إعادة تعريف وظيفة حلف شمال الأطلسي،* ‬خلال قمة واشنطن في* ‬عام* ‬1999،* ‬من الدفاع عن حدود دول الحلف للدفاع عن مصالحه،* ‬وهو التغيير الذي* ‬تجلي في* ‬محاولة تعزيز حضور الحلف في* ‬هلال الأزمات الممتد من وسط آسيا وحتى شمال إفريقيا*.‬

ويختلف هذا التأطير الحضاري* ‬عن التدخل الأورو-أطلسي* ‬في* ‬شرق أوروبا،* ‬والذي* ‬دفع باتجاه تعزيز الصراعات داخلها،* ‬خاصة في* ‬يوغوسلافيا السابقة،* ‬في* ‬إطار من الصراع على الجغرافيا مع بقايا الأنظمة والنخب،* ‬ذات الانتماءات الشيوعية،* ‬أو الارتباطات المصلحية،* ‬أو العرقية مع الإمبراطورية الروسية المريضة في* ‬ذلك الوقت*. ‬وإذا كان قد تم استخدام الدين في* ‬بعض تلك الصراعات،* ‬فقد كان ذلك في* ‬إطار تكتيكي* ‬مرحلي،* ‬لم* ‬يهدف إلى خلق فاصل،* ‬أو عازل ثقافي* ‬وقيمي* ‬مع تلك المنطقة التي* ‬واكب محاولة إعادة بناء دولها دمجها في* ‬الفضاء السياسي* ‬الأوروبي،* ‬والفضاء الأمني* ‬الأورو-أطلسي*. ‬

كان الأمر على خلاف ذلك في* ‬التعاطي* ‬مع الشرق الأوسط،* ‬الذي* ‬كان عزله حضاريا أحد الأهداف البارزة للسياسة الأمريكية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين*. ‬وهو الهدف الذي* ‬تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط*. ‬وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري* ‬درجة مرتفعة نسبيا من القدرة على حشد الحلفاء،* ‬خلف سياسات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية في* ‬الشرق الأوسط،* ‬فإنه قلص كثيرا من فرص نجاح هذه السياسات في* ‬واقع بات معاديا بشكل تام للحضور الغربي،* ‬على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة،* ‬وفي* ‬وجدان سكانها،* ‬ووظفتها تيارات الإسلام السياسي* ‬المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين،* ‬وأنصار العقلانية*.‬

سراب الدولة في* ‬الشرق الأوسط وإعادة إنتاج فشلها*:‬


حملت هاتان الخصيصتان بذور فشل محاولات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية*. ‬فمن جهة،* ‬خلق التوجه الأمريكي* ‬لإعادة الهندسة الإقليمية،* ‬والتحرر من عبء الحلفاء التقليديين حالة من عدم الثقة،* ‬بل والعداء،* ‬لدي كثير من الحكام العرب النافذين في* ‬المنطقة،* ‬قبل انتفاضات ما تمت تسميته،* ‬في* ‬إطار الترويج الإعلامي* ‬للتغيير السياسي* ‬في* ‬المنطقة،* "‬الربيع العربي*". ‬وتجلي هذا العداء في* ‬عمل دول عربية رئيسية على إفشال المشروع الأمريكي* ‬لإنتاج نموذج للتغيير السياسي* ‬في* ‬المنطقة انطلاقا من العراق*. ‬ومن جهة ثانية،* ‬أتاح إطار الصراع الحضاري* ‬لتيارات الإسلام السياسي* ‬استغلال محاولات إعادة الهندسة الأمريكية في* ‬المنطقة لتعزيز حضورها،* ‬بعدّها المدافعة عن قيم المنطقة وثقافتها في* ‬مواجهة هذا الحضور الأمريكي،* ‬وفي* ‬مواجهة الحكام من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على السواء*.‬

وتصورت إدارة جورج بوش الابن أن العراق،* ‬الذي* ‬أنهكته العقوبات،* ‬قد* ‬يمثل قصب السبق بالنسبة لطموحاتها من أجل إعادة الهندسة الإقليمية*. ‬وافترضت السياسة الأمريكية أن إحداثها تغييرا سياسيا مواتيا وخاضعا في* ‬العراق،* ‬الذي* ‬كان مستقرا إثنيا تحت حكم صدام حسين،* ‬ولم* ‬يشهد بروز تيارات سلفية جهادية محافظة،* ‬رغم هزيمته الساحقة في* ‬حرب تحرير الكويت،* ‬وسنوات الحصار الطويلة،* ‬سيمثل حجر الدومينو الذي* ‬يمكنه إطلاق موجة تغيير سياسي* ‬مدار أمريكيا عبر المنطقة*. ‬وواجه التدخل الأمريكي* ‬كلا جناحي* ‬العداء اللذين استحثتهما إعادة الهندسة المتصورة أمريكيا،* ‬وهما الأنظمة الحاكمة القلقة على وجودها،* ‬والإسلام السياسي،* ‬الذي* ‬وجد أكثر تياراته محافظة فرصة* ‬غير مسبوقة لحشد الأنصار وتعبئتهم،* ‬ليس في* ‬العراق فحسب،* ‬بل عبر المنطقة بأسرها،* ‬من خلال استحضار شعارات الصراع المقدس*.‬

