مشاهدة النسخة كاملة : الجزء الرابع من كتاب علوم إحياء الدين


المنقذ من الضلال
16-05-2006, 11:30 PM
http://galbk.jeeran.com/2004-07-13-124432.gif

:rolleyes:

<span style=\'font-family:Courier\'>حياكم الله ايها الاحبة فى الله
فى الرسالة السابقة ...استعرضنا الجزء الثالث ..وهو بقية كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين ...للإمام ابن القيم رحمه الله
وجعل الجنة مثواه..& واستكمالاً لهذه الموسوعة الكبيرة
اعرض عليكم اليوم...من كتاب
احياء علوم الدين ...ما يتعلق بالزواج....راجيا من الله تعالى ان يكون له اثر فى قلوب الجميع
والان اترككم مع الكتاب

كتاب آداب النكاح
وهو الكتاب الثاني من ربع العادات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا تصادف سهام الأوهام في عجائب صنعه مجرى ولا ترجع العقول عن أوائل بدائعها إلا والهة حيرى ولا تزال لطائف نعمه على العالمين تترى فهي تتوالى عليهم اختيارا وقهرا ومن بدائع ألطافه أن خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وسلط على الخلق شهوة اضطرهم بها الحراثة جبرا واستبقى بهم نسلهم إقهارا وقسرا ثم عظم أمر الأنساب وجعل لها قدرا فحرم بسببها السفاح وبالغ في تقبيحه ردعا وزجرا وجعل اقتحامه جريمة فاحشة وأمر إمرا وندب إلى النكاح وحث عليه استحبابا وأمرا فسبحان من كتب الموت على عباده فأذلهم به هدما وكسرا ثم بث بذور النطف في أراضي الأرحام وأنشأ منها خلقا وجعله لكسر الموت جبرا تنبيها على أن بحار المقادير فياضة على العالمين نفعاً وضراً وخيراً وشراً وعسراً ويسراً وطياً ونشراً والصلاة والسلام على محمد المبعوث بالإنذار والبشرى وعلى آله وأصحابه صلاة لا يستطيع لها الحساب عداً ولا حصراً وسلم تسليماً كثيرا .

أما بعد فإن النكاح معين على الدين ومهين للشياطين وحصن دون عدو الله حصين وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيين فما أحراه بان تتحرى أسبابه وتحفظ سننه وآدابه وتشرح مقاصده وآرابه وتفصل فصوله وأبوابه والقدر المهم من أحكامه ينكشف في ثلاثة أبواب:
· الباب الأول : في الترغيب فيه وعنه .
· الباب الثاني : في الآداب المرعية في العقد والعاقدين .
· الباب الثالث : في آداب المعاشرة بعد العقد إلى الفراق .


الباب الأول
في الترغيب في النكاح والترغيب عنه

اعلم أن العلماء قد اختلفوا في فضل النكاح فبالغ بعضهم فيه حتى زعم أنه أفضل من التخلي لعبادة الله واعترف آخرون بفضله ولكن قدموا عليه التخلي لعبادة الله مهما لم تتق النفس إلى النكاح توقانا يشوش الحال ويدعو إلى الوقاع وقال آخرون الأفضل تركه في زماننا هذا وقد كان له فضيلة من قبل إذ لم تكن الأكساب محظورة وأخلاق النساء مذمومة ولا ينكشف الحق فيه إلا بأن نقدم أولا ما ورد من الأخبار والآثار في الترغيب فيه والترغيب عنه ثم نشرح فوائد النكاح وغوائله حتى يتضح منها فضيلة النكاح وتركه في حق كل من سلم من غوائله أو لم يسلم منها
الترغيب في النكاح أما من الآيات فقد قال تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم) [1] وهذا أمر وقال تعالى (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) [2] وهذا منع من العضل ونهي عنه وقال تعالى في وصف الرسل ومدحهم (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) [3]فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل ومدح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء فقال (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) [4] الآية ويقال إن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين فقالوا إن يحيى صلى الله عليه وسلم قد تزوج ولم يجامع قيل إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السنة وقيل لغض البصر وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له.
وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم (النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فقد رغب عني) وقال صلى الله عليه وسلم (النكاح سنتي فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي)[5] وقال أيضا صلى الله عليه وسلم (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط)[6] وقال أيضا صلى الله عليه وسلم (من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي)[7] وقال النبي صلى الله عليه وسلم (من ترك التزويج مخافة العيلة فليس منا)[8] وهذا ذم لعلة الامتناع لا لأصل الترك وقال صلى الله عليه وسلم (من كان ذا طول فليتزوج)[9] وقال (من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لا فليصم فإن الصوم له وجاء)[10] وهذا يدل على أن سبب الترغيب فيه خوف الفساد في العين والفرج والوجاء هو عبارة عن رض الخصيتين للفحل حتى تزول فحولته فهو مستعار للضعف عن الوقاع في الصوم وقال صلى الله عليه وسلم (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)[11] وهذا أيضا تعليل الترغيب لخوف الفساد وقال صلى الله عليه وسلم (من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله)[12] وقال صلى الله عليه وسلم (من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني)[13] وهذا أيضا إشارة إلى أن فضيلته لأجل التحرز من المخالفة تحصنا من الفساد فكأن المفسد لدين المرء في الأغلب فرجه وبطنه وقد كفى بالتزويج أحدهما وقال صلى الله عليه وسلم (كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاث ولد صالح يدعو له)[14] ولا يوصل إلى هذا إلا بالنكاح.
وأما الآثار فقال عمر رضي الله عنه (لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور) فبين أن الدين غير مانع منه وحصر المانع في أمرين مذمومين وقال ابن عباس رضي الله عنهما (لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج) يحتمل أن جعله من النسك وتتمة له ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب ولذلك كان يجمع غلمانه لما أدركوا عكرمة وكريبا وغيرهما ويقول إن أردتم النكاح أنكحتكم فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول (لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزبا) ومات امرأتان لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الطاعون وكان هو أيضا مطعونا فقال (زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزبا) وهذا منهما يدل على أنهما رأيا في النكاح فضلا لا من حيث التحرز عن غائلة الشهوة وكان عمر رضي الله عنه يكثر النكاح ويقول ما أتزوج إلا لأجل الولد.
وكان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخدمه ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا تتزوج) فقال يا رسول الله (إني فقير لا شيء لي وأنقطع عن خدمتك) فسكت ثم عاد ثانيا فأعاد الجواب ثم تفكر الصحابي وقال والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم بما يصلحني في دنياي وآخرتي وما يقربني إلى الله مني ولئن قال لي الثالثة لأفعلن فقال له الثالثة (ألا تتزوج) قال فقلت يا رسول الله (زوجني) قال (اذهب إلى بني فلان فقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني فتاتكم) قال فقلت (يا رسول الله لا شيء لي) فقال لأصحابه (اجمعوا لأخيكم وزن نواة من ذهب) فجمعوا له فذهبوا به إلى القوم فأنكحوه فقال له (أولم) وجمعوا له من الأصحاب شاة للوليمة.[15] وهذا التكرير يدل على فضل في نفس النكاح ويحتمل أنه توسم فيه الحاجة إلى النكاح.
وحكى أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة فذكر لنبي زمانه حسن عبادته فقال نعم الرجل هو لولا أنه تارك لشيء من السنة فاغتم العابد لما سمع ذلك فسأل النبي عن ذلك فقال أنت تارك للتزويج فقال لست أحرمه ولكني فقير وأنا عيال على الناس قال أنا أزوجك ابنتي فزوجه النبي عليه السلام ابنته.
وقال بشر بن الحرث فضل على أحمد بن حنبل بثلاث بطلب الحلال لنفسه ولغيره وأنا أطلبه لنفسي فقط ولاتساعه في النكاح وضيقي عنه ولأنه نصب إماما للعامة. ويقال إن أحمد رحمه الله تزوج في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله وقال أكره أن أبيت عزبا وأما بشر فإنه لما قيل له إن الناس يتكلمون فيك لتركك النكاح ويقولون هو تارك للسنة فقال قولوا لهم هو مشغول بالفرض عن السنة وعوتب مرة أخرى فقال ما يمنعني من التزويج إلا قوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" [16]فذكر ذلك لأحمد فقال وأين مثل بشر إنه قعد على مثل حد السنان ومع ذلك فقد روي انه رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال رفعت منازلي في الجنة وأشرف بي على مقامات الأنبياء ولم أبلغ منازل المتأهلين وفي رواية قال لي ما كنت أحب أن تلقاني عزبا قال فقلنا له ما فعل أبو نصر التمار فقال رفع فوقي بسبعين درجة قلنا بماذا فقد كنا نراك فوقه قال بصبره على بنياته والعيال.
وقال سفيان بن عيينة كثرة النساء ليست من الدنيا لأن عليا رضي الله عنه كان أزهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء وقال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله طوبى لك فقد تفرغت للعبادة بالعزوبة فقال لروعة منك بسبب العيال أفضل من جميع ما أنا فيه قال فما الذي يمنعك من النكاح فقال مالي حاجة في امرأة وما أريد أن أغر امرأة بنفسي.
وقد قيل فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد وركعة من متأهل افضل من سبعين ركعة من عزب وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح فقد قال صلى الله عليه وسلم (خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد)[17]. وقال صلى الله عليه وسلم (يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك.)[18] وفي الخبر قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين.[19]
وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال الصبر عنهن خير من الصبر عليهن والصبر عليهن خير من الصبر على النار وقال أيضا الوحيد يجد من حلاوة العمل وفراغ القلب ما لا يجد المتأهل وقال مرة ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى وقال أيضا ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا من طلب معاشا أو تزوج امرأة أو كتب الحديث.
وقال الحسن رحمه الله إذا أراد الله بعبد خيرا لم يشغله بأهل ولا مال. وقال ابن أبي الحوارى تناظر جماعة في هذا الحديث فاستقر رأيهم على انه ليس معناه أن لا يكونا له بل أن يكونا له ولا يشغلانه وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشئوم.
وبالجملة لم ينقل عن أحد الترغيب عن النكاح مطلقا إلا مقرونا بشرط وأما الترغيب في النكاح فقد ورد مطلقا ومقرونا بشرط. فلنكشف الغطاء عنه بحصر آفات النكاح وفوائده.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] سورة النور الآية :32
[2]سورة البقرة الآية :232
[3] سورة الرعد الآية : 38
[4] سورة الفرقان الآية :74
[5] حديث النكاح سنتي فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي أخرجه أبو يعلى في مسنده مع تقديم وتأخير من حديث ابن عباس بسند حسن.
[6] حديث تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط أخرجه أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث ابن عمر دون قوله حتى بالسقط وإسناده ضعيف وذكره بهذه الزيادة البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه بلغه.
[7] حديث من رغب عن سنتي فليس مني وإن من سنتي النكاح فمن أحبني فليستن بسنتي متفق على أوله من حديث أنس من رغب عن سنتي فليس مني وباقيه تقدم قبله بحديث.
[8] حديث من ترك التزويج خوف العيلة فليس منا رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد بسند ضعيف وللدارمي في مسنده والبغوي في معجمه وأبي داود في المراسيل من حديث أبي نجيح من قدر على أن ينكح فلم ينكح فليس منا وأبو نجيح اختلف في صحبته.
[9] حديث من كان ذا طول فليتزوج أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة بسند ضعيف.
[10] حديث من استطاع منكم الباءة فليتزوج الحديث متفق عليه من حديث ابن مسعود.
[11] حديث إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة ونقل عن البخاري أنه لم يعده محفوظا وقال أبو داود إنه خطأ ورواه الترمذي أيضا من حديث أبي حاتم المزني وحسنه ورواه أبو داود في المراسيل وأعله ابن القطان بإرساله وضعف رواته.
[12] حديث من نكح لله وأنكح لله استحق ولاية الله عز وجل أخرجه أحمد بسند ضعيف من حديث معاذ بن أنس من أعطى لله وأحب لله وأبغض لله وأنكح لله فقد استكمل إيمانه.
[13] حديث من تزوج فقد أحرز شطر دينه فليتق الله في الشطر الآخر أخرجه ابن الجوزي في العلل من حديث أنس بسند ضعيف وهو عند الطبراني في الأوسط بلفظ فقد استكمل نصف الإيمان وفي المستدرك وصحح إسناده بلفظ من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينهالحديث.
[14] حديث كل عمل ابن آدم ينقطع إلا ثلاثة فذكر فيه وولد صالح يدعو له أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بنحوه الحديث.
[15] حديث كان بعض الصحابة قد انقطع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبيت عنده لحاجة إن طرقته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تتزوج الحديث أخرجه أحمد من حديث ربيعة الأسلمي في حديث طويل وهو صاحب القصة بإسناد حسن.
[16] سورة البقرة الآية :228
[17] حديث خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد أخرجه أبو يعلى من حديث حذيفة ورواه الخطابي في العزلة من حديثه وحديث أبي أمامة وكلاهما ضعيف.
[18] حديث يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطبق فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه فيهلك أخرجه الخطابي في العزلة من حديث ابن مسعود نحوه وللبيهقي في الزهد نحوه في حديث أبي هريرة وكلاهما ضعيف.
[19] حديث قلة العيال أحد اليسارين وكثرتهم أحد الفقرين أخرجه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث عبد الله بن عمر وابن هلال المزني كلاهما بالشطر الأول بسندين ضعيفين.


