بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   محمد نبينا .. للخير ينادينا (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=43)
-   -   السيرة النبوية -عرض وقائع وتحليل احداث (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=615694)

محمد رافع 52 22-08-2014 11:03 PM

السيرة النبوية -عرض وقائع وتحليل احداث
 
الجـزء الأول


د.على محمد الصلابى

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمـــــة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ([آل عمران:102].
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا([النساء:1]
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا([الأحزاب:70-71]
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، أما بعد:
فإن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنميها وتباركها، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم، كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بدقائقها وتفاصيلها, منذ ولادته وحتى موته، مرورًا بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجًا وأبًا وقائدًا ومحاربًا، وحاكمًا، وسياسيًا ومربيًا وداعية وزاهدًا وقاضيًا، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها([1]) فالداعية يجد له في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟ ويجد المربي في سيرته صلى الله عليه وسلم دروسًا نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام, وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنيًا فريدًا، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس, تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ويجد القائد المحارب في سيرته صلى الله عليه وسلم نظامًا محكمًا، ومنهجًا دقيقًا في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة, وحرصًا على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعاملمع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان يحوك المؤامرات، وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله صلى الله عليه وسلم ، وصبر عليه وعلى حقده, حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعًا حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات فتعينهم على فهمها, والاستنباط منها, ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عز وجل، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين([2]).
وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الأخلاق، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله, وطلب الشهادة في سبيله؛ ولهذا قال علي بن الحسن: «كنا نُعلَّم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نُعلَّم السورة من القرآن» سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: «في علم المغازي علم الآخرة والدنيا»([3]).
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: «كان أبي يعلمنا مغازي
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها» ([4]).

إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين, من خلال معرفة عوامل النهوض، وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة, والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة.
إن من تأمل حادثة الهجرة، ورأى دقة التخطيط ودقة التنفيذ من ابتدائها إلى انتهائها, ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها, يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قائم، وأن التخطيط جزء من السنة وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم.
إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع والبراعة في إدارة كل مرحلة وفي الانتقال من مستوى إلى آخر, وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى, وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عز وجل في كتابه الكريم.
إن قناعتي الراسخة في التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي, قال تعالى: ( قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) [النور:54].
فقد بينت الآية الكريمة أن طريق التمكين في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاءت الآيات التي بعدها تتحدث عن التمكين وتوضح شروطه قال تعالى: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ` وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[النور:55-56].
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيه وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه وحرصوا على كل أنواع الخير وصنوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شؤون حياتهم، وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة, حتى أقاموا دولتهم في المدينة؛ ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم.
إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام.
إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي، والتخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين، والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.
أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين باسم الإسلام, وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي، وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها، ويتحدثون الساعات الطوال، ويدبجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان، ومناهج التغيير ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقا في فهم فقه التمكين، وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيًّا لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا، عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة, بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني.
وأنا لست ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكنني ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني، وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف. ومن أجمل ما قاله ابن القيم:
والله ما خوفي من الذنوب فإنها لعلى --- طريق العفو والغفران


لكنما أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم --- هذا الوحي والقرآن


ورضا بآراء الرجال وخرصها --- لا كان ذاك بمنة الرحمن



إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا، ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)[الأحزاب:21].
فقد كان فقه النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازنًا, وخاضعًا لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، والتدافع، والابتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس، وغرس صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وعن تعليمه وإرشاده وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم.
ففي هذا الكتاب تقصٍّ لأحداث السيرة، فيتحدث عن أحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السائدة والأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخلقية في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمة قبل المولد النبوي، وعن نزول الوحي، ومراحل الدعوة، والبناء التصوري والأخلاقي والتعبدي في العهد المكي، وعن أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطواف على القبائل، ومواكب الخير وطلائع النور من أهل يثرب, والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث مستخرجا منها الدروس والعبر والفوائد لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر.
--------------------------
([1]) انظر: السيرة النبوية دراسة وتحليل، د. محمد أبو فارس، ص50.

([2]) انظر: مدخل لدراسة السيرة، د. يحيى اليحيى، ص14.

([3]) البداية والنهاية: لابن كثير(3/256، 257) ط/ دار المعرفة، (3/242) ط2/1978م مكتبة المعارف – لبنان ، مكتبة النصر- الرياض.

([4]) انظر: البداية والنهاية (2/242).

محمد رافع 52 22-08-2014 11:09 PM

وتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة إلى وفاته, وبين فقه النبي صلى الله عليه وسلمفي إرساء دعائم المجتمع وتربيته ووسائله في بناء الدولة، ومحاربة أعدائها في الداخل والخارج، فيقف الباحث على فقه النبي صلى الله عليه وسلم في سياسة المجتمع ومعاهداته مع أهل الكتاب التي سجلت في الوثيقة, وحركته الجهادية، ومعالجته الاقتصادية والارتقاء بالمسلم نحو مفاهيم هذا الدين, الذي جاء لإنقاذ البشرية من دياجير الظلام، وعبادة الأوثان، وانحرافها عن شريعة الحكيم المتعال، وقد حاولت أن أعالج مشكلة اختزال السيرة النبوية في أذهان الكثير من أبناء الأمة، ففي العقود الماضية ظهرت دراسات رائعة في مجال السيرة النبوية، وكتب الله لها قبولاً وانتشارًا، كالرحيق المختوم، لصفي الدين المباركفوري، وفقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، وكانت هذه الدراسات مختصرة، ولم تكن شاملة لأحداث السيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب، وظن بعض طلابها أن من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسيرة النبوية، وهذا – في رأيي-خطأ فادح وخطير في حق السيرة النبوية المشرفة، وقد تسرب هذا الأمر إلى بعض أئمة المساجد وبعض قيادات الحركات الإسلامية، وانعكس ذلك على الأتباع فأحدث تصورًا ناقصًا للسيرة عند كثير من الناس، وقد حذر الشيخ محمد الغزالي من خطورة هذا التصور في نهاية كتابه فقه السيرة فقال: قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة، وهذا خطأ بالغ. إنك لن تفقه السيرة حقًّا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام([1]).
ففي هذه الدراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآني الذي له علاقة بالسيرة النبوية، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبيَّن الباحث الدروس والعبر، وسنن الله في النصر والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النفوس من خلال الأحداث والوقائع؟
إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحةٌ لكل زمان ومكان ومُصلِحةٌ كذلك.
لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم والسيرة النبوية, فكانت من أفضل أيام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي وهجرتي، وتفاعلت مع الدرر والكنوز والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها وترتيبها وتنسيقها وتنظيمها حتى تكون في متناول أبناء أمتي العظيمة، وقد لاحظت التفاوت في ذكر الدروس والعبر والفوائد والأحداث بين كتاب السيرة قديما وحديثا، فأحيانًا يذكر ابن هشام ما لم يذكره الذهبي، ويذكر ابن كثير ما لم يذكره أصحاب السنن هذا قديما، أما حديثا فقد ذكر السباعي ما لم يذكره الغزالي، وذكر البوطي ما لم يذكره الغضبان، وهكذا.
ووجدت في التفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النووي، وكتب الفقهاء ما لم يذكره كُتَّاب السيرة قديمًا ولا حديثًا؛ فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدروس والعبر والفوائد، ونظمتها في عقد جميل يسهل الاطلاع عليه، ويساعد القارئ على تناول تلك الثمار اليانعة بكل سهولة.
إن في هذا الكتاب حصيلة علمية وأفكار عملية جمعت من مئات المراجع والمصادر، وقد أثرى هذا الجهد بالحوار والنقاش والندوات، فأفاد بعضهم في الإشارة إلى بعض المراجع والمصادر النادرة وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التركيز على السنن والقوانين التي تعامل معها النبي صلى الله عليه وسلم في حركته المباركة، كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكة، وأشار البعض إلى أهمية ربط السيرة التاريخية بالسيرة السلوكية, والسيرة المعبر عنها بحديث شريف أو فعل نبوي والسيرة كما يقررها القرآن الكريم- ببعضها ومزجها في منهجية متناسقة- تمد أبناء الجيل بعلم غزير، وفقه عميق، وعاطفة جياشة، فهي غذاء للروح، وتثقيف للعقول وحياة للقلوب، وصفاء للنفوس.
إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد، وكافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل البشر ويتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت t عندما قال:
وأجمل منك لم تر قط عيني --- وأفضل منك لم تلد النساء