مشهد مماثل حدث قبلا في* ‬أفغانستان،* ‬وكانت محصلة أولي محاولات إعادة بناء الدولة في* ‬الشرق الاوسط بشكل مباشر،* ‬من قبل الولايات المتحدة،* ‬فشلا كاملا*. ‬فشلا أطلق حجر دومينو بالفعل في* ‬السياسة الإقليمية،* ‬لكنه حجر دومينو الفوضى،* ‬وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة في* ‬الشرق الأوسط*. ‬وسرعان ما انتقلت السياسة الأمريكية بمنطق نفعي* ‬تام خلو من أي* ‬التزام أخلاقي* ‬بما ادعته محاولة لحماية المنطقة من عوامل الهشاشة التي* ‬تودي* ‬بدولها إلى الفشل،* ‬وخلو حتى من أي* ‬التزام بالقيم الليبرالية المؤسسة للدولة الأمريكية بالمعني الشتراوسي،* ‬نحو محاولة إدارة ما سمته وزيرة الخارجية الأمريكية،* ‬إبان إدارة جورج بوش الابن الثانية،* "‬الفوضى الخلاقة*"‬،* ‬وليس إدارة البناء،* ‬مثلما كان التصور الموهوم مسبقا*.‬

ومن دون الاستغراق في* ‬تفاصيل ما حدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم،* ‬حيث لا* ‬يتسع المقام لمثل هذا التفصيل،* ‬بات* ‬يبدو جليا أن الرهان الأمريكي،* ‬في* ‬ظل عملية إدارة الفوضى تلك،* ‬على بعض تيارات الإسلام السياسي،* ‬التي* ‬وسمها الخطاب السياسي* ‬الأمريكي،* ‬وخطابات عدد مهم من حلفائها،* ‬لا سيما بريطانيا وألمانيا،* ‬بـ* "‬المعتدلة*"‬،* ‬لم* ‬ينتج إلا مزيدا من تردي* ‬الدول المأزومة في* ‬المنطقة في* ‬هاوية الفشل،* ‬وإعادة إنتاجه،* ‬وإدامة العوامل المحفزة لفشل دول أخري عبر الإقليم،* ‬من دون اكثراث حقيقي* ‬من قبل الجماعة الأورو-أطلسية بإعادة بناء الدولة في* ‬المنطقة فعليا،* ‬بل بمجرد إدارة الصراع على السلطة،* ‬واحتواء التهديدات،* ‬وإبقائها داخل المنطقة لتحترق بها دولها*.‬

ولعل كلمة السر في* ‬فشل محاولات إعادة البناء،* ‬التي* ‬بادر المعسكر المنتصر في* ‬الحرب الباردة،* ‬فضلا عن الخصيصتين السالف توضيحهما،* ‬إنما تكمن في* ‬حقيقة أن ظاهرة الدولة التي* ‬تعرفها المنطقة هي* ‬في* ‬جزء كبير منها تندرج في* ‬إطار ما* ‬يمكن وصفه بـ* "‬سراب الدولة*"‬،* ‬وليس الدولة الحقيقية*.‬

ولتوضيح هذا المفهوم،* ‬يتعين أن نستحضر مفاهيم الدولة التي* ‬طورت في* ‬إطار السيرورة السياسية الغربية*. ‬ويمكن أن نحدد ثلاثة اقترابات شديدة الأهمية،* ‬طورتها الأدبيات السياسية الغربية لتعريف الدولة*. ‬أول تلك الاقترابات هو اقتراب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني* ‬ماكس فيبر،* ‬الذي* ‬يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف،* ‬وممارسة الضبط على كامل إقليمها*. ‬ويركز هذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجود الدولة*. ‬بينما* ‬يذهب الاقتراب الثاني،* ‬الذي* ‬يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي* ‬بيير بورديو،* ‬خطوة أبعد،* ‬وهو* ‬يقرر أن* "‬الدولة هي* ‬محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال*: ‬رأس المال الإكراهي* (‬الجيش والشرطة*)‬،* ‬ورأس المال الاقتصادي،* ‬ورأس المال الثقافي* ‬أو المعلوماتي،* ‬ورأس المال الرمزي*. ‬يمنح هذا التركيز الدولة نوعا من رأس المال الفريد،* ‬الذي* ‬يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها*". ‬وبحسب هذا الاقتراب الاجتماعي،* ‬تعد الدولة بحسب،* ‬بورديو،* ‬تجسيد لمجموع رءوس الأموال التي* ‬تجعلها وحدة تتفوق على كل حائزي* ‬القوة الآخرين*.‬