آفات النكاح وفوائده

وفيه فوائد خمسة : الولد وكسر الشهوة وتدبير المنزل وكثرة العشيرة ومجاهدة النفس بالقيام بهن

الفائدة الأولي : الولد وهو الأصل وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس وأنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة كالموكل بالفحل في إخراج البذر وبالأنثى في التمكين من الحرث تلطفا بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات علي الأسباب مع الاستغناء عنها إظهار للقدرة وإتماما لعجائب الصنعة وتحقيقا لما سبقت به المشيئة وحقت به الكلمة وجري به القلم وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة حتى لم يحب أحدهم أن يلقي الله عزبا

والأول : موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان
والثاني : طلب محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم في تكثير من مباهاته
والثالث : طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده
والرابع : طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله


أما الوجه الأول
: فهو أدق الوجوه وأبعدها عن إفهام الجماهير وهو أحقها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالي ومجاري حكمه وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده البذر وآلات الحرث وهيا له أرضا مهيأة للحراثة وكان العبد قادرا علي الحراثة ووكل به من يتقاضاه عليها فأن تكاسل وعطل آلة الحرث وترك البذر ضائعا حتى فسد ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحقا للمقت والعتاب من سيده والله تعالي خلق الزوجين وخلق الذكر والإنثيين وخلق النطفة في الفقار وهيا لها في الإنثيين عروقا ومجاري وخلق الرحم قرارا ومستودعا للنطفة وسلط متقاضي الشهوة علي كل وأحد من الذكر والأنثى فهذه الإفعل والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقاه وتنادي أرباب الألباب بتعريف ما أعدت له هذا أن لم يصرح به الخالق تعالي علي لسان رسوله صلي الله عليه وسلم بالمراد حيث قال : “ تناكحوا تناسلوا ““ فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر ؟ فكل ممتنع عن النكاح معرض عن الحراثة مضيع للبذر معطل لما خلق الله من الآلات المعدة وجان علي مقصود الفطرة والحكمة المفهومة من شواهد الخلقة المكتوبة علي هذه الأعضاء بخط الهي ليس برقم حروف وأصوات يقرؤه كل من له بصيرة ربانية نافذة في أدراك دقائق الحكمة الأزلية ولذلك عظم الشرع الأمر في القتل للأولاد وفي الوأد لأنه منع لتمام الوجود واليه أشار من قال : العزل أحد الوادين فالناكح ساع في إتمام ما احب الله تعالي تمامه والمعرض معطل ومضيع لما كره الله ضياعه ولاجل محبة الله تعالي لبقاء النفوس أمر بالإطعام وحث عليه وعبر عنه بعبادة القرض فقال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا "

فأن قلت : قولك : أن بقاء النسل والنفس محبوب يوهم أن فناءها مكروه عند الله وهو فرق بين الموت والحياة بالإضافة إلى إرادة الله تعالي ومعلوم أن الكل بمشيئة الله وأن الله غني عن العالمين فمن أين يتميز عنده موتهم عن حياتهم أو بقاؤهم عن فنائهم ؟ فاعلم أن هذه الكلمة حق أريد بها باطل فأن ما ذكرناه لا ينافي إضافة الكائنات كلها إلى إرادة الله خيرها وشرها ونفعها وضرها ولكن المحبة والكراهية يتضادان وكلاهما لا يضادان الأداة فرب مراد مكروه ورب مراد محبوب فالمعاصي مكروهة وهي مع الكراهة مرادة والطاعات مرادة ومزمع كونها مرادة محبوبة ومرضية أما الكفر والشر فلا نقول أنه مرضي ومحبوب بل هو مراد وقد قال الله تعالي : " و لا يرضي لعبادة الكفر "1 فكيف يكون الفناء بالإضافة إلى محبة الله وكراهيته كالبقاء ؟ فأنه تعالي يقول : " ما ترددت في شئ كترددي في قبض روح عبدي المسلم هو يكره الموت وأنا اكره مساءته و لا بد له من الموت "2 فقوله : لا بد له من الموت " إشارة إلى سبق الإرادة والتقدير المذكور في قوله تعالي : " نحن قدرنا بينكم الموت "3 وفي قوله تعالي : " الذي خلق الموت والحياة "4 و لا مناقضة بين قوله تعالي : " نحن قدرنا بينكم الموت " وبين قوله " وأنا اكره مساءته " ولكن إيضاح الحق في هذا يستدعي تحقيق معني الإرداة والمحبة والكراهة وبيان حقائقها فأن السابق إلى الإفهام منها أمور تناسب إرادة الخلق ومحبتهم وكراهيتهم وهيهات فبين صفات الله تعالي وصفات الخلق من البعد ما بين ذاته العزيز وذاتهم وكما أن ذوات الخلق جوهر وعرض وذات الله مقدس عنه و لا يناسب ما ليس بجوهر وعرض الجوهر والعرض فكذا صفاته لا تناسب صفات الخلق وهذه الحقائق داخله في علم المكاشفة ووراء سر القدر الذي منع من إفشائه فلنقصر عن ذكره ولنقتصر علي ما نبهنا عليه من الفرق بين الإقدام علي النكاح والإحجام عنه فأن أحدهما مضيع نسلا أدام الله وجوده من أدم صلي الله عليه وسلم عقبا بعد عقب إلى أن أنتهي إليه فالممتنع عن النكاح قد حسم الوجود المستدام من لدن وجود أدم عليه السلام علي نفسه فمات ابتر لا عقب له ولو كان الباعث علي النكاح مجرد دفع الشهوة لما قال معاذ في الطاعون : زوجوني لا القي الله عزبا

فأن قلت : فما كان معاذ يتوقع ولدا في ذلك الوقت فما وجه رغبته فيه ؟ فأقول : الولد يحصل بالوقاع بباعث الشهوة وذلك أمر لا يدخل في الاختيار وأنما المعلق باختيار العبد إحضار المحرك للشهوة وذلك متوقع في كل حال فمن عقد فقد أدى ما عليه وفعل ما إليه والباقي خارج عن اختياره ولذلك يستحب النكاح للعنين أيضا فأن نهضات الشهوة خفية لا يطلع عليها حتى أن الممسوح الذي لا يتوقع له ولد لا ينقطع الاستحباب أيضا في حقه علي الوجه الذي يستحب للأصلع امرار الموسي علي رأسه اقتداء بغيره وتشبها بالسلف الصالحين وكما يستحب الرمل والاضطباع في الحج الآن وقد كان المراد منه أولا إظهار الجلد للكفار فصار الإقتداء والتشبه بالذين اظهروا الجلد سنة في حق من بعدهم ويضعف هذا الاستحباب بالإضافة إلى الاستحباب في حق القادر علي الحرث وربما يزداد ضعفا بما يقابله من كراهة تعطيل المرآة وتضييعها فيما يرجع إلى قضاء الوطر فأن ذلك لا يخلو عن نوع من الخطر فهذا المعني هو الذي ينبه علي شدة إنكارهم لترك النكاح مع فتور الشهوة


الوجه الثاني : السعي في محبة رسول الله صلي الله عليه وسلم ورضاه بتكثير ما به مباهاته إذ قد صرح رسول الله صلي الله عليه وسلم بذلك ويدل علي مراعاة أمر الولد جملة بالوجوه كلها ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينكح كثيرا ويقول : إنما أنكح للولد وما روي من الإخبار في مذمة المرآة العقيم إذ قال عليه السلام “ لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد "5 وقال : خير نسائكم الولود الودود"6 وقال : " سوداء ولود خير من حسناء لا تلد "7 وهذا يدل علي أن طلب الولد ادخل في اقتضاء فضل النكاح من طلب دفع غائلة الشهوة لأن الحسناء اصلح للتحصين وغض البصر وقطع الشهوة


الوجه الثالث : أن يبقي بعده ولدا صالحا يدعو له كما ورد في الخبر أن جميع عمل أبن أدم منقطع آلا ثلاثا فذكر الولد الصالح وفي الخبر : " أن الأدعية تعرض علي الموتى علي أطباق من نور" 8 وقول القائل : أن الولد ربما لم يكن صالحا و لا يؤثر فأنه مؤمن و الصلاح هو الغالب علي أولاد ذوي الدين لا سيما إذا عزم علي تربيته وحمله علي الصلاح وبالجملة دعاء المؤمن لأبويه مفيد برا كان أو فاجرا فهو مثاب علي دعواته وحسناته فأنه من كسبه وغير مؤاخذ بسيئاته فأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ولذلك قال تعالي : " ألحقنا بهم ذرياتهم وما التناهم من عملهم من شئ "9 أي ما نقصناهم من أعمالهم وجعلنا أولادهم مزيدا في إحسانهم


