nahoous
26-10-2008, 01:45 PM
يصعب الحكم على المناهج التعليمية في الدول العربية قاطبة دفعة واحدة. فهذا من قبيل إصدار الأحكام المسبقة. إنها متفاوتة في مستواها ومتفاوتة في التعديلات التي أجريت عليها كنصوص، ومتفاوتة أيضًا في تطبيق هذه التعديلات. وتسمح لي الزيارات التي قمت بها لعدد من الدول، والدراسات والأعمال المنشورة والتقارير الوطنية التي اطلعت عليها، بأن أتكلم عن مناهج عدد من الدول، منها ما هو في الخليج العربي، ومنها ما هو في المشرق، بالإضافة إلى دولة واحدة في شمالي إفريقيا. علمًا بأنني لم أطلع على المناهج في دول «الجنوب العربي» كاليمن وجيبوتي وموريتانيا والصومال.
في دول الخليج العربية حدثت تغيرات في المناهج والكتب المدرسية استنادًا إلى النشاط الذي قام به مكتب التربية العربي لدول الخليج، إلى مبادرات وخطط وطنية. واعتمدت في هذه الدول مناهج حديثة ولاسيما مفهوم «الكفايات» (المعرفية والمهارية والسيكوحركية). كما طورت بشكل خاص ووحدت كتب العلوم والرياضيات. ومن المرجح أن مستوى التلاميذ تحسن نتيجة هذه التحسينات، ولاسيما في الجانبين المعرفي والمهاري. لكن الدراسات التي أجريت في بعض هذه الدول على مستوى التلاميذ في عدد من المواد الدراسية يدل على أن هذا المستوى ما زال دون المطلوب، إذا أخذنا مقاصد المناهج المقررة كمحك. أما إذا استندنا إلى معيار كلي (أو عالمي) فإن المشكلة تصبح أكبر بسبب ضعف التركيز على المستويات العليا في الجانب المعرفي (المقارنة والتحليل والتطبيق) وعلى المهارات المطلوبة في الحياة العامة. وهذا بدوره ما يجعل خريجي التعليم العام (ما قبل الجامعي) غير معدين لاستخدام طاقاتهم الفكرية بشكل مناسب في معالجة الشؤون العامة في محيطهم، بما في ذلك فهم الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية. وتشير الدراسات الموضوعة في إحدى دول الخليج إلى أن المناهج المعتمدة لا تنمي لدى المتعلمين أساليب التفكير النقدي والتعلّم الذاتي وجمع المعلومات وتحليلها وممارسة التفكير المستقل. الكتب المدرسية تقدم المعرفة جاهزة، والأسئلة التي تطرحها تقوم على استرجاع مقاطع ومعلومات منها، والتقويم يأخذ شكل الأسئلة المطروحة في الكتب. وهكذا دواليك، بحيث ينشأ الطالب معتقدًا أن الأجوبة موجودة دائمًا لدى الآخرين البالغين، وأنها شبه منزلة، وهو ينتظر البلوغ حتى تصبح أجوبته أيضًا منزلة. إن هذه العلاقة الإملائية في المدرسة والتي تنتقل إلى المجتمع لا تتفق مع نوايا التنمية ولا مع الخطط التنموية أينما وجدت.
أما عن حاجات سوق العمل فالمناهج المعتمدة في دول الخليج تدفع بالطلاب نحو الدروس النظرية، ولا تعطي فرصًا كافية، في المرحلتين الإعدادية والثانوية، للاختيار بين دروس عملية (فنية، تقنية، تطبيقية) ودروس نظرية (أساسية أو متقدمة)، مع انفصال شبه تام بين «سكة» التعليم العام و«سكة» التعليم المهني والتقني. وينجم عن ذلك تدفق قوي نحو الوظيفة العامة (في الإدارات الحكومية) أو نحو الاختصاصات الإنسانية في الجامعة (التي تفضي أيضًا إلى الوظيفة العامة). وتترك ممارسة «المهن» في هذه الحالة إلى القوى البشرية الوافدة. ومن نتائج ذلك أن التعريب (التكويت، البحرنة، السعودة... إلخ) تقدم كثيرًا في الوظائف الحكومية، لكنه ما زال متأخرًا جدًا في القطاع المهني، مع فروقات شاسعة بين دول الخليج، تبعًا للقطاع وحجم السكان.