يركز كلا الاقترابين السابقين على الطبيعة الإكراهية لوجود الدولة،* ‬في* ‬حين* ‬يذهب الاقتراب الثالث والأخير خطوة أبعد من الاقترابين السابقين،* ‬حيث* ‬يحاول دمج القبول الطوعي* ‬للمجتمع بحقيقة وجود الدولة واستمرارها*. ‬يعكس هذا الاقتراب تعريف أحد أبرز دارسي* ‬الأمن الدولي،* ‬باري* ‬بوزان،* ‬للدولة،* ‬حيث* ‬يقول* "‬توفر السيادة العامل الجوهري* ‬الذي* ‬يميز الدولة عن* ‬غيرها من الوحدات الاجتماعية الأخرى*. ‬الدولة هي* ‬الصمغ* ‬الذي* ‬يربط حزمة الإقليمي*-‬السياسي*-‬الاجتماعي* ‬معا*".‬

وإذا كان ممكنا أن نجد الدولة بالمعني الإكراهي* ‬الاحتكاري* ‬الذي* ‬قدمه الاقترابان الأولان في* ‬عدد من الدول في* ‬الشرق الأوسط،* ‬فإن الدولة،* ‬بمعناها الأخير الذي* ‬يقدمه بوزان،* ‬هي* ‬ظاهرة نادرة الوجود في* ‬الشرق الأوسط*. ‬وباستثناء إسرائيل التي* ‬تمثل دولة عنصرية الطابع،* ‬فإن أبرز نماذج دولة بوزان في* ‬الشرق الأوسط هي* ‬الدولة المصرية التي* ‬تكونت لحمتها القومية عبر تاريخ ممتد من التفاعلات بين البشر،* ‬والأرض،* ‬والسلطة بشكل لا* ‬يتيح أي* ‬انفصال بينها*. ‬ولعل هذا الميراث التاريخي* ‬هو فقط الذي* ‬يمكنه أن* ‬يفسر بقاء تلك الدولة عبر كل الأزمات الحادة التي* ‬جابهتها،* ‬وعبر قدرتها على مواجهة حالات الانهيار* ‬غير المسبوقة،* ‬التي* ‬شهدتها المنطقة في* ‬السنوات الست الأخيرة،* ‬رغم الوضع الاقتصادي* ‬المأزوم للدولة،* ‬ومحاولات استنزافها خارجيا وداخليا،* ‬وتعرض قدرتها على الإكراه لقدر* ‬غير بسيط من التآكل،* ‬في* ‬ظل أزمتها الاقتصادية الممتدة*. ‬ويمكن أن نلمح بعض مقومات دولة بوازن تلك،* ‬بدرجات متفاوتة،* ‬في* ‬كل من المغرب،* ‬وإيران،* ‬وتركيا*. ‬عدا ذلك فإن،* ‬أغلب دول المنطقة لا تمثل،* ‬وفقا لهذا المعني سوي حالة* "‬سراب الدولة*"‬،* ‬وهي* ‬حالة لا تتحقق فيها هذه اللحمة بين المجتمع والسلطة،* ‬والإقليم بعيدا عن الطابع الإكراهي،* ‬أو الاحتكاري للثروة*.‬

وفضلا عن حداثة نشأة الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬فإن ما* ‬يمكن أن* ‬يفسر العجز عن الانتقال بها من الدولة المصطنعة إلى دولة قومية حقيقية بالمعني الإدماجي* ‬السابق الإشارة إليه،* ‬هو هيمنة نسق الإقصاء في* ‬بنائها على حساب خلق بوتقة صهر تستوعب على الأقل الجزء الأكبر المتنوع من سكانها*. ‬وكانت لعنة الموارد وطبيعتها الريعية،* ‬فضلا عن التدخلات الخارجية،* ‬عاملين أساسيين في* ‬تكريس نسق الإقصاء في* ‬بناء الدولة في* ‬الشرق الأوسط،* ‬لكن لا* ‬يمكن إنكار أثر الاستسلام النخبوي لكلا العاملين في* ‬إدامة هذه الحالة وتكريسها*.‬