الوجه الرابع : أن يموت الولد قبله فيكون له شفيعا فقد روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال :"أن الطفل يجر بأبويه إلى الجنة "10 وفي بعض الإخبار : " يأخذ بثوبه كما أنا الآن اخذ بثوبك " 11 وقال أيضا صلي الله عليه وسلم " أن المولود يقال ادخل الجنة فيقف علي باب الجنة فيظل محبنطئا " أي ممتلثا غيظا وغضبا ويقول : " لا ادخل الجنة آلا وأبواي معي فيقال : ادخلوا أبويه معه الجنة "12 وفي خبر أخر " أن الأطفال يجتمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة : أذهبوا بهؤلاء إلى الجنة فيقفون علي باب الجنة فيقال لهم : مرحبا بذرا ري المسلمين ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون : فأين آباؤنا وأمهاتنا ؟ فيقول الخزنة : أن آباءكم وأمهاتكم ليسوا مثلكم أنه كانت لهم ذنوب وسيئات فهم يحاسبون عليها ويطالبون قال : فيتضاغون ويضجون علي أبوب الجنة ضجة واحدة فيقول الله سبحانه و اعلم بهم : ما هذه الضجة ؟ فيقولون : ربنا أطفال المسلمين قالوا لا ندخل الجنة آلا مع آبائنا فيقول الله تعالي : تخللوا الجمع فخذوا بأيدي آبائهم فأدخلوهم الجنة "13 وقال صلي الله عليه وسلم : " من مات له اثنان من الولد فقد احتظر بحظار
من النار "14 وقال صلي الله عليه وسلم : " من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث ادخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " قيل : يا رسول الله واثنان ؟ قال : " واثنان "15 وحكي أن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج فيأبى برهة من دهره قال فأنتبه من نومه ذات يوم وقال : زوجوني زوجوني فزوجوه فسئل عن ذلك فقال : لعل الله يرزقني ولدا ويقبضه فيكون لي مقدمة في الآخرة ثم قال : رأيت في المنام كان القيامة قد قامت وكأني في جملة الخلائق في الموقف وبي من العطش ما كاد أن يقطع عنقي وكذا الخلائق في شدة العطش والكرب فنحن كذلك إذ ولدان يتخللون الجمع عليهم مناديل من نور وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب وهم يسقون الواحد بعد الواحد يتخللون الجمع ويتجاوزون اكثر الناس فمددت يدي إلى أحدهم وقلت : اسقني فقد أجهدني العطش فقال : ليس لك فينا ولد إنما نسقي آباءنا فقلت : ومن أنتم ؟ فقالوا : نحن من مات من أطفال المسلمين وأحد المعاني المذكورة في قوله تعالي : " فآتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم "16 تقديم الأطفال إلى الآخرة فقد ظهر بهذه الوجوه الأربعة أن اكثر فضل النكاح لاجل كونه سببا للولد
_________________________
(1)سورة الزمر الآية :7
(2)حديث أنه تعالي يقول : " ما ترددت في شئ كترددي في قبض روح عبدي المسلم يكره الموت وأنا اكره مساءته و لا بدله منه "
(3)سورة الواقعة الآية :60
(4)سورة الملك الآية :2
(5)حديث لحصير في ناحية البيت خير من امرأة لا تلد " أخرجه أبو عمر النوقاني في كتاب معاشرة الآهلين موقوفا علي عمر بن الخطاب ولم أجده مرفوعا
(6)حديث " خير نسائكم الولود الودود " أخرجه البيهقي من حديث أبن أبى ادية الصدفي وقال البيهقي وروي باسناد صحيح عن سعيد بن يسار مرسلا
(7)حديث " سوداء ولود خير من حسناء لا تلد " أخرجه أبن حبان في الضعفاء من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ولا يصح
(8)حديث : " أن الأدعية تعرض علي الموتى علي أطباق من نور" رويناه في الأربعين المشهورة من رواية أبى هدية عن أنس في الصدقة عن الميت وأبو هدية كذاب
(9)سورة الطور الآية :21
(10) حديث " أن الطفل يجر أبويه إلى الجنة " أخرجه أبن ماجه من حديث علي وقال : السقط بدل الطفل وله من حديث معاذ : " أن الطفل ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا هي احتسبته وكلاهما ضعيف
(11)حديث " أنه ويضعف بثوبه كما أنا الآن اخذ بثوبك " أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة
(12)حديث " أن المولود يقال له ادخل الجنة " فيقف علي باب الجنة فيظل محبنطئا أي ممتلثا غيظا وغضبا ويقول لا ادخل آلا وأبواي معي .......... الحديث " أخرجه أبن جانبهما في الضعفاء من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده و لا يصح والنسائي من حديث أبى هريرة " يقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون حتى يدخل آباؤنا فيقال ادخلوا الجنة أنتم وإباؤكم " وإسناده جيد
(13) حديث " أن الأطفال يجتمعون في موقف القيامة عند عرض الخلائق للحساب فيقال للملائكة أذهبوا بهؤلاء إلى الجنة فيقفون علي باب الجنة فيقال لهم مرحبا بذرا ري المسلمين ادخلوا لا حساب عليكم فيقولون أين آباؤنا وأمهاتنا ....."الحديث بطوله لم أجد له أصلا يعتمد عليه
(14)حديث " من مات له اثنان من الولد احتظر بحظار من النار " أخرجه البزار والطبراني من حديث زهير بن أبى علقمة " جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أنه مات لي ابنان سوي هذا فقال : لقد احتظرت من دون النار بحظار شديد " ولمسلم من حديث أبى هريرة في المرآة التي قالت : دفنت ثلاثة لقد احتظرت بحظار شديد من النار "
(15)حديث " من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحنث ادخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم قيل : يا رسول الله واثنان قال : واثنان " أخرجه البخاري من حديث أنس دون ذكر الاثنين وهو عند احمد بهذه الزيادة من حديث معاذ وهو متفق عليه من حديث أبى سعيد بلفظ أيما امرأة "بنحو منه
(16)سورة البقرة الآية :223