ما يقال عن دول الخليج ينطبق على دول المشرق العربي وشمال إفريقيا، مع عدد من الفروقات أبرزها ما يلي:
ـ معدل التطوير في المناهج، نظريًا وعمليًا، كان أقوى مما في دول الخليج في دولتين مثل لبنان والأردن، وأضعف مما في دول الخليج في دول مثل سوريا والعراق والجزائر.
ـ أن القطاع الخاص أدى دورًا، إلى جوانب عوامل أخرى، في تحسين مستوى التركيز على اللغة الأجنبية في كل من الأردن ولبنان، بالمقارنة مع غيرهما من الدول العربية.
ـ أن التركيز على اللغة العربية هو أقوى في سوريا والعراق مما في الدول الأخرى، مع تركيز أقل فيهما على الدين.
وبمناسبة الكلام عن اللغة العربية، فإن الدول العربية تشترك في أنها لم تنجز حتى الآن منهجًا مناسبًا لها. ومن المؤسف أن تكون هذه اللغة التي تميز الأمة العربية بصفتها لسانًا وحاملة حضارة، والتي تختزن ذخيرة لسانية وأدبية وفكرية هائلة ما زالت في تراجع مستمر في قيمتها ومستوى إتقانها وفرص استخدامها.
كما تشترك الدول العربية في إهمالها للجوانب الإبداعية، وفي عدم اهتمامها بذوي الحاجات الخاصة، وبتهميش المواد والأنشطة الفنية.
وموضوع المناهج هو واحد من المشكلات الأكثر تعقيدًا في النظام التربوي، والأقل قابلية للتغيير الجدي. ينطبق ذلك على الدول العربية كما ينطبق على سائر دول العالم. يعزى التعقيد إلى تعدد الأبعاد والمستويات التي يتضمنها مفهوم المناهج: الأهداف (العامة والخاصة، ما يتعلق منها بالمراحل وما يتعلق بالمواد التعليمية، كل على حدة)، المواد التعليمية (أهدافها، مضامينها، الترتيب الداخلي لكل منها، والعلاقات بين بعضها البعض)، والكتب المدرسية (توافقها مع الأهداف ومع المواد، وترتيبها الداخلي، وإخراجها، وأساليب التعليم التي تفرضها)، وأساليب التعليم (التي تتحدد في كل حالة تبعًا لما تفرضه الكتب، وملامح المعلمين، ولتوجهات المسؤولين، الموجهين منهم والمديرين، ولنوع المجهود المدرسي)، والتقويم (القبلي والبعدي، التشخيصي والتكويني والاصطفائي والختامي)... إلخ.
أما ضعف القابلية للتغيير الجدي في المناهج فأساسه تعدد الجهات التي تدلي بدلوها في صناعة المناهج وفي تطبيقها، فيدخل كل طرف عنصرًا فيها يعطل أو يحيد أو ينشط عنصرًا آخر، وكأن المناهج هي «النظام النواة» للنظام التربوي ككل (على الأقل في التعليم العام). وفي مطلق الأحوال فإن إقرار المناهج بصيغة ما، وتأمين قابليتها للتطبيق يحتاج أحيانًا إلى إجماع وطني، والإجماع يفرض وجود تسويات وتنازلات متبادلة، بحيث يكون التغيير جزئيًا في كل مرة.
عمليًا تكمن الصعوبة الرئيسة في كيفية إدارة وضع المناهج وتطويرها. والأسلوب السائد أن الحكومة (أو الوزارة) تقرّر مثلاً وضع مناهج جديدة، فتوكل الأمر إلى مجموعة من الناس تضع أهدافًا عامة. وهذه المجموعة غالبًا ما تفبرك الأهداف على أساس النزعات السياسية والفكرية الكبرى، دون النظر في المتطلبات الواقعية. ثم يوكل أمر تأليف الكتب إلى مجموعة (أو مجموعات) أخرى ترجّح في عملها المتطلبات المتأتية من محتوى المادة، كل بحسب اختصاصه. فيحدث أول فرق جوهري بين المقاصد المعلنة (الأهداف) والمقاصد المحققة. يلي ذلك نشر الكتب في المدارس، حيث «يتلقى» المديرون والمعلمون الكتب الجديدة ويعملون على الالتزام بها طبقًا للإرشادات التي تنقل إليهم. والمعلمون يستعملونها كما يفهمونها. وهنا يحدث الفرق الثاني بين المقاصد المقررة والمقاصد المحققة. في هذا الوقت تكون الإدارة التربوية في عالم آخر، فلا يترافق تطبيق المناهج الجديدة مع تأمين مستلزماتها من تجهيزات ووسائل وأساليب في إدارة الصف وإدارة المدرسة. والنتيجة أن الوقائع القائمة «تأكل» الجديد في المناهج.