خُلقت مبرءا من كل عيبٍ --- كأنك قد خلقت كما تشاء




هذا ولا أدعي أني أتيت بما لم تستطعه الأوائل، فشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبير، وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفس أرق، وفقه أدقّ وذكاء أكبر وإيمان أعمق، كما أنني لا أدعي لعملي هذا العصمة أو الكمال، فهذا شأن الرسل والأنبياء، ومن ظن أنه قد أحاط بالعلم فقد جهل نفسه، وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)[الإسراء:85].
فالعلم بحر لا شاطئ له وما أصدق الشاعر إذ يقول:
وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة --- حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء




يقول الثعالبي: لا يكتب أحد كتابا فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟
وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابًا في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر..
وأخيرًا أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً لوجهه خالصًا, ولعباده نافعًا, وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكافة ما يملكون من أجل إتمام هذا الكتاب قال الشاعر:
أسير خلف ركاب القوم ذا عرج --- مؤملا جبر ما لاقيت من عوج



فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا --- فكم لرب السماء في الناس من فرج



وإن ظللت بقفر الأرض منقطعا --- فما على أعرج في ذاك من حرج




سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك

الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه


علي محمــــــد الصلابي


18رجب 1421هـ 16 أكتوبر 2000م


-----------------




([1]) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص476.

محمد رافع 52 22-08-2014 11:11 PM

الفصل الأول


أهم الأحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي


المبحث الأول


الحضارات السائدة قبل البعثة ودياناتها

أولاً: الإمبراطورية الرومانية:
كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، فكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره, ومصر وكل إفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية، وكانت دولة ظالمة مارست الظلم والجور والتعسف على الشعوب التي حكمتها، وضاعفت عليها الضرائب، وكثرت الاضطرابات والثورات، وكانت حياتهم العامة قائمة على كل أنواع اللهو واللعب والطرب والترف.
أما مصر فكانت عرضة للاضطهاد الديني والاستبداد السياسي، واتخذها البيزنطيون شاة حلوبا يحسنون حلبها، ويسيئون علفها.
وأما سوريا فقد كثرت فيهم المظالم والرقيق، ولا يعتمدون في قيادة الشعب إلا على القوة والقهر الشديد، وكان الحكم حكم الغرباء، الذي لا يشعر بأي عطف على الشعب المحكوم، وكثيرا ما كان السوريون يبيعون أبناءهم ليوفوا ما كان عليهم من ديون([1]).
كان المجتمع الروماني مليئا بالتناقض والاضطرابات، وقد جاء تصويره في كتاب «الحضارة ماضيها وحاضرها» كالآتي:
«كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء - في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحيانًا، وبين الرجال والسباع أحيانًا أخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون ال*** والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة»([2]).
ثانيًا: الإمبراطورية الفارسية:
كانت الإمبراطورية الفارسية تعرف بالدولة الفارسية أو الكسروية، وهي أكبر وأعظم من الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي، ثم ظهرت المزْدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت إلى ال*****ة في كل شيء؛ مما أدى إلى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل.
وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم، لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة، وأصبحت موارد البلاد ملكًا لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور, ويعيشون عيش البهائم، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فرارًا من الضرائب والخدمة العسكرية، وكانوا وقودًا حقيرًا في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك([3]).

-------------------

([1]) انظر: السيرة النبوية للندوي ص31.
([2]) انظر: السيرة النبوية ص31. (2) نفس المصدر ص32، 33.

محمد رافع 52 22-08-2014 11:15 PM

ثالثـًا: الهند:
اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانة وخلقا واجتماعا وسياسة - ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي، فانتشرت الخلاعة حتى في المعابد؛ لأن الدين أعطاها لونًا من القدس والتعبد، وكانت المرأة لا قيمة لها ولا عصمة، وانتشرت عادة إحراق المرأة المتوفى زوجها، وامتازت الهند عن أقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب، وكان ذلك تابعا لقانون مدني سياسي ديني وضعه المشرعون الهنديون الذين كانت لهم صفة دينية، وأصبح هو القانون العام في المجتمع ودستور حياتهم، وكانت الهند في حالة فوضى وتمزق, انتشرت فيها الإمارات التي اندلعت بينها الحروب الطاحنة، وكانت بعيدة عن أحداث عالمها في عزلة واضحة يسيطر عليها التزمت والتطرف في العادات والتقاليد, والتفاوت الطبقي والتعصب الدموي والسلالي، وقد تحدث مؤرخ هندوكي- أستاذ للتاريخ في إحدى جامعات الهند- عن عصر سابق لدخول الإسلام في الهند فقال: «كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالمية، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمت فيهم أمارات الانحطاط والتدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفن المعماري، والتصوير، والفنون الجميلة الأخرى»([1]).
«وكان المجتمع الهندي راكدًا جامدًا، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى، ويشددون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب، أما المنبوذون فكانوا يعيشون مضطرين خارج بلدهم ومدينتهم»([2]).
كان تقسيم سكان الهند إلى أربع طبقات:
1- طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم (البراهمة).
2- ورجال الحرب والجندية وهم (شترى).
3- ورجال الفلاحة والتجارة وهم (ويش).
4- ورجال الخدمة وهم (شودر) وهم أحط الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله -كما يزعمون-، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاث وإراحتها.
وقد منح هذا القانون البراهمة مركزا ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهمي رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بال*** في حال من الأحوال، أما (شودر) فليس لهم أن يقتنوا مالا، أو يدخروا كنزا، أو يجالسوا برهميًّا، أو يمسوه بيدهم، أو يتعلموا الكتب المقدسة([3]).
رابعًا: أحوال العالم الدينية قبل البعثة المحمدية:
كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والانحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس([4]).
وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر, وآثر الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعًا في النجاة بنفسه يأسًا من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء.
ففي الجانب الديني تجد الناس إما أن ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلا، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها، وأما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريًا, واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله, تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة.
وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم, وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى.
فاليهودية: أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة, وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها، والتي وقعت تحت سيطرتها فأخذت كثيرا من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود([5]) فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: «إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان يدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقدات خرافية وشركية.
إن التلمود أيضًا يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود»([6]).
إن المجتمع اليهودي قبل البعثة المحمدية قد وصل إلى الانحطاط العقلي وفساد الذوق الديني، فإذا طالعت تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه, والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي، تجد فيه نماذج غريبة من خفة العقل وسخف القول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق والتلاعب بالدين والعقل([7]).
أما المسيحية: فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة([8])، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى، فقد جاء في تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر:
«لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل إنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وأبطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيدًا من شهدائهم ولقبوه بأوصاف الآلهة، ثم صنعوا له تمثالا، وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الأصنام إلى هؤلاء الشهداء المحليين، ولم ينته هذا القرن حتى عمت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقا وسيطا بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على أساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزا لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم إلى عيد ميلاد المسيح»([9])، وجاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة: «تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مسلَّمة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي»([10]).
لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر بعضهم بعضًا، و*** بعضهم بعضًا، وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشرية([11]).
وأما المجوس: فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية, أعظمها النار، وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها, وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحرارًا يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له.
ويصف المؤرخ الدنماركي طبقة رؤساء الدين ووظائفهم عند المجوس في كتابه «إيران في عهد الساسانيين» فيقول: «كان واجبًا على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس أربع مرات في اليوم، ويضاف إلى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلفين بأدعية خاصة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنار والأكل والعطس وحلق الشعر وتقليم الأظافر، وقضاء الحاجة وإيقاد السرج، وكانوا مأمورين بألا يدعوا النار تنطفئ، وألا تمس النار والماء بعضها بعضا، وألا يدعوا المعدن يصدأ لأن المعادن عندهم مقدسة»([12]).
وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف (يزدجرد) آخر ملوك الساسانيين – بالشمس مرة وقال: «أحلف بالشمس التي هي الإله الأكبر». وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعارًا لهم، فآمنوا بإلهين اثنين، أحدهما النور أو إله الخير والثاني الظلام أو إله الشر([13]).
أما البوذية:في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت([14]).
أما البرهمية:دين الهند الأصلي، فقد امتازت بكثرة المعبودات والآلهة, وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولا شك أن الديانتين الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء، لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية, وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبرهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رهان تجري في حلبة واحدة.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته([15]) عبدًا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب»([16]).
والحديث يشير إلى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله، ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم([17]).