الفائدة الثانية
التحصن من الشيطان وكسر التوقان ودفع غوائل الشهوة وغض البصر وحفظ الفرج واليه الإشارة بقوله عليه السلام : " من نكح فقد حصن نصف دينه فليتق الله في الشطر الآخر " واليه الإشارة بقوله : " عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فأن الصوم له وجاء " واكثر ما نقلناه من الآثار والإخبار إشارة إلى هذا المعني وهذا المعني دون الأول لأن الشهوة موكلة بتقاضي تحصيل الولد فالنكاح كاف لشغله دافع لجعله وصارف لشر سطوته وليس من يجيب مولاه رغبة في تحصيل رضاه كمن يجيب لطلب الخلاص عن غائلة التوكل فالشهوة والولد مقدران وبينهما ارتباط وليس يجوز أن يقال : المقصود اللذة والولد لازم منها كما يلزم مثلا قضاء الحاجة من الآكل وليس مقصودا في ذاته بل الولد هو المقصود بالفطرة والحكمة والشهوة باعثة عليه ولعمري في الشهوة حكمة أخرى سوي الإرهاق إلى الإيلاد وهو ما في قضائها من اللذة التي لا توازيها لذة لو دامت فهي منبهه علي اللذات الموعودة في الجنان إذ الترغيب في لذة لم يجد لها ذواقا لا ينفع فلو رغب العنين في لذة الجماع أو الصبي في لذة الملك والسلطنة لم ينفع الترغيب وإحدى فوائد لذات الدنيا الرغبة في دوامها في الجنة ليكون باعثا في عبادة الله فأنظر إلى الحكمة ثم إلى الرحمة ثم إلى التعبئة الإلهية كيف عبئت تحت شهوة واحدة حياتان حياة ظاهرة وحياة باطنة فالحياة الظاهرة حياة المرء ببقاء نسله فأنه نوع من دوام الوجود والحياة الباطنة هي الحياة الأخروية فأن هذه اللذة الناقصة بسرعة الانصرام تحرك الرغبة في اللذة الكاملة بلذة الدوام فيستحث علي العبادة الموصلة إليها فيستفيد العبد بشدة الرغبة فيها تيسر المواظبة علي ما يوصله إلى نعيم الجنان وما من ذرة من ذرات بدن الإنسان باطنا وظاهرا بل ذرات ملكوت السموات والأرض آلا وتحتها من لطائف الحكمة وعجائبها ما تحار العقول فيها ولكن إنما ينكشف للقلوب الطاهرة بقدر صفائها وبقدر رغبتها عن زهرة الدنيا وغرورها وغوائلها فالنكاح بسبب دفع غائلة الشهوة مهم في الدين لكل من لا يؤتي عن عجز وعنة وهم غالب الخلق فأن الشهوة إذا غلبت ولم يقاومها قوة التقوى جرت إلى اقتحام الفواحش واليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام عن الله تعالي : " آلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير "17 وأن كان ملجما بلجام التقوى فغايته أن يكف الجوارح عن إجابة الشهوة فيغض البصر ويحفظ الفرج فأما حفظ القلب عن الوسواس والفكر فلا يدخل تحت اختياره بل لا تزال النفس تجاذبه وتحدثه بأمور الوقاع و لا يفتر عنه الشيطان الموسوس إليه في اكثر الأوقات وقد يعرض له ذلك في أثناء الصلاة حتى يجري علي خاطره من أمور الوقاع ما لو صرح به بين يدي أخس الخلق لاستحيي منه والله مطلع علي قلبه والقلب في حق الله كاللسان في حق الخلق وراس الأمور للمريد في سلوك طريق الآخرة قلبه والمواظبة علي الصوم لا تقطع مادة الوسوسة في حق اكثر الخلق آلا أن ينضاف إليه ضعف في البدن وفساد في المزاج ولذلك قال أبن عباس رضي الله عنهما : لا يتم نسك الناسك آلا بالنكاح وهذه محنة عامة قل من يتخلص منها قال قتادة في معني قوله تعالي : " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به "18 هو الغلمة وعن عكرمة ومجاهد أنهما قالا في معني قوله تعالي : " وخلق الإنسان ضعيفا "19 أنه لا يصبر عن النساء وقال فياض بن نجيح : إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله وبعضهم يقول : ذهب ثلث دينه وفي نوادر التفسير عن أبن عباس رضي الله عنهما : " ومن شر غاسق إذا وقب "20 قال قيام الذكر وهذه بلية غالبة إذا هاجت لا يقاومها عقل ولا دين وهي مع أنها صالحة لأن تكون باعثة علي الحياتين كما سبق فهي اقوي اله لشيطان علي بني أدم واليه أشار عليه السلام بقوله : “ ما رأيت من ناقصات عقل ودين اغلب لذوي الألباب منكن "21 وأنما ذلك لهيجان الشهوة وقال صلي الله عليه وسلم في دعائه : " اللهم أني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وشر منيى"22 وقال : "أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي "23 فما يستعيذ منه رسول الله صلي الله عليه وسلم كيف يجوز التساهل فيه لغيره وكان بعض الصالحين يكثر النكاح حتى لا يكاد يخلو من اثنتين وثلاث فأنكر عليه بعض الصوفية فقال : هل يعرف أحد منكم أنه جلس بين يدي الله تعالي جلسة أو وقف بين يديه موقفا في معاملة فخطر علي قلبه خاطر شهوة فقالوا : يصيبنا من ذلك كثير فقال : لو رضيت في عمري كله بمثل حالكم في وقت وأحد لما تزوجت لكني ما خطر علي قلبي خاطر يشغلني عن حالي آلا نفذته فاستريح وارجع إلى شغلي ومنذ أربعين سنة ما خطر علي قلبي معصية وأنكر بعض الناس حال الصوفية فقال له بعض ذوي الدين : ما الذي تنكر منهم ؟ قال : يا بنى كثيرا قال : وأنت أيضا لو جعت كما يجوعون لاكلت كما يأكلون قال : ينكحون كثيرا قال : وأنت أيضا لو حفظت عينيك وفرجك كما يحفظون لنكحت كما ينكحون وكان الجنيد يقول : احتاج إلى الجماع كما احتاج إلى القوت فالزوجة علي التحقيق قوت وسبب لطهارة القلب ولذلك أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم كل من وقع نظره علي امرأة فتاقت إليها نفسه أن يجامع أهله 24 لأن ذلك يدفع الوسواس عن النفس وروي جابر رضي الله عنه : أن النبي صلي الله عليه وسلم رأي امرأة فدخل علي زينب فقضي حاجته وخرج وقال صلي الله عليه وسلم : " أن المرأة إذا أقبلت أقبلت بصورة شيطان فإذا رأي أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله معها مثل الذي معها ““25 وقال عليه السلام : “ لا تدخلوا علي المغيبات – وهي التي غاب زوجها عنها – فأن الشيطان يجري من أحدكم مجري الدم " قلنا : ومنك ؟ قال : ومني ولكن الله أعانني عليه فاسلم "26 قال سفيان بن عيينة فاسلم معناه فاسلم أنا منه هذا معناه فأن الشيطان لا يسلم وكذلك حكي علي أبن عمر رضي الله عنهما وكان من زهاد الصحابة وعلمائهم أنه كان يفطر من الصوم علي الجماع قبل الآكل وربما أنه جامع ثلاثا من جواريه في شهر رمضان قبل العشاء الأخيرة وقال أبن عباس : خير هذه الآمة أكثرها نساء 27 ولما كانت الشهوة اغلب علي مزاج العرب كان استكثار الصالحين منهم للنكاح اشد ولاجل فراغ القلب أبيح نكاح الآمة عند خوف العنت مع أن فيه ارقاق الولد وهو نوع أهلاك وهو محرم علي كل من قدر علي حرة ولكن ارقاق الولد أهون من أهلاك الدين وليس فيه آلا تنغيص الحياة علي الولد مدة وفي اقتحام الفاحشة تفويت الحياة الأخروية التي تستحقر الأعمار الطويلة بالإضافة إلى يوم من أيامها وروي أنه أنصرف الناس ذات يوم من مجلس أبن عباس وبقي شاب لم يبرح فقال له أبن عباس : هل لك من حاجة ؟قال : نعم أردت أن اسال مسالة فاستحييت من الناس وأنا الآن أهابك وأجلك فقال أبن عباس : أن العالم بمنزلة الوالد فما كنت أفضيت به إلى أبيك فافض إلى به فقال : أني شاب لا زوجة لي وربما خشيت العنت علي نفسي فربما استمنيت بيدي فهل في ذلك معصية فاعرض عنه أبن عباس ثم قال : أف وتف نكاح الآمة خير منه وهو خير من الزنا فهذا تنبيه علي أن العزب المحتلم مردد بين ثلاثة شرور أدناها نكاح الآمة وفيه إرفاق الولد واشد منه الاستمناء باليد وافحشه الزنا ولم يطلق بأن عباس الإباحة في شئ منه لأنهما محذوران يفزع إليهما حذرا من الوقوع في محذور اشد منه كما يفزع إلى تناول الميتة حذرا من هلاك النفس فليس ترجيح أهون الشرين في معني الإباحة المطلقة و لا في معني الخير المطلق وليس قطع اليد المتآكلة من الخيرات وأن كان يؤذن فيه عند أشراف النفس علي الهلاك فإذا في النكاح فضل من هذا الوجه ولكن هذا لا يعم الكل بل الأكثر فرب شخص فترت شهوته لكبر سن أو مرض أو غيره فينعدم هذا الباعث في حقه ويبقي ما سبق من أمر الولد فأن ذلك عام آلا للممسوح وهو نادر ومن الطباع ما تغلب عليها الشهوة بحيث لا تحصنه المرأة الواحدة فيستحب لصاحبها الزيادة علي الواحدة إلى الأربع فأن يسر الله له مودة ورحمة واطمأن قلبه بهن و آلا فيستحب له الاستبدال فقد نكح علي رضي الله عنه بعد وفاة فاطمة عليها السلام بسبع ليال ويقال : أن الحسن بن علي كان منكاحا حتى نكح زيادة علي مائتي امرأة وكان ربما عقد علي أربع في وقت وأحد وربما طلق أربعا في وقت وأحد واستبدل بهن وقد قال عليه الصلاة والسلام للحسن “ أشبهت خلقي وخلقي"28 وقال صلي الله عليه وسلم " حسن مني وحسين من علي "29 فقال أن كثرة نكاحه أحد ما شبه به خلق رسول الله صلي الله عليه وسلم وتزوج المغيرة بن شعبة بثمانين امرأة وكان في الصحابة من له الثلاث والأربع ومن كان له اثنتان لا يحصي ومهما كان الباعث معلوما فينبغي أن يكون العلاج بقدر العلة فالمراد تسكين النفس فلينظر إليه في الكثرة والقلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
(17) سورة الأنفال الآية : 73
(18)سورة البقرة جزء من الآية :286
(19)سورة النساء الآية : 28
(20) سورة الفلق الآية :3
(21)حديث " ما رأيت من ناقصات عقل ودين اغلب لذوي الألباب منكن " أخرجه مسلم من حديث أبن عمر واتفقا عليه من حديث أبي سعيد ولم يسق مسلم لفظه
(22)حديث " اللهم أني اعوذ بك من شر سمعي وبصري وشر منيي " تقدم في الدعوات
(23)حديث " أسألك أن تطهر قلبي وتحفظ فرجي "9 أخرجه البيهقي في الدعوات من حديث أم سلمة باسناد فيه لين
(24)حديث " أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم كل من وقع بصره علي امرأة فتاقت نفسه إليها أن يجامع أهله " أخرجه احمد من حديث أبي كبشة الإنماري حين مرت به امرأة فوقع في قلبه شهوة النساء فدخل فآتى بعض أزواجه وقال فكذلك فافعلوا فأنه من أماثل أفعالكم آتيان الحلال وإسناده جيد
(25)حديث جابر " رأي امرأة فدخل علي زينب فقضي حاجته " الحديث رواه مسلم والترمذي واللفظ له وقال : حسن صحيح
(26)حديث " لا تدخلوا علي المغيبات فأن الشيطان يجري من أحدكم مجري الدم" ......... الحديث " أخرجه الترمذي من حديث جابر وقال غريب ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر " ولا يدخل بعد يومي هذا علي مغيبة آلا ومعه رجل أو اثنان
(27)حديث أبن عباس " خير هذه الآمة أكثرها نساء "يعني النبي صلي الله عليه وسلم رواه البخاري
(28) حديث أنه قال للحسن بن علي " أشبهت خلقي وخلقي "
قلت : المعروف أنه قال هذا اللفظ لجعفر بن أبي طالب كما هو متفق عليه من حديث البراء ولكن الحسن أيضا كان يشبه النبي صلي الله عليه وسلم كما هو متفق عليه من حديث أبي جحيفة وللترمذي وصححه وأبن حبان من حديث أنس " لم يكن أحد اشبه برسول الله صلي الله عليه وسلم من الحسن ““
(29)حديث " حسن مني وحسين من علي "رواه احمد من حديث المقداد بن معد يكرب بسند جيد


الفائدة الثالثة
: ترويح النفس وإيناسها بالمجالسة والنظر والملاعبة إراحة للقلب وتقوية له علي العبادة فأن النفس ملول وهي عن الحق نفور لأنه علي خلاف طبعها فلو كلفت المداومة بالإكراه علي ما يخالفها جمحت وثابت وإذا روحت باللذات في بعض الأوقات قويت ونشطت وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروح القلب ونبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات ولذلك قال الله تعالي " ليسكن إليها " 30 وقال علي رضي الله عنه : روحوا القلوب ساعة فأنها إذا أكرهت عميت وفي الخبر : " علي العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه فأن في هذه الساعة عونا علي تلك الساعات "31 ومثله بلفظ آخر : " لا يكون العاقل ظاعنا آلا في ثلاثة : تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم "32 وقال عليه الصلاة والسلام : " لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدي "33 والشرة الجد والمكابدة بحدة وقوة وذلك في ابتداء الإرادة والفترة : الوقوف للاستراحة وكان أبو الدر داء يقول أني لاستجم نفسي بشيء من اللهو لاتقوي بذلك فيما بعد علي الحق وفي بعض الإخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : “ شكوت إلى جبريل عليه السلام ضعفي عن الوقاع فدلني علي الهريسة "34 هذا أن صح لا محمل له آلا الاستعداد للاستراحة و لا يمكن تعليله بدفع الشهوة فأنه استثارة للشهوة ومن عدم الشهوة عدم الأكثر من هذا الإنس وقال عليه الصلاة والسلام " حبب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة "35 فهذه أيضا فائدة لا ينكرها من جرب أتعاب نفسه في الأفكار والأذكار وصنوف الإعمال وهي خارجة عن الفائدتين السابقتين حتى أنها تطرد في حق الممسوح ومن لا شهوة له آلا أن هذه الفائدة تجعل للنكاح فضيلة بالإضافة إلى هذه النية وقل من يقصد بالنكاح ذلك وأما قصد الولد وقصد دفع الشهوة وامثالها فهو مما يكثر ثم رب شخص يستأنس بالنظر إلى الماء الجاري والخضرة وامثالها و لا يحتاج إلى ترويح النفس بمحادثة النساء وملاعبتهن فيختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص فليتنبه له

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(30)سورة الأعراف الآية : 189
(31)حديث " علي العاقل أن يكون له ثلاث ساعات : ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بمطعمه ومشربه " رواه أبن حبان من حديث أبي ذر في حديث طويل : أن ذلك في صحف إبراهيم
(32)حديث " لا يكون العاقل ظاعنا آلا في ثلاث : تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم " رواه أبن حبان من حديث أبي ذر الطويل : أن ذلك في صحف إبراهيم
(33)حديث " لكل عامل شرة ولكل شرة فترة فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدي " رواه احمد والطبراني من حديث عبد الله أبن عمرو وللترمذي نحو من هذا من حديث أبي هريرة وقال حسن صحيح
(34)حديث " شكوت إلى جبريل ضعفي عن الوقاع فدلني علي الهريسة "أخرجه أبن عدي من حديث حذيفة وأبن عباس والعقيلي من حديث معاذ وجابر بن سمرة وأبن حبان في الضعفاء من حديث حذيفة وازدي في الضعفاء من حديث أبي هريرة بطرق كلها ضعيفة قال أبن عدي : موضوع وقال العقيلي : باطل
(35)حديث " حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة " رواه النسائي والحاكم من حديث أنس باسناد جيد وضعفه العقيلي


