abomokhtar
10-06-2017, 11:22 AM
الخطبة الأولى
الحمد لله الحي الباقي... الذي أضاء نوره الآفاق... ورزق المؤمنين حسن الأخلاق...
نحمده تبارك وتعالى ونستعينه ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والشقاق...
*
وأشهد أن لا إله إلا الله القوى الرزاق... الحكم العدل يوم التلاق... أنعم علينا بنور الإسلام وشرح صدورنا ويسر أمورنا وقضى حوائجنا فلله الحمد كما يحب الكريم المنان.
*
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المتمم لمكارم الأخلاق...أسلم لربه وأناب وسلمه الله من درن الجاهلية فكان المصطفى المختار أحسن سيرة وأنقاهم سريرة.
*
أما بعد:
مركب النجاة سلامة القلب:
كم يتمنى المسلم ويسعى المؤمن أن ينال رضا ربه في الدنيا وفوزه يوم القيامة، وكم تتوق قلوب أهل التقوى لجعل الدنيا مركب النجاة من عذاب الله لا مركب هلكة وبعد عن الله، وإن السائرين إلى الله علموا أن القلوب أوعية الصلاح ومزودة الآخرة والذخيرة عندما يأتي الناس مفاليس.
*
وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشُّعراء: 88-89] قال ابن القيم: ( هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس.))
*
إمام المرسلين وسلامة القلب:
في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ((يا رسولَ اللهِ! هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال ( لقد لقيتُ من قومِك. وكان أشدَّ ما لقِيتُ منهم يومَ العقبةِ. إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ يا ليلِ بنِ عبدِ كلالٍ. فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ. فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي. فلم أَستَفِقْ إلا بقرنِ الثعالبِ. فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني. فنظرتُ فإذا فيها جبريلٌ. فناداني. فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد سمع قولَ قومِك لك وما رَدُّوا عليكَ. وقد بعث إليك ملَكَ الجبالِ لتأمرَه بما شئتَ فيهم. قال: فناداني ملكُ الجبالِ وسلَّم عليَّ. ثم قال: يا محمدُ! إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لكَ. وأنا ملَكُ الجبالِ. وقد بعثَني ربُّك إليك لتأمرَني بأمرِك. فما شئتَ؟ إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ ). فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه، لا يشركُ به شيئًا ). البخاري ومسلم
أي قلب يحتمل كل هذا؟
أين نفس أعظم من هذه؟
أي رجل يقاسي مثل هذا؟
إنه القدوة صلى الله عليه وسلم، يسجل من الصحراء منهج الخيرية لجميع البشر من غاب ومن حضر، ويسجل قوة الهدف وسلامة المبادئ لمن حاد وعبث وفسد وأفسد، يعطي لكل حقود وحسود درساً عبودياً يحاسب عليه عندما يلقى ربه بقلب عفن ملئ بأوثان الجاهلية والعقائد الفلسفية والأخلاق الرذيلة.
