![]() |
المكذبون بالبَعث وَالأدلّة على أنَّه كائن المَبحَث الأول المكذبون بالبَعث وَالنشور كذَّب كثير من الناس قديماً وحديثاً بالبعث والنشور ، وبعض الذين قالوا بإثباته صَوَّروه على غير الصورة التي أخبرت بها الرسل .وقد ذكر القرآن قول المكذبين وذمهم وكفَّرهم وتهدَّدهم وتوعَّدهم ، قال تعالى : ( وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ ) [ الرعد : 5 ] ، وقال : ( وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ - وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ) [ الأنعام : 29-30 ] . وقال : ( وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا - قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا - أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [ الإسراء : 49-51 ] . والنصوص في ذلك كثيرة . وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لبيان أنواع المكذبين بالبعث والنشور من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة ومنافقي هذه الأمة فقال : " الذين كفروا من اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة ، ويزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح ، وهم يقرُّون مع ذلك بحشر الأجساد مع الأرواح ونعيمها وعذابها . وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرُّون بحشر الأرواح فقط ، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط ، وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية ، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح ، ولا الأجساد ، وقد بيَّن الله تعالى في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد ، وردّ على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك ، بياناً تاماً غاية التمام والكمال . وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرّون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرّفون الكلام عن مواضعه ، هذه أمثالٌ ضربت لنفهم المعاد الروحاني ، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة ، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام ، وطائفة ممن ضاهوهم : من كاتب ، أو متطبب ، أو متكلم ، أو متصوف ، كأصحاب رسائل " إخوان الصفا " وغيرهم ، أو منافق ، وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان " (1) . وذكر رحمه الله تعالى في موضع آخر : " أن باطنية الفلاسفة يفسرون ما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم ، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها ، ويتألم بها " (2) . وحقيقة قول هؤلاء أن الله لم يكن صادقاً في إخباره عن حقائق ما في المعاد ، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك سمى شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الصنف من المتفلسفة المخالف لما عليه المسلمون في أمر المعاد ( بأهل التخييل ) ، وقال فيهم : " فأهل التخييل " هم المتفلسفة ومن سلك سبلهم ، من متكلم ومتصوف ومتفقه ، فإنهم يقولون : إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور ، لا أنه بيَّن به الحق ، ولا هدى الخلق ، ولا أوضح الحقائق " (3) . ويمكننا أن نصنف المكذبين بالبعث والنشور إلى ثلاثة أصناف : الأول : الملاحدة الذين أنكروا وجود الخالق ، ومن هؤلاء كثير من الفلاسفة الدهرية الطبائعية ، ومنهم الشيوعيون في عصرنا . وهؤلاء ينكرون صدور الخلق عن خالق، فهم منكرون للنشأة الأولى والثانية ، ومنكرون لوجود الخالص أصلاً . ولا يحسن مناقشة هؤلاء في أمر المعاد ، بل يناقشون في وجود الخالق ووحدانيته أولاً ثم يأتي إثبات المعاد بعد ذلك ، لأن الإيمان بالمعاد فرع الإيمان بالله . الثاني : الذين يعترفون بوجود الخالق ، ولكنهم يكذبون بالبعث والنشور ، ومن هؤلاء العرب الذين قال الله فيهم : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) [ لقمان : 25 ] وهم القائلون فيما حكاه الله عنهم : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ - لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) [ النمل : 67-68 ] . وهؤلاء يدَّعون أنهم يؤمنون بالله ، ولكنهم يَدَّعون أن قدرة الله عاجزة عن إحيائهم بعد إماتتهم ، وهؤلاء هم الذين ضرب الله لهم الأمثال ، وساق لهم الحجج والبراهين لبيان قدرته على البعث والنشور ، وأنه لا يعجزه شيء . ومن هؤلاء طائفة من اليهود يُسمون بالصادوقيين ، يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بتوراة موسى ، وهم يُكذبون بالبعث والنشور والجنة والنار . الثالث :الذين يؤمنون بالمعاد على غير الصفة التي جاءت بها الشرائع السماوية . المَبحَث الثاني أدلّة البَعث والنشُور الإيمان بالمعاد أوجبه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ، ودلا عليه دلالة قاطعة ، والقرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال اليوم الآخر ، وتفاصيل ما فيه ، وتقرير ذلك بالأخبار الصادقة والأمثال المضروبة للاعتبار والإرشاد ، وكما ذكر القرآن الأدلة عليه ، رد على منكريه ، وبيَّن كذبهم وافتراءَهم .والفطرة السليمة تدلُّ عليه وتهدي إليه ، ولا صحة لما يزعمه الضالون من أن العقول تنفي وقوع البعث والنشور ، فإن العقول لا تمنع وقوعه ، والأنبياء لا يأتون بما تحيل العقول وقوعه ، وإن جاؤوا بما يحيِّر العقول ، ولذلك قال علماؤنا : الشرائع تأتي بمحارات العقول ، لا بمحالات العقول . وسنذكر الأدلة المثبتة للبعث والنشور التي استخلصناها من الكتاب الكريم . أولاً : إخبار العليم الخبير بوقوع القيامة : أعظم الأدلة الدالة على وقوع المعاد إخبار الحق تبارك وتعالى بذلك ، فمن آمن بالله،وصدَّق برسوله الذي أرسل ، وكتابه الذي أنزل فلا مناص له من الإيمان بما أخبرنا به من البعث والنشور ، والجزاء والحساب ، والجنة والنار . وقد نَوَّع الحق تبارك وتعالى أساليب الإخبار ليكون أوقع في النفوس وآكد في القلوب . 1- ففي بعض المواضع يخبرنا بوقوع ذلك اليوم إخباراً مؤكداً بـ (( إن )) ، أو بـ (( إنَّ واللام )) كقوله تعالى : ( إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) [ طه : 15 ] ، وقوله : ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) [ الحجر : 85 ] . وقوله : ( إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ ) [ الأنعام : 134 ] . وقوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) [ المرسلات : 7 ] . 2- وفي مواضع أخرى يقسم الله تعالى على وقوعه ومجيئه كقوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) [ النساء : 87 ] . ويقسم على تحقق ذلك بما شاء من مخلوقاته كقوله : ( وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا - فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا - فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا - فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا - إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ - وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ )[الذاريات: 1-6] . وقوله:( وَالطُّورِ- وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ- فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ- وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ- وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ - وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ - مَا لَهُ مِن دَافِعٍ )[الطور: 1-8] . 3- وفي بعض المواضع يأمر رسوله بالإقسام على وقوع البعث وتحققه ، وذلك في معرض الردِّ على المكذبين به المنكرين له ، كقوله : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) [ سبأ : 3 ] . وقوله : ( وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ) [ يونس : 53 ] . وقوله :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ) [ التغابن : 7 ] . 4- وفي مواضع أخرى يذمُّ المكذبين بالمعاد ، كقوله : ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) [ يونس : 45 ] . وقوله : ( أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ) [ الشورى : 18 ] . وقوله : ( بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمِونَ ) [ النمل : 66 ] . 5- وأحياناً يمدح المؤمنين بالمعاد ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ - رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ - رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) [ آل عمران : 7-9 ] . وقوله : ( الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ - والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ البقرة : 1-5 ] . وقوله : ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) [ البقرة : 177 ] . 6- وأحياناً يخبر أنه وعد صادق ، وخبر لازم ، وأجل لا شك فيه ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) [ هود : 103 ] . ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) [ لقمان : 33 ] ، ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ - قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ )[ سبأ : 29-30 ] ، ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) [ الزخرف : 83 ] . وقوله : ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) [ الذاريات : 5 ] . 7- وفي بعض الأحيان يخبر عن مجيئه واقترابه كقوله : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا -وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) [ المعارج : 6-7 ] . وقوله : ( أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ) [ النحل : 1 ] ، وقوله: ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ) [ القمر : 1 ] . 8- وفي مواضع أخرى يمدح نفسه تبارك وتعالى بإعادة الخلق بعد موتهم ، ويذم الآلهة التي يعبدها المشركون بعدم قدرتها على الخلق وإعادته كقوله : ( وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ) [ الفرقان : 3 ] ، وقوله : ( أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) [ النمل : 64 ] . 9- وبين في مواضع أخرى أن هذا الخلق وذاك البعث الذي يُعجز العباد ويذهلهم سهل يسير عليه : ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [ لقمان : 28 ] ، وقال : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ - بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ) [ القيامة: 3-4]. ثانياً : الاستدلال على النشأة الأخرى بالنشأة الأولى : استدلَّ القرآن على الخلق الثاني بالخلق الأول ، فنحن نشاهد في كلِّ يوم حياة جديدة تخلق : أطفال يولدون ، وطيور تخرج من بيضها ، وحيوانات تلدها أمهاتها ، وأسماك تملأ البحر والنهر ، يرى الإنسان ذلك كله بأم عينيه ، ثم ينكر أن يقع مثل ذلك مرة أخرى بعد أن يبيد الله هذه الحياة . إن الذين يطلبون دليلاً على البعث بعد الموت يغفلون عن أن خلقهم على هذا النحو أعظم دليل ، فالقادر على خلقهم ، قادر على إعادة خلقهم ، وقد أكثر القرآن من الاستدلال على النشأة الآخرة بالنشأة الأولى ، وتذكير العباد المستبعدين لذلك بهذه الحقيقة ( وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا - أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) [ مريم : 66-67 ] . ويذكرنا القرآن في موضع آخر بالخلق الأول للإنسان ، فأبونا آدم خلقه الله من تراب ، فالقادر على جعل التراب بشراً سوياً ، لا يعجزه أن يعيده بشراً سوياً مرة أخرى بعد موته ، ويُذَكِّر أيضاً بخلقنا نحن – ذرية آدم – فإنه خلقنا من سلالة من ماء مهين ، تحوَّل هذا الماء فأصبح نطفة ، ثم صارت النطفة علقة ، ثم تحولت إلى مضغة .. إلى أن نفخ فيها الروح ، وجعلها إنساناً سوياً . فالقادر على هذا الخلق المشاهد المعلوم ، قادر على إعادة الخلق ، وإحياء الموتى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ) [ الحج : 5-7 ] . وقد أمر الله عباده باليسر في الأرض ، والنظر في كيفية بدأ الخلق ليستدلوا بذلك على قدرته على الإعادة ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ العنكبوت : 19-20 ] . وقال : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [الروم : 27] . ثالثاً : القادر على خلق الأعظم قادر على خلق ما دونه : قبيح في نظر البشر أن يُرمى بالعجز عن حمل الشيء الحقير من يستطيع حمل العظيم ، ومثله إذا غلب إنسان رجلاً شديد البأس قوياً لا يقال له : إنك لا تستطيع أن تصرع هذا الهزيل الضعيف ، ومن استطاع أن يبني قصراً لا يعجزه بناء بيت صغير . ولله المثل الأعلى ، فإن من جملة خلقه ما هو أعظم من خلق الناس ، فكيف يقال للذي خلق السماوات والأرض أنت لا تستطيع أن تخلق ما دونها قال تعالى : ( ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا - أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا ) [ الإسراء : 98-99 ] . وقال : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) [ يس : 81 ] . وقال : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأحقاف : 33] . وقال : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) [ غافر : 57 ] . قال ابن تيمية بعد أن ساق هذه النصوص : " فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السماوات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم ، والقدرة عليه أبلغ – وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك " (4) . وقال شارح الطحاوية : " أخبر تعالى أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما ، يحي عظاماً قد صارت رميماً ، فيردها إلى حالتها الأولى " (5) . رابعاً : قدرته تبارك وتعالى على تحويل الخلق من حال إلى حال : الذين يكذبون بالبعث يرون هلاك العباد ، ثم فناءهم في التراب ، فيظنون أن إعادتهم بعد ذلك مستحيلة ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) [السجدة :10] . والمراد بالضلال في الأرض تحلل أجسادهم ، ثم اختلاطها بتراب الأرض ، تقول : ضل السمن في الطعام إذا ذاب وإنماع فيه . وقد بين الحق تبارك وتعالى في أكثر من موضع أن من تمام ألوهيته وربوبيته قدرته على تحويل الخلق من حال إلى حال ، ولذا فإنه يميت ويُحيي ، ويخلق ويفني ، ويخرج الحي من الميت ، والميت من الحي ، ( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) [ الأنعام : 95-96 ]. من الحبة الجامدة الصماء يُخرج الله نبتة غضة خضراء تزهر وتثمر ، ثم تعطي هذه النبتة الحية حبوباً جامدة ميتة ، ومن الطيور الحية يخرج البيض الميت ، ومن البيض الميت تخرج الطيور المتحركة المغردة التي تنطلق في أجواز الفضاء . إن تقلب العباد : موت فحياة ، ثم حياة فموت ، دليل عظم على قدرة الله تجعل النفوس تخضع لعظمته وسلطانه ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ البقرة : 28 ] . الأدلة الثلاثة الأخيرة في موضع واحد في كتاب الله : وقد ذكر الحق تبارك وتعالى الأدلة الثلاثة السابقة في موضع واحد في كتابه في معرض الرد على مكذبي البعث فقال : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ - قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ - الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ - أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ - إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [يس :78-83] . والذي ضرب المثل أحد ملاحدة العرب ، وكتب السنة تذكر أن هذا الكافر الملحد جاء بعظم بالي ، ثم فتته ، ثم نفخه ، ثم قال للرسول صلى الله عليه وسلم : " يا محمد ! أتزعم أن الله يبعث هذا ؟ " . فأنزل الحق تبارك وتعالى هذه الآيات معيِّراً هذا الكافر بجهله وضلاله ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) [يس :78] ، فإنه لو كان لبيباً عاقلاً لم يسأل هذا السؤال ، لأن وجوده وخلقه في هذه الحياة يجيب على السؤال ، وقد وضح النص هذا المعنى الذي أجمله في البداية فقال : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [ يس : 79 ] . 1- " فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى ، إذ كل عاقل يعلم ضرورياً أن من قدر على هذه قدر على هذه . وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز . ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقولـه : ( وهو بكل خلقٍ عليم ) [ يسم : 79 ] . فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني ، فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحي العظم وهي رميم ؟ " (6) . 2- " ثمَّ أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر ، يتضمن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام إذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معاً ، فقال : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) [يس :80] فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر ، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها ولا يستعصي عليه ، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم . 3- ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم ، على الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدرُ وأقدرُ ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل وقية أشدُّ اقتداراً ، فقال : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم ) [ يس : 81 ] ، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامها ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر عليه أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً ، فيردها إلى حالتها الأولى " (7) . 4- ثم أكد تبارك وتعالى ذلك وبيَّنه ببيان آخر ، وهو أن فعله ليس بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والنصب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بدَّ معه من آلة ومُعِين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكوِّنه نفس إرادته ، وقوله للمكوَّن : ( كُنْ ) ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ يس : 82 ] . ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله ، ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (8) [يس : 83] . خامساً : إحياء بعض الأموات في هذه الحياة : شاهد بعض البشر في فترات مختلفة من التاريخ عودة الحياة إلى الجثث الهامدة ، والعظام البالية ، بل شاهدوا الحياة تدب في بعض الجماد ، وقد حدثنا الله تبارك وتعالى عن شيء من هذه المعجزات الباهرة ، فمن ذلك أن قوم موسى قالوا له : ( لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) [ البقرة : 55 ] فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ، ثم بعثهم بعد موتهم ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ - ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ البقرة : 55-56 ] . وقتل بنو إسرائيل قتيلاً واتهم كل قبيل القبيل الآخر بقتله ، فأمرهم نبيهم أن يذبحوا بقرة ، فذبحوها بعد أن تعنتوا في طلب صفاتها ، ثم أمرهم نبيهم بعد ذبحها أن يضربوا القتيل بجزء منها ، فأحياه الله وهم ينظرون ، فأخبر عمن قتله ، ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [ البقرة : 73 ] . وأخبرنا عن الذين فروا من ديارهم وهم ألوف خشية الموت ، فأماتهم الله ثم أحياهم ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ) [ البقرة : 243 ] . وحدثنا عن الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، فتعجب من إحياء الله بعد موتها ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، فلما سئل كم لبثت ؟ ظن أنه لم يلبث إلا يوماً أو بعض يوم ، وبعد إحيائه أحيا الله له حماره وهو ينظر إلى قدرة الله كيف تعيد الخلق : العظام تتشكل وتتكون أولاً ثم تكسى باللحم ، ثم تنفخ الروح ، أما طعامه الذي كان معه قبل أن يموت فقد بقي تلك الأزمان الطويلة سليماً ، لم يفسد ، ولم يتعفن ، وتلك آية أخرى تدل على قدرة الله الباهرة : ( أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ البقرة : 259 ] . وإبراهيم عليه السلام دعا ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، فكان هذا المشهد الذي حدثنا الحق تبارك وتعالى عنه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [البقرة : 260]. أمره الله أن يأخذ أربعة من الطيور فيذبحها ، ثم يفرق أجزاءها على عدة جبال ، ثم ناداها آمراً إياها بالاجتماع ، فكان كل عضو يأتي ويقع في مكانه ، فلما تكامل اجتماعها نفخ الله فيها الروح ، وانطلقت محلقة في الفضاء . وعيسى عليه السلام كان يصنع من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ، وكان يحيي الموتى بإذن الله ، فقد قال لقومه : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) [ آل عمران : 49 ] . وأصحاب الكهف ضرب الله على آذانهم في الكهف ثلاث مائة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة ، ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) [ الكهف : 12 ] ، ( وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) [ الكهف : 19 ] . ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) [ الكهف : 25 ] . وكانت آية موسى الكبرى عصا جامدة يلقيها على الأرض فتتحول – بقدرة الله – إلى ثعبان مبين ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ) [ الشعراء : 32 ] ، وعندن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم ألقى موسى عصاه فإذا هي تبتلع تلك العصي والحبال على كثرتها ( فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ) [ الشعراء : 45 ] . سادساً : ضربه المثل بإحياء الأرض بالنبات : وقد ضرب الله المثل لإعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية بإحيائه الأرض بعد موتها بالنبات ( فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم : 50] . وقال : ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ) [فاطر : 9] . وقال : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ فصلت : 39 ] . وقال : ( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) [الزخرف : 11] . سابعاً : حكمة الله تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب : تقتضي حكمة الله وعدله أن يبعث الله عباده ليجزيهم بما قدموا ، فالله خلق الخلق لعبادته ، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه به ، فمن العباد من استقام على طاعة الله ، وبذل نفسه وماله في سبيل ذلك . ومنهم من رفض الاستقامة على طاعة الله ، وطغى وبغى ، أفيليق بعد ذلك أن يموت الصالح والطالح ولا يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ - إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ ) [القلم :35-38] إن الكفرة الضالين هم الذين يظنون أن الكون خُلق عبثاً وباطلاً لا لحكمة ، وأنه لا فرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد ، ولا بين مصير التقي والفاجر ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ- أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) [ص : 27-28] . -------------------------------- (1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : 4/313 بتصرف يسيـر . (2) مجموع الفتاوي : 13/238 . (3) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : 5/31 . (4) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : 3/299 . (5) شرح العقيدة الطحاوية : ص 461 . (6) شرح العقيدة الطحاوية : ص 46 . (7) شرح العقيدة الطحاوية : ص460 . (8) راجع شرح العقيدة الطحاوية : ص461 . |