الفائدة الرابعة
تفريغ القلب عن تدبير المنزل والتكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش وتنظيف الأواني وتهيئة أسباب المعيشة فأن الإنسان لو لم يكن له شهوة الوقاع لتعذر عليه العيش في منزله وحده إذ لو تكفل بجميع أشغال المنزل لضاع اكثر أوقاته ولم يتفرغ للعلم والعمل فالمرآة الصالحة المصلحة للمنزل عون علي الدين بهذه الطريق واختلال هذه الأسباب شو اغل ومشوشات للقلب ومنغصات للعيش ولذلك بتدبير المنزل وقضاء الشهوة جميعا وقال محمد بن كعب القرظي في معني قوله تعالي "ربنا أتنا في الدنيا حسنة " 36 قال : المرأة الصالحة وقال عليه الصلاة والسلام : " ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة صالحة تعينه علي أخرته"37 فأنظر كيف جمع بينها وبين الذكر والشكر وفي بعض التفاسير في قوله تعالي " فنحيينه حياة طيبة "38 قال الزوجة الصالحة وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أعطى العبد بعد الإيمان بالله خيرا من امرأة صالحة وأن منهن غنما لا يحذى منه ومنهن غلالا يفدي منه وقوله : لا يحذى أن يعتاض عنه بعطاء وقال عليه الصلاة والسلام : " فضلت علي أدم بخصلتين : كانت زوجته عونا له علي المعصية وأزواجي أعوان لي علي الطاعة وكان شيطانه كافرا وشيطاني مسلم لا يأمر آلا بخير "39فعد معاونتها علي الطاعة فضيلة فهذه أيضا من الفوائد التي يقصدها الصالحون آلا أنها تخص بعض الأشخاص الذين لا كافل لهم و لا مدبر و لا تدعو إلى امرأتين بل الجمع ربما ينغص المعيشة ويضطرب به أمور المنزل ويدخل في هذه الفائدة قصد الاستكثار بعشيرتها وما يحصل من القوة بسبب تداخل العشائر فأن ذلك مما يحتاج إليه في دفع الشرور وطلب السلامة ولذلك قيل : ذل من لا ناصر له ومن وحد من يدفع عنه الشرور سلم حاله وفرغ قلبه للعبادة فأن الذل مشوش للقلب والعز بالكثرة دافع بالذل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
(36) سورة البقرة الآية :201
(37) حديث " ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمنة تعينه علي أخرته " أخرجه والترمذي وحسنه وأبن ماجه واللفظ له من حديث وفيه انقطاع
(38) سورة النحل الأية : 97
(39) حديث " فضلت علي أدم صلي الله عليه وسلم بخصلتين : كانت زوجته عونا له علي المعصية وأزواجي أعوان لي علي الطاعة وكان شيطانه كافرا وشيطاني مسلم لا يأمر آلا بخير " رواه الخطيب في التاريخ من حديث أبن عمر وفيه محمد بن وليد أبان بن القلانسي قال أبن عدي : كان يضع الحديث ولمسلم من حديث أبن مسعود " ما منكم من أحد آلا وقد وكل به قرينه من الجن " قالوا :وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وأنا آلا أن الله أعانني عليه فاسلم و لا يأمرني آلا بخير


الفائدة الخامسة
مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية والقيام بحقوق الأهل والصبر علي أخلاقهن واحتمال الأذى منهن والسعي في إصلاحهن وإرشادهن إلى طريق الدين والاجتهاد في كسب الحلال لأهلهن والقيام بتربيته لأولاده فكل هذه أعمال عظيمة الفضل فأنها رعاية وولاية والأهل والولد رعية وفضل الرعاية عظيم أنما يحترز منها من يحترز خيفة من القصور عن القيام بحقها وإلا فقد قال عليه الصلاة والسلام : " يوم من وال عادل افضل من عبادة سبعين سنة "ثم قال : " آلا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "39 وليس من اشتغل بإصلاح نفسه وغيره كمن اشتغل بإصلاح نفسه فقط و لا من صبر علي الأذى كمن رفه نفسه وأراحها فمقاساة الأهل والولد بمنزلة الجهاد في سبيل الله ولذلك قال بشر : فضل علي احمد بن حنبل بثلاث إحداها أنه يطلب الحلال لنفسه ولغيره وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ما أنفقه الرجل علي أهل فهو صدقة وأن الرجل يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في آمراته "40 وقال بعضهم لبعض الأبدان ؟ فقال : وما هو ! قال : كسب الحلال والنفقة علي العيال وقال أبن المبارك وهو مع إخوانه في الغزو : تعلمون عملا افضل مما نحن فيه ؟ قالوا : ما نعلم ذلك قال : أنا اعلم قالوا : فما هو ؟ قال رجل متعفف ذو عائلة قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياما متكشفين فسترهم وعطاهم بثوبه فعمله افضل مما نحن فيه وقال صلي الله عليه وسلم : “ من حسنت صلاته وكثر عياله وقل ماله ولم يغتب المسلمين كان معي في الجنة كهاتين"41 وفي حديث آخر “ أن الله يحب الفقير المتعفف آبا العيال ““42 وفي الحديث : “ إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها عنه “43 وقال بعض السلف : من الذنوب ذنوب لا يكفرها آلا الغم بالعيال وفيه اثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : “ من الذنوب ذنوب لا يكفرها آلا الهم بطلب المعيشة “44 وقال صلي الله عليه وسلم “ من كان له ثلاث بنات فأنفق عليهن واحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة البتة البتة آلا أن يعمل عملا لا يغفر له “45 وكان أبن عباس إذا حدث بهذا قال : والله هو من غرائب الحديث وغرره

وروي أن بعض المتعبدين كان يحسن القيام علي زوجته إلى أن ماتت فعرض عليه التزويج فامتنع وقال : الوحدة أروح لقلبي واجمع لهمي ثم قال : رأيت في المنام بعد جمعة من وفاتها كان أبواب السماء فتحت وكان رجالا ينزلون ويسيرون في الهواء يتبع بعضهم بعضا فكلما نزل وأحد نظر إلى وقال لمن وراءه هذا هو المشئوم فيقول الآخر : نعم ويقول الثالث كذلك ويقول الرابع نعم فخفت أن اسألهم هيبة من ذلك إلى أن مر بي أخرهم وكان غلاما فقلت له : يا هذا من هذا المشئوم الذي تومئون إليه ؟ فقال : أنت فقلت ولم ذاك ؟قال : كنا نرفع عملك في أعمال المجاهدين في سبيل الله فمنذ امرنا أن نضع عملك مع الخالفين فما ندري ما أحدثت ؟ فقال لإخوانه : زوجوني زوجوني فلم يكن تفارقه زوجتان أو ثلاث وفي أخبار الأنبياء عليهم السلام أن قوما دخلوا علي يونس النبي عليه السلام فاضافهم فكان يدخل ويخرج إلى منزله فتؤذيه آمراته وتستطيل عليه وهو ساكت فتعجبوا من ذلك فقال :لا تعجبوا فأني سالت الله تعالي وقلت : ما أنت معاقب لي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال : أن عقوبتك بنت فلأن تتزوج بها فتزوجت بها وأنا صابر علي ما ترون منها وفي الصبر علي ذلك رياضة النفس وكسر الغضب وتحسين الخلق فأن المفرد بنفسه أو المشارك لمن حسن خلقه لا تترشح مه خبائث النفس الباطنة و لا تنكشف بواطن عيوبه فحق علي سالك طريق الآخرة أن يجرب نفسه بالتعرض لامثال هذه المحركات واعتياد الصبر عليها لتعتدل أخلاقه وترتاض نفسه ويصفو عن الصفات الذميمة باطنة والصبر علي العيال مع أنه رياضة ومجاهدة تكفل لهم وقيام بهم وعبادة في نفسها فهذه أيضا من الفوائد ولكنه لا ينتفع بها آلا أحد رجلين : أما رجل قصد المجاهدة والرياضة وتهذيب الأخلاق لكونه في بداية الطريق فلا يبعد أن يري هذا طريقا في المجاهدة وترتاض به نفسه وأما رجل من العابدين ليس له سير بالباطن وحركة بالفكر والقلب وأنما عمله عمل الجوارح بصلاة أو حج أو غيره فعمله لأهله وأولاده بكسب الحلال لهم والقيام بتربيتهم افضل له من العبادات اللازمة لبدنه التي لا يتعدي خيرها إلى غيره فأما الرجل المهذب الأخلاق أما بكفاية في اصل الخلقة أو بمجاهدة سابقة إذا كان له سير في الباطن وحركة فكر القلب في العلوم والمكاشفات فلا ينبغي أن يتزوج لهذا الغرض فان الريضا هو مكفي فيه ا وأما العبادة في العمل بالكسب لهم فالعلم افضل من ذلك لأنه أيضا عمل وفائدته اكثر من ذلك واعم واشمل لسائر الخلق من فائدة الكسب علي العيال فهذه فوائد النكاح في الدين التي بها يحكم له بالفضيلة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
“39”حديث “ يوم من وال عادل افضل من عبادة سبعين سنة “ ثم قال “ آلا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته “ رواه الطبراني والبهقي من حديث أبن عباس وقد تقدم بلفظ : “ ستين سنة “9 دون ما بعده فأنه متفق عليه من حديث أبن عمر
(40)حديث " ما أنفق الرجل علي أهله فهو صدقة وأن الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى في آمراته " متفق عليه من حديث أبن مسعود " إذا أنفق الرجل علي أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة “ ولهما من حديث سعد بن أبي وقاص : ومهما أنفق فهو لك صدقة حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك
(41)حديث " من حسنت صلاته وكثر عياله وقل ماله ولم يغتب المسلمين كان معي في الجنة كهاتين “ أخرجه أبو يعلي من حديث أبي سعيد الخدري بسند ضعيف
)42حديث “ أن الله يحب الفقير المتعفف آبا العيال ““ أخرجه أبن ماجه من حديث عمران بن حصين بسند ضعيف
(43)حديث " إذا كثرت ذنوب العبد ابتلاه الله بهم العيال ليكفرها " رواه احمد عن حديث عائشة آلا أنه قال “ بالحزن ““ وفيه لبث بن أبي سليم مختلف فيه
“44”حديث” من الذنوب ذنوب لا يكفرها آلا الهم بطلب المعيشة ““أخرجه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والخطيب في التخليص المتشابه من حديث أبي هريرة باسناد ضعيف
(45) " من كان له ثلاث بنات فأنفق عليهن واحسن إليهن حتى يغنيهن الله عنه أوجب الله له الجنة البتة البتة آلا أن يعمل عملا لا يغفر له "رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث أبن عباس بسند ضعيف وهو عنده بلفظ آخر ولأبي داود واللفظ له والترمذى من حديث أبي سعيد : " من عال ثلاث بنات فأدبهن وزوجهن واحسن إليهن فله الجنة " ورجاله ثقات وفي سنده اختلاف