*
الجنة لأهل سلامة الصدر:
وإن سلامة الصدر لترتقي بصاحبها وتحلق به في سماء الفضيلة، وتسافر به من محطة الدنيا ولا ترضى له بغير الجنة محطاً ومنزلاً:
ففي الحديث: ((عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جُلوسًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلع رجلٌ من الأنصارِ تنطُفُ لحيتُه من وضوئِه قد علَّق نعلَيْه بيدِه الشِّمالِ، فلمَّا كان الغدُ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأولَى، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرَّجلُ على مثلِ حالِه الأوَّلِ، فلمَّا قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تبِعه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، فقال: إنِّي لاحيْتُ أبي، فأقسمْتُ أنِّي لا أدخُلُ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُئوِيَني إليك حتَّى تمضيَ فعلتَ. قال: نعم. قال أنسٌ: فكان عبدُ اللهِ يُحدِّثُ أنَّه بات معه تلك الثَّلاثَ اللَّياليَ فلم يرَه يقومُ من اللَّيلِ شيئًا غيرَ أنَّه تعارَّ تقلَّب على فراشِه ذكر اللهَ عزَّ وجلَّ، وكبَّر حتَّى صلاةِ الفجرِ. قال عبدُ اللهِ: غيرَ أنِّي لم أسمَعْه يقولُ إلَّا خيرًا، فلمَّا مضَتِ الثَّلاثُ اللَّيالي، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه قلتُ: يا عبدَ اللهِ لم يكُنْ بيني وبين أبي غضَبٌ ولا هَجرةٌ، ولكن سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لك ثلاثَ مرَّاتٍ: يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلعتَ أنت الثَّلاثَ مرَّاتٍ، فأردْتُ أن آويَ إليك، فأنظُرَ ما عملُك، فأقتديَ بك، فلم أرَك عمِلتَ كبيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني: ما هو إلَّا ما رأيتَ غيرَ أنِّي لا أجِدْ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًّا ولا أحسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه اللهُ إيَّاه فقال عبدُ اللهِ: هذه الَّتي بلغَتْ بك)) أحمد (صحيح).
*
قال ابن رجب: (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها.. أنَّ سَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه -والتي منها الغِلُّ- صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزة من ميزاتهم، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة. قال -تبارك وتعالى- ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].))
ضيق مجاري الحقد..
*
فماذا نحن فاعلون؟
إن الإسلام ليضع الموانع حماية لإتباعه من أن يقعوا في مهاوي الردى، وهذا والله عين الرحمة التي هي شعار الإسلام ومبدأه ومنتهاه، فما من حكم أو أمر أو نهي إلا وتجد في طياته الرحمات، ومن هنا يلزمنا من باب السببية أن نرحم أنفسنا ونرحم خاصة قلوبنا من منابع الحقد ومستنقعات الحسد، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ما عرف قلبه الغل والحسد يحذر من منابعه ففي
*
الحديث: ((عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر)) رواه أبو داود وحسنه بعض العلماء.
• ويترجم علماء الأمة هذا القول إلى واقع عملي عبودية لله ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6] وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا)
لو كنا هكذا لما وجدنا الغيبة والنميمة تكاد تكون فاكهة المجالس وطعامها وشرابها
لو كنا نغلق أبواب الشر لعرفنا من يفتحها فنأخذ بيده إلى أبواب الخير ولما اختلط علينا الأمر
لو كنا نربي على مثل هذا لوجدنا الجيل المبارك الذي يعمل لدنياه وآخرته على تقوى من الله
*
من أفضل الناس وخيرهم عند الله؟
أيه الكرام يا من تتطلعون إلى أوسمة الكرامة، ليس أعظم من وسام يضعه ربك عز وجل على جبينك عندما تخر وجوه الذل والصغار يوم القيامة فهذا حديث الذي لا ينطق عن الهوى.
*
(( فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل: يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أفضلُ؟ قال: كلُّ مَخمومِ القلبِ صَدوقُ اللِّسانِ. قالوا: صَدوقُ اللِّسانِ نعرِفُه، فما مَخمومُ القلبِ؟ قال: هو التَّقيُّ النَّقيُّ لا إثمَ فيه ولا بَغيَ، ولا غِلَّ، ولا حسَدَ)) صحيح ابن ماجة.
*
قال علي قاري: (المخموم من خَمَمْت البيت، إذا كنسته،... فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار) مرقاة المفاتيح.
*
لا ننظر إلى الناس بعين العمش، ولا ننزلهم منازلا اخترناها من وحي الهوى والعصبية القذرة، بل ننزلهم منزل الكرامة التي اختارها الله لهم، وإن الأعمال تعظم بقلب سليم وتصغر بقلب معرض مريض.
*
قال سفيان بن دينار: (( قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم )) الزهد لهناد بن السري.