القيامَة عند الأنبيَاء وَفي كتُب أهل الكتاب المَبحَث الأول اتفاق جميع الأنبيَاء على الإخبَار بالمعَاد الإيمان بالقيامة والجنة والنار من أصول الإيمان التي يشترك الأنبياء جميعاً وأتباعُهم الصادقون في معرفتها والإيمان بها ، والقرآن وهو كتاب الله المحفوظ الذي لم يغيَّر ولم يبدَّل دلالة قاطعة على أن الأنبياء جميعاً عرَّفوا أممهم بالقيامة ، وبَشَّروهم بالجنة ، وأنذروهم بالنار ، ويدل على ذلك أمور :1- أخبر القرآن عن جميع الأشقياء الكفار أهل النار أنهم يقرّون بأن رسلهم أنذترهم باليوم الآخر : ( كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ - قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ - وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) [ الملك : 8-10 ] . وقال : ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [ الزمر : 71 ] . فالكفار جميعاً عندما يسألون عند ورودهم النار يقرون بأن رسلهم خوفتهم لقاء ذلك اليوم ، ولكنهم كفروا وكذبوا . وهذا الذي قررته الآيات السابقة بيَّنه الله في غير موضع من كتابه ، فقد أخبر الحق تبارك وتعالى أن مقتضى عدله وحكمته أن لا يعذب أحداً لم تبلغه الرسالة ولم تقم عليه الحجة ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) [ الإسراء : 15 ] . ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [ النساء : 165 ] . من أجل ذلك عمت الرسالة كل البشر ، ( وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ ) [فاطر : 24] . 2- عندما أهبط الله آدم على الأرض عرفه بالبعث والمعاد ( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ - قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) [ الأعراف : 24-25 ] . وعندما غضب الله على إبليس وطرده من رحمته طلب الإمهال إلى يوم البعث فأجاب الحق طلبه ( قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ) [ ص : 79-81 ] . 3- وأول الرسل نوح عليه السلام حذر قومه يوم القيامة ، وضرب لهم الأمثال الدالة على وقوعه وحدوثه ، فقد قال لقومه : ( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا - ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) [ النوح : 17-18 ] . 4- وأبو الأنبياء خليل الرحمن ذكر اليوم الآخر كثيراً ، ففي دعائه ربه لمكة وأهلها قال : ( رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [البقرة :126] . وفي دعائه لنفسه وأبيه والمؤمنين قال : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ) [ إبراهيم : 41 ] . وفي محاجته قومه فيما يعبدون بين أحقية ربه بالعبادة ، لأنه يطعم ويسقي ، ويميت ويحيي ، ويشفي المرضى ، ويغفر الذنوب في يوم الدين ( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) [ الشعراء : 79-82 ] ، ثم دعا ربه سائلاً إياه دخول الجنة ، وأن لا يخزيه في يوم الدين ( وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ - وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ - وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ - إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) [الشعراء: 85-89] . 5- وجاء في مناجاة الله لموسى : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي - إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى - فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) [ طه : 14-16 ] . وجاء في محاورة موسى لفرعون : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) [ طه : 55 ] . 6- وهو أنذر قومه وخوفهم لقاء ربهم فكذبوا ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ - وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ - أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ - هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ - إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) [ المؤمنون : 33-37 ] . 7- وشعيب قال لقومه : ( يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) [ العنكبوت : 36 ] . 8- وجاء في دعاء يوسف ربه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) [ يوسف : 101 ] . 9- وبعض الرسل الذين حكى الله مقالتهم في كتابه يعرفون البعث والنشور ، ويبشرون بالجنة ، ويحذرون من النار ، فذو القرنين عندما بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ، ووجد عندها قوماً ، فقال الله له : ( يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا - قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) [الكهف : 86-88 ] . ومؤمن آل فرعون كان موقناً بالبعث عارفاً به ، ولا تختلف معرفته به عن معرفتنا ، وقد حذر قومه من ذلك اليوم تحذيراً فيه تفصيل وبيان ، ومما قاله لهم : ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) [ غافر : 32-33 ] . وقال أيضاً : ( يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ - مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ - وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ) [ غافر : 39-41 ] . وقال : ( لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ) [ غافر : 43 ] . وسحرة فرعون عندما رأوا الآية الباهرة التي جاء بها موسى خروا ساجدين ، وسبحوا مؤمنين ، فتهددهم فرعون بالعذاب الأليم ، فاعتصموا بالله ربهم ، ولم يلتفتوا إلى تهديد أو وعيد ، وأجابوا قائلين : ( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى - إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى - وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى - جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ) [ طه : 73-76 ] . المَبحَث الثاني نظرة في نصوص اليَوم الآخِر في كتب أهل الكتاب لا شك أن الكتب السماوية التي أنزلها الحق تبارك وتعالى كانت تزخر نصوصها بذكر اليوم الآخر ، والتخويف منه ، والتبشير بما أعده الله للمؤمنين به في جنات النعيم ، والتحذير من النار وأهوال القيامة ، إلا أن هذه الكتب طرأ عليها تحريف كثير ، وذهب كثير من نصوصها التي تتعرض لليوم الآخر .1- ففي التوراة التي تنسب إلى موسى لا نجد إلا نصاً واحداً يصرح بيوم القيامة ، وهو في التوراة السامرية صريح للغاية ، ولكنه في التوراة العبرية يحتمل معنيين ، ففي سفر تثنية الاشتراع ، الإصحاح الثاني والثلاثون (34-35) من التوراة السامرية : " أليس هو مجموعاً عندي مختوماً في خزائني ، إلى يوم الانتقام والمكافأة ، وقت تزل أقدامهم " . وجاء النص في التوراة العبرانية هكذا : " أليس ذلك مكنوزاً عندي مختوماً عليه في خزائني ، لي النقمة والجزاء في وقت تزل أقدامهم " . فنص السامرية يدل على أن الفصل إنما يكون في يوم القيامة الذي سماه يوم الانتقام والمكافأة . أما نص العبرانية فإنه يجيز أن يكون الانتقام في الدنيا ، ويجيز أن يكون في الآخرة ، ولذلك فإن الصادوقيين من اليهود الذين لا يؤمنون إلا بتوراة موسى العبرية لا يؤمنون بالبعث والنشور ، لعدم وجود دلالة تدل على البعث والنشور . أما أسفار الأنبياء الأخرى في التوراة ففيها بعض النصوص التي تُصرِّح بالبعث والنشور ، وكذلك الأناجيل . 2- ففي سفر دانيال : " كثيرون من الراقدين تحت التراب يستيقظون ، هؤلاء إلى الحياة الأبدية ، وهؤلاء إلى العار ، والازدراء الأبدي " (1) . 3- وفي سفر المزامير يذكر الحشر إلى النار فيقول : " مثل الغنم إلى النار يساقون ، الموت يرعاهم ، ويسودهم المستقيمون غداة ، وصورتهم تبلى ، والهاوية مسكن لهم " (2) . 4- وفي إنجيل لوقا إشارة إلى عذاب القبر ، فقد جاء فيه : " ومات الغني ودفن ، فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب " (3) فالمقبور من أهل الفجور يكون في العذاب ويرى مقعده من النار ، والهاوية هي النار . 5- وفي إنجيل متى " فإن أعثرتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك ، خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تلقى في النار الأبدية ولك يدان أو رجلان " (4) . ومن أكثر الكتب التي تحدثت عن الجنة والنار إنجيل برنابا ، فقد تحدث عن أهل الجنة، وأنهم يأكلون ويشربون ، ولكنهم لا يتبولون ولا يتغوطون ، لأن طعامهم وشرابهم ليس فيه خبث ولا فساد ، ولكن النصارى يكذبون بهذا الإنجيل الذي ظهر أخيراً في عصرنا هذا . وبعض اليهود يؤمنون بالبعث والنشور وهؤلاء يسمون بحزب الكتبة ، والحزب الآخر وهم (( الصادوقيون )) لا يؤمنون بالبعث والخلود في الجنة والنار ، وقد ذكر إنجيل (( مَتَّى )) أن الطائفة المكذبة بالقيامة جاؤوا إلى عيسى وجادلوه في القيامة : " في ذلك اليوم جاء إليه صادوقيون ، الذين يقولون لا قيامة " (5) وأجاب عيسى عـن سؤال أحد تلامذته القائل : " أيذهب جسدنا الذي لنا إلى الجنة ؟ " فقال له عيسى عليه السلام : " احذر يا بطرس من أن تصير صدوقياً ، فإن الصدوقيين يقولون : إن الجسد لا يقوم أيضاً ، وإنه لا توجد ملائكة ، لذلك حرم على جسدهم وروحهم الدخول في الجنة " . والنصارى يعتقدون أن الذي ينعم أو يعذب في القيامة هو الروح فحسب ، وقال بقولهم بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام من الفلاسفة والفرق الباطنية الضالة . -------------------------------- (1) الإصحاح 12 من سفر دانيال . (2) الفقرة 5 من المزمور الخامس والخمسين . (3) الفقرة 22 من الإصحاح السادس من إنجيل لوقا . (4) الفقرة 8 من الإصحاح الثامن عشر من إنجيل متى . (5) فقرة 23 من الإصحاح 22 من إنجيل متى . |
أهَوال يوم القيَامَة المَبحَث الأول الدلائل عَلى عظَم أهوال ذلك اليَوم يوم القيامة يوم عظيم أمره ، شديد هوله ، لا يلاقي العباد مثله ، ويدل على عظم هوله أمور :الأول : وصفُ الله لذلك اليوم بالعظم ، وحسبنا أن ربنا وصفه بذلك ، ليكون أعظم مما نتصور ، وأكبر مما نتخيل ( أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ - يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ المطففين : 4-6 ] ، ووصفه في موضع آخر بالثقل ، وفي موضع ثالث بالعسر ، ( إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ) [الدهر : 27] ، ( فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ - عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) [ المدثر : 9-10 ] . الثاني : الرعب والفزع الذي يصيب العباد في ذلك اليوم ، فالمرضع التي تفدي وليدها بنفسها تذهل عنه في ذلك اليوم ، والحامل تسقط حملها ، والناس يكون حالهم كحال السكارى الذين فقدوا عقولهم ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ) [ الحج : 1-2 ] . ولشدة الهول تشخص أبصار الظلمة في ذلك اليوم ، فلا تطرف لشدة الرعب ، ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً ، ولشدة الخوف تصبح أفئدتهم خالية لا تعي شيئاً ولا تعقل شيئاً ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [إبراهيم : 42-43] . وترتفع قلوب الظالمين لشدة الهول إلى حناجرهم ، فلا تخرج ، ولا تستقر في مكانها ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) [ غافر : 18 ] . ومعنى كاظمين، أي : ساكتين لا يتكلمون . ووصف في موضع آخر ما يصيب القلوب والأبصار في ذلك اليوم فقال : ( يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ) [ النور : 37 ] ، وقال : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ - أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ) [ النازعات : 8-9 ] . وحسبك أن تعلم أن الوليد الذي لم يرتكب جرماً يشيب شعر رأسه لشدة ما يرى من أهوال ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا - السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) [ المزمل : 17-18 ] . الثالث : انقطاع علائق الأنساب في يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ ) [ المؤمنون : 101 ] ، فكل إنسان في ذلك اليوم يهتم بنفسه ، ولا يلتفت إلى غيره ، بل إن الإنسان يفر من أحب الناس إليه ، يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبَنيه ، كما قال تعالى : ( فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ - يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) [عبس : 33-37] . وقال في موضع آخر : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) [ لقمان : 33 ] ، وقال : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) [ البقرة : 48 ] . الرابع :استعداد الكفار في يوم الدين لبذل كل شيء في سبيل الخلاص من العذاب، فلو كانوا يملكون ما في الأرض لافتدوا به ( وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ ) [ يونس : 54 ] . بل لو كان للكافر ضعف ما في الأرض لافتدى به ( وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ) [ الرعد : 18 ] ، بل هو على استعداد أن يبذل ما عنده ولو كان ملء الأرض ذهباً ، وعلى احتمال أن كان الأمر كذلك ، فإن الله لا يقبل منه ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) [ آل عمران : 91 ] . وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد كنت سألتك ما هو أيسر من ذلك " (1) . ويصل الحال بالكافر في ذلك اليوم أن يتمنى لو دفع بأعز الناس عنده في النار لينجو هو من العذاب ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ - وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ - كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ) [ المعارج : 11-15 ] . الخامس : ويدلك على هول ذلك اليوم وشدته :طوله ، قال تعالى : ( تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ - فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا - إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا - وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) [ المعارج : 4-7 ] . وسياق الآيات دلالة واضحة على أن المراد به يوم القيامة ، وقد ثبت بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه يوم القيامة ، وبذلك قال الحسن ، والضحاك ، وابن زيد (2) . ولطول ذلك اليوم يظن الناس في يوم المعاد أنهم لم يلبثوا في الحياة الدنيا إلا ساعة من نهار ، كما قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ )[ يونس : 45 ] ، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : " يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة ويحشرهم من أجداثهم إلى ***ات القيامة : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ.. ) . كقوله : ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ) [النازعات : 46] . وقال تعالى : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ) [ طه : 104 ] ، وقال تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ) [ الروم : 55 ] ، وهذا دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة ، كقوله : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ - قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ - قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [المؤمنون : 112-114] (3) . -------------------------------- (1) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب من نوقش الحساب عذب ، فتح الباري : (11/400) . (2) النهاية لابن كثير : (1/323) . (3) تفسير ابن كثير : (3/505) . |