***




([1]) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص38. (2) نفس المصدر، ص39.


([3]) راجع القانون المدني الاجتماعي المسمى منو شانز، الأبواب 1-2-8-9-10. نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص38.
([4]) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة ص57.
(1) انظر: السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي ص20. (2) المصدر نفسه، ص20.

(3) المصدر السابق نفسه ص21.(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص21.


(1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص23.
([10]) دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة، مقال التثليث (14/395).
([11]) انظر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد أبو حديد ص37، 38، 48.
([12]) إيران في عهد الساسانيين ص155، نقلا عن السيرة النبوية للندوي، ص27.
([13]) انظر: السيرة النبوية، للندوي ص27.
(2) المصدر السابق، ص28.
([15]) نحلته: أعطيته (النهاية في غريب الحديث) (5/29).
([16]) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات (4/2197) رقم 2197
(5) انظر: الغرباء الأولون ص59.

محمد رافع 52 22-08-2014 11:20 PM

المبحث الثاني


أصول العرب وحضارتهم

أولاً: أصول العرب:
قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا([1]) منها:
1- العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وأمَيْم، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم, وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر([2]).
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية([3]) ويعرفون بعرب الجنوب([4]) ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحمير([5]).
3- العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام, وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيًّا, ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد. وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه, والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عربًا مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي صلى الله عليه وسلم الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة.
أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقا، فقامت عبد القيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة([6]).
أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة، وسكنت ذُبيان وعَبس من تيماء إلى حوران([7]) وتقسيم العرب إلى عدنانية وقحطانية هو ما عليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم من العلماء. ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون إلى إسماعيل([8]) عليه الصلاة والسلام.
وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثًا عن سلمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم يتناضلون بالسهام، فقال: «ارموا بني إسماعيل، وأنا مع بني فلان» -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: «ما لكم؟» قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: «ارموا وأنا معكم كلكم»([9]) وفي بعض الروايات «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميًا».
قال البخاري: وأسلم بن أَفْصَى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم([10]).
ووُلد الرسول صلى الله عليه وسلم من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت أبي سلمة قال: «قلت لها: أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة»([11]).
وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش إلى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب، وهي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي، وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ([12]).
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»([13]).
ثانيًا: حضارات الجزيرة العربية:
نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها:
1- حضارة سبأ باليمن: وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عز شأنه: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ` فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ` ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ)[سبأ:15-17].
ودل القرآن الكريم على وجود قرى متصلة في الزمن الماضي ما بين اليمن، إلى بلاد الحجاز، إلى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن إلى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلا، ولا ماء، ولا طعاما، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ` فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)[سبأ: 18،19].
2- حضارة عاد بالأحقاف: وكانوا في شمال حضرموت وهم الذين أرسل الله إليهم نبي الله هودا عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات،
وزروع وعيون([14]) قال تعالى: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ`

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ` أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ` وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ` وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ` أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ` وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الشعراء:123 134].
3- حضارة ثمود بالحجاز: دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر، وأشار إلى ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع([15])، قال تعالى: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ` إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ` إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ` وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ` أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ` فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ` وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ` وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ` فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)[الشعراء:141-150].
وقال فيهم أيضا: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)[الأعراف:74].
لقد زال كل ذلك من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار وأصبحت البساتين والزروع أرضا جُرُزًا([16]).

***




([1]) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص45. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/46).


([3]) فقه السيرة، للغضبان ص45. (4) مدخل لفهم السيرة ص98.


([5]) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/47). (6) مدخل لفهم السيرة ص98، 99.


([7]) انظر: الطريق إلى المدائن، عادل كمال ص40.
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شبهة (1/48).

([9]) البخاري، كتاب الجهاد والسير (3/298) رقم 2899. (3) انظر السيرة النبوية لأبي شهبة (1/48).


([11]) البخاري، كتاب المناقب (4/185) رقم 3491. (5) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان ص47.

([13]) رواه مسلم، باب فضل نسب النبي (4/1782) رقم 2276.
([14]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/50). (2) نفس المصدر (1/51).


([16]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/51)

محمد رافع 52 24-08-2014 02:29 PM

المبحث الثالث


الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية


والاجتماعية والأخلاقية عند العرب

أولاً: الحالة الدينية:
ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية, وفوضى سياسية، وتشريعية, ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة: سواع، ولكلب: ود، ولمذحج: يغوث, ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافًا ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش([1]).
وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: «كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرًا جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به»([2]).
وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب, وبين ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لا تعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله، وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)[الأنعام:36].
أما البقية الباقية من دين إبراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسما للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير.
وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا ي*** للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم، وكان يقول:
أربًّا واحدًا أم ألفَ رب؟؟ --- أدين إذا تقسِّمت الأمورُ؟



عزلتُ اللات والعزى جميعًا --- كذلك يفعل الجلد الصبورُ



فلا العزى أدين ولا ابنتيها --- ولا صنمي بني عمرو أزورُ



ولا غنمـًا أدين وكان ربا --- لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ




إلى أن قال:
ولكن أعبد الرحمن ربي --- ليغفر ذنبي الربُّ الغفور([3])




وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة([4]).
ومما كان ينشده من شعره:
في الذاهبين الأوليـ --- ن من القرون لنا بصائر



لما رأيت مواردا --- للموت ليس لها مصادر



ورأيت قومي نحوها --- يمضي الأصاغر والأكابر



لا يرجع الماضي إليّ --- ولا من الباقين غابر



أيقنت أني لا محا --- لة حيث صار القوم صائر([5])




كان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام.

محمد رافع 52 24-08-2014 02:31 PM

ثانيًا: الحالة السياسية:
كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة.
والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب) ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي([6]).
وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومروءة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها: احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، (والصفايا) وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة (والنشيطة) وهي ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء (والفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله:
لك المرباع فينا، والصفايا --- وحكمك، والنشيطة، والفضول([7])




ومقابل هذه الحقوق, واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات.
والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقًا أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم: «انصر أخاك ظالمًا، أو مظلومًا».
وكان شاعرهم يقول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم --- في النائبات على ما قال برهانا




والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت --- غويت، وإن ترشد غزية أرشد([8])




وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية, وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضًا كانت تشن الحرب عليها, ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول (حلف المطيبين)([9]).
وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار([10]) وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحيانًا، أو طلب العيش أحيانًا أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس([11]).

محمد رافع 52 24-08-2014 02:32 PM

ثالثـًا: الحالة الاقتصادية:
يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة كان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثًا عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم.
وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة ثم أصبح مقيما في مكة([12]).
وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزا متقدما في التجارة الدولية آنذاك.
وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت:67]
وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الأخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: (لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ` فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ` الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)[قريش:1-4].
وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والأبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستوردًا من خارجها، ثم تذهب به إلى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها.
واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا إلى سواحل إفريقيا وإلى الهند وإندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يسمى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الإسلام، في نشره في هذه الأقطار.
وكان التعامل بالربا منتشرًا في الجزيرة العربية، ولعل هذا الداء الوبيل سرى إلى العرب من اليهود([13]) وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان إلى أكثر من مائة في المائة([14]).
وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يومًا من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا إلى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمانيَ ليال، ثم يذهبون إلى عرفة، وكانوا لا يتبايعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الإسلام فأباح لهم ذلك, قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)[البقرة:198].
وقد استمرت هذه الأسواق في الإسلام إلى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقًا للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، إلى جانب كونها ثروة تجارية([15]).