أما آفات النكاح فثلاث:
الأولي :
وهي أقواها العجز عن طلب الحلال فأن ذلك لا يتيسر لكل أحد لا سيما في هذه الأوقات مع اضطراب المعاش فيكون النكاح سببا في التوسع للطلب والإطعام من الحرام وفيه هلاكه وهلاك أهله والمتعزب في آمن من ذلك وأما المتزوج ففي الأكثر يدخل في مداخل السوء فيتبع هوي زوجته ويبيع أخرته بدنياه وفي الخبر : " أن العبد ليوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال فيسال عن رعاية عائلته والقيام بهم وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه حتى يستغرق بتلك المطالبات كل أعماله فلا تبقي له حسنة فتنادي الملائكة : هذا الذي آكل عياله حسناته في الدنيا وارتهن اليوم بأعماله "1 ويقال : أن أول ما يتعلق بالرجل في القيامة أهله وولده فيوقفونه بين يدي الله تعالي ويقولون : با ربنا خذ لنا بحقنا منه فأنه علمنا ما نجهل وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم في فيقتص لهم منه وقال بعض السلف : إذا أراد الله بعبد شر ا سلط عليه في الدنيا أنيابا تنهشه يعني العيال وقال عليه الصلاة والسلام : لا يلقي الله أحد بذنب اعظم من جهالة أهله "2 فهذه آفة عامة قل من يتخلص منها آلا من له مال موروث أو مكتسب من حلال يفي به وبأهله وكان له من القناعة ما يمنعه من الزيادة فأن ذاك يتخلص من هذه الآفة أو من هو محترف ومقتد علي كسب حلال من المباحات باحتطاب أو اصطياد أو كان في صناعة لا تتعلق بالسلاطين ويقدر علي أن يعامل به أهل الخير ومن ظاهرة السلامة وغالب ماله الحلال وقال أبن سالم رحمه الله – وقد سئل عن التزويج فقال : هو افضل في زماننا هذا لمن أدركه شبق غالب مثل الحمار يري الأتان فلا ينتهي عنها بالضرب و لا يملك نفسه فأن ملك نفسه فتركه أولي
_____________________
(1)حديث " أن العبد ليوقف عند الميزان وله من الحسنات أمثال الجبال ويسال عن رعاية عياله والقيام بهن" ...... الحديث " لم اقف له علي اصل
(2)حديث " لا يلقي الله أحد بذنب اعظم من جهالة أهله ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي سعيد ولم يجده ولده أبو منصور في مسند

الآفة الثانية
:القصور عن القيام بحقهن والصبر علي أخلاقهن واحتمال الأذى منهن وهذه دون الأولي في العموم فأن القدرة علي هذا ايسر من القدرة علي الأولي وتحسين الخلق مع النساء والقيام بحظوظهن أهون من طلب الحلال وفي هذا أيضا خطر لأنه راع ومسؤول عن رعيته وقال عليه الصلاة والسلام : كفي بالمرء آثما أن يضيع من يعول "3 وروي أن الهارب من عياله بمنزلة العبد الهارب الآبق لا تقل له صلاة ولا صيام حتى يرجع إليهم ومن يقصر عن القيام بحقهن وأن كان حاضرا فهو بمنزلة هارب فقد قال تعالي : " قوا أنفسكم وأهليكم نارا "4 امرنا أن نقيهم النار كما نقي أنفسا والإنسان قد يعجز عن القيام بحق نفسه وإذا تزوج تضاعف عليه الحق وأنضافت إلى نفسه نفس أخرى والنفس أمارة بالسوء أن كثرت عليها الحقوق كثر الأمر بالسوء غالبا ولذاك اعتذر بعضهم من التزويج وقال : أنا مبتلي بنفسي وكيف أضيف إليها نفسا أخرى ؟ كما قيل :
لن يســع الفارة جحــرها علقـت المكـنس في دبـرها

وكذلك اعتذر إبراهيم بن ادهم رحمه الله وقال : لا أغر امرأة بنفسي ولا حاجة لي فيهن : أي من القيام بحقهن وتحضينهن وامتاعهن وأنا عاجز عنه وكذلك اعتذر بشر وقال : يمنعني من النكاح قوله تعالي " ولهن مثل الذي عليهن "5 وكان يقول : لو كنت أعول دجاجة لخفت أن أصير جلادا علي الجسر ورؤي سفيان أبن عينية رحمه الله علي باب السلطان فقيل له : ما هذا موقفك ! فقال : وهل رأيت ذا عيال افلح ؟ وكان سفيان يقول
يا حبــذا العـزبة والمفتاح ومسكـن تخــرقه الـرياح
لا صخــب فيـه ولا صيـاح

فهذه أفه عامة أيضا وأن كانت دون عموم الأولي لا يسلم منها آلا حكيم عاقل حسن الأخلاق بصير بعادات النساء صبور علي لسانهن وقاف عن اتباع شهواتهن حريص علي الوفاء بحقهن يتغافل عن زللهن ويداري بعقله أخلاقهن والأغلب علي الناس السفه والفظاظة والحدة والطيش وسوء الخلق وعدم الإنصاف مع طلب تمام الإنصاف ومثل هذا يزداد بالنكاح فسادا من هذا الوجه لا محالة فالوحدة اسلم
_____________________
(3)حديث " كفي بالمرء آثما أن يضيع من يعول " رواه أبو دأود والنسائي بلفظ " من يقوت " وهو عند مسلم بلفظ آخر
(4)سورة التحريم الآية : 6
(5) سورة البقرة الآية 228

الآفة الثالثة
وهي دون الأولي والثانية -: أن يكون الأهل والولد شاغلا له عن الله تعالي وجاذبا له إلى طلب الدنيا وحسن تدبير المعيشة للأولاد بكثرة جمع إملال وادخاره لهم وطلب التفاخر والتكاثر بهم وكل ما شغل عن الله من أهل ومال وولد فهو مشؤوم علي صاحبه ولست اغني بهذا أن يدعو إلى محظور فأن ذلك مما أندرج تحت الأولي والثانية بل أن يدعوه إلى التنعم بالمباحبل إلى الإغراق في ملاعبة النساء ومؤانستهن والإمعان في التمتع بهن ويثور من النكاح أنواع من الشواغل من هذا الجنس تستغرق القلب فينقضي الليل والنهار و لا يتفرغ المرء فيهما للتفكر في الآخرة والاستعداد لها ولذلك قال إبراهيم بن ادهم رحمه الله : من تعود افخاد النساء لم يجئ منه شئ وقال أبو سليمان رحمه الله من تزوج فقد ركن إلى الدنيا أي يدعوه ذلك إلى الركون إلى الدنيا فهذه مجامع الآفات والفوائد فالحكم علي شخص وأحد بأن الأفضل له النكاح أو العزوبة مطلقا قصور عن الإحاطة بمجامع هذه الأمور بل تتخذ هذه الفوائد والآفات معتبرا ومحكما وعرض المزيد عليه نفسه فأن أنتفت في حقه الآفات واجتمعت الفوائد بأن كان له مال حلال وخلق حسن وجد في الدين تام لا يشغله النكاح عن الله وهون مع ذلك شاب محتاج إلى تسكين الشهوة ومنفرد يحتاج إلى تدبير المنزل والتحصن بالعشيرة فلا يماري في أن النكاح افضل له مع ما فيه من السعي في تحصيل الولد فأن أنتفت الفوائد واجتمعت الآفات فالعزوبة افضل له وأن تقابل الآمران وهو الغالب فينبغي أن يوزن بالميزان القسط حظ تلك الفائدة في الزيادة من دينه وحظ تلك الآفات في النقصان منه فإذا غلب علي الظن رجحان أحدهما حكم به واظهر الفوائد الولد وتسكين الشهوة واظهر الآفات الحاجة إلى كسب الحرام والأشغال عن الله فلنفرض تقابل هذه الأمور فنقول : من لم يكن في أذية من الشهوة وكانت فائدة نكاحه في السعي لتحصيل الولد وكانت الآفة الحاجة إلى كسب الحرام والأشغال عن الله فالعزوبة له أولي فلا خير فيما يشغل عن الله و لا خير في كسب الحرام و لا يفي بنقصان هذه الآمرين أمر الولد فأن النكاح للولد سعي في طلب حياة للولد موهومة وهذا نقصان في الدين ناجز فحفظه لحياة نفسه وصونها عن الهلاك أهم من السعي في الولد وذلك ربح والدين راس مال وفي فساد الدين بطلان الحياة الأخروية وذهاب راس المال و لا تقاوم هذه الفائدة إحدى هاتين الآفتين وأما إذا أنضاف إلى أمر الولد حاجة كسر الشهوة لتوقان النفس إلى النكاح نظر : فأن لم يقوم لجام التقوى في راس وخاف علي نفسه الزنا فالنكاح له أولي لأنه متردد بين أن يقتحم الزنا أو يأكل الحرام والكسب الحرام أهون الشرين وأن كان يثق بنفسه أنه لا يزني ولكن لا يقدر مع ذلك علي غض البصر عن الحرام فترك النكاح أولي لأن النظر حرام والكسب من غير وجهه حرام والكسب يقع دائما وفيه عصيانه وعصيان أهله والنظر يقع أحيانا وهو يخصه ونصرم علي قرب والنظر زنا العين ولكن إذا لم يصدقه الفرج فهو إلى العفو هذا فالحالة الثالثة : وهو أن يقوي علي غض البصر ولكن لا يقوي علي دفع الأفكار الشاغلة للقلب فذلك أولي بترك النكاح لأن عمل القلب إلى العفو اقرب أنما يراد فراغ القلب للعبادة و لا تتم عبادة مع الكسب الحرام واكله واطعامه فهكذا ينبغي أن توزن هذه الآفات بالفوائد ويحكم بحسبها ومن أحاط بهذا لم يشكل عليه شئ مما نقلنا عن السلف من ترغيب في النكاح مرة ورغبة عنه أخرى إذ ذلك بحسب الأحوال صحيح
فأن قلت : فمن آمن الآفات فما الأفضل له : التخلي لعبادة الله أو النكاح ؟

فاقول : يجمع بينهما لأن النكاح ليس مانعا من التخلي لعبادة الله من حيث أنه عقد ولكن من حيث الحاجة إلى الكسب فأن قدر علي الكسب الحلال فالنكاح أيضا افضل لأن الليل وسائر أوقات النهار يمكن التخلي فيه للعبادة والمواظبة علي العبادة من غير استراحة غير ممكن فأن فرض كونه مستغرقا بالكسب حتى لا يبقي له وقت سوي أوقات المكتوبة والنوم والآكل وقضاء الحاجة فأن كان الرجل ممن لا يسلك سبيل الآخرة آلا بالصلاة النافلة أو الحج وما يجري مجراه من الإعمال البدنية فالنكاح له افضل لأن في كسب الحلال والقيام بالأهل والسعي في تحصيل الولد والصبر علي أخلاق النساء أنواعا من العبادات لا يقصر فضلها عن نوافل العبادات وأن كان عبادته بالعلم والفكر وسير الباطن والكسب يشوش عليه ذلك فترك النكاح افضل