بَعض معَالم أهَوال القيَامَة ( الجزء الأول ) يحدثنا القرآن عن أهوال ذلك اليوم التي تَشْدَه الناس ، وتشدُّ أبصارهم ، وتملك عليهم نفوسهم ، وتزلزل قلوبهم .ومن أعظم تلك الأهوال ذلك الدمار الكوني الشامل الرهيب الذي يصيب الأرض وجبالها ، والسماء ونجومها وشمسها وقمرها . يحدثنا ربنا أن الأرض تزلزل وتدكُّ ، وأن الجبال تُسَيَّر وتنسف ، والبحار تُفجّر وتُسجَّر ، والسماء تتشقق وتمور ، والشمس تُكوَّر وتذهب ، والقمر يخسف ، والنجوم تنكدر ويذهب ضوؤها ، وينفرط عقدها . وسأذكر بعض النصوص التي تصور وقائع تلك الأهوال ثم أذكر ما يحدث لكل واحد من العوالم العظيمة في ذلك اليوم . المطلب الأول قبض الأرض وطي السماء يقبض الحق تبارك وتعالى الأرض بيده في يوم القيامة ، ويطوي السماوات بيمينه ، كما قال تبارك وتعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ الزمر : 67 ] .وقد أخبرنا في موضع آخر عن كيفية طيه للسماوات فقال : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) [ الأنبياء : 104 ] . قال ابن كثير : " والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة ، والعوفي عنه ، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير، لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا فيكون معنى الكلام يوم تطوى السماء كطي السجل للكتاب ، أي على الكتاب ، بمعنى المكتوب " (1) . وقد جاءت الأحاديث الصحيحة دالة على مثل ما دلت عليه النصوص القرآنية ، وهي ما يقوله الحق تبارك وتعالى بعد قبضه الأرض ، وطيه السماء ، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض " (2) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرض بشماله – وفي رواية : يأخذهن بيده الأخرى – ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ، أين المتكبرون ؟ " (3) . وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، والخلائق على إصبع ثم يقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، ثم قرأ : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [الزمر : 67 ] (4) . وهذا القبض للأرض والطي للسماوات يقع بعد أن يفني الله خلقه ، وقيل : إن المنادي ينادي بعد حشر الخلق على أرض بيضاء مثل الفضة ، لم يعص الله عليها ، واختاره أبو جعفر النحاس ، قال : والقول الصحيح عن ابن مسعود ، وليس هو مما يؤخذ بالقياس، ولا بتأويل . وقال القرطبي : " والقول الأول أظهر ، لأن المقصود إظهار انفراده بالملك ، عند انقطاع دعوى المدعين ، وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه ، وكل جبار ومتكبر وملكه ، وانقطعت نسبهم ودعاويهم ، وهذا أظهر " (5) . المطلب الثاني دك الأرض ونسف الجبال يخبرنا ربنا تبارك وتعالى أن أرضنا الثابتة ، وما عليها من جبال صم راسية تحمل في يوم القيامة عندما ينفخ في الصور فتدك دكة واحدة : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً - فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) [الحاقة : 13-15] ، ( كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) [ الفجر : 21 ] ، وعند ذلك تتحول هذه الجبال الصلبة القاسية إلى رمل ناعم ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ) [ المزمل : 14 ] ، أي تصبح ككثبان الرمل بعد أن كانت حجارة صماء ، والرمل المهيل : هو الذي إذا أخذت منه شيئاً تبعك ما بعده ، يقال : أهلت الرمل أهيله هيلاً ، إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه . وأخبر في موضع آخر أن الجبال تصبح كالعهن ، والعهن هو الصوف ، كما قال تعالى : ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) [ المعارج : 9 ] ، وفي نص آخر مثلّها بالصوف المنفوش: ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) [ القارعة : 5 ] . ثم إن الحق تبارك وتعالى يزيل هذه الجبال عن مواضعها ، ويسوّي الأرض حتى لا يكون فيها موضع مرتفع ، ولا منخفض ، وعبّر القرآن عن إزالة الجبال بتسييرها مرة ، وبنسفها أخرى ( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) [ التكوير : 3 ] ، ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) [ النبأ : 20 ] . وقال في نَسْفِه لها : ( وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) [المرسلات : 10] . ثم بين الحق حال الأرض بعد تسيير الجبال ونسفها ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ) [ الكهف : 47 ] ، أي ظاهرة لا ارتفاع فيها ولا انخفاض ، كما قال تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا - فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا - لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ) [ طه : 105-107 ] . المطلب الثالث تفجير البحار وتسجيرها أما هذه البحار التي تغطي الجزء الأعظم من أرضنا ، وتعيش في باطنها عوالم هائلة من الأحياء ، وتتهادى فوقها السفن ذاهبة آيبة ، فإنها تفجر في ذلك اليوم ، وقد علمنا في هذا العصر الهول العظيم الذي يحدثه انفجار الذرات الصغيرة التي هي أصغر من ذرات الماء، فكيف إذا فجرت ذرات المياه في هذه البحار العظيمة ، عند ذلك تسجر البحار ، وتشتعل ناراً ، ولك أن تتصور هذه البحار العظيمة الهائلة وقد أصبحت مادة قابلة للاشتعال ، كيف يكون منظرها ، واللهب يرتفع منها إلى أجواز الفضاء ، قال تعالى : ( وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) [الإنفطار : 3] ، وقال:( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) [التكوير: 6] .وقد ذهب المفسرون قديماً إلى أن المراد بتفجير البحار ، تشقق جوانبها وزوال ما بينها من الحواجز ، واختلاط الماء العذب بالماء المالح ، حتى تصير بحراً واحداً (6) ، وما ذكرناه أوضح وأقرب ، فإن التفجير بالمعنى الذي ذكرناه مناسب للتسجير ، والله أعلم بالصواب . المطلب الرابع موران السماء وانفطارها أما سماؤنا الجميلة الزرقاء التي ننظر إليها فتنشرح صدورنا ، وتسر قلوبنا ، فإنها تمور موراناً ، وتضطرب اضطراباً عظيماً ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا ) [ الطور : 9 ] .ثم تنفطر ، وتتشقق ( إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ) [الانفطار : 1] ، ( إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ - وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ) [ الانشقاق : 1-2 ] . وعند ذلك تصبح ضعيفة واهية ، كالقصر العظيم ، المتين البنيان ، الراسخ الأركان ، عندما تصيبه الزلازل ، تراه بعد القوة أصبح واهياً ضعيفاً متشققاً ، ( وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ) [ الحاقة : 16 ] . أما لون السماء الأزرق الجميل فإنه يزول ويذهب ، وتأخذ السماء في التلون في ذلك اليوم كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء ، وتارة صفراء ، وأخرى خضراء ، ورابعة زرقاء ، كما قال تعالى : ( فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ) [الرحمن : 37] ، وقد نقل عن ابن عباس أن السماء تكون في ذلك اليوم كالفرس الورد ، والفرس الورد – كما يقول البغوي : تكون في الربيع صفراء ، وفي الشتاء حمراء ، فإذا اشتد البرد تغير لونها ، وقال الحسن البصري في قوله : ( وردةً كالدهان ) أي تكون ألواناً (7) . -------------------------------- (1) تفسير ابن كثير : (4/602) . (2) مشكاة المصابيح : (3/53) ، ورقمه : 5522 . (3) مشكاة المصابيح : (3/53) ، ورقمه : 5523 . (4) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قوله الله تعالى : ( لما خلقت بيديَّ ) [ ص : 75 ] ، فتح الباري : (13/393) . (5) تذكرة القرطبي : 172 . (6) تفسير الألوسي : (30/63) . (7) تفسير ابن كثير : (6/494) . |
بَعض معَالم أهَوال القيَامَة ( الجزء الثاني ) المطب الخامس تكوين الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم أما هذه الشمس التي نراها تشرق كل صباح ، فتغمر أرضنا بالضياء ، وتمدنا بالنور والطاقة التي لا غنى عنها لأبصارنا وأبداننا ، وما يدب على الأرض من أحياء ، وما ينمو فيها من نبات ، فإنها تجمع وتكوَّر ، ويذهب ضوؤها ، كما قال تعالى : ( إذا الشمس كورت ) [ التكوير : 1 ] ، والتكوير عند العرب : جمع الشيء بعضه على بعض ، ومنه تكوير العمامة ، وجمع الثياب بعضها على بعض ، وإذا جمع بعض الشمس على بعض ، ذهب ضوؤها ورمى بها . أما القمر الذي نراه في أول كل شهر هلالاً ، ثم يتكامل ويتنامى ، حتى يصبح بدراً جميلاً بديعاً ، يتغنى بجماله الشعراء ، ويؤنس المسافرين حين يسيرون في الليل ، فإنه يخسف ويذهب ضوؤه ( فإذا برق البصر – وخسف القمر ) [ القيامة : 7-8 ] . أما تلك النجوم المتناثرة في القبة السماوية الزرقاء ، فإن عقدها ينفرط ، فتتناثر وتنكدر ( وإذا الكواكب انتثرت ) [ الانفطار : 2 ] ، ( وإذا النجوم انكدرت ) [ التكوير : 2 ] ، والانكدار ، الانتثار ، وأصله في لغة العرب : الانصباب (1) . المطلب السادس تفسير القرطبي للنصوص الواصفة لأهوال يوم القيامة قال القرطبي : " روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ : ( إذا الشمس كورت ) [ التكوير : 1 ] ، ( إذا السماء انفطرت ) [ الانفطار : 1 ] ، ( إذا السماء انشقت ) [الانشقاق : 1] .قال : هذا حديث حسن (2) . وإنما كانت هذه السور الثلاث أخص بالقيامة ، لما فيها من انشقاق السماء وانفطارها ، وتكور شمسها وانكدار نجومها ، وتناثر كواكبها ، إلى غير ذلك من أفزاعها وأهوالها ، وخروج الخلق من قبورهم إلى سجونهم أو قصورهم ، بعد نشر صحفهم ، وقراءة كتبهم ، وأخذها بأيمانهم وشمائلهم ، أو من وراء ظهورهم في موقفهم على ما يأتي بيانه . قال الله تعالى : ( إذا السماء انشقت ) [ الانشقاق : 1 ] . وقال ( إذا السماء انفطرت ) [ الانفطار : 1 ] ، وقال : ( وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ) [الفرقان : 25] ، فتراها واهية منفطرة متشققة ، كقوله تعالى : ( وفتحت أبواب السماء فكانت أبواباً ) [النبأ : 19] ، ويكون الغمام سترة بين السماء والأرض ، وقيل إن الباء بمعنى عن ، أي : تشقق عن سحاب أبيض ، ويقال : انشقاقها لما يخلص إليها من حر جهنم ، وذلك إذا بطلت المياه ، وبرزت النيران ، فأول ذلك أنها تصير حمراء صافية كالدهن ، وتتشقق لما يريد الله من نقض هذا العالم ، ورفعه . وقد قيل : إن السماء تتلون ، فتصفر ، ثم تحمر ، أو تحمر ، ثم تصفر ، كالمهرة تميل في الربيع إلى الصفرة ، فإذا اشتد الحر مالت إلى الحمرة، ثم إلى الغبرة ، قاله الحليمي . وقوله تعالى : ( إذا الشمس كورت ) [ التكوير : 1 ] ، قال ابن عباس رضي الله عنه : تكويرها إدخالها في العرش . وقيل : ذهاب صفوها ، قاله الحسن وقتادة ، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد . وقال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة ، تلف فتمحى. وقال الربيع بن خثيم : كورت رمي بها ، ومنه : كورته ، فتكور ، . أي : سقط. قلت : وأصل التكوير الجمع ، مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها ، أي : لاثها ، وجمعها ، فهي تكور ، ثم يمحو ضوءها ثم يرمى بها ، والله أعلم . وقوله تعالى : ( وإذا النجوم انكدرت ) [ التكوير : 2 ] ، أي : انتشرت ، قيل : تتناثر من أيدي الملائكة ، لأنهم يموتون ، وفي الخبر أنها معلقة بين السماء والأرض بسلاسل بأيدي الملائكة . وقال ابن عباس رضي الله عنه : انكدرت تغيرت ، وأصل الانكدار الانصباب ، فتسقط في البحار ، فتصير معها نيراناً ، إذا ذهبت المياه . وقوله : ( وإذا الجبال سيرت ) [ التكوير : 3 ] ، هو مثل قوله : ( ويوم نسير الجبال ) [ الكهف : 47 ] ، أي : تحول عن منزلة الحجارة ، فتكون كثيباً مهيلاً ، أي : رملاً سائلاً ، وتكون كالعهن ، وتكون هباء منبثاً ، وتكون سراباً ، مثل السراب الذي ليس بشيء . وقيل : إن الجبال بعد اندكاكها أنها تصير كالعهن من حر جهنم ، كما تصير السماء من حرها كالمهل . قال الحليمي : وهذا والله أعلم لأن مياه الأرض كانت حاجزة بين السماء والأرض، فإذا ارتفعت ، وزيد مع ذلك في إحماء جهنم أثر في كل واحد من السماء والأرض ما ذكر . وقوله : ( وإذا العشار عطلت ) [ التكوير : 4 ] أي : عطلها أهلها ، فلم تحلب من الشغل بأنفسهم . والعشار : الإبل الحوامل ، واحدها عشر ، وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع ، وبعدما تضع ، وإنما خص العشار بالذكر ، لأنها أعز ما يكون على العرب ، فأخبر أنها تعطل يوم القيامة . ومعناه أنهم إذا قاموا من قبورهم ، وشاهد بعضهم بعضاً ورأوا الوحوش والدواب محشورة ، وفيها عشارهم التي كانت أنفس أموالهم ، لم يعبؤوا بها ، ولم يهمهم أمرها ، ويحتمل تعطل العشار إبطال الله تعالى أملاك الناس عما كان ملَّكهم إياها في الدنيا ، وأهل العشار يرونها، فلا يجدون إليها سبيلاً . وقيل : العشار : السحاب ، يعطل مما يكون فيه ، وهو الماء ، فلا يمطر . وقيل : العشار الديار ، تعطل فلا تسكن . وقيل : الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع ، والقول الأول أشهر وعليه من الناس الأكثر . وقوله : ( وإذا الوحوش حشرت ) [ التكوير : 5 ] أي : جمعت ، والحشر الجمع ، وقد تقدم . وقوله ( وإذا البحار سجرت ) [ التكوير : 6 ] أي : أوقدت ، وصارت ناراً . رواه الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه . وقال قتادة : غار ماؤها ، فذهب . وقال الحسن والضحاك : فاضت . قال ابن أبي زمنين : سجرت حقيقته ملئت ، فيفضي بعضها إلى بعض ، فتصير شيئاً واحداً . وهو معنى قول الحسن . ويقال : إن الشمس تلف ، ثم تلقى في البحار ، فمنها تحمى ، وتنقلب ناراً . قال الحليمي : ويحتمل إن كان هذا هكذا أن البحار في قول من فسر التسجير بالامتلاء هو أن النار حينئذ تكون أكثرها ، لأن الشمس أعظم من الأرض مرات كثيرة ، فإذا كورت ، وألقيت في البحر ، فصارت ناراً ، ازدادت امتلاءً . وقوله : ( وإذا النفوس زوجت ) [ التكوير : 7 ] تفسير الحسن أن تلحق كل شيعة شيعتها : اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، والمجوس بالمجوس ، وكل من كان يعبد من دون الله شيئاً يلحق بعضهم ببعض ، والمنافقون بالمنافقين ، والمؤمنون بالمؤمنين . وقال عكرمة : المعنى تقرن بأجسادها ، أي : ترد إليها ، وقيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان أو إنسان . يقرن المؤمنون بالحور العين ، والكافرون بالشياطين . وقوله : ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ) [ التكوير : 8 ] يعني بنات الجاهلية ، كانوا يدفنوهن أحياء ، لخصلتين : إحداهما : كانوا يقولون : إن الملائكة بنات الله ، فألحقوا البنات به . الثانية : مخافة الحاجة والإملاق ، وسؤال الموءودة على وجه التوبيخ لقاتلها ، كما يقال للطفل إذا ضرب : لم ضربت ؟ وما ذنبك ؟ وقال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها ، لأنها قتلت بغير ذنب . وبعضهم يقرأ : وإذا الموءودة سألت ، تعلق الجارية بأبيها، فتقول : بأي ذنب قتلتني ؟ وقيل : معنى سئلت ، يسأل عنها كما قال : ( إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [ الإسراء : 34 ] . وقوله : ( وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ) [ التكوير : 10 ] أي : للحساب وسيأتي . وقوله : ( وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ) [ التكوير : 11 ] قيل : معناه طويت ، كما قال الله تعالى : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) [ الأنبياء : 104 ] ، أي : كطي الصحيفة على ما فيها ، فاللام بمعنى (على) ، يقال : كشطت السقف ، أي : قلعته ، فكان المعنى : قلعت ، فطويت والله أعلم ، والكشط والقشط سواء ، وهو القلع ، وقيل : السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في الصحابة من اسمه سجل . وقوله : ( وإذا الجحيم سعرت ) [ التكوير : 12 ] ، أي : أوقدت . وقوله : ( وإذا الجنة أزلفت ) [ التكوير : 13 ] أي : قربت لأهلها ، وأدنيت . ( علمت نفس ما أحضرت ) [ التكوير : 14 ] أي : من عملها ، وهو مثل قوله : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) [ الانفطار : 5 ] . ومما قيل في وصف أهوال ذلك اليوم شعراً (3) : مثِّل لنفسك أيها المغرور ××× يوم القيامة والسماء تمور إذ كورت شمس النهار وأدنيت ××× حتى على رأس العباد تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت ××× وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا البحار تفجرت من خوفها ××× ورأيتها مثل الجحيم تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها ××× فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا العشار تعطلت وتخربت ××× خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت ××× وتقول للأملاك أين تسير وإذا تقاة المسلمين تزوجت ××× من حور عين زانهن شعور وإذا الموءودة سئلت عن شأنها ××× وبأي ذنب قتلها ميسور وإذا الجليل طوى السماء بيمينه ××× طي السجل كتابه المنشور وإذا الصحائف نشرت فتطايرت ××× وتهتكت للمؤمنين ستور وإذا السماء تكشطت عن أهلها ××× ورأيت أفلاك السماء تدور وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ××× فلها على أهل الذنوب زفير وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت ××× لفتى على طول البلاء صبور وإذا الجنين بأمه متعلق ××× يخشى القصاص وقلبه مذعور هذا بلا ذنب يخاف جنينه ××× كيف المصر على الذنوب دهور المطلب السابع المحاسبي يصور أهوال ذلك اليوم يقول الحارث المحاسبي رحمه الله واصفاً ما يقع في ذلك اليوم من أهوال : " حتى إذا تكاملت عدة الموتى ، وخلت من سكانها الأرض والسماء ، فصاروا خامدين بعد حركاتهم ، فلا حس يسع ، ولا شخص يُرى ، وقد بقي الجبار الأعلى كما لم يزل أزلياً واحداً منفرداً بعظمته وجلاله ، ثم لم يفجأ روحك إلا بنداء المنادي لكل الخلائق معك للعرض على الله عز وجل بالذل والصغار منك ومنهم . فتوهم كيف وقوع الصوت في مسامعك وعقلك ، وتفهم بعقلك بأنك تدعى إلى العرض على الملك الأعلى ، فطار فؤادك ، وشاب رأسك للنداء ، لأنها صيحة واحدة للعرض على ذي الجلال والإكرام والعظمة والكبرياء – فبينما أنت فزع للصوت إذ سمعت بانفراج الأرض عن رأسك ، فوثبت مغبراً من قرنك إلى قدمك بغبار قبرك ، قائماً على قدميك ، شاخصاً ببصرك نحو النداء ، وقد ثار الخلائق كلهم معك ثورة واحدة ، وهم مغبرون من غبار الأرض التي طال فيها بلاؤهم .فتوهم ثورتهم بأجمعهم بالرعب والفزع منك ومنهم ، فتوهم نفسك بعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وغمومك وهمومك في زحمة الخلائق ، عراة حفاة صموت أجمعون بالذلة والمسكنة والمخافة والرهبة ، فلا تسمع إلا همس أقدامهم والصوت لمدة المنادي ، والخلائق مقبلون نحوه ، وأنت فيهم مقبل نحو الصوت ، ساعٍ بالخشوع والذلة ، حتى إذا وافيت الموقف ازدحمت الأمم كلها من الجن والإنس عراة حفاة ، قد نزع الملك من ملوك الأرض ، ولزمتهم الذلة والصغار ، فهم أذل أهل الجمع وأصغرهم خلقة وقدراً بعد عتوهم وتجبرهم على عباد الله عز وجل في أرضه . ثم أقبلت الوحوش من البراري وذرى الجبال منكسة رؤوسها لذل يوم القيامة بعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذليلة ليوم النشور لغير بلية نابتها ولا خطيئة أصابتها ، فتوهم إقبالها بذلها في اليوم العظيم ليوم العرض والنشور . وأقبلت السباع بعد ضراوتها وشهامتها منكّسة رؤوسها ذليلة ليوم القيامة حتى وقفت من وراء الخلائق بالذل والمسكنة والانكسار للملك الجبار ، وأقبلت الشياطين بعد عتوها وتمردها خاشعة لذل العرض على الله سبحانه فسبحان الذي جمعهم بعد طول البلاء، واختلاف خلقهم وطبائعهم وتوحش بعضهم من بعض ، قد أذلهم البعث وجمع بينهم النشور . حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها ووحوشها وسباعها وأنعامها وهوامها ، واستووا جميعاً في موقف العرض والحساب تناثرت نجوم السماء من فوقهم ، وطمست الشمس والقمر ، وأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها . فبينما أنت والخلائق على ذلك إذ صارت السماء الدنيا من فوقهم ، فدارت بعظمها من فوق رؤوسهم ، وذلك بعينك تنظر إلى هول ذلك ، ثم انشقت بغلظها خمسمائة عام ، فيا هول صوت انشقاقها في سمعك ، ثم تمزقت وانفطرت بعظيم هول يوم القيامة والملائكة قيام على أرجائها وهي حافات ما يتشقق ويتفطر ، فما ظنك بهول تنشق فيه السماء بعظمها ، فأذابها ربها حتى صارت كالفضة المذابة تخالطها صفرة لفزع يوم القيامة كما قال الجليل الكبير : ( فكانت وردةً كالدهان ) [ الرحمن : 37 ] ، ( يوم تكون السماء كالمهل – وتكون الجبال كالعهن ) [ المعارج : 8-9 ] . فبينا ملائكة السماء الدنيا على حافتها إذ انحدروا محشورين إلى الأرض للعرض والحساب ، وانحدروا من حافتيها بعظم أجسامهم وأخطارهم وعلو أصواتهم بتقديس الملك الأعلى الذي أنزلهم محشورين إلى الأرض بالذلة والمسكنة للعرض عليه والسؤال بين يديه . فتوهم تحدرهم من السحاب بعظيم أخطارهم وكبير أجسامهم وهول أصواتهم وشدة فرقهم منكسين لذل العرض على الله عز وجل . فيا فزعك وقد فزع الخلائق مخافة أن يكونوا أمروا بهم ، ومسألتهم إياهم : أفيكم ربنا ؟ ففزع الملائكة من سؤالهم إجلالاً لمليكهم أن يكون فيهم ، فنادوا بأصواتهم تنزيهاً لما توهمه أهل الأرض : سبحان ربنا ، ليس هو بيننا ، ولكنه آتٍ من بعد ، حتى أخذوا مصافهم محدقين بالخلائق منكسين رؤوسهم لذل يومهم . فتوهمهم ، وقد تسربلوا بأجنحتهم ، ونكسوا رؤوسهم في عظم خلقهم بالذل والمسكنة والخشوع لربهم ، ثم كل شيء على ذلك وكذلك إلى السماء السابعة ، كل أهل سماء مضعفين بالعدد ، وعظم الأجسام ، وكل أهل سماء محدقين بالخلائق صفاً واحداً . حتى إذا وافى الموقف أهل السماوات السبع والأرضين السبع كسيت الشمس حر عشر سنين وأدنيت من رؤوس الخلائق قاب قوس أو قوسين ، ولا ظِلَّ لأحد إلا ظل عرش رب العالمين ، فمن بين مستظل بظل العرش ، وبين مضحو بحر الشمس ، قد صهرته بحرها ، واشتد كربه وقلقه من وهجها ، ثم ازدحمت الأمم وتدافعت ، فدفع بعضهم بعضاً ، وتضايقت فاختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من العطش ، واجتمع حر الشمس ووهج أنفاس الخلائق وتزاحم أجسامهم ، ففاض العرق منهم سائلاً حتى استنقع على وجه الأرض ثم على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند الله عز وجل بالسعادة والشقاء , حتى إذا بلغ من بعضهم العرق كعبيه ، وبعضهم حقويه ، وبعضهم إلى شحمه أذنيه ، ومنهم من كاد أن يغيب في عرقه ، ومن قد توسط العرق من دون ذلك منه . عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ( وقال مرة : إن الكافر ) ليقوم يوم القيامة في بحر رشحه إلى أنصاف أذنيه من طول القيام " [ متفق عليه ] . وعن عبد الله رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الكافر يلجم بعرقه يوم القيامة من طول ذلك اليوم ، ( وقال علي : من طول القيام . قالا جميعاً ) حتى يقول : رب أرحني ولو إلى النار . وأنت لا محالة أحدهم ، فتوهم نفسك راجعة لكربك وقد علاك العرق ، وأطبق عليك الغم ، وضاقت نفسك في صدرك من شدة العرق والفزع والرعب ، والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى دار الشقاء ، حتى إذا بلغ المجهود منك ومن الخلائق منتهاه ، وطال وقوفهم لا يكلمون ولا ينظرون في أمورهم . عن قتادة أو كعب ، قال : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] . قال: " يقومون مقدار ثلاثمائة عام ، وقال سمعت الحسن يقول : ما ظنك بأقوام قاموا لله عز وجل على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ، ولم يشربوا فيها شربة ، حتى إذا انقطعت أعناقهم من العطش ، واحترقت أجوافهم من الجوع انصرف بهم إلى النار ، فسقوا من عين آنية قد آن حرها ، واشتد نفحها . فلما بلغ المجهود منهم ما لا طاقة لهم به ، كلَّم بعضهم بعضاً في طلب من يكرم على مولاه أن يشفع لهم في الراحة من مقامهم ووقفهم لينصرفوا إلى الجنة أو إلى النار من وقوفهم ، ففزعوا إلى آدم ونوح ومن بعده إبراهيم ، وموسى وعيسى من بعد إبراهيم ، كلهم يقول لهم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، فكلهم يذكر شدة غضب ربه عز وجل ، وينادي بالشغل بنفسه فيقول : نفسي نفسي، فيشتغل بنفسه عن الشفاعة لهم إلى ربهم لاهتمامه بنفسه وخلاصها ، وكذلك يقول الله عز وجل ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ) [ النحل : 111 ] . فتوهم أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم ، منفرد كل واحد منهم بنفسه ، ينادي نفسي نفسي ، فلا تسمع إلا قول نفسي نفسي . فيا هول ذلك وأنت تنادي معهم بالشغل بنفسك والاهتمام بخلاصها من عذاب ربك وعقابه ، فما ظنك بيوم ينادي فيه المصطفى آدم ، والخليل إبراهيم ، والكليم موسى ، والروح والكلمة عيسى مع كرامتهم على الله – عز وجل – وعظم قدر منازلهم عند الله عز وجل ، كل ينادي : نفسي نفسي، شفقاً من شدة غضب ربه ، فأين أنت منهم في إشفاقك في ذلك اليوم واشتغالك ، وبحزنك وبخوفك ؟ حتى إذا أيس الخلائق من شفاعتهم لما رأوا من اشتغالهم لأنفسهم ، أتوا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فسألوه الشفاعة إلى ربهم فأجابهم إليها ، ثم قام إلى ربه عز وجل واستأذن عليه ، فأذن له ، ثم خر لربه ساجداً ، ثم فتح عليه من محامده والثناء عليه لما هو أهله ، وذلك كله بسمعك وأسماع الخلائق ، حتى أجابه ربه عز وجل إلى تعجيل عرضهم والنظر في أمورهم (4) . -------------------------------- (1) تفسير ابن كثير : (7/221) . (2) حديث صحيح رواه الترمذي والحاكم وأحمد ، انظر صحيح الجامع : (3/301) ورقم الحديث : 6191 . (3) التذكرة للقرطبي : 214 . (4) كتاب التوهم والأهوال للحارث بن أسد المحاسبي : ص5 . |