*
سلامة الصدر والغفلة:
أيه الكرام عباد الله
قد اجلت تعريف سلامة الصدر عن صدر الكلام ليفهم على الوجه الأمثل، إذ بالتصور يبلغ الحكم الهدف، وقد دقق العلماء في تعريفه فقال الإمام: الشَّوكاني: (وأما سَلَامة الصَّدر، فالمراد به: عدم الحقد والغل والبغضاء).
*
قال ابن تيمية: (فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به) الفتاوى الكبرى.
*
يقول ابن القيِّم: (والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص..) ومن هنا نخرج كلام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ).
*
فلا يعني سلامة الصدر أن تكون مغفل يتلاعب بك أهل الشر والفساد ويجعلون منك أضحوكة الناس.
لا يعني سلامة الصدر أن تكون بعيداً عن الناس لدرجة أنك لا تعرف فيما يخوضون فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما هو عليه الناس حتى يقيم لهم دينهم.
*
فسلامة الصدر أن تعرف الشر وقلبك منه بعيد تجاهده مجاهدة الاعداء، وتقبل على الخير كما يقبل العطشى على موارد الماء.
أقول ما سمعتم واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
*
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعلنا مسلمين وأكمل لنا الدين وختم لنا بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أما بعد.
*
ما يعين على سلامة الصدر:
أربعة أمور أسباب تعيننا على سلامة قلوبنا وتصحيح نياتنا أجملها لكم في أسطر:
1- الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ المؤمنِ: إخلاصُ العملِ، والنصيحةُ لأولي الأمرِ، ولُزومُ الجماعةِ، فإنَّ دَعوتَهم تكونُ مِن ورائِه)) الترمذي صحيح. قال ابن الأثير: (إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه من الخيانة والدَّخل والشَّر) النهاية في غريب الحديث.
*
2- الدعاء بصلاح القلوب قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
*
3- التخلق بالأخلاق التي تزيد من الحب والود كإفشاء السلام والهدايا والمعروف.
*
4- رضا العبد بما قسمه الله تعالى: (قال ابن القيِّم: إنَّ الرِّضا يفتح له باب السَّلَامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ، ولا ينجو من عذاب الله إلَّا من أتى الله بقلب سَلِيم، كذلك وتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضى، كان قلبه أسلم) مدارج السالكين.
*
الدعاء:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها وبلغنا بما يرضيك أمالنا.
واختم اللهم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة أجالنا وتوفنا يا رب وأنت راض عنا.
اللهم وحد كلمة المسلمين واجمع شملهم واجعلهم يدا واحدة على من سواهم.
وانصر اللهم المسلمين واخذل الكفرة المشركين أعدائك أعداء الدين.
اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد اللهم كن لهم عونا وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد ووفقهم للعمل لما فيه رضاك وما فيه صالح العباد والبلاد.
اللهم إنا نسألك صحة في إيمان وإيمان في حسن خلق ونجاح يتبعه فلاح ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانا.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
سبحان ربِّك رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عطية بن عبدالله الباحوث
الحمد لله الحي الباقي... الذي أضاء نوره الآفاق... ورزق المؤمنين حسن الأخلاق...
نحمده تبارك وتعالى ونستعينه ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والشقاق...
*
وأشهد أن لا إله إلا الله القوى الرزاق... الحكم العدل يوم التلاق... أنعم علينا بنور الإسلام وشرح صدورنا ويسر أمورنا وقضى حوائجنا فلله الحمد كما يحب الكريم المنان.
*
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المتمم لمكارم الأخلاق...أسلم لربه وأناب وسلمه الله من درن الجاهلية فكان المصطفى المختار أحسن سيرة وأنقاهم سريرة.
*
أما بعد:
مركب النجاة سلامة القلب:
كم يتمنى المسلم ويسعى المؤمن أن ينال رضا ربه في الدنيا وفوزه يوم القيامة، وكم تتوق قلوب أهل التقوى لجعل الدنيا مركب النجاة من عذاب الله لا مركب هلكة وبعد عن الله، وإن السائرين إلى الله علموا أن القلوب أوعية الصلاح ومزودة الآخرة والذخيرة عندما يأتي الناس مفاليس.