ثمة صعوبة إذاً في إدارة الشأن التربوي عامة وإدارة المناهج خاصة. ومن النواقص المفسّرة لضعف هذه الإدارة عدم تعزيزها بمخططين للمناهج، وعدم الاهتمام بالمتابعة والتقويم، وعدم بلورة أساليب قياس لمعرفة النواتج الناجمة عن المناهج (المستوى)، من أجل إجراء الإصلاحات اللازمة. ويحتاج ذلك إلى تطوير «أنظمة مراقبة» Monitoring Systems، وهذه الأنظمة مفتقدة في جميع الدول العربية.
وإذا قارنا الدول العربية بالدول المتقدمة فيجب الاعتراف بأننا متخلفون كثيرًا في هذا المضمار، سواء من حيث الأبحاث والدراسات حول المناهج، أو من حيث إدارة المناهج، أو من حيث تصميم المناهج وتطبيقها، والمستويات المحصلة لدى الطلاب. وبينما تقع كوريا الجنوبية مثلاً في أعلى سلم الدول من حيث تحصيل الطلبة في العلوم والرياضيات والثقافة البيئية، فإن الدول العربية التي شملتها الدراسات العالمية ظهرت في أدنى سلم هذه الدول.
وبنظرة مستقبلية لأفق الغد «المناهجي نجد أنه يحتاج أولاً إلى اعتراف وطني بطبيعة المشكلات القائمة. هل التلقين مشكلة أم لا؟ وهل نريد تجاوزه؟ وهل نتجاوزه عن طريق التلقين الإداري والسياسي؟
ويحتاج ثانيًا إلى الإرادة في إعطاء إدارة التربية وضمنها إدارة المناهج استقلالية نسبية لكي تعمل استنادًا إلى قواعد متعارف عليها دوليًا في صناعة المناهج وتطبيقها.
ويحتاج ثالثًا إلى تطوير هذه الإدارة بحيث تجتذب الموارد البشرية والفكرية وبحيث تعمل بتناغم وتفاعل، وبحيث تعتمد مبدأ الشراكة، لجهة إدماج جميع الهيئات التربوية في صناعة المناهج، ومناقشتها وتطويرها.
ويحتاج رابعًا إلى تفاعل بين أهل التربية (والمناهج) وأهل الاقتصاد والفعاليات الاجتماعية، وإلى تفاعل بين الجهات المعنية بالمناهج على المستوى الوطني، مع غيرها من الجهات ذات الاختصاص في دول عربية أخرى أو دول عربية ذات تجارب رائدة في تطوير المناهج.
ويحتاج خامسًا إلى خطط قوية لتطوير الهيئة التعليمية، ولإشراكهم في عملية تطوير المناهج، وكلما ساهم هؤلاء في العملية أدركوا ماهيتها بصورة أفضل، وكانوا أكثر التزامًا بتحقيق أهدافها البعيدة بدلاً من التمسك بصفحات الكتب المدرسية وبالإجابة الجاهزة.
ويحتاج سادسًا إلى وجود أجهزة تقويم أداء الطلبة بصورة مستمرة، ليس للحكم على الطلبة بل للحكم على العمليات الإدارية والتربوية نفسها، ومناقشة نتائج مقاييس الأداء، مع المعنيين من إداريين ومعلمين. ثمة مؤسسات خاصة في الولايات المتحدة تقوم أداء المدرسة ربطاً بأداء الطلبة وتقدم النتائج إلى المسؤولين من المدارس للتباحث في شأنها ورؤية آفاق التطوير. وفي فرنسا تقوم أجهزة مختصة منذ عشر سنوات بإجراء اختبارات دورية على الطلبة، تعرض نتائجها على المديرين والمعلمين وتناقشهم في تفسيرها، وفي كيفية تحسينها، وذلك بصورة دورية.