محمد رافع 52 24-08-2014 02:33 PM

رابعًا: الحالة الاجتماعية:
هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك، ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي:
1- الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما:
فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لا سيما الشعر:
كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة, والبيت يخفضها، ولذلك ما كانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة.
3- المرأة في المجتمع العربي:
كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه, أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكان الابن يتزوج امرأة أبيه([16]) فنزل قول الله تعالى: (وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً)[النساء:22].
وكانت العرب تحرم نكاح الأصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الأولى من فروع الجد كالخالات والعمات([17]).
وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم إلى أن توفي أوس بن ثابت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك بنتين كانت بهما دمامة، وابنًا صغيرًا، فجاء ابنا عمه وهما عصبته فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فأبيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يا رسول الله توفي أوس وترك ابنًا صغيرًا وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فأبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحركا في الميراث شيئًا» ([18])، ونزل قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا)[النساء:7].
وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها ما يصير إليها من المال بالبغاء إلى ماله، وقد كانت العرب تبيح ذلك، وقد كان هذا يورث الهم والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت، وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت فقال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ` يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ)[النحل:58-59].
وكثيرا ما كانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى([19])؛ ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ` بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ)[التكوير:8-9].
وكان بعض العرب ي*** أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الإسلام وحرم ذلك قال تعالى: )قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ )[الأنعام:151].
وقال تعالى: )وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا )[الإسراء:31].
وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل([20]).
وكانت بعض القبائل تحترم المرأة وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها، وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة، وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف([21]).
4- النكاح:
تعارف العرب على أنواع النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: «إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء:



([1]) انظر: الغرباء الأولون, ص60. (2) البخاري، كتاب المغازي، وفد بني حنيفة (5/119).


([3]) انظر: السيرة النبوية، لابن كثير (1/163). (2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/80).


([5]) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/81).
(1) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/60).

([7]) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ص31.
([8]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/61).
([9]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي ص31.
([10]) نفس المصدر ص33 - 35. (4) المصدر السابق، ص35.


([12]) انظر: فقه السيرة النبوية، منير الغضبان ص60.
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/98 إلى 101).

([14]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم محمد ص19.
([15]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/102).
([16]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/87).
([17]) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، ص22، 23، 24. (3) تفسير القرطبي (5/45).


([19]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ص25، 26.
([20]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/92). (3) نفس المصدر (1/8).

محمد رافع 52 24-08-2014 02:37 PM

فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها([1]): أرسلي إلى فلان فاستبضعي([2]) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر: يجتمع الرهط([3]) ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت، ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لها القافة([4]) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط([5]) به ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم»([6]).
وذكر بعض العلماء أنحاء أخرى لم تذكرها عائشة رضي الله عنها كنكاح الخدن وهو في قوله تعالى: )وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو إلى الزنا أقرب منه إلى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك([7]).
ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق([8]).
وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ما شاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العد([9])، وجاء الإسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وما كانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الإسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهن في العشرة، وقرر لهن حقوقا ما كن يحلمن بها([10]).
5- الطلاق:
كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدد, فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبدًا، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الإسلام([11]) إلى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: )الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )[البقرة:229].
فقيد الإسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدارك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلق الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم )فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ )[البقرة:230].
ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريمًا مؤبدًا حتى جاء الإسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجًا منه، وذلك بالكفارة([12]) قال تعالى: )الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ` فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن
لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ
أَلِيمٌ )[المجادلة:2- 4].

6- الحروب، والسطو، والإغارة:
كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لا يبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلا يوم البسوس، وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجرمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكانًا خاصًا به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس، فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة ل*** كليب ف***ه فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة([13]).
وكذلك يوم داحس والغبراء، وقد كان سببه سباقًا أقيم بين داحس وهو فرس لقيس ابن زهير، والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا إلى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحسا قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء، وحصل بعد ذلك ال*** والأخذ بالثأر، وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان([14]).
وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم، حيث إن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي، واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بُعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة، وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة، واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديدًا كانت نهايته لصالح الأوس([15]).
وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد ابن حارثة فقد كان عربيًّا حرًا، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسيًّا حرًّا، وقد قضى الإسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء إلى حضرموت لا يخافان إلا الله والذئب على أغنامهما([16]).
7- العلم والقراءة والكتابة:
لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم -وإن كان باطلا- وكانت أمة العرب لا تكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها، وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد؛ ولذلك لما جاء الإسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم، وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة, وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنيا على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة([17]).

محمد رافع 52 24-08-2014 02:42 PM

خامسًا: الحالة الأخلاقية:
كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، و****** الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: «على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين» «قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة([18])؟!!.
وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا, لا. لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا([19]) وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام ومن تلك الخصال والسمات:
1- الذكاء والفطنة:
فقد كانت قلوبهم صافية, لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها, كما في الشعوب الهندية والرومانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الإسلام الخالدة؛ ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة([20]).
واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسمًا وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفًا، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة([21]).
وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة إلى الفهم بالإشارة فضلا عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة([22]).
2- أهل كرم وسخاء:
كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ***ها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال([23]).
3- أهل شجاعة ومروءة ونجدة:
كانوا يتمادحون بالموت ***اً، ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه *** أخيه: إن ي*** فقد *** أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفًا، ولكن قطعًا بأطراف الرماح، وموتًا تحت ظلال السيوف:
وما مات منا سيد حتف أنفه --- ولا طُلّ منا حيث كان قتيل



تسيل على حد الظباة نفوسنا --- وليست على غير الظباة تسيل




وكان العرب لا يقدمون شيئا على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة:
بَكَرَت تخوفني الحُتوف كأنني --- أصبحت عن غرض الحتوف بمعزلِ



فأجبتها إن المنية منهل --- لا بد أن أُسْقى بكأس المنهلِ



فأقني حياءك لا أبا لك واعلمي --- أني امرؤ سأموت إن لم أ***([24])




وقال عنترة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة --- بل فاسقني بالعز كأس الحنظل



ماء الحياة بذلة كجهنم --- وجهنم بالعز أطيب منزل([25])




وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم.
4- عشقهم للحرية، وإباؤهم للضيم والذل:
كان العربي بفطرته يعشق الحرية, يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقًا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته([26]), فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار, وإليك مثال على ذلك.
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحدًا من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب.. فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلا:
بأي مشيئة عمرو بن هند --- نكون لقيلكم([27]) فيها قطينا([28])



بأي مشيئة عمرو بن هند --- تطيع بنا الوشاة وتزدرينا



تهددنا وتوعدنا رويدًا --- متى كنا لأمك مقتوينا([29])



إذا ما الملك سام الناس خسفًا --- أبينا أن نقر الذل فينا([30])




5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق:
كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام, ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: «لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه»([31]).
أما وفاؤهم: فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: «وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث([32]) وعقدة لا يحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عودًا من الأرض فيكون رهنًا بدينه فلا يُغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به, وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب, فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله»([33]).
والوفاء خلق متأصل بالعرب, فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة, فغلظ على من آوى محدثًا مهما كانت منزلته وقرابته، قال صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من آوى محدثا»([34]).
ومن القصص الدالة على وفائهم([35]): «أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي *** ولد الحارث، وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه, فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه» وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار([36]). ومن وفائهم: أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه إلى هانئ بن مسعود الشيباني، ورحل إلى كسرى فبطش به، ثم أرسل إلى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشًا لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: «يا معشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لا ينجي من قدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، يا آل بكر قاتلوا فما للمنايا من بد»([37])، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة، ولم يبال بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.
6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير:
كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع, قال شاعرهم:
إذا مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن --- بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل([38])




وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده([39]).
7- قوة البدن وعظمة النفس:
واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام. كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي --- حتى يواري جارتي مأواها




وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك.
كانت هذه الفصائل والأخلاق الحميدة رصيدا ضخما في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملئوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا([40]).
هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح([41]).

* * *






([1]) الطمث: الحيض. (2) استبضعي: الاستبضاع, طلب الجماع حتى تحمل منه.


([3]) الرهط: الجماعة دون العشرة. (4) القافة: جمع القائف، وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد.
5
(5) التاطه: أستلحقه.
([6]) البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي رقم 5127. (7) فتح الباري (9/150).

([8]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/90).
([9]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص24، 25.

(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/88).
([11]) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص25.
([12]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/91).

(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/312).(2) نفس المصدر (1/343).

([15]) التاريخ الإسلامي، د. عبد العزيز الحميدي (1/55). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93).


([17]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93). (2،3) المصدر السابق (1/94).

(4) انظر: السيرة للندوي ص12.(5) بلوغ الأرب (1/39-40).
(6) انظر: مدخل لفقه السيرة ص79، 80




(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/95).(2) ديوان عنترة، ص252.
(3) ديوان عنترة: د. فاروق الطباع ص82.