فأن قلت : فلم ترك عيسي عليه السلام النكاح مع فضله ؟ وأن كان الأفضل التخلي لعبادة الله فلم استكثر رسولنا صلي الله عليه وسلم من الأزواج ؟ فاعلم أن الأفضل الجمع بينهما في حق من قدر ومن قويت منته وعلت همته فلا يشغله عن الله شاغل ورسولنا عليه السلام اخذ بالقوة وجمع بين فضل العبادة والنكاح ولقد كان مع تسع من النسوة 6 متخليا لعبادة الله وكان قضاء الوطر بالنكاح في حقه غير مانع كما لا يكون قضاء الحاجة في حق المشغولين بتدبيرات الدنيا مانعا لهم عن التدبير حتى يشتغلون في الظاهر بقضاء الحاجة وقلوبهم مشغوفة بهممهم غير غافلة عن مهماتهم وكان رسول الله صلي الله عليه وسلم لعلو درجته لا يمنعه أمر هذا العالم عن حضور القلب مع الله تعالي فكان ينزل عليه الوحي وهو في فراش آمراته 7 ومتي سلم مثل هذا المنصب لغيره فلا يبعد السواقي ما لا يغير البحر الخضم فلا ينبغي أن يقاس عليه غيره وأما عيسي صلي الله عليه وسلم فأنه اخذ بالحزم لا بالقوة واحتاط لنفسه ولعل حالته كانت حالة يؤثر فيها الاشتغال بالأهل أو يتعذر معها طلب الحلال أو لا يتيسر فيها الجمع بين النكاح والتخلي للعبادة فاثر التخلي للعبادة وهم اعلم بأسرار أحوالهم وأحكام إعصارهم في طيب منقسمة حتى يكون النكاح في بعضها افضل وتركه في بعضها افضل فحقنا أن ننزل أفعال الأنبياء علي الأفضل في كل حال والله اعلم
_____________________
(6)حديث " جمعه صلي الله عليه وسلم بين تسع نسوة ““ أخرجه البخاري من حديث أنس وله من حديثه أيضا وهن إحدى عشرة
(7) حديث " كان ينزل عليه الوحي وهو في فراش آمراته ““ أخرجه البخاري من حديث أنس يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فأنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها

http://www.alshamsi.net/islam/do3a/a1.gif

الباب الثاني
فيما يراعي حالة العقد من أحوال المرأة وشروط العقد

أما العقد فاركانه وشروطه لينعقد ويفيد الحل أربعة :
الأول : اذن الولي فإن لم يكن فالسلطان
الثاني : رضا المرأة أن كانت ثيبا بالغا أو كانت بكرا بالغا ولكن يزوجها غير الأب والحد
الثالث : حضور شاهدين ظاهري العدالة فأن كانا مستورين حكمنا بالانعقاد للحاجة
الرابع : أيجاب وقبول متصل به بلفظ الإنكاح أو التزويج أو معناهما الخاص بكل لسان من شخصين مكلفين ليس فيهما امرأة سواء كان هو الزوج أو الولي أو وكيلهما

وأما آدابه فتقديم الخطبة مع الولي لا في حال عدة المرأة بل بعد انقضائها أن كانت معتدة و لا في حال سبق غيره بالخطبة إذ نهي عن الخطبة علي الخطبة 1 ومن آدابه الخطبة قبل النكاح ومزج التجميد بالإيجاب والقبول فيقول المزوج : الحمد لله والصلاة علي رسول الله زوجتك أبنتي فلأنة ويقول الزوج : الحمد لله والصلاة علي رسول الله قبلت نكاحها علي هذا الصداق وليكن الصداق معلوما خفيفا والتجميد قبل الخطبة أيضا مستحب ومن آدابه أن يلقي أمر الزوج إلى سمع الزوجة وأن كانت بكرا فذلك أحرى وأولي بالآلفة ولذلك يستحب النظر إليها قبل النكاح فأنه أحرى أن يؤدم بينهما ومن الآداب : إحضار جمع من أهل الصلاح زيادة علي الشاهدين اللذين هما ركنان للصحة ومنها : أن ينوي بالنكاح إقامة السنة وغض البصر وطلب الولد وسائر الفوائد التي ذكرناها و لا يكون قصده مجرد الهوي والتمتع فيصير عمله من أعمال الدنيا و لا يمنع ذلك هذه النيات فرب حق يوافق الهوي قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : إذا وافق الحق الهوي فهو الزبد بالنرسيان و لا يستحيل أن يكون كل وأحد من حظ النفس وحق الدين باعثا معا ويستحب أن يعقد في المسجد وفي شهر شوال قالت عائشة رضي الله عنها تزوجني رسول الله صلي الله عليه وسلم في شوال وبني بي في شوال 2

وأما المنكوحة فيعتبر فيها نوعان : أحدهما للحل والثاني لطيب المعيشة وحصول المقاصد

النوع الأول ما يعتبر فيها للحل : وهو أن تكون خلية عن موانع النكاح والموانع تسعة عشر
الأول : أن تكون منكوحة للغير
الثاني : أن تكون معتدة للغير سواء كانت عدة وفاة أو طلاق أو وطء شبهة أو كانت في استبراء وطء عن ملك يمين
الثالث: أن تكون مرتدة عن الدين لجريان كلمة علي لسانها من كلمات الكفر
الرابع :أن تكون مجوسية
الخامس :أن تكون وثنية أو زنديقة لا تنسب إلى نبي وكتاب ومنهن المعتقدات لمذهب الإباحة فلا يحل نكاحهن وكذلك كل معتقدة مذهبا فاسدا يحكم بكفر معتقده
السادس :أن تكون كتابية قد دانت بدينهم بعد التبديل أو بعد مبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم ومع ذلك فليست من نسب بني إسرائيل فإذا عدمت كلتا الخصلتين لم يحل نكاحها وأن عدمت النسب فقط ففيه خلاف
السابع :أن تكون رقيقة والناكح حرا قادر علي طول الحرة أو غير خائف من العنت
الثامن : أن تكون كلها أو بعضها مملوكا للناكح ملك يمين
التاسع : أن تكون قريبة للزوج بأن تكون من أصوله أو فصوله أو فصول أول أصوله أو من أول فصل من كل اصل بعده اصل واعني بالأصول : الأمهات والجدات وبفصوله :الأولاد والأحفاد وبفصول أول أصوله :الأخوة وأولادهم وبأول فصل من كل اصل بعده اصل : العمات والخالات دون أولادهن
العاشر : أن تكون محرمة بالرضاع ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب من الأصول والفصول كما سبق ولكن المحرم خمس رضعات وما دون ذلك لا يحرم
الحادي عشر : المحرم بالمصاهرة وهو أن يكون الناكح قد نكح أبنتها أو جدتها أو ملك بعقد أو شبهة عقد من قبل أو وطئهن بالشبهة في عقد أو طئ أمها أو إحدى جداتها بعقد أو شبهة عقد فمجرد العقد علي المرأة يحرم أمهاتها و لا يحرم فروعها آلا بالوطء أو يكون قد نكحها أبو ه أو أبنه قبل
الثاني عشر : أن تكون المنكوحة خامسة أي يكون تحت الناكح أربع سواها أما في نفس النكاح أو في عدة الرجعة فأن كانت في عدة بينونة لم تمنع الخامسة
الثالث عشر : أن يكون تحت الناكح أختها أو عمتها أو خالتها فيكون بالنكاح جامعا بينهما وكل شخصين بينهما قرابة لو كان أحدهما ذكرا والآخرة أنثي لم يجز بينهما النكاح فلا يجوز أن يجمع بينهما
الرابع عشر : أن يكون هذا الناكح قد طلقها ثلاثا فهي لا تحل له ما لم يطأها زوج غيره في نكاح صحيح
الخامس عشر : أن يكون الناكح قد لا عنها فأنها تحرم عليه أبدا بعد اللعان
السادس عشر : أن تكون محرمة بحج أو عمرة أو كان الزوج كذلك فلا ينعقد النكاح آلا بعد تمام التحلل
السابع عشر : أن تكون ثيبا صغيرة فلا يصح نكاحها آلا بعد البلوغ
الثامن عشر : أن تكون يتيمة فلا يصح نكاحها آلا بعد البلوغ
التاسع عشر : أن تكون من أزواج رسول الله صلي الله عليه وسلم ممن توفي عنها أو دخل بها فأنهن أمهات المؤمنين وذلك لا يوجد في زماننا فهذه هي الموانع المحرمة

________________________
(1)حديث النهي عن الخطبة علي الخطبة متفق عليه من حديث أبن عمر و لا يخطب علي خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله ويأذن له
(2)حديث عائشة :تزوجني رسول الله صلي الله عليه وسلم في شوال وبني بي في شوال رواه مسلم


http://www.w6w.net/album/35/w6w_w6w_200504261255404486ad40.gif

أما الخصال المطيبة للعيش التي لا بد من مراعاتها في المرأة ليدوم العقد وتتوفر مقاصده ثمانية :
الدين والخلق والحسن وخفة المهر والولادة والبكارة والنسب وأن لا تكون قرابة قريبة

الأولي : أن تكون صالحة ذات دين فهذا هو الأصل وبه ينبغي أن يقع الاعتناء فأنها أن كانت ضعيفة الدين في صيانة نفسها وفرجها آزرت بزوجها وسودت بين الناس وجه وشوشت بالغيرة قلبه وتنغص بذلك عيشه فأن سلك سبيل الحمية والغيرة لم يزل في بلاء ومحنة وأن سلك سبيل التساهل كان متهاونا بدينه وعرضه ومنسوبا إلى قلة الحمية والآنفة وإذا كانت مع الفساد جميلة كان بلاؤها اشد إذ يشق علي الزوج مفارقتها فلا يصبر عنها ولا يصبر عليها ويكون كالذي جاء إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أن لي امرأة لا ترد يد لامس قال : " 1 طلقها " فقال : أني احبها قال : " امسكها " وأنما آمره بإمساكها خوفا عليه بأنه إذا طلقها اتبعها نفسه وفسد هو أيضا معها فرأي ما في دوام نكاحه من دفع الفساد عنه من ضيق قلبه أولي وأن كانت فاسدة الدين باستهلاك ماله أو بوجه آخر لم يزل العيش مشوشا معه فأن سكت ولم ينكره كان شريكا في المعصية مخالفا لقوله تعالي : " قوا أنفسكم وأهليكم نارا "2 وأن أنكر وخاصم تنغص العمر ولهذا بالغ رسول الله صلي الله عليه وسلم في التحريض علي ذات الدين فقال : " تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها ودينها فعليك بذات الدين تربت يداك"3 وفي حديث آخر : " من نكح المرأة لمالها وجمالها ، ومن نكحها لدينها رزقه الله مالها وجمالها " 4 وقال صلى الله عليه وسلم " لا تنكح المرأة لجمالها فلعل جمالها يرديها و لا لمالها فلعل مالها يطغيها وأنكح المرأة لدينها "5 وأنما بالغ في الحث علي الدين لأن مثل هذه المرأة تكون عونا علي الدين فأما إذا لم تكن متدينة كانت شاغلة عن الدين ومشوشة له

