مشاهدة النسخة كاملة : أخي هل أنت ناصب لنا راية؟


abomokhtar
05-10-2017, 09:47 AM
وقفة قبل أن تقرأ:
إذا كنت تعتقد أنَّه ليس هناك أمل يلوح بالأُفق، أو كنت تعتقد أنَّه لا بدَّ من زلزالٍ أو حدثٍ جمٍّ لكي يحدُث التغيير، أو كنت تعتقد أنَّ التغيير يأتي فجأةً هكذا دون سعيٍ أو تدخُّلٍ أو مُقدِّمات:
فضلًا، وفِّر وقتك وجهدك، ولا تُكمل القراءة؛ فهذا المقال ليس لك ولا يعنيك.
*
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وبعد:
فكثيرٌ منَّا يعتقد أنَّ العظماء من أمَّتنا ومن كلِّ الأمم وُلدوا أعلامًا، ووُجدوا هكذا دون تمحيصٍ أو تمريرٍ، أو أي جهدٍ أو تعبٍ، وُلدوا هكذا في لحظةٍ، وأصبحوا أعلامًا في لحظةٍ، دون سابق جهدٍ أو بذل، ولم يعلموا أنَّ هؤلاء العظماء هم نتاجُ كدٍّ وجهدٍ، وبذلٍ وتعب؛ قد يكون هذا الجهد بدأ قبل أن يُولَدوا بعشراتِ السنين؛ بل ربَّما يمتدُّ لمئاتِ السنين.
*
لقد جاء هؤلاء العظماء بعد تضحياتٍ كثيرةٍ وكبيرةٍ، وبذلٍ كثير؛ بدأتْ تلك التضحيات والبذل بأن نصبَ أحدُهم الرايةَ أولًا، نصب راية الإصلاح والتغيير، فتوالى مِن بعده مَنْ سار على نهجه، إلى أن تحقَّقَ النصر والتغيير، وقد يكون هذا النصر وذلك التغيير بعد عشرات، بل ربَّما مئات السنين.
*
قد يموت رافعُ الرايةِ ولا يُدرك هذا التغيير وهذا الإصلاح وهذا النَّصر، ولكن كفاه شرفًا وأجرًا أنَّه رفع الراية؛ فكان كلُّ ذلك في ميزانه يوم القيامة، اسمع إلى هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن دعا إلى هُدى، كان له من الأجر مثلُ أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا))؛ رواه مسلم (62/8)، فمَن رفع راية الإصلاح أولًا، نال تلك الأجور كلَّها لكلِّ مَن تبعه.
*
كلُّنا يعرف صلاح الدين، ذلك القامة في تاريخ أمَّتنا، الذي رفع ذلًّا وهوانًا من حملات الصليبيين، ذاقت أمَّتنا مرارته لمئاتِ السِّنين، فجاء صلاح الدين ونزع الأمَّة من ذلك الوحل الآسن؛ وحلِ الذُّلِّ والهوان، وانتصر على الصليبيين بفضلٍ من الله ومنَّة منه، وأعاد للأمَّة مجدها وسُؤددها، ولكن هل كان صلاح الدين هكذا في يومٍ وليلة؟ أم وُلد هكذا ووحَّد الأمَّة، وحارب ثمَّ انتصر؟!
*
أقولُ لك: ليس الأمر كذلك، ليست تلك سُنن الله في التغيير، ليست كذلك سُنن الله في الإصلاح، لقد جاء صلاح الدين بعد أن ضحَّى قبلَه الكثير، بعد أن بذل قبله الكثير والكثير، بل لقد جاء صلاح الدين بعد أن نصَبَ نور الدين محمود الرايةَ.
*
ثم تتابعَ البُنيانُ لبنةً لبنةً، إلى أن جاء صلاح الدين ليكتمل ذلك البُنيان، وليأذن الله تعالى بالنَّصر والتمكين والرفعة، ولتُحصد ثمرة هذا المشوار الطويل من الجهاد والكفاح، والبذل والعطاء، ولكن كل هذا في ميزان مَن رفع الراية أولًا.
*
أخي، إنَّ التغيير والإصلاح لا يكون وليدَ يومٍ وليلة؛ وإنما هو وقتٌ يُبذَل فيه الثمين، وتُبذل فيه التضحيات؛ ليأتي بعدها النَّصر بإذن الله تعالى.
*
إنَّ التغيير والإصلاح لا يتمُّ كله مرَّةً واحدةً هكذا في لمح البصر، وإنَّما هو متدرِّجٌ تُرفع فيه الراية أولًا؛ راية التغيير، راية الإصلاح، ثم يضع كلُّ واحدٍ لبنة على الطريق الصحيح، إلى أن يتمَّ البُنيان ويكتمل، ويأذن الله عزَّ وجلَّ بالنصر.
*
أخي، إنَّ أمَّة الإسلام أمَّةٌ عظيمةٌ، أمَّةٌ كبيرةٌ، تحتاجُ إلى ساعدِ كلِّ واحدٍ من أبنائها في كلِّ المجالات؛ ليضع لبنته في الإصلاح؛ لكي يتمَّ ذلك الصَّرْح العظيم، ولتنهض الأمَّة من كبوتها إلى النصر، ولكن أنا لا أطلب منك أن تضع لبنة الإصلاح وفقط؛ وإنَّما أطمعُ في أكثرَ من ذلك؛ أن تنصب أنت الراية أولًا؛ ليشيد النَّاس من حولها البنيان.
*
إنَّ السعي إلى رِفعة الأمَّة ليس بالأمر الهيِّن ولا السَّهل؛ وإنَّما هو أمرٌ شاقٌّ يحتاجُ إلى رجال، فلا تيئس، وكُن إيجابيًّا، انظُر إلى اللبنة التي وضعتها، ولا تنظر إلى عِظَم تهدُّم البُنيان، فعليك بالصَّبر، وتيقَّن أنَّ نصر الله عزَّ وجلَّ آتٍ لا محالة.
أخيرًا أقول لك يا أخي: هل أنت ناصبٌ لنا رايةً؟!