(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/95).
([27]) القيل: هو الملك دون الملك الأعظم. (3) القطين: هم الخدم.


([29]) مقتوينا: خدمة الملوك.(5) انظر: شرح المعلقات للحسين الزوزنيص196، 204.


([31]) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 7. (7) الولث: الوعد الضعيف.

(1) بلوغ الأرب (1/150).

([34]) رواه مسلم، كتاب الأضاحي، رقم 1978.(3) انظر: مدخل لفهم السيرة ص 90.



([36]) نفس المصدر ص91. (5) تاريخ الطبري عن يوم ذي قار (2/207).


([38]) بلوغ الإرب (1/377).(7) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/96، 97).


([40]) انظر: السيرة النبوية بأبي شهبة (1/97)
([41]) انظر: نظرات في السيرة للإمام حسن البنا، ص14.

محمد رافع 52 24-08-2014 02:46 PM

المبحث الرابع


أهم الأحداث قبل مولد الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم

أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحم البشرية ويكرم الإنسانية فحان وقت الخلاص بمبعث الحبيب صلى الله عليه وسلم وقبل أن نشرع في بيان ميلاده الكريم ونشأته العزيزة، ورعاية الله عز وجل له قبل نزول الوحي عليه, وسيرته العطرة قبل البعثة، نريد أن نتحدث عن الآيات العظيمة، والأحداث الجليلة التي سبقت ميلاده عليه الصلاة والسلام، فقد سبق مولده الكريم أمور عظيمة دلت على اقتراب تباشير الصباح.
إن من سنن الله في الكون أن الانفراج يكون بعد الشدة، والضياء يكون بعد الظلام، واليسر بعد العسر([1]).
ومن أهم هذه الأحداث:
أولاً: قصة حفر عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلملزمزم:
ذكر الشيخ إبراهيم العلي في كتابه القيم «صحيح السيرة النبوية» رواية صحيحة في قصة حفر عبد المطلب لزمزم من حديث علي بن أبي طالب t قال: «قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال لي: احفر طيبة([2])، قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني.
قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة([3])، قال: قلت وما برة؟ قال: ثم ذهب عني فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة([4]). قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب.
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال لا تنزف([5]) أبدأ ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم([6])، عند قرية النمل([7]).
قال: فلما بين شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعول([8]) ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيّ([9]) كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإنا لنا فيها حق، فأشركنا معك فيها. قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من كانوا معهم فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة([10]) وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واراه، حتى يكون آخرهم رجلا واحدا، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه، فقالوا: نعم ما أمرت به.
فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا، فارتحلوا حتى إذ بعث([11]) عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا، واستقوا كلهم، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبدا، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشدا، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم».
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم([12]) وقد ورد في


فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة فمنها، ما رواه مسلم في صحيحه في قصة إسلام أبي ذر
t: «إنها طعام طعم» ([13]).
وروى الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ماء زمزم لما شرب له: إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة([14]) جبريل، وسقيا الله إسماعيل». قال الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله([15]): ومهما يكن من شيء فقد صحح الحافظ الدمياطي، وهو من الحفاظ المتأخرين المتقنين حديث: «ماء زمزم لما شرب له» وأقره الحافظ العراقي([16]).

محمد رافع 52 24-08-2014 02:49 PM

ثانيًا: قصة أصحاب الفيل:
هذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وأتت تفاصيلها في كتب السير والتاريخ وذكرها المفسرون في كتبهم. قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ`أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ`وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ`تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ )[الفيل: 1-5].
أما إشارات الرسول إلى الحادث فمنها:
· أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج زمن الحديبية سار حتى إذا كان بالثنيَّة التي يهبط عليهم منها بركت بها راحلته فقال الناس! حَل حَل([17]), فألحت([18]) فقالوا: خلأت القصواء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل» ([19]).
وجاء في السيرة النبوية لأبي حاتم ما يلي: «كأن من شأن الفيل أن ملكًا كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء فسماها القُلَّيَس، وزعم أنه يصرف إليها حج العرب، وحلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك من ملوك حمير فيمن أطاعه من قومه, يقال له ذو نفر فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه، فلما أتى به قال له ذو نفر: أيها الملك لا ت***ني فإن استبقائي خير لك من ***ي، فاستبقاه، وأوثقه، ثم خرج سائرًا يريد الكعبة حتى إذا دنا من بلاد خثعم, خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل: أيها الملك. إني عالم بأرض العرب فلا ت***ني، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتَّب في رجال ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا وبينك الذي تريد –يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مولى لهم يقال له أبو رغال فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس([20]) مات أبو رغال وهو الذي رجم قبره, وبعث أبرهة من المغمس رجلا، يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأرك، ثم بعث أبرهة حُناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، فقال: سنخلي بينه وبين البيت، فإن خلى الله بينه وبينه فوالله ما لنا به قوة، قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى قدم المعسكر وكان «ذو نفر» صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال: يا ذا نفر هل عندكم من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ما غناء رجل أسير لا يأمن من أن ي*** بكرة أو عشية، ولكن سأبعث لك إلى أُنيَس سائس الفيل فآمره أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش صاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي.
فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلاً عظيمًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالا عظيما فاردده علي، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك، قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم فأهدمه فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير لك؟. قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريش الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه، وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل وهو قائم, فلما حركه وقف وكاد أن يرزم إلى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان([21]) مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة, فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحدا إلا هلك وليس كل القوم أصيب فذلك قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ`أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ`وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ`تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ`فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ )[الفيل:1-5] وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعا يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات([22]).
وذكر ابن إسحاق - رحمه الله- في سيرته كما نقله ابن هشام عنه في السير, أن عبد المطلب أخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب، وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمـ --- نع رحله فامنع حلالك



لا يغلبن صليبهم --- ومحالهم غَدْوًا محالك



إن كنت تاركهم وقبلـ --- ـتنا فأمر ما بَدَا لك




ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شغف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ما حدث من هلاك لأبرهة وجيشه([23]).

------------------

([1]) انظر: هذا الحبيب يا محب، للجزائري، ص51.
([2]) طيبة: مشتقة من الطيب، وبه سميت المدينة. (3) برة: مشتقة من البر، والبر: هو الخير والطهارة.


([4]) المضنونة: الغالية النفسية التي يضن بمثلها، أي يبخل. (5) لا تنزف: أي لا يفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.


([6]) الغراب الأعصم: الذي في ساقيه بياض. (7) قرية النمل: المكان الذي يجتمع فيه النمل.


([8]) المعول: الفأس.
(1) الطي: حافة البئر

([10]) المفازة: جمعها مفاوز: القفار. (3) بعث راحلته: أقامها من بروكها.


([12]) السيرة النبوية لابن هشام (1/142-155) السير والمغازي لابن إسحاق ص24، 25، تحقيق سهيل زكار، البيهقي في الدلائل (1/93-95) وصرح ابن إسحاق بالسماع فسنده صحيح، وله شاهد من مرسل الزهري، فالحديث صحيح من طريق البيهقي وابن هشام.
([13]) مشبع.

(1) هزمة أو همزة: أثر ضربته في الأرض بعقبه، أو جناحه.
([15]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/158). (3) مقدمة ابن الصلاح، وشرحها للحافظ العراقي ص13.

([17]) كلمة تقال للناقة إذا تركت السير (فتح الباري: 5/335).
([18]) ألحت: أي تمادت على عدم القيام وهو من الإلحاح، فتح الباري (5/335).
([19]) البخاري، الشروط (5/388).
([20]) المغمس: مكان قرب مكة في طريق الطائف مات فيه أبو رغال.
([21]) البلسان: الزرازير.
([22]) السيرة النبوية لأبي حاتم البستي ص34-39، وانظر السيرة النبوية لابن كثير (1/ص30-37).
([23]) السيرة النبوية لابن هشام مع شرح أبي ذر ا لخشني (1/84-91).