أحوال الناس في يوم القيامة تختلف أحوال الناس في ذلك اليوم اختلافاً بيناً ، وسنعرض هنا لثلاثة : الكفار ، وعصاة الموحدين ، والأتقياء الصالحين . حال الكفار المطلب الأول ذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم الذي يتأمل في نصوص الكتاب والسنة التي تحدثنا عن مشاهد القيامة يرى الأهوال العظام والمصائب الكبار التي تنزل بالكفرة المجرمين في ذلك اليوم العظيم .وسنعرض في هذا المبحث بعض المشاهد التي يصفها القرآن الكريم . 1- قال تعالى مبيناً حال الكفار عند خروجهم من القبور : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ - خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) [ المعارج : 43-44 ] . والأجداث هي القبور ، والنص يصور سرعة خروجهم من القبور في ذلك اليوم منطلقين إلى مصدر الصوت كأنهم يسرعون إلى الأنصاب التي كانوا يعبدونها في الدنيا ، ولكنهم اليوم لا ينطلقون فرحين أشرين بطرين كما كان حالهم عندما كانوا يقصدون الأنصاب ، بل هم أذلاء ، أبصارهم خاشعة ، والصغار يعلوهم ، على النعت الذي كان يعدهم الله به في الدنيا . 2- وقال تعالى : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ - خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ - مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 6- 8 ] . وهذه الآية تنص على ما نصت عليه الآيات السابقة من خروجهم خاشعي الأبصار أذلاء ، مسرعين إلى مصدر الصوت الذي يناديهم ويدعوهم ، وتزيدنا بياناً بإعطائنا صورة حية لمشهد البعث والنشور ، فحالهم في ذلك اليوم في حركتهم وانطلاقتهم وهم يخرجون مسرعين كحال الجراد المنتشر ، ويفيدنا النص أيضاً اعتراف الكفار في ذلك اليوم بصعوبة موقفهم ( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) [ القمر : 8 ] . 3- ويفيدنا نص ثالث أن الكفار ينادون بالويل والثبور عندما ينفخ في الصور متسائلين عمن أقامهم من رقدتهم . ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ) [يس : 51-52] . وقد كان أبو محكم الجسري يجتمع إليه إخوانه ، وكان حكيماً ، فإذا تلى الآية السابقة بكى ، ثم قال : " إن القيامة ذهبت فظاعتها بأوهام العقول ، أما والله لئن كان القوم في رقدة مثل ظاهر قولهم ، لما دعوا بالويل عند أول وهلة من بعثهم ، ولم يوقفوا بعد موقف عرض ولا مسألة إلا وقد عاينوا خطراً عظيماً ، وحقت عليهم القيامة بالجلائل من أمرها ، ولكن كانوا في طول الإقامة في البرزخ يألمون ويعذبون في قبورهم ، وما دعوا بالويل عند انقطاع ذلك عنهم ، إلا وقد نقلوا إلى طامة هي أعظم منه ، ولولا أن الأمر على ذلك ما استصغر القوم ما كانوا منه ، فسموه رقاداً ، وإن في القرآن لدليلاً على ذلك : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) [ النازعات : 34 ] ، ثم يبكي حتى يبل لحيته " (1) . 4- ويضيف نص آخر ملامح جديدة إلى صورتهم حال بعثهم ، فأبصارهم لشدة الهول شاخصة جاحظة ، وأفئدتهم خالية إلا من الهول الذي يحيط بهم ، قال تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] . يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله وأجزل له المثوبة – في تفسير هذه الآيات : "والرسول صلى الله عليه وسلم – لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد الله ، ثم لا يراه واقعاً بهم في الحياة الدنيا ، فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي لا إمهال بعدها ، ولا فكاك منها ، أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ، فتظل مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهـول لا تطرف ولا تتحـرك . ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول .. ، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء ، ولا يلتفتون إلى شيء ، رافعين رؤوسهم ، لا عن إرادة ، ولكنها مشدودة ، لا يملكون لها حراكاً . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب ، فلا يطرف ولا يرتد إليهم ، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية ، لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه ، أو يتذكرونه ، فهي هواء خاوية . هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه ، حيث يقفون في هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب ، الذي يرتسم من خلال هذه المقاطع الأربعة ، مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب : ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ - مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) [ إبراهيم : 42-43 ] . فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكروهة المشدودة ، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي من الإدراك .. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار " (2) . 5- ويصور القرآن الفزع الذي يسيطر على نفوس الكفار في يوم الموقف العظيم فيقول : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) [ غافر : 18 ] . " والآزفة ... القريبة العاجلة ...هي القيامة ، واللفظ يصورها كأنها زاحفة والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ، وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على صدورهم ، وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ، ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب " (3) . 6- وما كان هؤلاء في حكم الله مجرمين متمردين على خالقهم وإلههم ، مستكبرين عن عبادته وطاعته – فإنه يؤتى بهم إلى ربهم وخالقهم مقرنين في الأصفاد ، مسربلين بالقطران تغشى وجوههم النار ، ويا لفظاعة حالهم ، وعظم ما يلقون ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ - وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ - سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ) [ إبراهيم : 48-50 ] . يقول الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآيات : " وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، ( مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ) [ إبراهيم : 49 ] ، يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غل وسلسلة ، واحدها صفد " (4) . والسرابيل : هي القمص التي يلبسونها ، والقطران : المادة التي تطلى بها الإبل إذا أصابها الجرب ، وقيل : القطران النحاس . 7- وتدنو الشمس من رؤوس العباد في ذلك اليوم حتى لا يكون بينها وبينهم إلا مقدار ميل واحد ، ولوا أنهم مخلوقون خلقاً غير قابل للفناء لانصهروا وذابوا وتبخروا ، ولكنهم بعد الموت لا يموتون . ويذهب عرقهم في الأرض حتى يرويها ، ثم يرتفع فوق الأرض ، ويأخذهم على قدر أعمالهم . ففي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق ، حتى تكون منهم كمقدار ميل " . قال سليم بن عامر : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ؟ أمسافة الأرض ، أم الميل الذي تكتحل به العين . قال : " فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق ، فمنهم من يكون إلى كعبيه . ومنهم من يكون إلى ركبتيه . ومنهم من يكون إلى حقويه . ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً " . قال : وأشار رسول الله بيده إلى فيه (5) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6 ] ، قال : " يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه " (6) . وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم " (7) . 8- وعندما يرى الكفار العذاب والهوان الذي يصيبهم ويصيب أمثالهم من الكفرة المشركين يأخذهم الحسرة والندم ، ولكثرة حسرة العذاب سمى الله ذلك اليوم بيوم الحسرة ( وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلةٍ وهم لا يؤمنون ) [ مريم : 39 ] . ولشدة تحسر الكفار وندمه على عدم اتباعه للرسول الذي بعثه إليه ، واتباعه لأعداء الرسل ، فإنه يعض على يديه ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ) [ الفرقان : 27-29 ] . 9- وفي ذلك اليوم يوقن الكفار أن ذنبهم غير مغفور ، وعذرهم غير مقبول ، فييأسوا من رحمة الله ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) [الروم : 12] . 10- ويتمنى الكفار في ذلك اليوم أن يهلكهم الله ، ويجعلهم تراباً ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ ) [ النساء : 42 ] ، ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) [ النبأ : 40 ] ، فما بالك بأقوام كانت مناياهم هي غاية المنى !! . -------------------------------- (1) النهاية لابن كثير : (1/274) . (2) في ضلال القرآن : (4/2111) . (3) في ضلال القرآن : (6/3074) . (4) تفسير ابن جرير الطبري : (13/254) . (5) صحيح مسلم ، كتاب الجنة ، باب في صفة القيامة (4/2196) ، ورقمه : (2864) . (6) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب قول الله تعالى : ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ) [ المطففين :4] ، فتح الباري ، (11/392) . ورواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب في صفة يوم القيامة ، (4/2196) ، ورقمه :2862 . (7) المصادر السابقة ، والسياق للبخاري . |
المطلب الثاني إحباط أعمالهم أعمال الكفار قسمان : قسم هو طغيان وبغي وإفساد في الأرض ونحو ذلك ، فهذه أعمال باطلة فاسدة لا يرجو أصحابها من ورائها خيراً ، ولا يتوقعون عليها ثواباً .وقد شبه القرآن هذه الأعمال بالظلمات التي يركب بعضها بعضاً : ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) [النور : 40] . والقسم الثاني : أعمال يظنون أنها تغني عنهم من الله شيئاً ، كالصدقة والعتاق وصلة الأرحام والإنفاق في سبل الخير ، وقد ضرب الله في كتابه لهذا النوع من الأعمال أمثلة . فشبهها في بعض المواضع بالسراب الذي يظنه رائيه ماء ، ولكنه عندما يأتيه – وهو يؤمل أن يصل إليه فيروي غلته ، ويذهب ظمأه – لا يجده شيئاً ، ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) [ النور : 39 ] . وشبهها في موضع آخر بالرياح الشديدة الباردة تهب على الزروع والثمار فتدمرها ( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [آل عمران : 117] . والصر : البرد الشديد ، وهذه الرياح الباردة هي الكفر والشرك التي تحرق أعمالهم الصالحة . وشبهها في موضع ثالث بالرماد الذي جاءته ريح عاصف فذرته في كل مكان ، فكيف يستطيع صاحبه جمعه بعد تفرقه !! ( مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ) [ إبراهيم : 18 ] . ولذلك فإن الله يجعل أعمال الكفار هباء منثوراً ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ) [ الفرقان : 23 ] . وهذا الفريق الذي يظن أنه على خير يفاجأ يوم القيامة بأن عمله باطل ضائع ، ومن هؤلاء عباد اليهود والنصارى بعد البعثة النبوية ، فإن فريقاً منهم يجهدون أنفسهم بالعبادة، وفعل الخيرات ، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله تبارك وتعالى ، وكذلك الذين انتسبوا إلى الإسلام ، ولكنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وعبدوا غير الله ، كل هؤلاء لا تنفعهم أعمالهم ، ولا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا - أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا - ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ) [الكهف : 103-106] . وقد سأل مصعب بن سعد أباه بن أبي وقاص عن الأخسرين أعمالاً ، فقال : " هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب " (1) . وإنما كان اليهود والنصارى من الأخسرين أعمالاً ، لأن كثيراً منهم يظنون أنفسهم على الحق ، ويجتهدون في العبادة ، وحقيقة الأمر أنهم خاسرون ، لأنهم يكفرون برسول الله الخاتم ، وكتابه المنزل ، مع كفرهم بكثير مما أنزل إليهم من ربهم ، وإيمانهم بالمحرف من دينهم . فهذه الأعمال التي يظن الكفرة أنها نافعتهم في يوم الدين لا وزن لها ولا قيمة لها في ذلك اليوم لأنها قامت على غير أساس ( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [آل عمران : 85] . والأساس هو الإسلام ، فما لم يكن المرء مسلماً موحداً فعمله مردود ، وسعيه موزور غير مشكور ، روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه ؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " (2) . -------------------------------- (1) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، سورة رقم : (18) فتح الباري : (8/425) . (2) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب أهون أهل الدنيا عذاباً ، (1/196) ورقم الحديث : 214 . |
المطلب الثالث تخاصم أهل النار عندما يعلن الكفرة أعداء الله ما أعد لهم من العذاب ، وما هم فيه من أهوال يمقتون أنفسهم كما يمقتون أحبابهم وخلانهم في الحياة الدنيا ، بل تنقلب كل محبة لم تقم على أساس من الإيمان إلى عداء ، قال تعالى : ( الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) [الزخرف : 67] ، وفي ذلك اليوم يخاصم أهل النار بعضهم بعضاً ، ويحاج بعضهم بعضاً، العابدون المعبودين ، والأتباع السادة المتبوعين ، والضعفاء المتكبرين ، والإنسان قرينه ، بل يخاصم الكافر أعضاءه . 1- أما مخاصمة العابدين المعبودين : ففي قوله تعالى : ( وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ - وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ - فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ - وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ - قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ - تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ - إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ )[ الشعراء : 91-99 ] إنهم يخاطبون آلهتهم التي كانوا يعبدونها ، معترفين بضلالهم إذ كانوا يعبدونها ، ويسوون بينها وبين الخالق ، وقد خاب وخسر من رفع المخلوق إلى مرتبة الخالق ، وكل من عبد من دون الله آلهة ، فقد سوى بين الخالق والمخلوق ، وهذا هو الظلم العظيم ، كما قال لقمان لابنه وهو يعظه : ( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ لقمان : 13 ] . أما الصالحون الأخيار الذين عبدوا وهم لا يعلمون ، أو عبدوا بغير رضاهم كالملائكة وصالحي البشر ، فإنهم يتبرؤون من عابديهم ، ويكذبون زعم العابدين وافتراءهم ، فإن الملائكة ما طلبت هذه العبادة ، ولا رضيت بها ، والذين طلبوها هم الجن، كي يضلوا البشر ويوبقوهم ، فهؤلاء الضالون عبادون للجن لا للملائكة ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) [ السبأ : 40-41 ] . وعيسى ابن مريم يتبرأ في يوم الدين من الذين اتخذوه إلهاً وعبدوه من دون الله ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ - مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... )[المائدة : 116-117] . هذا موقف جميع المعبودات التي لم ترض باتخاذها آلهة ، تتبرأ من عابديها ، وتكذبهم في دعواهم ، وتقرُّ بعبوديتها لله ربها ، ( وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ - وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) [ النحل : 86-87 ] . وقال في موضع آخر : ( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ - فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ - هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) [ يونس : 28-30 ] . 2- وأما تخاصم الأتباع مع قادة الضلال من أصحاب الفكر ، والنظريات الضالة ، والمبادئ المناقضة للإسلام ، فقد ذكرها الله في موضع آخر فقال : ( فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ - وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ - احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ - مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ - وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ - مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ - بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ - وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ - قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ - قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ - وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ - فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ - فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ- فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ - إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ - إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) [ الصافات : 19-35 ] . وهذا المذكور في هذه الآيات هو تلاوم أهل النار في ***ات القيامة ، فالأتباع يقولون لقادة الضلال : أنتم الذين كنتم تزينون لنا الباطل ، وتغروننا بمخالفة الحق ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) [البقرة : 257] ، ولكن القادة ورجال الفكر والزعماء يرفضون هذا ، ويقولون لهم : أنتم تتحملون نتيجة أعمالكم فقد اخترتم الكفر ، ولم يكن لنا من سلطان عليكم ، إن طغيانكم واستكباركم هو الذي أوصلكم إلى هذه النهاية . 3- أما مخاصمة الضعفاء للسادة من الملوك والأمراء وشيوخ العشائر الذين كانوا يتسلطون على العباد ، ويشدُّ الضعفاء أزرهم ، ويعينوهم على باطلهم بالنفس والمال فقد ذكرها الله تعالى في قوله : ( وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [ إبراهيم : 21 ] . ولندع الداعية المفسر الأستاذ سيد قطب رحمه الله ، وأجزل له المثوبة يفسر لنا هذه الآيات الكريمة ، ولنعش معه في الظلال .. ( وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا .. ) [ إبراهيم : 21 ] الطغاة المكذبون ، وأتباعهم من الضعفاء المستذلين .. ومعهم الشيطان .. ثم الذين آمنوا بالرسل وعملوا الصالحات .. برزوا (جميعاً) مكشوفين .. وهم مكشوفون لله دائماً ، ولكنهم الساعة يعلمون ويحسون أنهم مكشوفون لا يحجبهم حجاب ، ولا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق .. برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار ، وبدأ الحوار : ( فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) والضعفاء هم الضعفاء . هم الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان الكريم على الله حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتقاد والاتجاه وجعلوا أنفسهم تبعاً للمستكبرين والطغاة . ودانوا لغير الله من عبيده واختاروها على الدينونة لله . والضعف ليس عذراً ، بل هو الجريمة فما يريد الله لأحد أن يكون ضعيفاً ، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله . وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعاً عن نصيبه في الحرية – التي هي ميزته ومناط تكريمه – أو أن ينزل كارهاً . والقوة المادية – كائنة ما كانت – لا تملك أن تستبعد إنساناً يريد الحرية ، ويستمسك بكرامته الآدمية . فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد ، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه . أما الضمير. أما الروح . أما العقل . فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها ، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال ! من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة ، وفي التفكير، وفي السلوك ؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله ، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه ؟ لا أحد . لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة . فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة ، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً .. كلا ، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان ! إن المستضعفين كثرة ، والطواغيت قلة . فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟ وماذا الذي يخضعها ؟ إنما يخضعها ضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وقلة النخوة ، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان ! إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير . فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت . فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان ! إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء .. ، وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة !! والأذلاء هنا على مسرح الآخرة في ضعفهم وتبعيتهم للذين استكبروا يسألونهم : ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ) [إبراهيم : 21] . وقد اتبعناكم فانتهينا إلى هذا المصير الأليم ؟! أم لعلهم وقد رأوا العذاب يهمون بتأنيب المستكبرين على قيادتهم لهم هذه القيادة ، وتعريضهم إياهم للعذاب ؟ إن السياق يحكي قولهم وعليه طابع الذلة على كل حال ! ويرد الذين استكبروا على ذلك السؤال : ( قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [إبراهيم : 21] . وهو رد يبدو فيه البرم والضيق : ( لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ) . فعلام تلوموننا ونحن وإياكم في طريق واحد إلى مصير واحد ؟ إننا لم نهتد ونضلكم . ولو هدانا الله لقدناكم إلى الهدى معنا ، كما قدناكم حين ضللنا إلى الضلال ! وهم ينسبون هداهم وضلالهم إلى الله . فيعترفون الساعة بقدرته وكانوا من قبل ينكرونه وينكرونها ، ويستطيلون على الضعفاء استطالة من لا يحسب حساباً لقدرة القاهر الجبار . وإنما يتهربون من تبعة الضلال والإضلال برجع الأمر لله .. والله لا يأمر بالضلال كما قال سبحانه ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ) [ الأعراف : 28 ] .. ثم هم يؤنبون الضعفاء من طرف خفي ، فيعلنوا لهم بأن لا جدوى من الجزع كما أنه لا فائدة من الصبر . فقد حق العذاب ، ولا راد له من صبر أو جزع ، وفات الأوان الذي كان الجزع فيه من العذاب يجدي فيرد الضالين إلى الهدى ، وكان الصبر فيه على الشدة يجدي فتدركهم رحمة الله . لقد انتهى كل شيء ، ولم يعد هنالك مفر ولا محيص : ( سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ) [ إبراهيم : 21 ] . لقد قضي الأمر ، وانتهى الجدل ، وسكت الحوار .. وهنا نرى على المسرح عجباً.. نرى الشيطان .. هاتف الغواية ، وحادي الغواة .. نراه الساعة يلبس مسوح الكهان ، أو مسوح الشيطان ! ويتشيطن على الضعفاء والمستكبرين سواء ، بكلام ربما كان أقسى عليهم من العذاب : ( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ إبراهيم : 22 ] . الله ! الله ! أما إن الشيطان حقاً لشيطان ! وإن شخصيته لتبدو هنا على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار .. إنه الشيطان الذي وسوس في الصدور ، وأغرى بالعصيان ، وزين الكفر ، وصدهم عن استماع الدعوة .. ، هو هو الذي يقول لهم وهو يطعنهم طعنة أليمة نافذة ، حيث لا يملكون أن يردوها عليه – وقد قضي الأمر – هو الذي يقول الآن ، وبعد فوات الأوان : ( إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يخزهم وخزة أخرى بتعييرهم بالاستجابة له ، وليس له عليهم من سلطان ، سوى أنهم تخلوا عن شخصياتهم ، ونسوا ما بينهم وبين الشيطان من عداء قديم ، فاستجابوا لدعوته الباطلة ، وتركوا دعوة الحق من الله : ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يؤنبهم ، ويدعوهم لتأنيب أنفسهم ، يؤنبهم على أن أطاعوه ! ( فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم يتخلى عنهم ، وينفض يده منهم ، وهو الذي وعدهم من قبل ومناهم ، ووسوس لهم أن لا غالب لهم ، فأما الساعة فما هو بملبيهم إذا صرخوا ، كما أنهم لن ينجدوه إذا صرخ : ( مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ) [ إبراهيم : 22 ] . وما بيننا من صلة ولا ولاء ! ثم يبرأ من إشراكهم به ، ويكفر بهذا الإشراك : ( إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ) [ إبراهيم : 22 ] . ثم ينهي خطبته الشيطانية بالقاصمة يصبها على أوليائه : ( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ إبراهيم : 22 ] . فيا للشيطان ، ويالهم من وليهم الذي هتف بهم إلى الغواية فأطاعوه ، ودعاهم الرسل إلى الله فكذبوهم وجحدوهم (1) . وفي موضع آخر يذكر الله تخاصم الضعفاء والسادة المستكبرين فيقول : ( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) [ المؤمن : 47-48 ] . وهذه الآيات الكريمة تأتي بعد الإخبار بما كان من استعلاء فرعون من تذبيحه الأطفال ، ومحاولته قتل موسى ، ومحاورته ذلك المؤمن الذي واجه فرعون ودحض حجته وباطله ، وكيف وقف الشعب موقف التابع الذي ينفذ رغبات الطاغية ، فيقوم أفراده بالتذبيح والإيذاء والمطاردة ، هؤلاء الذين كانوا في الدنيا أعواناً للظلمة المجرمين يعلمون في يوم القيامة فداحة الجريمة التي وقعوا فيها ، ويقولون للسادة أمثال فرعون : ( إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ ) [المؤمن : 47] ، ولكن السادة لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يستطيعون نصر أنفسهم فيقولون : ( إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ) [ المؤمن : 48 ] . وهذا الموقف يدلنا على الجواب الذي يمكننا أن نواجه به المقولة الباطلة التي يرددها بعض الظلمة حيث يقولون لأتباعهم : اتبعوني ، وأنا أتحمل وزركم إن كان عليكم وزر ، فإن تحملهم مثل أوزار الذين يضلونهم ، لا يمنع العذاب عن الذين اتبعوهم ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ - وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) [ العنكبوت : 12-13 ] . وقال في موضع آخر محدثاً عن مخاصمة الضعفاء للمستكبرين : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ - قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ - وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [سبأ : 31-33 ] . فالأتباع والضعفاء يتهمون سادتهم وزعمائهم قائلين لهم : أنتم الذين حلتم بيننا وبين الإيمان ، فلولاكم لكنا من الذين اتبعوا ما أنزل إلينا من ربنا ، ولكن المستكبرين يرفضون هذه التهمة ، ويقولون لهم : أنتم المجرمون ، كل ما في الأمر أننا دعوناكم فاستجبتم لنا ، ولم يكن لنا عليكم من سلطان ، فتقول الشعوب المستضعفة الضالة : بل مكركم بنا في الليل والنهار أضلنا وحرفنا عن جادة الصواب ، فالمؤامرات والمؤتمرات ، ووسائل الإعلان في مختلف العصور التي تصور الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، وما كان يلقيه الزعماء من شبهات ومزاعم باطلة ، كل ذلك أضلنا وجعلنا نكفر بالله ، ونشرك به والحق أن الجميع خاطئون ، وهم غير معذورين في ضلالهم وكفرهم . ويصف الحق هذا التخاصم بين أهل النار عند دخولهم النار فيقول : ( هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ - جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ - هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ - وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ - هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ - قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ - وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ - أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ - إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ) [ص : 55-64] . فهؤلاء الذين كان بعضهم يرحب ببعض في الحياة الدنيا ، ويوقِّر بعضهم بعضاً ، يتحول حالهم في ذلك اليوم فيقول بعضهم لبعض : ( لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ - قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ ) [ ص : 59-60 ] ويتمنى كل فريق على الله أن يزيد من كانوا أحبابه في الدنيا من العذاب والآلام ، إن هذا التخاصم بين أهل النار حق كائن لا شك في ذلك ، كذلك يقول ربنا تبارك وتعالى . 4- ويقع الخصام في ذلك اليوم بين الكافر وقرينه الشيطان ،قال تعالى : ( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ - أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ - مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ - الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ - قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ - قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ - مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) [ ق : 23-29 ] . 5- ويبلغ الأمر أشده والمخاصمة ذروتها عندما يخاصم المرء أعضاءه : ( وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [ فصلت : 19-21 ] . وهذا يكون من الكفار عندما يعاينون العذاب الشديد الذي أعده الله لهم ، فيلجؤون إلى التكذيب والإنكار ، ويزعمون أنهم كانوا صالحين ، ويكذبون بشهادة الملائكة والمرسلين والصالحين الذين يشهدون عليهم ، فعند ذلك يختم الله على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك يقولون لأعضائهم : " بعداً لكنَّ وسحقاً ، عنكن كنت أجادل " (2) . أخرج مسلم والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يلقى العبد ربه ، فيقول الله : ألم أكرمك وأسودك وأزوجك ، وأسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع فيقول : بلى أي رب ، فيقول : أفظننت أنك ملاقي ؟ فقول : لا ، فيقال : إني أنساك كما نسيتني ، ثم يلقى الثاني ، فيقول له مثل ذلك ، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك ، فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك ، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي ؟ فيختم على فيه ، ويقال لفخذه انطقي ، فتنطق فخذه وفمه وعظامه بعمله ما كان ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي يسخط عليه " (3) . وإن هذا الحوار الذي يجري بين العبد وجوارحه موضع عجب واستغراب ، وقد أضحك هذا الموقف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ففي الحديث الذي يرويه مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك . فقال : " هل تدرون مم أضحك ؟ قال : قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : من مخاطبة العبد ربه . يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم ؟ قال : يقول : بلى . قال : فيقول : إني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني . قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، ثم يختم على فيه ، فيقال لأركانه : انطقي ، قال : فتنطق بأعماله . قال : ثم يخلى بينه وبين الكلام . قال : فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل " (4) . 6- ويخاصم البدن في يوم القيامة الروح : قال ابن كثير : " وقد روى ابن منده في كتاب ( الروح ) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد ، فتقول الروح للجسد : أنت فعلت . ويقول الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سولت . فيبعث الله ملكاً يفصل بينهما ، فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير ، والآخر ضرير دخلا بستاناً . فقال المقعد للضرير : إني أرى ها هنا ثماراً ، ولكن لا أصل إليها . فقال له الضرير : اركبني فتناولها . فركبه فتناولها . فأيهما المعتدي ؟ فيقولان : كلاهما . فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما . يعني أن الجسد للروح كالمطية ، وهو راكبه " (5) . 7- وفي ذلك الموقف يمقتون أنفسهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ) [ المؤمن : 10 ] ، كما يمقتون كل الذين كانوا لهم أنصاراً وخلاناً في الدنيا ، ويدعون عليهم ، ويطلبون لهم المزيد من العذاب ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا - وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا - رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) [ الأحزاب : 66-68 ] ، ولشدة حنقهم على من أضلهم يسألون الله أن يريهم الذين أضلوهم ليدوسوهم بأقدامهم ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ) [ فصلت : 29 ] ، وعندما يدخلون النار ترتفع أصواتهم بلعن بعضهم بعضاً ، ثم يتمنى بعضهم لبعض مزيداً من العذاب ( كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ) [ الأعراف : 38 ] . -------------------------------- (1) في ضلال القرآن : 4/2095 . (2) هذا جزء من حديث رواه مسلم وغيره ، انظر تفسير ابن كثير : (6/168) . (3) رواه مسلم في صحيحه : (4/2280) ورقمه : 2969 . (4) رواه مسلم في صحيحه : (4/2280) ورقمه : 2969 . (5) تفسير ابن كثير : (6/92) . |
حال عصاة المؤمنين ( الجزء الأول ) بعض المؤمنين قد يكون قارف في الدنيا ذنوباً توقعه في أهوال ومشقات وصعاب ، وسنعرض في هذا المبحث لذكر بعض العصاة وما يصيبهم في ذلك اليوم من البلاء . المطلب الأول الذين لا يؤدون الزكاة من حقوق الله الكبرى الزكاة ، وهي حق المال ، والذين لا يؤدون زكاة أموالهم يعذبون بهذه الأموال في الموقف العظيم ، وقد أخبرت النصوص أن عذابهم بها على وجـوه : الأول : أن يمثل لصاحب المال ماله شجاعاً أقرع ، له زبيبتان ، فيطوق عنقه ، ويأخذ بلهزمتي صاحبه ، قائلاً له : أنا مالك ، أنا كنزك ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته ، مثل ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ، يطوقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه : يعني بشدقيه ، ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك . ثم تلا : ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [ آل عمران : 180 ] " (1) . والشجاع الأقرع : الحية الذكر المتعمط شعر رأسه لكثر سمه ، والزبيبتان نقطتان سودوان فوق عيني الحية . الثاني :أن يؤتى بالمال نفسه الذي منع زكاته ، فإن كان من الذهب والفضة جعل صفائح من نار ، ثم عذب به صاحبه ، وإن كان المال حيواناً . إبلاً أو بقراً أو غنماً ، أرسل على صاحبه فعذب به ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ) [التوبة: 34-35]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت عليه ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار " . قيل : يا رسول الله ، فالإبل ؟ قال : " ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ، ومن حقها حلبها يوم وردها ، إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر (2) ، أوفر ما كانت ، لا يفقد منها فصيلاً واحداً ، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (3) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار " . قيل : يا رسول الله ، فالبقر والغنم ؟ قال : " ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي فيها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر ، لا يفقد منها شيئاً ، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء (4) ، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها ، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها (5) ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (6) . المطلب الثاني المتكبرون الكبر جريمة كبرى في حكم الله وشرعه ، والله يبغض أصحابها أشد البغض ، وعندما يبعث الله العباد يحشر المتكبرون في صورة مهينة ذليلة ، ففي الحديث الذي يرويه الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة ، في صور الرجال ، يغشاهم الذل من كل مكان " (7) .والذر صغار النمل ، وصغار النمل لا يعبأ به الناس ، فيطؤونه بأرجلهم وهم لا يشعرون . وكما يبغض الله المتكبرين يبغض أسماءهم التي كانوا يطلقونها على أنفسهم استكباراً واستعلاءً ، وتصبح هذه الأسماء التي كانوا يفرحون عند سماعها أنكر الأسماء وأخبثها ، وأغيظها على الله . روى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أخنع اسم عند الله يوم القيامة ، رجل تسمى ملك الأملاك " وزاد مسلم في رواية " لا مالك إلا الله عز وجل " . ورواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة بلفظ : " أغيظ رجل على الله يوم القيامة ، وأخبثه ، وأغيظه عليه ، رجل كان يسمى ملك الأملاك ، لا ملك إلا الله " (8) . قال القاضي عياض : أخنع : معناه أشد الأسماء صغاراً ، وقال ابن بطال : وإذا كان الاسم أذل الأسماء ، كان من تسمى به أشد ذلاً (9) . المطلب الثالث ذنوب لا يكلم الله أصحابها ولا يزكيهم وردت نصوص كثيرة ترهب من ذنوب توعد الله من ارتكبها بأن لا يكلمه في يوم القيامة ولا يزكيه ، وله عذاب أليم .فمن هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ، وهم الأحبار والرهبان والعلماء الذين يكتمون ما عندهم من العلم إرضاءً لحاكم ، أو تحقيقاً لمصلحة ، أو طلباً لعرض دنيوي ، ككتمان الأحبار والرهبان ما يعرفونه من كتبهم من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنكارهم لنبوته ، مع أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم . وقد قال الله في هؤلاء : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) [ البقرة : 174-175 ] . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ) [ البقرة : 174 ] . " وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا ، فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، أي لا يثني عليهم ، ولا يمدحهم ، بل يعذبهم عذاباً أليماً " (10) . وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجة ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي ، ورواه الحاكم بنحوه . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وفي رواية لابن ماجة قال : " ما من رجل يحفظ علماً فيكتمه إلا أتى يوم القيامة ملجوماً بلجام من نار " (11) . ومن الذين يغضب الله عليهم يوم القيامة ، فلا يكلمهم ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه ، ويشترون بأيمانهم ثمناً قليلاً ، فيحلفون الأيمان الكاذبة تحقيقاً لكسب دنيوي تافه ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ آل عمران : 77 ] . وقد ساق ابن كثير أحاديث كثيرة تتعلق بهذه الآية : منها الحديث الذي رواه مسلم وأهل السنن وأحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم " . قلت : يا رسول الله ، من هم ؟ خسروا وخابوا . قال : وأعاده رسول الله ثلاث مرات . قال : ( المسبل ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمنان ) . ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله – عز وجل – وهو عليه غضبان " . ومنها ما رواه البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلاً أقام سلعة له في السوق ، فحلف بالله لقد أعطي فيها ما لم يعطه ، ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت هذه الآية ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) [ آل عمران : 77 ] . ومنها ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ، ورجل خلف على سلعته بعد العصر ، يعني كاذباً ، ورجل بايع إماماً ، فإن أعطاه وفى له ، وإن لم يعطه لم يف له " وقال الترمذي : حديث حسن صحيح (12) . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم : رجل حلف على سلعته : لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب ، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم ، ورجل منع فضل ماء ، فيقول الله يوم القيامة : اليوم أمنعك فضلي ، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك " (13) . ومن الذنوب التي توعد الله عليها بعدم تكليم صاحبها ، وعدم نظره إليه ، وترك تزكيته ، غير ما تقدم ، الشيخ الزاني ، والملك الكذاب ، والعائل ( أي الفقير ) المستكبر ، والعاق لوالديه ، والمرأة المتشبهة بالرجال ، والديوث ، ومن أتى امرأته في دبرها ، ومن جر ثوبه خيلاء . ففي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا ينظر إليهم ، ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر " (14) . وفي مسند أحمد وسنن النسائي ، ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والديوث " (15) . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " رواه في ((شرح السنة)) (16) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه بطراً " (17) . وفيهما أيضاً عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " (18) . وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر منها شيئاً تخيلاً لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة (19) . المطلب الرابع الأثرياء المنعمون الذين يركنون إلى الدنيا ، ويطمئنون إليها ، ويكثرون من التمتع بنعيمها ، يضيق عليهم في يوم القيامة ، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذي يكثر شبعه في الدنيا ، يطول جوعه يوم القيامة ، ففي سنن الترمذي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه : " كف عنا جشاءك ، فإن أكثرهم شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة " (20) . كما أخبر أن أصحاب المال الكثير والمتاع الدنيوي الواسع يكونون أقل الناس أجراً في يوم القيامة ، ما لم يكونوا قد بذلوا أموالهم في سبل الخيرات ، ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : " إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة ، إلا من أعطاه الله تعالى خيراً ، فنفح فيه بيمينه وشماله ، وبين يديه ورائه ، وعمل فيه خيراً " (21) .وقلة الحسنات تؤخرهم ، وتجعل الآخرين يتقدمونهم ، بعدما كانوا في الدنيا مقدميين، ففي سنن ابن ماجة عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة ، إلا من قال بالمال هكذا ، وهكذا ، وكسبه طيب " (22) . وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الذين أثقلوا أنفسهم بالنعيم الدنيوي ، والغنى والثراء لا يستطيعون أن يتجاوزوا في يوم القيامة العقبات والأهوال ، ففي شعب الإيمان عن أم الدرداء قالت : قلت لأبي الدرداء : مالك لا تطلب كما يطلب فلان ؟ فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمامكم عقبة كؤوداً لا يجوزها المثقلون " (23) . -------------------------------- (1) البخاري . كتاب الزكاة . باب إثم مانع الزكاة . ورقمه : 1403 .ورواه مسلم : 987 مطولاً . (2) بطح لها بقاع قرقر : بسط لها ومد لها بأرض مستوية . (3) قال النووي في ((شرح مسلم)) : قوله صلى الله عليه وسلم : " كلما مر عليه أولاها ردّ عليه أخراها " هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع . قال القاضي عياض : قالوا : هو تغيير وتصحيف ، وصوابه ما جاء به في الحديث الآخر من رواية سهيل عن أبيه ، وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر : " كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها " وبهذا ينتظم الكلام . (4) العقصاء : الملتوية القرون ، والجلحاء : التي لا قرون لها . والعضباء : التي انكسر قرنها الداخل . (5)انظر التعليق (3) . (6) رواه مسلم في صحيحه ، في كتاب الزكاة ، باب إثم مانع الزكاة ، (2/680) ورقمه :987 ، والحديث في الصحاح والسنن عن أكثر من صحابي ، راجع جامع الأصول : 4/554 . (7) مشكاة المصابيح : (2/635) ورقمـه : 5112 ، وإسناده حسن كما قال محقق المشكاة . (8) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (2/619) ، ورقمه : 914 . (9) فتح الباري : (10/589) . (10) تفسير ابن كثير:(1/363) . (11) الترغيب والترهيب للحافظ المنذري : (1/97) . (12) انظر هذه الأحاديث في تفسير ابن كثير: (2/60) . (13) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد . باب قول الله تعالى: ( وجوهٌ يومئذٍ ناضرة ) [ القيامة : 22 ] فتح الباري : (13/419) . (14) صحيح الجامع الصغير : (3/73) ، ورقمه : 3064 . (15) صحيح الجامع الصغير : (3/74) ، ورقمه : 3066 . (16) مشكاة المصابيح : (2/184) ورقم الحديث : (3194) ، وقال فيه محقق المشكاة : ورواه النسائي في (الكبرى) ، وهو حديث صحيح . (17) مشكاة المصابيح : (2/472) ورقمه : 4311 . (18) مشكاة المصابيح : (2/472) ورقمه : 4312 . (19) وإسناده صحيح كما قال محقق مشكاة المصابيح : (2/474) ورقم الحديث: (4332) . (20) ساق الشيخ ناصر الدين الألباني طرق الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ورقم الحديث : (343) . (21) صحيح الجامع الصغير : (2/165) ، ورقمه : (1950) . (22) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (4/364) ، ورقمه : 1766 . (23) مشكاة المصابيح : (2/607) ورقمه : (5204) . وعزاه في صحيح الجامع إلى الحاكم أيضاً انظر : صحيح الجامع (2/178) ورقمه : 1997 . |
حال عصاة المؤمنين ( الجزء الثاني ) المطلب الخامس فضيحة الغادر عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء ، فقيل : هذه غدرة فلان ابن فلان " رواه مسلم (1) .والغادر : الذي يواعد على أمر ، ولا يفي به ، واللواء : الراية العظيمة ، لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب ، أو صاحب دعوة الجيش ، ويكون الناس تبعاً له (2) . فالغادر ترفع له راية تسجل عليها غدرته ، فيفضح بذلك يوم القيامة ، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة " (3) . وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة كلما ارتفعت الراية التي يفضح بها في يوم الموقف العظيم ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة " (4) ، وأمير العامة هو الحاكم أو الخليفة ، وكانت غدرته كذلك لأن ضرره يتعدى إلى خلق كثير ، ولأن الحاكم أو الوالي يملك القوة والسلطان فلا حاجة به إلى الغدر . وقد جعل الله العقاب بهذا اللون من العقوبة على طريقة ما يعهده البشر ويفهمونه ألا ترى قول شاعرهم : أسمي ويحك هل سمعت بغدرة ××× رفع اللواء لنا بها في المجمع فكانت العرب ترفع للغادر لواء في المحافل ومواسم الحج ، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته (5) . المطلب السادس الغلول الغلول هو الأخذ من الغنيمة على وجه الخفية ، وهو ذنب يخفي تحته شيئاً من الطمع والأثرة ، وقد توعد الله تبارك وتعالى الغال بفضحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، وذلك لتحميله ما غله في ذلك اليوم ( وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) [ آل عمران : 161 ] .يقول القرطبي في تفسير هذه الآية : " أي يأتي به حاملاً له على ظهره وعلى رقبته ، معذباً بحمله وثقله ، ومرعوباً بصوته ، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد " (6) . ومن الغلول غلول الحكام والموظفين والعمال والولاة من الأموال العامة ، وقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يحمل الغالون يوم القيامة ما غلوه في أكثر من حديث، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فذكر الغلول فعظمه ، وعظم أمره ، ثم قال : " لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة ، فيقول : يا رسول الله، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء ، يقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح ، فيقول : يا رسول الله، أغثني ، فأقول : لا أملك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رأسه رقاع تخفق ، فيقول : يا رسول الله ، أغثني ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت (7) ، فيقول : يا رسول الله ، فأقول : لا أملك لك شيئاً ، قد أبلغتك " متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم ، وهو أتم (8) . وأخرج الطبراني في ((معجمه الكبير)) ، والبيهقي في ((السنن)) والحميدي في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل عبادة بن الصامت على الصدقة ، ثم قال له : " اتق الله يا أبا الوليد أن تأتي يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك ، له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة لها ثؤاج " (9) . وقد ساق ابن كثير في تفسيره الأحاديث المرهبة من الغلول ، ومنها أحاديث غلول العمال من الصدقات ، وساق حديث أبي حميد الساعدي قال : " استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقال : " ما بال العامل نبعثه على عمل ، فيقول : هذا لكم ، وهذا لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه ، فينظر أيهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته . إن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر " رواه البخاري ومسلم (10) . المطلب السابع غاصب الأرض عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أخذ من الأرض شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين " (11) . المطلب الثامن ذو الوجهين شر الناس يوم القيامة المتلون الذي لا يثبت على حال واحدة وموقف واحد ، فيأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجدون شرَّ الناس يوم القيامة ذا الوجهين ، الذي يأتي هؤلاء بوجه ، وهؤلاء بوجه " (12) .ورد في بعض الأحاديث أن هذا الصنف من الناس يكون له لسان من نار يوم القيامة، فقد أخرج أبو داود واللفظ له ، والبخاري في الأدب المفرد ، والدارمي ، وأبو يعلى وغيرهم عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له وجهان في الدنيا كان له لسان من نار يوم القيامة " (13) . المطلب التاسع الحاكم الذي يحتجب عن رعيته روى أبو داود وابن ماجة والحاكم بإسناد صحيح عن أبي مريم الأزدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ولي من أمور المسلمين شيئاً ، فاحتجب دون خلتهم ، وحاجتهم ، وفقرهم ، وفاقتهم ، احتجب الله عنه يوم القيامة ، دون خلته ، وحاجته ، وفاقته ، وفقره " (14) . المطلب العاشر الذي يسأل وله ما يغنيه يبعث الذي كان يسأل الناس وله ما يغنيه ، وفي وجهه خموش أو كدوش ، فقد أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والدارمي وغيرهم عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل وله ما يغنيه ، جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجهه .قيل : يا رسول الله ، وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً ، أو قيمتها من الذهب " (15) . وفي مسند الإمام أحمد عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مسألة الغنى شين في وجهه يوم القيامة " (16) . المطلب الحادي عشر البصاق تجاه القبلة جهة القبلة محترمة مقدسة ، ولذا فقد جاءت الأحاديث ناهية عن استقبال القبلة واستدبارها حال البول والغائط .ومما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم البصاق تجاه القبلة ، وأخبرنا أن الذي يتنخم تجاه القبلة يأتي يوم القيامة ونخامته في وجهه ، فقد روى البزار في مسنده ، وابن حبان ، وابن خزيمة في صحيحيهما عن ابن عمر قال : " تبعث النخامة في القبلة يوم القيامة ، وهي في وجه صاحبها " (17) . وروى أبو داود في ((سننه)) وابن حبان في ((صحيحه)) عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه " ، وإسناده صحيح (18) . المطلب الثاني عشر من كذب في حلمه يعاقب الذي يكذب في حلمه يوم القيامة بأن يكلف بأن يعقد بين شعيرتين ، والذي يستمع إلى قوم وهم كارهون يعاقب بأن يصب الآنك في أذنيه يوم القيامة ، والآنك الرصاص .روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تحلم بحلم لم يره كلِّف أن يعقد بين شعيرتين ، ولن يفعل ، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون ، أو يفرون منه ، صب في أذنه الآنك يوم القيامة " (19) . -------------------------------- (1) صحيح مسلم ، (3/1359) ورقمه : 1735 ، والحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم . (2) شرح النووي على مسلم : (11/42) . (3) صحيح مسلم : (3/1361) ، ورقم الحديث : 1738 . (4) المصدر السابق . (5) التذكرة للقرطبي : 297 . (6) تفسير القرطبي : (4/256) . (7) الصامت : الذهب والفضة . (8) مشكاة المصابيح : (2/401) . ورقم الحديث : 3995 . (9) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/537) ، ورقمه : (758). والحديث صحيح . (10) تفسير ابن كثير : (2/145) . (11) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض ، فتح الباري : (5/103) . (12) مشكاة المصابيح : (2/578) ، ورقمه : 4820 . (13) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (2/584) ، ورقمه : (892) . (14) صحيح الجامع الصغير : (5/368) ، ورقم الحديث : 6471 . (15) سلسلة الأحاديث الصحيحة : ورقم الحديث : (499) . (16) صحيح الجامع الصغير : (5/208) ورقمه : 5747 ، وقال المحقق فيه : صحيح . (17) صحيح الجامع الصغير : (3/33) ورقمه : 2907 ، وقال الشيخ ناصر فيه : صحيح ، وانظر كلام الشيخ ناصر الدين الألباني على الحديث في ( سلسلة الأحاديث الصحيحة ) حديث رقم : 223 . (18) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، ورقم الحديث : 222 . (19) صحيح البخاري ، كتاب تعبير الرؤيا ، باب من كذب في حلمه ، فتح الباري : (12/427) |
حال الأتقياء ( الجزء الأول ) المطلب الأول يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون صنف من عباد الله لا يفزعون عندما يفزع الناس ، ولا يحزنون عندما يحزن الناس ، أولئك هم أولياء الرحمن الذين آمنوا بالله ، وعملوا بطاعة الله استعداداً لذلك اليوم ، فيؤمنهم الله في ذلك اليوم ، وعندما يبعثون من القبور تستقبلهم ملائكة الرحمن تهدئ من روعهم ، وتطمئن قلوبهم ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ - لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ - لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ )[ الأنبياء : 101-103 ] ، والفزع الأكبر ، هو ما يصيب العباد عندما يبعثون من القبور ، ( إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ) [ إبراهيم : 42 ] .ففي ذلك اليوم ينادي منادي الرحمن أولياء الرحمن مطمئناً لهم ( يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ) [الزخرف: 68-69] وقال في موضع آخر : ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) [ يونس : 62-64 ] . والسر في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده الأتقياء ، أن قلوبهم كانت في الدنيا غامرة بمخافة الله ، فأقاموا ليلهم ، وأظمؤوا نهارهم ، واستعدوا ليوم الوقوف بين يدي الله، فقد حكى عنهم ربهم أنهم كانوا يقولوه : ( إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ) [الإنسان : 10] ، ومن كان حاله كذلك فإن الله يقيه من شر ذلك اليوم ويؤمنه ، ( فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا - وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) [الإنسان : 11-12] . وفي الحديث الذي يرويه أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين ، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي ، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي " (1) . وكلما كان العبد أكثر إخلاصاً لربه تبارك وتعالى كان أكثر أمناً في يوم القيامة ، فالموحدون الذين لم يلبسوا إيمانهم بشيء من الشرك ، لهم الأمن التام يوم القيامة ، يدلك على هذا جواب إبراهيم لقومه عندما خوفوه بأصنامهم ، فأجابهم قائلاً : ( وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ - الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ )[ الأنعام : 81-82 ] . المطلب الثاني الذين يظلهم الله في ظله عندما يكون الناس في الموقف العظيم تحت وهج الشمس القاسي ، يذوقون من البلاء شيئاً تنوء بحمله الجبال الشم الراسيات – يكون فريق من الأخيار هانئين في ظل عرش الرحمن ، لا يعانون الكربات التي يقاسي منها الآخرون .وهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية ، والعزائم الصادقة ، الذين تمثلت فيهم عقيدة الإسلام ، وقيمه الفاضلة , أو قاموا بأعمال جليلة ، لها في مقياس الإسلام وزن كبير . فمن هؤلاء : الإمام العادل ، الذي يملك القوة والسلطان ، ولكنه لم يطغ ، وأقام العدل بين العباد وفق سلطان الشرع الإلهي . ومنهم الشاب الذي نشأ في عبادة ربه ، وألجم نفسه بلجام التقوى ، وردع النفس والهوى ، فعاش عمره طاهراً نقياً . ومنهم الذين يعمرون مساجد الله ، يجدون في رحابها الأنس بالله ومناجاته ، فلا يكادون يفارقونها حتى يحنوا إلى رحابها . ومن هؤلاء المتحابون في الله تبارك وتعالى ، تجمعهم رابطة الأخوة فيه ، ويجتمعون على البر والتقوى والصلاح ، ويتفرقون على عمل صالح . ومنهم الذين تعرض لهم فتنة النساء ، فيحول خوف الله بينهم وبين الوقوع في الفاحشة . ومنهم المنفق الذي يخلص في دينه لله ، فيخفي الصدقة حتى عن نفسه . ومنهم الذي تملأ مخافة الله قلبه ، فتفيض عيناه من أجل ذلك وهو وحيد ليس معه أحد . روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، الإمام العادل ، وشاب ينشأ في عبادة ربه ، ورجل قلبه معلق في المساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " (2) . وقد جاءت نصوص كثيرة تدل على إظلال الله للمتحابين فيه في ظل العرش في ذلك اليوم منها حديث أبي هريرة عند مسلم ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ، اليوم أظلهم في ظلي ، يوم لا ظل إلا ظلي " (3) . وفي معجم الطبراني الكبير ومسند أحمد ، وصحيح ابن حبان ، ومستدرك الحاكم ، عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المتحابين في الله في ظل العرش " (4) . وفي كتاب ((الإخوان)) لابن أبي الدنيا بإسناد صحيح عن عبادة ابن الصامت ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : " حقت محبتي على المتحابين ، أظلهم في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظلي " (5) . والإضلال في ظل العرش لي مقصوراً على السبعة المذكورين في الحديث ، فقد جاءت النصوص كثيرة تدل على أن الله يظل غيرهم ، وقد جمع ابن حجر العسقلاني الخصال التي يظل الله أصحابها في كتاب سماه : (( معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال )) (6) . ومن هذه الخصال إنظار المعسر أو الوضع عنه ، ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي اليسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أنظر معسراً أو وضع عنه ، أظله الله في ظله " (7) . وفي مسند أحمد وسنن الدارمي بإسناد صحيح عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه ، كان في ظل العرش يوم القيامة " (8) . المطلب الثالث الذين يسعون في حاجة إخوانهم ويسدون خلتهم من أعظم ما يفرج كربات العبد في يوم القيامة سعي العبد في الدنيا في فك كربات المكروبين ، ومساعدة المحتاجين ، والتيسير على المعسرين ، وإقالة عثرات الزالين ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومنم يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " (9) .وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه ، كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة " (10) . وروى الدينوري في ((المجالسة)) والبيهقي في ((الشعب)) والضياء في ((المختارة)) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة " (11) . المطلب الرابع الذين ييسرون على المعسرين روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان رجل يداين الناس ، فكان يقول لفتاه : إذا أتيت معسراً تجاوز عنه ، لعل الله أن يتجاوز عنا ، فلقي الله فتجاوز عنه " (12) .وروى النسائي وابن حبان والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن رجلاً لم يعمل خيراً قط ، وكان يداين الناس ، فيقول لرسوله : خذ ما تيسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز ، لعل الله يتجاوز عنا . فلما هلك قال : هل عملت خيراً قط ؟ قال : لا ، إلا أنه كان لي غلام ، وكنت أداين الناس ، فإذا بعثته يتقاضى قلت له : خذ ما تيسر ، واترك ما عسر ، وتجاوز ، لعل الله أن يتجاوز عنا . قال الله : قد تجاوزت عنك " (13) . وفي مستدرك الحاكم بإسناد صحيح عن حذيفة ، وعقبة بن عامر ، وأبي مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتى الله عز وجل بعبد من عباده آتاه الله مالاً ، فقال له : ماذا عملت في الدنيا ؟ فقال : ما عملت من شيء يا رب ، إلا إنك آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس ، وكان من خلقي أن أيسر على الموسر وأنظر المعسر . قال الله تعالى : أنا أحق بذلك منك ، تجاوزوا عن عبدي " (14) . المطلب الخامس الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولّوا العادلون في يوم القيامة في مقام رفيع ، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن المقسطين عند الله على منابر من نور ، عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " (15) .-------------------------------- (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (2/377) ، ورقمه : 742 ، وإسناده حسن . (2) صحيح البخاري ، كتاب الأذان ، باب من جلس في المسجد ، فتح الباري : (2/143). ورواه مسلم : (2/715) ، ورقمه : (1031) والسياق للبخاري . (3) رواه مسلم : (4/1988) ، ورقمه : 2566 . (4) صحيح الجامع الصغير : (2/161) ورقمه : 1933 . (5) صحيح الجامع الصغير : (4/116) . (6) فتح الباري : (2/144) . (7) صحيح مسلم : (4/2302) ، ورقمه : 3006 . (8) صحيح الجامع الصغير : (4/364) ، ورقمه : 1452 . (9) مشكاة المصابيح : (1/71) ورقم الحديث : 204 . (10) صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، باب لا يظلم المسلم المسلم ، فتح الباري : (5/97) . (11) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/218) ، ورقم الحديث : 1217 . (12) مشكاة المصابيح : (2/108) ، ورقم الحديث : (2899) . (13) صحيح الجامع الصغير : (2/204) ، ورقم الحديث : 2073 . (14) صحيح الجامع الصغير : (1/92) ، ورقم الحديث : 124 . (15) صحيح مسلم : (3/1458) ، ورقم الحديث : 1827 . |