ونحن في الدول العربية إما أننا لا نقوم بتقويم أداء الطلبة دوريًا لاستخراج الدروس حول المناهج والعملية التعليمية نفسها، وإما أننا نقوم بذلك مرة واحدة ونضع النتائج على الرف، وإما أن نقتصر على تقويم التلاميذ من أجل الحكم عليهم (النجاح والرسوب). والنتيجة أن لا رسوب التلاميذ يدل على نجاح المناهج، ولا «نجاح» التلاميذ وتدفقهم نحو الأعلى يعني عدم «رسوبهم» في الحياة العامة طبقًا لمتطلبات العصر.
في دول الخليج العربية حدثت تغيرات في المناهج والكتب المدرسية استنادًا إلى النشاط الذي قام به مكتب التربية العربي لدول الخليج، إلى مبادرات وخطط وطنية. واعتمدت في هذه الدول مناهج حديثة ولاسيما مفهوم «الكفايات» (المعرفية والمهارية والسيكوحركية). كما طورت بشكل خاص ووحدت كتب العلوم والرياضيات. ومن المرجح أن مستوى التلاميذ تحسن نتيجة هذه التحسينات، ولاسيما في الجانبين المعرفي والمهاري. لكن الدراسات التي أجريت في بعض هذه الدول على مستوى التلاميذ في عدد من المواد الدراسية يدل على أن هذا المستوى ما زال دون المطلوب، إذا أخذنا مقاصد المناهج المقررة كمحك. أما إذا استندنا إلى معيار كلي (أو عالمي) فإن المشكلة تصبح أكبر بسبب ضعف التركيز على المستويات العليا في الجانب المعرفي (المقارنة والتحليل والتطبيق) وعلى المهارات المطلوبة في الحياة العامة. وهذا بدوره ما يجعل خريجي التعليم العام (ما قبل الجامعي) غير معدين لاستخدام طاقاتهم الفكرية بشكل مناسب في معالجة الشؤون العامة في محيطهم، بما في ذلك فهم الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية. وتشير الدراسات الموضوعة في إحدى دول الخليج إلى أن المناهج المعتمدة لا تنمي لدى المتعلمين أساليب التفكير النقدي والتعلّم الذاتي وجمع المعلومات وتحليلها وممارسة التفكير المستقل. الكتب المدرسية تقدم المعرفة جاهزة، والأسئلة التي تطرحها تقوم على استرجاع مقاطع ومعلومات منها، والتقويم يأخذ شكل الأسئلة المطروحة في الكتب. وهكذا دواليك، بحيث ينشأ الطالب معتقدًا أن الأجوبة موجودة دائمًا لدى الآخرين البالغين، وأنها شبه منزلة، وهو ينتظر البلوغ حتى تصبح أجوبته أيضًا منزلة. إن هذه العلاقة الإملائية في المدرسة والتي تنتقل إلى المجتمع لا تتفق مع نوايا التنمية ولا مع الخطط التنموية أينما وجدت.
أما عن حاجات سوق العمل فالمناهج المعتمدة في دول الخليج تدفع بالطلاب نحو الدروس النظرية، ولا تعطي فرصًا كافية، في المرحلتين الإعدادية والثانوية، للاختيار بين دروس عملية (فنية، تقنية، تطبيقية) ودروس نظرية (أساسية أو متقدمة)، مع انفصال شبه تام بين «سكة» التعليم العام و«سكة» التعليم المهني والتقني. وينجم عن ذلك تدفق قوي نحو الوظيفة العامة (في الإدارات الحكومية) أو نحو الاختصاصات الإنسانية في الجامعة (التي تفضي أيضًا إلى الوظيفة العامة). وتترك ممارسة «المهن» في هذه الحالة إلى القوى البشرية الوافدة. ومن نتائج ذلك أن التعريب (التكويت، البحرنة، السعودة... إلخ) تقدم كثيرًا في الوظائف الحكومية، لكنه ما زال متأخرًا جدًا في القطاع المهني، مع فروقات شاسعة بين دول الخليج، تبعًا للقطاع وحجم السكان.
ما يقال عن دول الخليج ينطبق على دول المشرق العربي وشمال إفريقيا، مع عدد من الفروقات أبرزها ما يلي:
ـ معدل التطوير في المناهج، نظريًا وعمليًا، كان أقوى مما في دول الخليج في دولتين مثل لبنان والأردن، وأضعف مما في دول الخليج في دول مثل سوريا والعراق والجزائر.