محمد رافع 52 25-08-2014 11:41 AM

دروس وعبر وفوائد من حادثة الفيل:
1- بيان شرف الكعبة, أول بيت وضع للناس: وكيف أن مشركي العرب كانت تعظمه وتقدسه، ولا يقدمون عليه شيئا، وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
2- حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب: الذين يعظمون هذا البيت، ولذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة القليس، وعلى الرغم من استعماله أساليب الترغيب والترهيب, إلا أن العرب امتنعوا ووصل الأمر إلى مداه بأن أحدث في كنيسة القليس أحد الأعراب. قال الرازي –رحمه الله تعالى– في قوله تعالى )أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ): اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية. (إن قيل) لما سماه كيدًا وأمره كان ظاهرًا، فإنه كان يصرح أن يهدم البيت؟ (قلنا) نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر؛ لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم, بسبب الكعبة, منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته([1]).
3- التضحية في سبيل المقدسات: قام ملك من ملوك حمير في وجه جيش أبرهة ووقع الملك أسيرًا، وقام النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع معه من قبائل اليمن فقاتلوا أبرهة إلا أنهم انهزموا أمام الجيش العرمرم وبذلوا دماءهم دفاعا عن مقدساتهم.
إن الدفاع عن المقدسات والتضحية في سبيلها شيء غريزي في فطرة الإنسان.
4- خونة الأمة مخذولون: فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة وصاروا عيونا له وجواسيس وأرشدوه إلى بيت الله العتيق ليهدمه، لُعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس، ولعنهم الله سبحانه وتعالى، وأصبح قبر أبي رغال رمزًا للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرجل مبغوضا في قلوب الناس، وكلما مر أحد على قبره رجمه.
5- حقيقة المعركة بين الله وأعدائه: في قول عبد المطلب زعيم مكة: «سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبينه، فوالله ما لنا به قوة» وهذا تقرير دقيق لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه, فمهما كانت قوة العدو وحشوده, فإنها لا تستطيع الوقوف لحظة واحدة أمام قدرة الله وبطشه ونقمته, فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أي وقت شاء([2]).
قال القاسمي –رحمه الله–: قال القاشاني –رحمه الله-: قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم قريبة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه([3]).
6- تعظيم الناس للبيت وأهله: ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين([4]) وأعظمت العرب قريشا، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله، ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعة وشأن([5]).
7- قصة الفيل من دلائل النبوة: قال بعض العلماء: إن حادثة الفيل من شواهد النبوة ودلالاتها ومن هؤلاء: الماوردي –رحمه الله-: آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب بصدق، ولا منتحل بحق, وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها، ولما دنا مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأنًا وأشهرها عيانًا وبيانًا أصحاب الفيل.. إلى أن قال: وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانه حملا في بطن أمه بمكة؛ لأنه ولد بعد خمسين يومًا من الفيل، وبعد موت أبيه في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكانت آية في ذلك من وجهين.
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجري عليه السبي حملاً ووليدًا.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله ما يستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وما هم أهل كتاب؛ لأنهم كانوا بين عابد صنم، أو متدين وثن أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراد الله تعالى من ظهور الإسلام، تأسيًا للنبوة، وتعظيمًا للكعبة.. ولما انتشر في العرب ما صنع الله تعالى في جيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفًا وتعظيمًا وقامت قريش لهم بالرفادة والسدانة والسقاية، والرفادة مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعامًا للناس أيام منى، فصاروا أئمة ديّانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين([6]).
وقال ابن تيمية –رحمه الله-: وكان ذلك عام مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ودين النصارى خير منهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي صلى الله عليه وسلم الذي ولد في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته([7]).
وقال ابن كثير –رحمه الله– عندما تحدث عن حادثة الفيل: كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء([8]).
8- حفظ الله للبيت العتيق: وهي أن الله لم يقدر لأهل الكتاب -أبرهة وجنوده – أن يدمروا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة، حتى والشرك يدنسه، والمشركون هم سدنته ليبقى هذا البيت عتيقًا من سلطان المتسلطين، مصونًا من كيد الكائدين وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان، وعلى العباد، ويقود البشرية ولا يُقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام([9]).
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من قِبل الصليبية العالمية والصهيونية العالمية، ولا تني أن تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته من المشركين، سيحفظه إن شاء الله ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين([10]).
9- جعل الحادثة تاريخـًا للعرب: استعظم العرب ما حدث لأصحاب الفيل، فأرخوا به، وقالوا وقع هذا عام الفيل وولد فلان عام الفيل، ووقع هذا بعد عام الفيل بكذا من السنين، وعام الفيل صادف عام 570م([11]).

***






([1]) انظر: تفسير الرازي (32/94).
([2]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص112.
([3]) انظر: محاسن التفسير للقاسمي (17/262).
([4]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص112.
(5) انظر: السيرة النبوية للندوي ص92.

([6]) انظر: أعلام النبوة للماوردي ص185-189.
([7]) انظر: الجواب الصحيح (4/122)
([8]) انظر: تفسير ابن كثير (4/548، 549).
([9]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص113.
([10]) في ظلال القرآن (6/3980)
([11]) انظر: السيرة النبوية للندوي ص93.

m elatwy 26-08-2014 02:39 PM

اللهم صلى وسلم على اشرف الخلق محمد

عزتى في دينى 26-08-2014 09:02 PM

اللهم صل وسلم وبارك على محمد واله وصحبه وسلم

جزاكم الله خيرا استاذ محمد

محمد رافع 52 27-08-2014 01:47 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة m elatwy (المشاركة 5979298)
اللهم صلى وسلم على اشرف الخلق محمد

عليه اقضل صلاة وازكى سلام
بارك الله فيك

محمد رافع 52 27-08-2014 01:49 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aya ramadan. (المشاركة 5979619)
اللهم صل وسلم وبارك على محمد واله وصحبه وسلم

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aya ramadan. (المشاركة 5979619)

جزاكم الله خيرا استاذ محمد


عليه اقضل صلاة وازكى سلام
بارك الله فيكِ

محمد رافع 52 29-08-2014 03:47 PM

- دروس وعبر:

أ- بركة النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة حليمة: فقد ظهرت هذه البركة على حليمة السعدية في كل شيء، ظهرت في إدرار ثدييها وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها، وقد كان كثير البكاء مزعجًا لأمه يؤرقها ويمنعها من النوم، فإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئًا, وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يُعهد.
ب- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس من ذلك غرابة ولا عجب([1])، فخلف ذلك حكمة أن يُحب أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم([2]).
جـ- خيار الله للعبد أبرك وأفضل: اختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ لأنها لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر الله واختياره والرضا به، ولا يندم على ما مضى وما لم يقدره الله تعالى.
د- أثر البادية في صحة الأبدان وصفاء النفوس، وذكاء العقول: قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وتنشئة الأولاد في البادية, ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف.
إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش.
ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود –فيما يعود– إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع، ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون ***اتها الفساح مدارج طفولتهم، وكثير من علماء التربية يودون لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق([3]).
وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد اللسان العربي الفصيح، وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق، فعندما قال له أبو بكر t يا رسول الله ما رأيت أفصح منك. فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد» ([4]).

---------------

([1]) فقه السيرة النبوية للبوطي, ص44. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص105.

([3]) انظر: فقه السيرة ص60، 61.
([4]) الروض الأنف للسهيلي (1/188).

محمد رافع 52 29-08-2014 03:49 PM

2- ما يستفاد من حادثة شق الصدر:
تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل([1]).
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه([2])، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه –يعني ظئره– فقالوا: إن محمدًا قد ***، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال إنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره([3]).
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم([4]) رغم انتشار ذلك في قريش([5]).
وتحدث الدكتور البوطي عن الحكمة في ذلك فقال: يبدو أن الحكمة في ذلك إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته، إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم([6]), إن إخراج العلقة منه تطهير للرسول صلى الله عليه وسلم من حالات الصبا اللاهية العابثة المستهترة, واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له، وأنه ليس للشيطان عليه سبيل([7]).
------------------------


([1]) انظر: فقه السيرة للبوطي ص47.
([2]) جمعه وضم بعضه إلى بعض (شرح النووي على مسلم 2/216).
([3]) مسلم، كتاب الإيمان، (1/45)رقم 259.
([4]) زعم المستشرق نيكلسون أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير الآية ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ) وأنه لو كان لها أصل فعلينا أن نخمن أنها تشير إلى نوع من الصرع، وهذا الذي زعمه نيكسون سبقه إليه المشركون حين اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون فنفى الله عنه ذلك ( وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ).
([5]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/104).
([6]) انظر: فقه السيرة للبوطي, ص47.
([7]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص106، 107.