*
وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشُّعراء: 88-89] قال ابن القيم: ( هو السَّليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشُّبهة التي توجب اتِّباع الظَّنِّ، ومرض الشَّهوة التي توجب اتِّباع ما تهوى الأنفس.))
*
إمام المرسلين وسلامة القلب:
في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : ((يا رسولَ اللهِ! هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال ( لقد لقيتُ من قومِك. وكان أشدَّ ما لقِيتُ منهم يومَ العقبةِ. إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ يا ليلِ بنِ عبدِ كلالٍ. فلم يُجِبْني إلى ما أردتُ. فانطلقتُ وأنا مهمومٌ على وجهي. فلم أَستَفِقْ إلا بقرنِ الثعالبِ. فرفعتُ رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلَّتْني. فنظرتُ فإذا فيها جبريلٌ. فناداني. فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد سمع قولَ قومِك لك وما رَدُّوا عليكَ. وقد بعث إليك ملَكَ الجبالِ لتأمرَه بما شئتَ فيهم. قال: فناداني ملكُ الجبالِ وسلَّم عليَّ. ثم قال: يا محمدُ! إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لكَ. وأنا ملَكُ الجبالِ. وقد بعثَني ربُّك إليك لتأمرَني بأمرِك. فما شئتَ؟ إن شئتَ أن أُطبقَ عليهم الأخشبَينِ ). فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( بل أرجو أن يخرجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبدُ اللهَ وحدَه، لا يشركُ به شيئًا ). البخاري ومسلم
أي قلب يحتمل كل هذا؟
أين نفس أعظم من هذه؟
أي رجل يقاسي مثل هذا؟
إنه القدوة صلى الله عليه وسلم، يسجل من الصحراء منهج الخيرية لجميع البشر من غاب ومن حضر، ويسجل قوة الهدف وسلامة المبادئ لمن حاد وعبث وفسد وأفسد، يعطي لكل حقود وحسود درساً عبودياً يحاسب عليه عندما يلقى ربه بقلب عفن ملئ بأوثان الجاهلية والعقائد الفلسفية والأخلاق الرذيلة.
*
الجنة لأهل سلامة الصدر:
وإن سلامة الصدر لترتقي بصاحبها وتحلق به في سماء الفضيلة، وتسافر به من محطة الدنيا ولا ترضى له بغير الجنة محطاً ومنزلاً:
ففي الحديث: ((عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جُلوسًا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يطلُعُ الآن عليكم رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلع رجلٌ من الأنصارِ تنطُفُ لحيتُه من وضوئِه قد علَّق نعلَيْه بيدِه الشِّمالِ، فلمَّا كان الغدُ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مثلَ ذلك، فطلع ذلك الرَّجلُ مثلَ المرَّةِ الأولَى، فلمَّا كان اليومُ الثَّالثُ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مثلَ مقالتِه أيضًا، فطلع ذلك الرَّجلُ على مثلِ حالِه الأوَّلِ، فلمَّا قام النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تبِعه عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، فقال: إنِّي لاحيْتُ أبي، فأقسمْتُ أنِّي لا أدخُلُ عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُئوِيَني إليك حتَّى تمضيَ فعلتَ. قال: نعم. قال أنسٌ: فكان عبدُ اللهِ يُحدِّثُ أنَّه بات معه تلك الثَّلاثَ اللَّياليَ فلم يرَه يقومُ من اللَّيلِ شيئًا غيرَ أنَّه تعارَّ تقلَّب على فراشِه ذكر اللهَ عزَّ وجلَّ، وكبَّر حتَّى صلاةِ الفجرِ. قال عبدُ اللهِ: غيرَ أنِّي لم أسمَعْه يقولُ إلَّا خيرًا، فلمَّا مضَتِ الثَّلاثُ اللَّيالي، وكِدتُ أن أحتقِرَ عملَه قلتُ: يا عبدَ اللهِ لم يكُنْ بيني وبين أبي غضَبٌ ولا هَجرةٌ، ولكن سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ لك ثلاثَ مرَّاتٍ: يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهلِ الجنَّةِ، فطلعتَ أنت الثَّلاثَ مرَّاتٍ، فأردْتُ أن آويَ إليك، فأنظُرَ ما عملُك، فأقتديَ بك، فلم أرَك عمِلتَ كبيرَ عملٍ، فما الَّذي بلغ بك ما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: ما هو إلَّا ما رأيتَ، فلمَّا ولَّيْتُ دعاني: ما هو إلَّا ما رأيتَ غيرَ أنِّي لا أجِدْ في نفسي لأحدٍ من المسلمين غِشًّا ولا أحسُدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه اللهُ إيَّاه فقال عبدُ اللهِ: هذه الَّتي بلغَتْ بك)) أحمد (صحيح).