ـ أن القطاع الخاص أدى دورًا، إلى جوانب عوامل أخرى، في تحسين مستوى التركيز على اللغة الأجنبية في كل من الأردن ولبنان، بالمقارنة مع غيرهما من الدول العربية.
ـ أن التركيز على اللغة العربية هو أقوى في سوريا والعراق مما في الدول الأخرى، مع تركيز أقل فيهما على الدين.
وبمناسبة الكلام عن اللغة العربية، فإن الدول العربية تشترك في أنها لم تنجز حتى الآن منهجًا مناسبًا لها. ومن المؤسف أن تكون هذه اللغة التي تميز الأمة العربية بصفتها لسانًا وحاملة حضارة، والتي تختزن ذخيرة لسانية وأدبية وفكرية هائلة ما زالت في تراجع مستمر في قيمتها ومستوى إتقانها وفرص استخدامها.
كما تشترك الدول العربية في إهمالها للجوانب الإبداعية، وفي عدم اهتمامها بذوي الحاجات الخاصة، وبتهميش المواد والأنشطة الفنية.
وموضوع المناهج هو واحد من المشكلات الأكثر تعقيدًا في النظام التربوي، والأقل قابلية للتغيير الجدي. ينطبق ذلك على الدول العربية كما ينطبق على سائر دول العالم. يعزى التعقيد إلى تعدد الأبعاد والمستويات التي يتضمنها مفهوم المناهج: الأهداف (العامة والخاصة، ما يتعلق منها بالمراحل وما يتعلق بالمواد التعليمية، كل على حدة)، المواد التعليمية (أهدافها، مضامينها، الترتيب الداخلي لكل منها، والعلاقات بين بعضها البعض)، والكتب المدرسية (توافقها مع الأهداف ومع المواد، وترتيبها الداخلي، وإخراجها، وأساليب التعليم التي تفرضها)، وأساليب التعليم (التي تتحدد في كل حالة تبعًا لما تفرضه الكتب، وملامح المعلمين، ولتوجهات المسؤولين، الموجهين منهم والمديرين، ولنوع المجهود المدرسي)، والتقويم (القبلي والبعدي، التشخيصي والتكويني والاصطفائي والختامي)... إلخ.
أما ضعف القابلية للتغيير الجدي في المناهج فأساسه تعدد الجهات التي تدلي بدلوها في صناعة المناهج وفي تطبيقها، فيدخل كل طرف عنصرًا فيها يعطل أو يحيد أو ينشط عنصرًا آخر، وكأن المناهج هي «النظام النواة» للنظام التربوي ككل (على الأقل في التعليم العام). وفي مطلق الأحوال فإن إقرار المناهج بصيغة ما، وتأمين قابليتها للتطبيق يحتاج أحيانًا إلى إجماع وطني، والإجماع يفرض وجود تسويات وتنازلات متبادلة، بحيث يكون التغيير جزئيًا في كل مرة.
عمليًا تكمن الصعوبة الرئيسة في كيفية إدارة وضع المناهج وتطويرها. والأسلوب السائد أن الحكومة (أو الوزارة) تقرّر مثلاً وضع مناهج جديدة، فتوكل الأمر إلى مجموعة من الناس تضع أهدافًا عامة. وهذه المجموعة غالبًا ما تفبرك الأهداف على أساس النزعات السياسية والفكرية الكبرى، دون النظر في المتطلبات الواقعية. ثم يوكل أمر تأليف الكتب إلى مجموعة (أو مجموعات) أخرى ترجّح في عملها المتطلبات المتأتية من محتوى المادة، كل بحسب اختصاصه. فيحدث أول فرق جوهري بين المقاصد المعلنة (الأهداف) والمقاصد المحققة. يلي ذلك نشر الكتب في المدارس، حيث «يتلقى» المديرون والمعلمون الكتب الجديدة ويعملون على الالتزام بها طبقًا للإرشادات التي تنقل إليهم. والمعلمون يستعملونها كما يفهمونها. وهنا يحدث الفرق الثاني بين المقاصد المقررة والمقاصد المحققة. في هذا الوقت تكون الإدارة التربوية في عالم آخر، فلا يترافق تطبيق المناهج الجديدة مع تأمين مستلزماتها من تجهيزات ووسائل وأساليب في إدارة الصف وإدارة المدرسة. والنتيجة أن الوقائع القائمة «تأكل» الجديد في المناهج.