محمد رافع 52 29-08-2014 03:51 PM

خامسًا: وفاة أمه وكفالة جده ثم عمه:
توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة,([1]) ودفنت بالأبواء, وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم - فقد كان جده مهيبًا, لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش أبيهم, فيقف الأب الجد بجانبه, ويرضى أن يبقى جالسًا على فراشه متوسمًا فيه الخير، وأنه سيكون له شأن عظيم([2]) وكان جده يحبه حبًا عظيمًا، وكان إذا أرسله في حاجة جاء بها وذات يوم أرسله في طلب إبل فاحتبس عليه([3]) فطاف بالبيت وهو يرتجل يقول:
رب رد راكبي محمدا --- رده لي واصنع عندي يدا




فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل فقال له: يا بني, لقد حزنت عليك كالمرأة حزنًا لا يفارقني أبدًا([4]).
ثم توفي عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره([5])، فأوصى جده به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه([6]).
أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الذراع التي تمعن في تدليله, والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني([7]) وكانت المصائب التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور، وتجعلها أكثر رقة وتواضعًا.
------------------


([1]) ابن هشام في السيرة (1/168) وقد صرح ابن إسحاق بالتحديث.
([2]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص101. (3) صحيح السيرة النبوية للعلي ص 56.

([4]) أخرجه الطبراني في الكبير:5524، و صححه إبراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية ص56.
([5]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص101. (6) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى ص119.


([7]) انظر: فقه السيرة للبوطي ص46.

محمد رافع 52 29-08-2014 03:55 PM

سادسًا: عمله صلى الله عليه وسلم في الرعي:
كان أبو طالب مُقلاًّ في الرزق فعمل النبي صلى الله عليه وسلم برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم» فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم, كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» ([1])، إن رعي الغنم كان يتيح للنبي صلى الله عليه وسلم الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار، يتيح له لونًا من التربية النفسية من الصبر والحلم والأناة, والرأفة والرحمة, والعناية بالضعيف حتى يقوى, وزم قوى القوي حتى يستمسك للضعيف ويسير بسيره، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف من كل ما لا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف الضعيف([2]).
وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه صلى الله عليه وسلم التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات([3]) فكان رعي الغنم للنبي صلى الله عليه وسلم دربة ومرانًا له على سياسة الأمم.
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها، نظرا لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا تربية البشر([4]).
إن الراعي لا يعيش في قصر منيف ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج إلى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها([5]).
2- التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم, والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التواضع([6])، وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» فقال رجل: الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» [7]).
3- الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلا بد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء على الوحوش ومنعها من افتراس أغنامه([8]).
4- الرحمة والعطف: إن الراعي يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أو كُسرت أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها, فمن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان، وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان, وإرشاده وإنقاذه من النار وإسعاده في الدارين([9]).
5- حب الكسب من عرق الجبين: إن الله قادر على أن يغني محمدا صلى الله عليه وسلم عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد وعرق الجبين، ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد.
روى البخاري عن المقدام t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده» ([10]).
ولا شك أن الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها([11]) وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفًا على وظائفهم عندهم([12]).
إن إقبال النبي صلى الله عليه وسلم على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرزق يشير إلى دلائل هامة في شخصيته المباركة منها: الذوق الرفيع والإحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بهما نبيه صلى الله عليه وسلم ، لقد كان عمه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنو والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب ويتعب نفسه لمساعدة عمه في مؤونة الإنفاق، وهذا يدل على شهامة في الطبع وبر في المعاملة، وبذل للوسع([13]).
والدلالة الثانية: تتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا، لقد كان سهلاً على الله أن يهيئ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في صدر حياته من أسباب الرفاهية ووسائل العيش ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعيًا وراء الرزق.
ولكن الحكمة الربانية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني ***ه ([14]).

محمد رافع 52 04-09-2014 02:18 AM

سابعًا: حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة:
إن الله تعالى صان نبيه صلى الله عليه وسلم عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام, روى الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة: «أي خديجة، والله لا أعبد اللات والعزى أبدًا» ([1]) وكان لا يأكل ما *** على النصب، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل([2]).
«وقد حفظه الله تعالى في شبابه من نزعات الشباب ودواعيه البرئية التي تنزع إليها الشبوبية بطبعها، ولكنها لا تلائم وقار الهداة وجلال المرشدين»([3]) فعن علي بن أبي طالب t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إليَّ غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف، ومزامير، فقلت: ما هذا؟» فقالوا: فلان تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته» ([4]).
وهذا الحديث يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه ما يجده كل شاب من مختلف الميول الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، فكان يحس بمعنى السمر واللهو، ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
2- أن الله عز وجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل ما لا يتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها([5]).
ثامنًا: لقاء الراهب بحيرا بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو غلام:
«خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا([6]) على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم([7]) فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون، فلا يخرج إليهم ولا يلتفت.
قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب ([8]) حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرَّ([9]) ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف([10]) كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل([11]) قال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله, فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة([12]) عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم([13]) أن لا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة في***ونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمرًا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه.
قال: أنشدكم الله أيكم وليه([14])؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب([15]).

-----------------------



(3) نفس المصدر ص51. (4) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (1/51).

([4]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص57.
([5]) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص50، 51. (2) أشرفوا: طلعوا.

(3) حلو رحالهم: أي أنزلــــوها وفتحــــوها.

([8]) يتخللهم: يمشي بينهم.(5) خر: سقط.


([10]) الغضروف: رأس لوح الكتف. (7) رعية الإبل: رعايتها.


(8) مال فيء الشجرة عليه، مال ظلها (9) يناشدهم: يقسم عليهم.
(10) أيكم وليه: قريبه.(11) انظر: صحيح السيرة النبوية ص58، 59.

محمد رافع 52 04-09-2014 02:23 AM

عاشرا: حلف الفضول:
كان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار، وسببه أن رجلا من زبيد([1]) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته --- ببطن مكة نائي الدار والنفر



ومحرم أشعث لم يقض عمرته --- يا للرجال وبين الحِجر والحَجَر



إن الحرام لم تمت كرامته --- ولا حرم لثوب الفاجر الغُدر([2])




فقام الزبير بن عبد المطلب فقال: ما لهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعامًا، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه ما بل بحر صوفة، وما بقي جَبَلا ثبير وحراء مكانهما([3]).
ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه.
وسمت قريش هذا الحلف حلف الفضول، وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر.
وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبد المطلب:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا --- ألا يقيم ببطن مكة ظالم



أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا --- فالجار والمُعتـرّ([4]) فيهم سالم




وقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف الذي هدموا به صرح الظلم، ورفعوا به منار الحق، وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان.([5]) وقد قال صلى الله عليه وسلم: «شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه» ([6]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» ([7]).
دروس وعبر وفوائد:
1- إن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية([8]).
2- كان حلف الفضول واحة في ظلام الجاهلية، وفيه دلالة بينة على أن شيوع الفساد في نظام أو مجتمع لا يعني خلوه من أي فضيلة, فمكة مجتمع جاهلي هيمنت عليه عبادة الأوثان والمظالم والأخلاق الذميمة كالظلم والزنا والربا، ومع هذا كان فيه رجال أصحاب نخوة ومروءة يكرهون الظلم ولا يقرونه، وفي هذا درس عظيم للدعاة في مجتمعاتهم التي لا تحكِّم الإسلام، أو تحارب الإسلام([9]).
3- إن الظلم مرفوض بأي صورة، ولو وقع الظلم على أقل الناس([10])، إن الإسلام يحارب الظلم ويقف بجانب المظلوم دون النظر إلى لونه ودينه ووطنه و***ه([11]).
4- جواز التحالف والتعاهد على فعل الخير وهو من قبيل التعاون المأمور به في القرآن الكريم قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )[المائدة:2]، ويجوز للمسلمين أن يتعاقدوا في مثل هذا الحال لأنه تأكيد لشيء مطلوب شرعًا، على ألا يكون ذلك شبيهًا بمسجد الضرار، بحيث يتحول التعاقد إلى نوع من الحزبية الموجهة ضد مسلمين آخرين ظلمًا وبغيًا، وأما تعاقد المسلمين مع غيرهم على دفع ظلم أو في مواجهة ظالم، فذلك جائز لهم، على أن تلحظ في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل، وفي هذا الحديث دليل([12]). والدليل فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحب أن لي به حمر النعم»([13]) لما يحقق من عدل، ويمنع من ظلم، أو النكث به مقابل حمر النعم، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» ([14]) طالما أن يردع الظالم عن ظلمه, وقد بين صلى الله عليه وسلم استعداده للإجابة بعد الإسلام لمن ناداه بهذا الحلف([15]).
5- وعلى المسلم أن يكون في مجتمعه إيجابيًا فاعلاً، لا أن يكون رقمًا من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم محط أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى ليلقبوه بالأمين وتهفو إليه قلوب الرجال والنساء على السواء بسبب الخلق الكريم الذي حبا الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وما زال يزكو وينمو حتى تعلقت به قلوب قومه, وهذا يعطينا صورة حية عن قيمة الأخلاق في المجتمع، وعن احترام صاحب الخلق ولو في المجتمع المنحرف([16]).