*
قال ابن رجب: (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها.. أنَّ سَلَامة الصَّدر، ونقاء القلب من أمراضه -والتي منها الغِلُّ- صفة من صفات أهل الجنَّة، وميزة من ميزاتهم، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة. قال -تبارك وتعالى- ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [الحجر: 47].))
ضيق مجاري الحقد..
*
فماذا نحن فاعلون؟
إن الإسلام ليضع الموانع حماية لإتباعه من أن يقعوا في مهاوي الردى، وهذا والله عين الرحمة التي هي شعار الإسلام ومبدأه ومنتهاه، فما من حكم أو أمر أو نهي إلا وتجد في طياته الرحمات، ومن هنا يلزمنا من باب السببية أن نرحم أنفسنا ونرحم خاصة قلوبنا من منابع الحقد ومستنقعات الحسد، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم الذي ما عرف قلبه الغل والحسد يحذر من منابعه ففي
*
الحديث: ((عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر)) رواه أبو داود وحسنه بعض العلماء.
• ويترجم علماء الأمة هذا القول إلى واقع عملي عبودية لله ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد دخل رجل على عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى- فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6] وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا)
لو كنا هكذا لما وجدنا الغيبة والنميمة تكاد تكون فاكهة المجالس وطعامها وشرابها
لو كنا نغلق أبواب الشر لعرفنا من يفتحها فنأخذ بيده إلى أبواب الخير ولما اختلط علينا الأمر
لو كنا نربي على مثل هذا لوجدنا الجيل المبارك الذي يعمل لدنياه وآخرته على تقوى من الله
*
من أفضل الناس وخيرهم عند الله؟
أيه الكرام يا من تتطلعون إلى أوسمة الكرامة، ليس أعظم من وسام يضعه ربك عز وجل على جبينك عندما تخر وجوه الذل والصغار يوم القيامة فهذا حديث الذي لا ينطق عن الهوى.
*
(( فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قيل: يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أفضلُ؟ قال: كلُّ مَخمومِ القلبِ صَدوقُ اللِّسانِ. قالوا: صَدوقُ اللِّسانِ نعرِفُه، فما مَخمومُ القلبِ؟ قال: هو التَّقيُّ النَّقيُّ لا إثمَ فيه ولا بَغيَ، ولا غِلَّ، ولا حسَدَ)) صحيح ابن ماجة.
*
قال علي قاري: (المخموم من خَمَمْت البيت، إذا كنسته،... فالمعنى: أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار) مرقاة المفاتيح.
*
لا ننظر إلى الناس بعين العمش، ولا ننزلهم منازلا اخترناها من وحي الهوى والعصبية القذرة، بل ننزلهم منزل الكرامة التي اختارها الله لهم، وإن الأعمال تعظم بقلب سليم وتصغر بقلب معرض مريض.