ثمة صعوبة إذاً في إدارة الشأن التربوي عامة وإدارة المناهج خاصة. ومن النواقص المفسّرة لضعف هذه الإدارة عدم تعزيزها بمخططين للمناهج، وعدم الاهتمام بالمتابعة والتقويم، وعدم بلورة أساليب قياس لمعرفة النواتج الناجمة عن المناهج (المستوى)، من أجل إجراء الإصلاحات اللازمة. ويحتاج ذلك إلى تطوير «أنظمة مراقبة» Monitoring Systems، وهذه الأنظمة مفتقدة في جميع الدول العربية.
وإذا قارنا الدول العربية بالدول المتقدمة فيجب الاعتراف بأننا متخلفون كثيرًا في هذا المضمار، سواء من حيث الأبحاث والدراسات حول المناهج، أو من حيث إدارة المناهج، أو من حيث تصميم المناهج وتطبيقها، والمستويات المحصلة لدى الطلاب. وبينما تقع كوريا الجنوبية مثلاً في أعلى سلم الدول من حيث تحصيل الطلبة في العلوم والرياضيات والثقافة البيئية، فإن الدول العربية التي شملتها الدراسات العالمية ظهرت في أدنى سلم هذه الدول.
وبنظرة مستقبلية لأفق الغد «المناهجي نجد أنه يحتاج أولاً إلى اعتراف وطني بطبيعة المشكلات القائمة. هل التلقين مشكلة أم لا؟ وهل نريد تجاوزه؟ وهل نتجاوزه عن طريق التلقين الإداري والسياسي؟
ويحتاج ثانيًا إلى الإرادة في إعطاء إدارة التربية وضمنها إدارة المناهج استقلالية نسبية لكي تعمل استنادًا إلى قواعد متعارف عليها دوليًا في صناعة المناهج وتطبيقها.
ويحتاج ثالثًا إلى تطوير هذه الإدارة بحيث تجتذب الموارد البشرية والفكرية وبحيث تعمل بتناغم وتفاعل، وبحيث تعتمد مبدأ الشراكة، لجهة إدماج جميع الهيئات التربوية في صناعة المناهج، ومناقشتها وتطويرها.
ويحتاج رابعًا إلى تفاعل بين أهل التربية (والمناهج) وأهل الاقتصاد والفعاليات الاجتماعية، وإلى تفاعل بين الجهات المعنية بالمناهج على المستوى الوطني، مع غيرها من الجهات ذات الاختصاص في دول عربية أخرى أو دول عربية ذات تجارب رائدة في تطوير المناهج.
ويحتاج خامسًا إلى خطط قوية لتطوير الهيئة التعليمية، ولإشراكهم في عملية تطوير المناهج، وكلما ساهم هؤلاء في العملية أدركوا ماهيتها بصورة أفضل، وكانوا أكثر التزامًا بتحقيق أهدافها البعيدة بدلاً من التمسك بصفحات الكتب المدرسية وبالإجابة الجاهزة.
ويحتاج سادسًا إلى وجود أجهزة تقويم أداء الطلبة بصورة مستمرة، ليس للحكم على الطلبة بل للحكم على العمليات الإدارية والتربوية نفسها، ومناقشة نتائج مقاييس الأداء، مع المعنيين من إداريين ومعلمين. ثمة مؤسسات خاصة في الولايات المتحدة تقوم أداء المدرسة ربطاً بأداء الطلبة وتقدم النتائج إلى المسؤولين من المدارس للتباحث في شأنها ورؤية آفاق التطوير. وفي فرنسا تقوم أجهزة مختصة منذ عشر سنوات بإجراء اختبارات دورية على الطلبة، تعرض نتائجها على المديرين والمعلمين وتناقشهم في تفسيرها، وفي كيفية تحسينها، وذلك بصورة دورية.
ونحن في الدول العربية إما أننا لا نقوم بتقويم أداء الطلبة دوريًا لاستخراج الدروس حول المناهج والعملية التعليمية نفسها، وإما أننا نقوم بذلك مرة واحدة ونضع النتائج على الرف، وإما أن نقتصر على تقويم التلاميذ من أجل الحكم عليهم (النجاح والرسوب). والنتيجة أن لا رسوب التلاميذ يدل على نجاح المناهج، ولا «نجاح» التلاميذ وتدفقهم نحو الأعلى يعني عدم «رسوبهم» في الحياة العامة طبقًا لمتطلبات العصر.