[1] أخذتُ عنوان المقالة من هذا الأثر:
من كتاب الطبقات الكبرى؛ لابن سعد (رقم الحديث: 5233)، مع العلم أن موضوع المقال مُغايرٌ تمامًا لموضوع الأثر، ولكن أعجبتني اللَّفظة؛ فاقتبستها.
الأثر: أخْبَرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا*العوَّام بن حوشب، قال: حدَّثني رجلٌ*من أصحاب الآجرِّ، عن*شيخين*من بني ثعلبة رجل وامرأته، قالا: نزلنا الرَّبَذَةَ، فمرَّ بنا شيخٌ أشعث، أبيض الرَّأس واللِّحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فاستأذنَّاه أن نغسل رأسه، فأذِن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفرٌ من أهل العراق - حسبته قال: من أهل الكوفة - فقالوا: يا*أبا ذر، فعل بك هذا الرَّجل وفعل، "فهل أنت ناصب لنا رايةً؟!"، فلنكمل برجال ما شئت؟ فقال: "يا أهل الإسلام، لا تعرضوا عليَّ ذاكم،*ولا تُذلُّوا السُّلطان؛ فإنَّه مَن أذلَّ السُّلطان،*فلا توبة له، واللهِ لو أنَّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ، أو أطول جبلٍ، لسمعتُ وأطعتُ، وصبرتُ واحتسبتُ، ورأيتُ أنَّ ذاك خيرٌ لي، ولو سيَّرني ما بين الأُفُق إلى الأفق - أو قال: ما بين المشرق والمغرب - لسمعتُ وأطعتُ، وصبرتُ واحتسبتُ، ورأيتُ أنَّ ذاك خيرٌ لي، ولو ردَّني إلى منزلي، لسمعتُ وأطعتُ، وصبرتُ واحتسبتُ، ورأيت أنَّ ذاك خيرٌ لي".
وهذا الأثر كفيلٌ بأن يُبيِّن لنا مدى الصَّفاء والأُخُوة، والأُلفة والحب بين الصحابة، وكذب وبُهتان ما ادُّعي عليهم، ولعلَّ ذلك يكون حديثنا في موضعٍ آخر لاحقًا، إن شاء الله تعالى، دُمتم بسلام.

د. عبدالرحمن محمد أسامة