في* ‬هذا الإطار فقط،* ‬يمكن فهم لماذا تديم مبادرات إعادة البناء الأورو-أطلسية حالة فشل الدولة في* ‬المنطقة،* ‬وتهدد بانتشارها،* ‬حال تعرض القدرة الإكراهية أو الاحتكارية-الرعوية للدول التي* ‬لا تزال تحتفظ بصورة الاستقرار إلى التآكل؟*. ‬ويمكن تحديد أبرز عوامل قصور تلك المبادرات عن تجاوز هذه الحال فيما* ‬يأتي*:‬

أ*- ‬تركيزها على فكرة التغيير السلطوي* ‬بعدّه الركيزة الأساسية لإعادة البناء،* ‬بينما تغيب عن بنية الدولة الفعلية المقومات الإدماجية الرئيسية من اقتصاد حديث لا* ‬يرتهن للمنطق الريعي،* ‬وعقد اجتماعي* ‬توافقي* ‬لا* ‬يمكن أن تخلقه إلا إرادة واعية حازمة وقوية من قبل قادة الرأيأي* ‬والنخب المؤثرة،* ‬أو* "‬ضريبة دم*" ‬شديدة التكلفة بدأت المنطقة في* ‬سدادها بالفعل*.‬

ب*- ‬الرهان على تيارات الإسلام السياسي* ‬كبديل للأنظمة الحليفة التقليدية،* ‬بعدّ* ‬تلك التيارات الأجدر على حشد الجماهير*. ‬لكن هذه الرؤية تتغافل عن حقيقة مهمة دفعت السياسة الأوروبية ثمنا باهظا لتجاوزها،* ‬إبان الحروب الدينية،* ‬وهي* ‬أن تيارات السياسة الدينية لا تعدّ* ‬الدولة،* ‬بمفهومها القومي* ‬القائم على التنوع،* ‬إلا عرضا،* ‬فاسدا* ‬يتعين تجاوزه*. ‬وبالتالي،* ‬فإن إحلال هؤلاء محل النخب الحاكمة التقليدية لا* ‬يعني* ‬فقط إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمت القداسة،* ‬ولكن* ‬يعني* ‬أيضا،* ‬وبشكل أكثر خطورة،* ‬إهدار معني الدولة القومية بتنوعها،* ‬مما* ‬يهدد بمزيد من حالات الصراع الأهلي،* ‬وانهيار الدول،* ‬وانتشار التطرف والإرهاب*.‬

جـ* - ‬القبول بمنطق تقسيم الدول القائمة،* ‬وإنتاج خريطة* "‬وستفالية*" ‬جديدة للدولة في* ‬المنطقة على أسس إثنية،* ‬لا* ‬يمثل إلا هروبا من مواجهة عوامل الأزمة الحقيقية التي* ‬أسهمت سياسات المعسكر الأورو-أطلسي* ‬في* ‬تكريسها،* ‬إبان الحرب البادرة،* ‬من خلال دعم الأنظمة التسلطية،* ‬وحفزت على تفجيرها بعد انتهاء الصراع القطبي*. ‬كما* ‬يهدد مثل هذا القبول ليس فقط بجعل المنطقة موئلا دائما للتطرف والإرهاب،* ‬ولكن أيضا بدفعها نحو حالة مستدامة من حروب الوكالة،* ‬خاصة مع بروز العديد من قوى المراجعة في* ‬النظام الدولي* ‬التي* ‬ترتبط مصالحها بشكل وثيق ومتنام بالمنطقة،* ‬خاصة روسيا والصين*.‬

لا* ‬يتعين أن* ‬يعيد التاريخ ذاته،* ‬مثلما ذهبنا آنفا عند الحديث عن ضريبة الدم التي* ‬بدأت المنطقة في* ‬دفعها بالفعل*. ‬ويمكن لحالة مراجعة نخبوية جذرية من قبل السلطات الحاكمة في* ‬كثير من دول المنطقة لمقدرات وجودها أن تيسر السبيل أمام فتح المجال لخلق بوتقة صهر تأخرت كثيرا،* ‬لكن لم* ‬ينعدم فرص استحضارها،* ‬سواء في* ‬الدول التي* ‬لا تزال قادرة على حفظ درجة من درجات الاستقرار،* ‬أو حتى الدول التي* ‬عانت ويلات الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة*. ‬ويبقي أخيرا تأكيد أن نجاح الدولة المصرية في* ‬الخروج من عثرتها التنموية سيمثل نموذجا وطنيا رائدا* ‬يمكنه أن* ‬يقدم بديلا للمنطقة،* ‬ويقودها بعيدا عن مبادرات إدامة فشل الدولة،* ‬وهندسة المنطقة على أنقاضها التي* ‬تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأورو-أطلسيون*.‬