حال الأتقياء ( الجزء الثاني ) المطلب السادس الشهداء والمرابطون إذا فزع الناس في يوم القيامة فإن الشهيد لا يفزع ، ففي سنن الترمذي وابن ماجة عن المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للشهيد عند الله ست خصال : يغفر له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقربائه " (1) .والشاهد في الحديث أن الشهيد يأمن من الفزع الأكبر ، وهو فزع يوم القيامة . ومثل الشهيد المرابط في سبيل الله ، فإنه إذا مات وهو مرابط أمَّنه الله من الفزع الأكبر ، فقد روى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم خير من صيام دهر ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر ، وغدي عليه برزقه ، وريح عليه من الجنة ، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله " (2) . ومن إكرام الله للشهيد يوم القيامة أن الله يبعثه وجرحه يتفجر دماً اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يُكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله ، إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم ، والريح ريح المسك " (3) . وروى الترمذي والنسائي وأبو داود بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من قاتل في سبيل الله فواق (4) ناقة ، فقد وجبت له الجنة ، ومن جرح جرحاً في سبيل الله ، أو نكب نكبة (5) ، فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت ، لونها الزعفران ، وريحها المسك " (6) . قال ابن حجر : " قال العلماء : الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهد بفضيلته ببذله نفسه في طاعة الله تعالى (7) . المطلب السابع الكاظمون الغيظ كثيرة هي المواقف العصيبة التي يصيب العبد فيها الأذى ، وقد يكون مصدره قريب أو صديق أو محسن إليه ، ولا شك أن الأذى مسموع أو المرئي أو المحسوس الذي يصيبنا يسبب لنا ألماً في أعماقنا ، فتجيش نفوسنا بأنواع الانفعالات التي تدعونا إلى المواجهة الحادة ، وضبط النفس في مثل هذه الأحوال لا يملكه إلا أفذاذ الرجال .إن الإسلام يعدُّ كظم الغيظ خلقاً إسلامياً راقياً يستحق صاحبه التكريم ، فالجنة التي عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، وكظم الغيظ في مقدمة صفات المتقين ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران : 133-134] . وفي يوم القيامة يدعو رب العزة من كظم غيظه على رؤوس الخلائق ، ثم يخيره في أي الحور العين شاء ، روى الترمذي وأبو داود عن سهل بن معاذ بن جبل عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كظم غيظاً ، وهو يقدر أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور العين شاء " (8) . المطلب الثامن عتق الرقاب المسلمة من الأعمال الكريمة التي يتمكن صاحبها من اقتحام العقبات الكأداء في يوم القيامة ، عتق الرقاب قال تعالى : ( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ) [البلد : 11-13] .وقد ساق ابن كثير في تفسير هذه السورة النصوص الحديثية التي توضح هذه الآيات قال الإمام أحمد : حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند ، عن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير ، عن سعيد بن مرجانة ، أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب – أي عضو – منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج " . فقال علي بن الحسين : أأنت سمعت هذا من أبي هريرة ؟ فقال سعيد : نعم . فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه : ادع مطرفاً ، فلما قام بين يديه قال : اذهب فأنت حر لوجه الله ، وقد رواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من طرق عن سعيد بن مرجانة به وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم . وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن أبي نجيح قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أيما مسلم أعتق رجلاً مسلماً ، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظماً من عظام محرره من النار ، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظماً من النار " ، رواه ابن جرير ، هكذا ، وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه . وقال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بجير ابن سعد عن خالد بن معدان ، عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بنى مسجداً ليذكر الله فيه ، بنى الله له بيتاً في الجنة . ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم ، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة ". وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا حريز عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة : حدثنا حديثاً ليس فيه تزيد ولا نسيان . قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة ، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل " وروى أبو داود والنسائي بعضـه . وقال أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي قال : قلت له حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم قال : سمعته يقول : " من ولد له ثلاث أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة ، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له كعدل رقبة ، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار ، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها " وهذه أسانيد جيدة قوية ، ولله الحمد . وقال أبو داود : حدثنا عيسى بن محمد الرملي ، حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش الديلمي ، قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فغضب وقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته ، فيزيد وينقص ، قلنا : إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب – يعني النار – بالقتل ، فقال : " اعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضواً في النار " . وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش الديلمي ، عن واثلة به . وقال أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن قيس الجذامي ، عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار " . وحدثنا عبد الوهاب الخفاف ، عن سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا أن قيساً الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار " تفرد به أحمد من هذا الوجه . وقال الإمام أحمد : حدثنا يحي بن آدم وأبو أحمد ، قالا : حدثنا عيسى ابن عبد الرحمن البجلي ، من بني بجيلة ، من بني سليم ، عن طلحة بن مصرف ، عن عبد الرحمن بن عوسجة ، عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، علمني عملاً يدخلني الجنة فقال : " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة " . فقال : يا رسول الله ، أوليستا بواحدة ؟ قال : " لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها ، والمنحة الوكوف ، والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذلك ، فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك ، فكف لسانك إلا من الخير " (9) . المطلب التاسع فضل المؤذنين من الذين يظهر فضلهم يوم القيامة المؤذنون ، فهم أطول الناس أعناقاً في ذلك اليوم، روى مسلم في صحيحه عن معاوية بن أبي سفيان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة " (10) . وطول العنق جمال ، ثم هو مناسب لما قاموا به من عمل حيث كانوا يبلغون الناس بأصواتهم كلمات الأذان التي تعلن التوحيد وتدعو للصلاة .والمؤذن يشهد له في ذلك اليوم كل شيء سمع صوته عندما كان يرفع صوته بالأذان في الدنيا ، روى البخاري في صحيحه أن أبا سعيد الخدري قال لعبد الرحمن بن صعصعة : " إني أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذَّنت في الصلاة ، فارفع بالنداء ، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة " (11) . المطب العاشر الذين يشيبون في الإسلام يكون الشيب نوراً لصاحبه إذا كان مسلماً في يوم القيامة ، كما صحت بذلك الأحاديث ، ففي سنن الترمذي والنسائي عن كعب بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " (12) .وفي مسند أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن حبان عن عمرو بن عبسة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة " (13) . وروى البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيب نور المؤمن ، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ، ورفع بها درجة " (14) . وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: " لا تنتفوا الشيب ، فإنه نور يوم القيامة ، من شاب شيبة في الإسلام كانت له بكل شيبة حسنة ، ورفع بها درجة " رواه ابن حبان بإسناد حسن (15) . وروى ابن عدي والبيهقي في الشعب عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الشيب نور في وجه المسلم ، فمن شاء فلينتف نوره " (16) . المطلب الحادي عشر فضل الوضوء الذين استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأقاموا الصلاة ، وأتوا بالوضوء كما أمرهم نبيهم يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أمتي يُدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء " (17) .قال ابن حجر : " ( غراً ) جمع أغر ، أي ذو غُرّة ، وأصل الغرة لمعة ببيضاء تكون في جبهة الفرس ، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر ، والمراد بها هنا النور الكائن في وجه أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وغُرّاً منصوب على المفعولية ليُدعون أو على الحال . أي أنهم إذا دعوا على رؤوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف ، وكانوا على هذه الصفة . وقوله : ( محجلين ) من التحجيل ، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس ، وأصله من الحِجل بكسر الحاء وهو الخلخال ، والمراد به هنا أيضاً النور " (18) . وهذه الغرة وذلك التحجيل تكون للمؤمن حلية في يوم القيامة ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (19) . وبهذه الحلية النورانية تتميز هذه الأمة في يوم القيامة ، وبها يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من بين الخلائق ، لا فرق بين أصحابه وغيرهم ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى مقبرة فقال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وودت أنا قد رأينا إخواننا " . قالوا : أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : " أنتم أصحابي ، إخواننا الذين لم يأتوا بعد " . فقالوا : كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله ؟ فقال : " أرأيت لو أن رجلاً له خير غر محجلة ، بين ظهري خيل دهم بهم ، ألا يعرف خيله ؟ " . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم (20) على الحوض " (21) . وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك " . فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : " هم غرٌّ محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم " (22) . -------------------------------- (1) مشكاة المصابيح : (2/358) ، ورقم الحديث : 3834 ، وقال فيه محقق المشكاة : إسناده صحيح . (2) صحيح الجامع الصغير : (3/171) ، ورقم الحديث : 3473 . (3) صحيح البخاري ، كتاب الجهاد ، باب من يجرح في سبيل الله ، فتح الباري : (6/20) . (4) الفواق : ما بين الحلبتين . (5) أي أصيب بنكبة ، أي حادثة . (6) مشكاة المصابيح : (2/355) ، ورقم الحديث : 3825 . (7) فتح الباري : (6/20) . (8) مشكاة المصابيح : (2/631) ، ورقمه 5088 ، وحسن الشيخ ناصر إسناده في صحيح الجامع (5/353) . ورقم الحديث فيه : 6398 ، وعزاه إلى أحمد والطبراني ، وانظر رقم : 6394 في صحيح الجامع . (9) تفسير ابن كثير : (7/295) . (10) صحيح مسلم : (4/290) ، ورقم الحديث : 387 . (11) صحيح البخاري ، كتاب التوحيد ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الماهر بالقرآن .. " . فتح الباري : (13/518) . (12) صحيح الجامع الصغير : (5/304) ورقم الحديث : 6183 ، وعلم عليه الشيخ ناصر بالصحة . (13) صحيح الجامع الصغير : (5/304) ورقم الحديث : 6184 ، والحديث صحيح كما قال محقق الكتاب . (14) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/247) ، ورقم الحديث : 1243 . (15) المصدر السابق . (16) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/247) ، ورقم الحديث : 1244 . (17) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/247) ، ورقم الحديث : 1244 . (18) فتح الباري : (1/236) . (19) مشكاة المصابيح : (1/96) ورقم الحديث : 291 . (20) أي سابقهم . (21) مشكاة المصابيح : (1/98) ، ورقم الحديث : 298 . (22) مشكاة المصابيح : (1/99) ، ورقم الحديث : 299 . |
الشفاعة عندما يشتد البلاء بالناس في الموقف العظيم ويطول بحث العباد عن أصحاب المنازل العالية ليشفوا لهم عند ربهم ، كي يأتي ربنا لفصل الحساب وتخليص الناس من كربات الموقف وأهواله ، فيطلبون من أبيهم آدم أن يقوم بهذه المهمة الكبيرة ، ويذكِّرونه بفضله وإكرام الله له ، فيأبى منها ، ويحيلهم إلى نوح أول رسول أرسله الله إلى البشر ، الذي سماه الله عبداً شكوراً ، فيأبى ويذكر ما كان منه من تقصير في بعض الأمور تجاه ربه ومولاه . وهكذا يحيلهم إلى من بعده من أولي العزم من الرسل ، والآخر يدفعها إلى من بعده ، حتى يأتوا الرسول الخاتم : محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .فيقوم الرسول صلى الله عليه وسلم مقاماً يحمده عليه الأولون والآخرون ، وتظهر به منزلته العظيمة ، ودرجته العالية ، فيستأذن على ربه فيأذن له ، ويحمده ويمجِّده ، ويسأله في أمته ، فيستجيب له ، ذلك أن الله أعطى كل نبي دعوة في أمته لا ترد ، وقد استعجل كل نبي تلك الدعوة في الدنيا ، واختبأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته إلى ذلك الموقف الذي تحتاج فيه أمته إلى دعوته ، فصلوات الله وسلامه عليه ، فإنه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، كما وصفه ربه ، وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل نبي يسأل سؤالاً أو قال : لكل نبي دعوة دعاها لأمته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " (1) . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي دعوة دعا بها في أمته ، وخبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " (2) . وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجَّل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً " (3) . وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " (4) . المبحث الأول أحاديث الشفاعة وقد جاءت أحاديث كثيرة تصف الشفاعة العظمى ، وسنكتفي بإيراد ما جمعه ابن الأثير منها في جامع الأصول (5) .1- روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن معبد بن هلال العنزي قال : " انطلقنا إلى أن بن مالك ، وتشفَّعنا بثابتٍ ، فانتهينا إليه وهو يصلي الضحى ، فاستأذن لنا ثابت ، فدخلنا عليه ، وأجلس ثابتاً معه على سريره فقال له : يا أبا حمزة ، إن إخوانك من أهل البصرة يسألونك أن تُحدِّثهم حديث الشفاعة . فقال : حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون : اشفع لذريتك ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ، فإنه خليل الله ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله ، فيؤتى موسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه رُوح الله وكلمته ، فيؤتى عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد . فأوتى فأقول : أنا لها ، ثم أنطلق فاستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه ، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها ، ثم أخر لربنا ساجداً ، فيقول : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفَّع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي، فيقول : انطلق فمن كان في قلبه حبة من برةٍ أو شعيرةٍ من إيمانٍ فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل . ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخرُّ له ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفَّع ، فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردلٍ من إيمان فأخرجه منها ، فأنطلق فأفعل . ثم أعود إلى ربي أحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقال لي : انطلق ، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل " . هذا حديث أنس الذي أنبأنا به ، فخرجنا من عنده ، فلما كنا بظهر الجبَّان (6) ، قلنا : لو مِلنا إلى الحسن فسلَّمنا عليه وهو مستخفٍ في دار أبي خليفة ؟ قال : فدخلنا عليه ، فسلمنا عليه ، قلنا : يا أبا سعيد ، جئنا من عند أخيك أبي حمزة ، فلم نسمع بمثل حديثٍ حدثناه في الشفاعة ، قال : هيه ، فحدَّثناه الحديث ، فقال: هيه ، قلنا : ما زادنا ؟ قال : قد حدثنا به منذ عشرين سنة ، وهو يومئذ جميع (7) ، ولقد ترك شيئاً ما أدري : أنسي الشيخ ، أم كره أن يحدثكم فتتكلوا ؟ قلنا له : حدثنا ، فضحك ، وقال : خلق الإنسان من عجل ، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه . قال : " ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ، ثم أخر له ساجداً ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله ، قال : فليس ذلك لك ، أو قال : ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله " ، قال فأشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك – أُراه قال : قبل عشرين سنة – وهو يومئذ جميع . وفي رواية قتادة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيهتمون لذلك – وفي رواية : فيلهمون لذلك – فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، حتى يريحنا من مكاننا هذا ؟ قال : فيأتون آدم ، فيقولون : أنت آدم أبو الخلق ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا ، فيقول : لست هناكم ، فيذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربَّه منها ، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . قال : فيأتون نوحاً ، فيقول : لست هناكم ، فيذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربَّه منها ، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست هناكم ، وذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربَّه منها ، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله وأعطاه التوراة . قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، فيستحي ربَّه منها ، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته ، فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمداً ، عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيأتونني ، فاستأذن على ربي ، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله ، فيقال : يا محمد ، ارفع ، قل يسمع ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ، ثم أشفع ، فيُحدّ لي حداً ، فأخرجهم من النار ، وأدخلهم الجنة ، ثم أعود فأقع ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال لي : ارفع يا محمد ، قل يسمع ، سل تعطه ، اشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع ، فيحد لي حداً ، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة . قال : فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول : يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أو وجب عليه الخلود " أخرجه البخاري ومسلم . وأخرجه البخاري تعليقاً : عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يحبس المؤمن يوم القيامة . وذكر نحوه ، وفي آخره : ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن – أي أوجب عليه الخلود – ثم تلا هذه الآية : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا )[ الإسراء : 79 ] ، قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم " . زاد في رواية : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برَّة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " . قال يزيد بن زُريع : فلقيت شعبة ، فحدثته بالحديث ، فقال شعبة : حدثنا به قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث ، إلا أن شعبة جعل مكان (( ذُرَةً )) . قال يزيد : صحف فيها أبو بسطام ، كذا في كتاب مسلم من رواية يزيد عن شعبة . قال البخاري : وقال أبان عن قتادة بنحوه . وفيه (( من إيمان )) مكان (( خير )) زاد في رواية : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال – في حديث سؤال المؤمنين الشفاعة – " فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه " وللبخاري طرف منه عن حميد عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان يوم القيامة شفعت ، فقلت: يا ربِّ أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة ، فيدخلون ، ثم أقول : أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء . قال أنس : كأني أنظر إلى أصابع النبي صلى الله عليه وسلم " (8) . 2- وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة ، فرفع إليه الذراع – وكانت تعجبه – فنهس منها نهسة (9) ، وقال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، هل تدرون : مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيبصرهم الناظر ، ويسمعهم الداعي ، وتدنو منهم الشمس ، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس : ألا ترون إلى ما أنتم فيه ، إلى ما بلغكم ، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم . فيأتونه ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا ؟ فقال : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح . فيأتون نوحاً ، فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبداً شكوراً ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى إلى ما بلغنا ؟ ألا تشفع لنا عند ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه قد كان لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله ، وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، أما ترى ما نحن فيه ؟ فيقول لهم : إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله ، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات .. فذكرها ، نفسي ، نفسي ، نفسي اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى . فيأتون موسى فيقولون : أنت رسول الله ، فضّلك برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، أما ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى . فيأتون عيسى فيقولون : أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروحٌ منه ، وكلمت الناس في المهد ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ فيقول عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنباً ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمـد . فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم – وفي رواية : فيأتوني – فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي ، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك سل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، فيقال : يا محمد ، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ، كما بين مكة وهجر – أو كما بين مكة وبصرى – وفي كتاب البخاري . كما بين مكة وحمير . وفي رواية قال : " وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة من ثريد ولحم ، فتناول الذراع – وكانت أحب الشاة إليه – فنهس نهسة ، فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، ثم نهس أخرى ، فقال : أنا سيد الناس يوم القيامة ، فلما رأى أصحابه لا يسألونه ، قال : ألا تقولون : كيفه ؟ قالوا : كيفه يا رسول الله ؟ قال : يقوم الناس لرب العالمين .. وساق الحديث بمعنى ما تقدم ، وزاد في قصة إبراهيم ، فقال : وذكروا قوله في الكوكب : هذا ربي ، وقوله لآلهتهم ، بل فعله كبيرهم هذا ، وقوله : إني سقيم ، وقال : والذي نفس محمد بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر ، أو هجر ومكة ، لا أدري أي ذلك قال ؟ " . أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ، إلا أن في كتاب مسلم " نفسي نفسي " مرتين في قول كل نبي ، والحميدي ذكر كما نقلناه ، وفي رواية الترمذي " نفسي ، نفسي ، نفسي " ثلاثاً في الجميع (10) . 3- وروى مسلم عن حذيفة بن اليمان ، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله تبارك وتعالى الناس ، فيقوم المؤمنون حتى تُزلف لهم الجنة ، فيأتون آدم ، فيقولون : يا أبانا ، استفتح لنا الجنة ، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ؟ ليست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله . قال : فيقول إبراهيم : ليست بصاحب ذلك ، إنما كنت خليلاً من وراءَ وراءَ ، اعمدوا إلى موسى الذي كلمه تكليماً ، قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه ، فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك ، فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيقوم ، فيؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمر أولكم كالبرق . قال : قلت : بأبي وأمي ، أي شيء كالبرق ، قال : ألم تروا إلى البرق كيف يمرّ ويرجع في طرفة عين ؟ ثم كمر الريح ، ثم كمطر الطير ، وشد الرجال ، تجري بهم أعمالهم ، ونبيكم قائم على الصراط ، فيقول : رب سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد ، حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً ، قال : وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة ، تأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ، ومكدوس (11) في النار ، والذي نفس أبي هريرة بيده ، إن قعر جهنم لسبعين (12) خريفا " (13) . 4- روي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، فقال : فيفزع الناس ثلاث فزعات ، فيأتون آدم ، فيقولون : أنت أبونا آدم ، فاشفع لنا إلى ربك ، فيقول : إني أذنت ذنباً فأهبطت به إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحاً . فيأتون نوحاً ، فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأُهلكوا ، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون إبراهيم ، فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منها كذبة إلا ماحل (14) بها عن دين الله ، ولكن ائتوا موسى ، فيأتون موسى ، فيقول : قد قتلت نفساً ، ولكن ائتوا عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقول : إني عُبدت من دون الله ، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، فانطلق معهم . قال ابن جدعان : قال أنس : فكأني أنظر إلى رسول الله ، قال : فآخذ بحلقة باب الجنة ، فأقعقعها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال : محمد ، فيفتحون لي ويرحبون ، فيقولون : مرحباً ، فأخر ساجداً ، فيلهمني الله من الثناء والحمد ، فيقال لي : ارفع رأسك ، سل تعط ، واشفع تشفع ، وقل يُسمع لقولك ، وهو المقـام المحمود الذي قـال الله تعالى : ( عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ) [ الإسراء : 79 ] قال سفيان : ليس عن أنس إلا هذه الكلمة " فآخُذُ بحلقة باب الجنة فأُقعْقِعُها " أخرجه الترمذي (15) . -------------------------------- (1) جامع الأصول : 10/475 ، ورقم الحديث : 8009 . (2) جامع الأصول :10/467 ، ورقم الحديث : 8010 . (3) جامع الأصول : 10/476 ، ورقم الحديث : 8011 . (4) جامع الأصول : 10/476 ، ورقم الحديث: 8012 وإسناده صحيح كما قال محقق الكتاب . (5) جامع الأصول : 10/477 ، وقد أبقينا تخريج محقق الكتاب على حاله في الهامش . (6) الجبان، والجبانة : المقابر . (7) رجل جميع ، أي : مجتمع الخلق قوي ، لم يهرم ، ولم يضعف . (8) رواه البخاري 13/395 –397 في التوحيد ، باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ، وباب قول الله تعالى : ( لما خلقت بيدي ) ، وباب قوله تعالى : ( وكلم الله موسى تكليماً ) وفي تفسير سورة البقرة ، باب قول الله تعالى : " ( وعلَّم آدم الأسماء كلها ) ، وفي الرقاق ، باب صفة الجنة والنار ،ومسلم رقم 193 في الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها . (9) النهس : أخذ اللحم بمقدم الأسنان . (10) رواه البخاري : 6/264 و 265 في الأنبياء ، باب قول الله عز وجل : ( ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ) ، وباب قوله تعالى : ( واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) وفي تفسير سورة بني إسرائيل باب ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً ) ، ومسلم رقم : 194 في الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، والترمذي رقم : 2436في صفة القيامة ، باب ما جاء في الشفاعة . (11) وفي بعض النسخ ومكردس . (12) وفي بعض النسخ : لسبعون ، وكلاهما صحيح ، وانظر ما قاله النووي في شرح مسلم . (13) صحيح مسلم ، رقم: 195 في الإيمان ، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها . (14) المماحلة : المخاصمة والمجادلة . (15) سنن الترمذي ، رقم : 3147 في التفسير ، باب ومن سورة بني إسرائيل ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، وهو كما قال . |
وجه الاستدلال بالأحاديث على الشفاعة العظمى الناظر في هذه الأحاديث يجد أن المؤمنين يرغبون إلى الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم كي يخلصوهم من الموقف العظيم ، إلا أننا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يشفع إنما يشفع في أمته .قال شارح الطحاوية بعد إيراده لبعض أحاديث الشفاعة التي سقناها : " والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، كما ورد في حديث الصور ، فإنه المقصود في هذا المقام ، ومقتضى سياق أول الحديث ، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ، ويستريحوا من مقامهم ، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكأن مقصود السلف – في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث – هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح من الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث " (1) ثم ساق مضمون حديث الصور . وفي كلام محمد بن محمد بن أبي العز الحنفي عدة أمور : 1- أنه أكد وجود هذا الإشكال في هذه الأحاديث ، وممن ذكر هذا الإشكال ابن حجر العسقلاني ، ونقله عن الدراوردي ، فإنه قال : " كأن راوي هذا الحديث ركب شيئاً على غير أصله ، وذلك أن في أول ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف ، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار ، يعني وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط ، وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار ، ثم يقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج " (2) قال ابن حجر بعد نقله كلام الدراوردي " وهو إشكال قويٌّ " (3) . 2- وقد أجاب شارح الطحاوية عن هذا الإشكال – كما نقلناه عنه – أن الذين نقلوا هذه النصوص قصَّروا في النقل ، وسر هذا التقصير أنهم قصدوا الرد على الخوارج الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، وزعموا أن كل من دخل النار فإنه فيها خالد ، واحتج على ما ذهب إليه بحديث الصور الذي يصرح فيه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشفع أولاً كي يأتي الحق للقضاء بين الناس ، ثم يشفع مرة أخرى لدخول الجنة ، ولو كان حديث الصور هذا صحيحاً لكان فيه حل لهذا الإشكال ، ولكنه حديث ضعيف كما بينه الشيخ ناصر الدين الألباني في تحقيقه لأحاديث الطحاوية . ولعل ما ذهب إليه القاضي عياض وتابعه النووي وابن حجر وغيرهما عليه أكثر دقة وتوفيقاً مما قاله شارح الطحاوية ، قال ابن حجر : " وقد أجاب عن هذا الإشكال عياض وتبعه النووي وغيره بأنه قد وقع في حديث حذيفة المقرون بحديث أبي هريرة بعد قوله : " فيأتون محمداً ، فيقوم ويؤذن له " أي في الشفاعة ، وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمر أولكم كالبرق " الحديث ، قال عياض : فبهذا يتصل الكلام ، لأن الشفاعة التي لجأ إليه الناس فيها هي الإراحة من كرب الموقف ، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج ، وقد وقع في حديث أبي هريرة .. الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد ، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين ، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه ، فكان الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والإراحة من كرب الموقف ، قال : وبهذا تجتمع متون الأحاديث ، وتترتب معانيها " (4) . وقد زاد الحافظ ابن حجر هذه المسألة إيضاحاً ، وأورد النصوص الدالة على أن في بعض الأحاديث شيئاً من الاختصار فقال : " قلت : فكأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر ، وسيأتي بقيته في شرح حديث الباب الذي يليه وفيه " حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً ، وفي جانبي الصراط كلاليب مأمورة بأخذ من أمرت به ، فمخدوش ناج ومكدوس في النار " فظهر منه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع ليقضى بين الخلق ، وأن الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك . وقد وقع ذلك صريحاً في حديث ابن عمر اختصر في سياقه الحديث الذي ساقه أنس وأبو هريرة مطولاً . وقد تقدم في كتاب الزكاة من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه بلفظ : " إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ، ثم بمحمد ، فيشفع ليقضى بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم " . ووقع في حديث أبي بن كعب عند أبي يعلى " ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني ، ثم يؤذن لي في الكلام ، ثم تمر أمتي على الصراط ، وهو منصوب بين ظهراني جهنم فيمرون ". وفي حديث ابن عباس من رواية عبد الله بن الحارث عنه عند أحمد " فيقول عز وجل: يا محمد ما تريد أن أصنع في أمتك ؟ فأقول : يا رب عجل حسابهم " وفي رواية عن ابن عباس عند أحمد وأبي يعلى " فأقول أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يفرغ من خلقه نادى مناد : أين محمد وأمته " . وتعرَّض الطيبي للجواب عن الإشكال بطريق آخر فقال : يجوز أن يراد بالنار الحبس والكرب والشدة التي كان أهل الموقف فيها من دنو الشمس إلى رؤوسهم وكربهم بحرها وسفعها حتى ألجمهم العرق ، وأن يراد بالخروج منها خلاصهم من تلك الحالة التي كانوا فيها . قال ابن حجر : وهو احتمال بعيد ، إلا أن يقال إنه يقع إخراجان وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه والمراد به الخلاص من كرب الموقف ، والثاني في حديث الباب الذي يليه ويكون قوله فيه : " فيقول من كان بعيد شيئاً فليتبعه " بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه ، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور فيتحدا " . وأجاب القرطبي عن أصل الإشكال بأن في قوله آخر حديث أبي زرعة عن أبي هريرة بعد قوله صلى الله عليه وسلم فأقول : يا رب أمتي أمتي ، " فيقال : أدخل من أمتك من الباب الأيمن من أبواب الجنة من لا حساب عليه ولا عذاب " . فقال : في هذا ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيما طلب من تعجيل الحساب ، فإنه لما أذن له في إدخال من لا حساب عليه دل على تأخير من عليه حساب ليحاسب ، ووقع في حديث الصور الطويل عند أبي يعلى : " فأقول وعدتني الشفاعة ، فشفعتني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله : وقد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة " . قلت : وفيه إشعار بأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن ، ثم ينادي المنادي : ليتبع كل أمة من كانت تعبد ، فيسقط الكفار في النار ، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق ، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه ، فيطفأ نور المنافقين فيسقطون في النار أيضاً ، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة بينهم ثم يدخلون الجنة " (5) . قلت : فهذا لو ثبت لرفع الإشكال لكن الكلبي ضعيف ، ومع ذلك لم يسنده ، ثم هو مخالف لصريح الأحاديث الصحيحة أن سؤال المؤمنين الأنبياء واحداً بعد واحد إنما يقع في الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة والله أعلم . -------------------------------- (1) شرح الطحاوية : ص 255 . (2) فتح الباري : (11/437) . (3) فتح الباري : (11/438) . (4) فتح الباري : (11/438) . (5) فتح الباري : (11/438) . |
الشفاعة المقبولة والشفاعة المرفوضة وأنواع الشفاعة المقبُولة دلت الأحاديث التي سقناها على نوعين من أنواع الشفاعة التي تقع في ذلك اليوم :الأول : الشفاعة العظمى ، وهي المقام المحمود ، الذي يرغب الأولون والآخرون فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليشفع إلى ربه كي يخلص العباد من أهوال المحشر . الثاني :الشفاعة في أهل الذنوب من الموحدين الذين دخلوا النار ، وسيأتي الحديث عن هذا النوع في مبحث (( دخول الجنة )) من كتاب (( الجنة والنار )) إن شاء الله تعالى [ وهي مذكوره في موقع الجنة والنار ] . وبقي أنواع جاء ذكرها في الأحاديث نعرض لها هنا على وجه الاختصار : الأول والثاني : شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة ، وفي آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها . الثالث :شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم . الرابع : الشفاعة في أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، ويمكن أن يستشهد لهذا بحديث عكاشة بن محصن حيث دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، والحديث في الصحيحين . الخامس :شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في تخفيف عذاب عمه أبي طالب ، حيث يخرجه الله به إلى ضحضاح من نار يغطي قدميه يغلي لهما دماغه . السادس : شفاعته في الإذن للمؤمنين بدخول الجنة ، وسيأتي الحديث عن هذا النوع في كتاب الجنة إن شاء الله تعالى (1) . والشفاعة في أهل الذنوب ليست خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد يشفع النبيون والشهداء والعلماء ، وقد يشفع للمرء أعماله ، ولكن رسولنا صلى الله عليه وسلم له النصيب الأوفر منها ، وقد يشفع غيره أيضاً في رفع درجات المؤمنين ، وبيقة الأنواع خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم . هذه هي أنواع الشفاعة التي تقع في يوم القيامة ، أما الشفاعة المرفوضة فهي الشفاعة التي يتعامل بها الناس في الدنيا ، حيث يشفع الشافع وإن لم يرض الذي شفع عنده ، وقد يكره من شفع عنده على قبول شفاعة الشافعين لعظم منزلتها وقوتهم وبأسهم ، وهذه هي الشفاعة التي يعتقدها المشركون والنصارى في آلهتهم ، ويعتقدها المبتدعون من هذه الأمة في مشايخهم ، وقد أكذب الله أصحابها ، فلا أحد يشفع في ذلك اليوم إلا بإذن من الله ، ولا يشفع إلا إذا رضي الله عن الشافع والمشفوع ، قال تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) [ البقرة : 255 ] وقال : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) [ الأنبياء : 28 ] . ولذلك فإن والد إبراهيم لما مات كافراً فإن الله لا يقبل شفاعة خليله فيه في ذلك اليوم . روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يلقى إبراهيم أباه آزر في يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟ فيقول له أبوه : فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم: يا رب ، إنك وعدتني أنك لا تخزيني يوم يبعثون ، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقول الله تعالى ، إني حرمت الجنة على الكافرين . ثم يقال لإبراهيم : ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ ، فيؤخذ بقوائمه ، فيلقى في النار " (2) . -------------------------------- (1) انظر في هذه الموضوع شرح الطحاوية : 253 . (2) صحيح البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ( واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) ورقمه : 3350 . والذَّيخ : ذكر الصباغ ، وقيل : لا يقال له ذيخ إلا كان كثير الشعر . (( فتح الباري )) شرح الحديث (4768) و (4769) . |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:03 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.