الثانية : حسن الخلق وذلك اصل مهم في طلب الفراغة والاستعانة علي الدين : فأنها إذا كانت سليطة بذئة اللسان سيئة الخلق كافرة للنعم كان الضرر منها اكثر من النفع والصبر علي لسان النساء مما تنكحوا حداقة و لا براقة و لا شداقة أما الإانانة فهي التي تكثر الأنين والتشكي وتعصب رأسها كل ساعة فنكاح الممراضة أو نكاح المتمارضة لا خير فيه والمنانة : التي تمن علي زوجها فتقول : فعلت لاجلك كذا وكذا والحنانة : التي تحن إلى زوج آخر أو لدها من زوج آخر وهذا أيضا مما يجب اجتنابه والحداقة : التي ترمي إلى كل شئ بحدقتها فتشتهيه وتكلف الزوج شراءه والبراقة تحتمل معنيين : أحدهما أن تكون طول النهار في تصقيل وجهها وتزيينه ليكون لوجهها بريق محصل بالصنع والثاني أن تغضب علي الطعام فلا تآكل آلا وحدها وتستقل نصيبها من كل شئ وهذه لغة يمانية يقولون : برقت المرأة وبرق الصبي الطعام إذا غضب عنده والشداقة : المشتدقة الكثيرة الكلام ومنه قوله عليه السلام : “ أن الله تعالي يبغض الثرثارين المتشدقين "6 وحكي أن السائح الإزدي لقي اليأس عليه السلام في سياحته فآمره بالتزوج ونهاه عن التبتل ثم قال : لا تنكح أربعا المختلعة والمبارية والعاهرة والناشز فأما المختلعة : فهي التي تطلب الخلع كل ساعة من غير سبب والمبارية : المباهية بغيرها المفاخرة بأسباب الدنيا والعاهرة : الفاسقة التي تعرف بخليل وخدن وهي التي قال الله تعالي " و لا متخذات اخدأن"7 والناشز : التي تعلوعلي زوجها بالفعال والمقال والنشز : العالي من الأرض وكان علي رضي الله عنه يقول : شر خصال الرجال خصال النساء البخل والزهو والجبن فأن المرأة إذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال زوجها وإذا كانت مزهوة استنكفت أن تكلم كل أحد بكلام لين مريب وإذا كانت جبانة فرقت من كل شئ فلم تخرج من بيتها واتقت مواضع التهمة خيفة من زوجها فهذه الحكايات ترشد إلى مجامع الأخلاق المطلوبة في النكاح

الثالثة : حسن الوجه فذلك أيضا مطلوب إذ به يحصل التحصن والطبع لا يكتفي بالدميمة غالبا كيف والغالب أن حسن الخلق والخلق لا يفترقان وما نقلناه من الحث علي الدين وأن المرأة لا تنكح لجمالها ليس زاجر عن رعاية الجمال بل هو زجر عن النكاح لاجل الجمال المحض مع الفساد في الدين فأن الجمال وحده في غالب الأمر يرغب في النكاح ويهون أمر الدين ويدل علي الالتفات إلى معني الجمال أن الآلفة والمودة تحصل به غالبا وقد ندب الشرع إلى مراعاة أسباب الآلفة ولذلك استحب النظر فقال : " إذا أوقع الله في نفس أحدكم من امرأة فلينظر إليها فأنه أحرى أن يؤدم بينهما "8 أي يؤلف بينهما من وقوع الأدمة علي الأدمة : وهي الجلدة الباطنة والبشرة الجلدة الظاهرة وأنما ذكر ذلك للمبالغة في الائتلاف وقال عليه الصلاة والسلام : " أن في أعين الأنصار شيئا فإذا أراد أحدكم أن يتزوج منهن فلينظر إليهن "9 قيل : كان في أعينهن عمش وقيل : صغر وكان بعض الورعين لا ينكحون كرائمهم آلا بعد النظر احترازا من العرور قال الأعمش : كل تزويج يقع علي غير نظر فاخره هم وغم ومعلوم أن النظر لا يعرف الخلق والدين والمال وأنما يعرف الجمال من القبح وروي أن رجلا تزوج علي عهد عمر رضي الله عنه وكان قد خضب فنصل خضابه فاستعدي عليه أهل المرأة إلى عمر وقالوا : حسبناه شابا : فأوجعه عمر ضربا وقال : غررت القوم وروي أن بلالا وصهيبا آتيا أهل بيت من العرب فخطبا إليهم فقيل لهما من أنتما ؟ فقلل بلال : أنا بلال وهذا أخي صهيب كنا ضالين فهدأنا الله وكنا مملوكين فاعتقنا الله وكنا عائلين فاغنانا الله فأن تزوجونا فالحمد لله وأن تردونا فسبحان الله فقالوا بل تزوجان والحمد لله فقال صهيب : لو ذكرت مشاهدنا وسوابقنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : اسكت فقد صدقت فأنكحك الصدق والغرور يقع في الجمال والخلق جميعا فيستحب إزالة الغرور في الجمال بالنظر وفي الخلق بالوصف والإستيصاف فينبغي أن يقدم ذلك علي النكاح و لا ستوصف في أخلاقها وجمالها آلا من هو بصير صادق خبير بالظاهر والباطن و لا يميل إليها فيفرط في الثناء و لا يحسدها فيثصر فالطباع مائلة في مبادئ النكاح ووصف المنكوحات إلى الإفراط والتفريط وقل من يصدق فيه ويقتصد بل الخداع والإغراء اغلب والاحتياط فيه مهم لمن يخشي علي نفسه التشوف إلى غير زوجته فأما من أراد من الزوجة مجرد السنة أو الولد أو تدبير المنزل فو رغب عن الجمال فهو إلى الزهد اقرب لأنه علي الجملة باب من الدنيا وأن كان قد يعين علي الدين في حق بعض الأشخاص قال أبو سليمان الداراني : الزهد في كل شئ حتى في المرأة يتزوج الرجل العجوز ايثارا للزهد في الدنيا وقد كان مالك بن دينار رحمه الله يقول : يترك أحدكم أن يتزوج يتيمة فيؤجر فيها أن أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤنة ترضي باليسير ويتزوج بنت فلأن وفلان يعني أبناء الدنيا فتشتهي عليه الشهوات وتقول : اكسني كذا وكذا ! واختار احمد بن حنبل عوراء علي أختها وكانت أختها جميلة فسال : من اعقلهما ؟ فقيل : العوراء فقال : زوجوني إياها فهذا داب من لم يقصد التمتع فأما من لا يأمن علي دينه ما لم يكن له مستمتع فليطلب الجمال فالتلذذ بالمباح حصن للدين وقد قيل : إذا كانت المراء حسناء خيرة الأخلاق سوداء الحدقة والشعر كبيرة العين بيضاء اللون محبة لزوجها قاصرة الطرف عليه فهي علي صورة الحور العين فأن الله تعالي وصف نساء أهل الجنة بهذه الصفة في قوله : " خيرات حسان 10 أراد بالخيرات حسنات الأخلاق وفيه قوله “ قاصرات الطرف "11 وفي قوله : " عربا أترابا "12 العروب هي العاشقة لزوجها المشتهية للوقاع وبه تتم اللذة والحور : البياض والحوراء : شديدة بياض العين شديدة سوادها في سواد الشعر والعيناء الواسعة العين وقال عليه الصلاة والسلام " خير نسائكم من إذا نظر إليها زوجها سرته وإذا آمراها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله "13 وأنما يسر بالنظر إليها إذا كانت محبة للزوج

الرابعة : أن تكون خفيفة المهر قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " خير النساء أحسنهن وجوها أرخصهن مهورا "14 وقد نهي عن المغالاة في المهر "15 تزوج رسول الله صلي الله عليه وسلم بعض نسائه علي عشرة دراهم وأثاث بيت وكان رح يد وجرة ووسادة من أدم حشوها ليف 16 وأولم علي بعض نسائه بندين من شعير 17 وعلي أخرى بمدين من تمر ومدين من سويق 18 وكان عمر رضي الله عنه ينهي عن المغالاة في الصداق ويقول : ما تزوج رسول الله صلي الله عليه وسلم و لا زوج بناته بأكثر من أربعمائة درهم 19 ولو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله صلي الله عليه وسلم وقد تزوج بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم علي نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم 20

وزوج سعيد بن المسيب أبنته من أبي هريرة رضي الله عنه علي درهمين ثم حملها هو إليه ليلا فادخلها هو من الباب ثم أنصرف ثم جاءها بعد سبعة أيام فسلم عليها ولو تزوج علي عشرة دراهم للخروج من خلاف العلماء فلا باس به وفي الخبر : " من بركة المرأة سرعة تزويجها وسرعة رحمها " أي الولادة و " يسر مهرها "21 وقال أيضا : " ابركهن اقلهن مهرا "22 وكما تكره المغالاة في المهر من جهة المرأة فيكره السؤال عن مالها من جهة الرجل و لا ينبغي أن ينكح طمعا في المال قال الثوري : إذا تزوج وقال : أي شئ للمرآة ؟ فاعلم أنه لص وإذا اهدي إليهم فلا ينبغي أن يهدي ليضطرهم إلى المقابلة بأكثر منه وكذلك إذا اهدوا إليه فنية طلب الزيادة نية فاسدة فأما التهادي فمستحب وهو سبب المودة قال عليه السلام : " تهادوا تحابوا "23 وأما طلب الزيادة فداخل في قوله تعالي : " و لا تمنن تستكثر "24 أي تعطي لتطلب اكثر وتحت قوله تعالي : " وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس "25 فأن الربا هو الزيادة وهذا طلب زيادة علي الجملة وأن لم يكن في الأموال الربوية فكل ذلك مكروه وبدعة في النكاح يشبه التجارة والقمار ويفسد مقاصد النكاح

الخامسة : أن تكون المرأة ولودا فأن عرفت بالعقر فليمتنع عن تزوجها قال عليه السلام : " عليكم بالولود "26 فأن لم يكن لها زوج ولم يعرف حالها فيراعي صحتها وشبابها فأنها تكون ولودا في الغالب مع هذين الوصفين

السادسة : أن تكون بكرا قال عليه السلام لجابر : وقد نكح ثيبا : " هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك "27 في البكارة ثلاث فوائد إحداها : أن تحب الزوج وتآلفه فيؤثر في معني الود وقد قال صلي الله عليه وسلم : " عليكم بالودود " والطباع مجبولة علي الإنس بأول مألوف وأما التي اختبرت الرجال ومارست الأحوال فربما لا ترضي بعض الأوصاف التي تخالف ما الفته فتقلي الزوج الثانية : أن ذلك اكمل في مودته لها فأن الطبع ينفر عن التي مسها غير الزوج نفرة ما وذلك يثقل علي الطبع مهما يذكر وبعض الطباع في هذا اشد نفورا الثالثة : أنها لا تحن إلى الزوج الأول واكد الحب ما يقع مع الحبيب الأول غالبا

السابعة : أن تكون نسيبة اعني أن تكون من أهل بيت الدين والصلاح فأنها ستربي بناتها وبنيها فإذا لم تكن مؤدبة لم تحسن التأديب والتربية ولذلك قال عليه السلام : " إياكم وخضراء الدمن " فقيل : ما خضراء الدمن ؟قال : " المرأة الحسناء في المنبت السوء "28