*
قال سفيان بن دينار: (( قلت لأبي بشير -وكان من أصحاب علي-: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا. قلت: ولم ذاك؟ قال: لسَلَامة صدورهم )) الزهد لهناد بن السري.
*
سلامة الصدر والغفلة:
أيه الكرام عباد الله
قد اجلت تعريف سلامة الصدر عن صدر الكلام ليفهم على الوجه الأمثل، إذ بالتصور يبلغ الحكم الهدف، وقد دقق العلماء في تعريفه فقال الإمام: الشَّوكاني: (وأما سَلَامة الصَّدر، فالمراد به: عدم الحقد والغل والبغضاء).
*
قال ابن تيمية: (فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به) الفتاوى الكبرى.
*
يقول ابن القيِّم: (والفرق بين سَلَامة القلب والـبَلَه والتَّغَفُّل: أنَّ سَلَامة القلب تكون من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيَسْلَم قلبه من إرادته وقصده، لا من معرفته والعلم به، وهذا بخلاف الـبَلَه والغَفْلة، فإنَّها جهل وقلَّة معرفة، وهذا لا يُحْمد؛ إذ هو نقص..) ومن هنا نخرج كلام عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: (لست بِخِبٍّ ولا يخدعني الخِبُّ).
*
فلا يعني سلامة الصدر أن تكون مغفل يتلاعب بك أهل الشر والفساد ويجعلون منك أضحوكة الناس.
لا يعني سلامة الصدر أن تكون بعيداً عن الناس لدرجة أنك لا تعرف فيما يخوضون فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف ما هو عليه الناس حتى يقيم لهم دينهم.
*
فسلامة الصدر أن تعرف الشر وقلبك منه بعيد تجاهده مجاهدة الاعداء، وتقبل على الخير كما يقبل العطشى على موارد الماء.
أقول ما سمعتم واستغفروا الله إن الله غفور رحيم
*
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعلنا مسلمين وأكمل لنا الدين وختم لنا بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أما بعد.
*
ما يعين على سلامة الصدر:
أربعة أمور أسباب تعيننا على سلامة قلوبنا وتصحيح نياتنا أجملها لكم في أسطر:
1- الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((ثلاثٌ لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ المؤمنِ: إخلاصُ العملِ، والنصيحةُ لأولي الأمرِ، ولُزومُ الجماعةِ، فإنَّ دَعوتَهم تكونُ مِن ورائِه)) الترمذي صحيح. قال ابن الأثير: (إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه من الخيانة والدَّخل والشَّر) النهاية في غريب الحديث.
*
2- الدعاء بصلاح القلوب قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10].
*
3- التخلق بالأخلاق التي تزيد من الحب والود كإفشاء السلام والهدايا والمعروف.
*
4- رضا العبد بما قسمه الله تعالى: (قال ابن القيِّم: إنَّ الرِّضا يفتح له باب السَّلَامة، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ، ولا ينجو من عذاب الله إلَّا من أتى الله بقلب سَلِيم، كذلك وتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضى، كان قلبه أسلم) مدارج السالكين.
*
الدعاء:
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب وأصلح اللهم أحوالنا في الأمور كلها وبلغنا بما يرضيك أمالنا.
واختم اللهم بالصالحات أعمالنا وبالسعادة أجالنا وتوفنا يا رب وأنت راض عنا.
اللهم وحد كلمة المسلمين واجمع شملهم واجعلهم يدا واحدة على من سواهم.
وانصر اللهم المسلمين واخذل الكفرة المشركين أعدائك أعداء الدين.
اللهم إنا نسألك لولاة أمورنا الصلاح والسداد اللهم كن لهم عونا وخذ بأيديهم إلى الحق والصواب والسداد والرشاد ووفقهم للعمل لما فيه رضاك وما فيه صالح العباد والبلاد.
اللهم إنا نسألك صحة في إيمان وإيمان في حسن خلق ونجاح يتبعه فلاح ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانا.
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
سبحان ربِّك رب العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عطية بن عبدالله الباحوث