* * *







([2]) انظر: الروض الأنف للسهيلي (1/155-156). (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/213).

(5) المعتر: الزائر من غير البلاد.
([5]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/214).
([6]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي, ص59، وصححه الألباني رحمه الله.
([7]) السيرة النبوية لابن هشام (1/134) فقه السيرة للغضبان، ص102.
([8]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/112).
([9]) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان ص110. (4) انظر: فقه السيرة للغضبان ص110.


([11]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص121.
([12]) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية (1/171، 172).
([13]،8) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/134). (9) انظر: الأساس في السنة (4/172).


([16]) انظر: فقه السيرة للغضبان ص110، 111.

محمد رافع 52 04-09-2014 02:26 AM

المبحث السادس


تجارته لخديجة وزواجه منها وأهم الأحداث إلى البعثة

أولاً: تجارته لخديجة وزواجه منها:
كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أرملة([1]) ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صدق حديثه, وعظم أمانته, وكرم أخلاقه, عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجرًا وتعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار، فقبل وسافر معه غلامها ميسرة، وقدما الشام، وباع محمد صلى الله عليه وسلم سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعت خديجة ما أحضره لها تضاعف مالها.
وقد حصل محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة على فوائد عظيمة بالإضافة إلى الأجر الذي ناله، إذ مر بالمدينة التي هاجر إليها من بعد, وجعلها مركزًا لدعوته، وبالبلاد التي فتحها ونشر فيها دينه، كما كانت رحلته سببًا لزواجه من خديجة بعد أن حدثها ميسرة عن سماحته وصدقه وكريم أخلاقه([2])، ورأت خديجة في مالها من البركة ما لم تر قبل هذا وأُخبرت بشمائله الكريمة، ووجدت ضالتها المنشودة, فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوج خديجة([3]) فرضي بذلك، وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب فخطبها إليه، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عشرين بَكرة، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت رضي الله عنها([4])، وقد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين وأربع بنات، وابناه هما: القاسم، وبه كان صلى الله عليه وسلم يكنى وعبد الله، ويلقب بالطاهر والطيب. وقد مات القاسم بعد أن بلغ سنًّا تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبد الله وهو طفل، وذلك قبل البعثة.
أما بناته فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقد أسلمن وهاجرن إلى المدينة وتزوجن([5]). هذا وقد كان عمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين تزوج خديجة رضي الله عنها خمسًا وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين سنة([6]).
دروس وعبر وفوائد:
1- إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، وصفة الأمانة والصدق في التجارة في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم, هي التي رغبت السيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فبارك الله لها في تجارتها، وفتح الله لها من أبواب الخير ما يليق بكرم الكريم.
2- إن التجارة مورد من موارد الرزق التي سخرها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وقد تدرب النبي صلى الله عليه وسلم على فنونها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التاجر الصدوق الأمين في هذا الدين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهذه المهنة مهمة للمسلمين ولا يقع صاحبها تحت إرادة الآخرين واستعبادهم وقهرهم وإذلالهم, فهو ليس في حاجة إليهم, بل هم في حاجة إليه وبحاجة إلى خبرته وأمانته وعفته.
3- كان زواج الحبيب المصطفى من السيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة وتعيش همومه([7]).
قال الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله-: وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية, ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد صلى الله عليه وسلم أثر كريم([8]).
4- نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذاق مرارة فقْد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله –وله الحكمة البالغة– ألا يعيش له صلى الله عليه وسلم أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلا لفطرته البشرية، وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقص النبي في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضا ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء([9]), وكأن الله أراد للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الرقة الحزينة جزءًًا من كيانه؛ فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت, إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين([10]).
5- يتضح للمسلم من خلال قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة، عدم اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتما بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سنًا، أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لشرفها ومكانتها في قومها، فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
6- وفي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة ما يلجم ألسنة وأقلام الحاقدين على الإسلام وقوة سلطانه, من المستشرقين وعبيدهم العلمانيين, الذين ظنوا أنهم وجدوا في موضوع زواج النبي صلى الله عليه وسلم م***ا يصاب منه الإسلام، وصوروا النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الرجل الشهواني الغارق في لذاته وشهواته، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة لها ما يقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله، وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائما حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاما، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي امرأة أخرى، وما بين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفكر في هذه الفترة بأن يضم إلى خديجة مثلها من النساء: زوجة أو أمة، ولو أراد لكان الكثير من النساء والإماء طوع بنانه.
أما زواجه بعد ذلك من السيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب, يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه وكمال أخلاقه([11]).

-------------------------

([1]) تزوجها عتيق بن عائذ ثم مات عنها، فتزوجها أبو هالة ومات أيضا.
([2]) انظر: رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/27). (3) انظر: مواقف تربوية ص56.

([4]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص122. (5) انظر: رسالة الأنبياء (3/28).


([6]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص122.
([7]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/122، 123). (2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.

([9]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/223، 224). (4) انظر: فقه السيرة، للغزالي ص78.

(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص53، 54.

محمد رافع 52 04-09-2014 02:29 AM

ثانيًا: اشتراكه في بناء الكعبة الشريفة:
لما بلغ محمد صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لما أصابها من حريق وسيل جارف صدّع جدرانها، وكانت لا تزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رضما([1]) فوق القامة فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها, ولكنهم هابوا هدمها، وخافوا منه، فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم نزغ، ولا نريد إلا الخير.
وهدم من ناحية الركنين: فتربص الناس تلك الليلة, وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد غاديًا يهدم، وهدم الناس معه حتى انتهوا إلى حجارة خُضرة كالأسنمة([2]) آخذ بعضها ببعض.
وكانوا قد جزؤوا العمل, وخصوا كل قبيلة بناحية، واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها، وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس في بناء الكعبة وكانا ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض([3]) وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: «إزاري إزاري» فشد عليه إزاره([4]) فلما بلغوا موضع الحجر الأسود اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، وكادوا يقتتلون فيما بينهم، لولا أن أبا أمية بن المغيرة قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك دخل محمد صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا, فلما أخبروه الخبر قال: «هلموا ثوبًا؟» فأتوه به فوضع الحجر فيه بيديه ثم قال: «لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعًا» فرفعوه، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
وأصبح ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعًا, ورفع بابها عن الأرض بحيث يصعد إليه بدرج، لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤوا، وليمنعوا الماء من التسرب إلى جوفها، وأسند سقفها إلى ستة أعمدة من الخشب، إلا أن قريشًا قصرت بها النفقة الطيبة عن إتمام البناء على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجر، وبنوا عليه جدارًا قصيرًا دلالة على أنه منها؛ لأنهم شرطوا على أنفسهم أن لا يدخل في بنائها إلا نفقة طيبة، ولا يدخلها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد([5]).
دروس وعبر وفوائد:
1- بنيت الكعبة خلال الدهر كله أربع مرات على يقين:
فأما المرة الأولى منها: فهي التي قام بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، يعينه ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
والثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل البعثة، واشترك في بنائها النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالثة: عندما احترق البيت من رميه بالمنجنيق في زمن يزيد بن معاوية بفعل الحصار الذي ضربه الحصين السكوني, على ابن الزبير حتى يستسلم، فأعاد ابن الزبير بناءها.
وأما الرابعة: في زمن عبد الملك بن مروان بعدما *** ابن الزبير, حيث أعاده على ما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم([6]), لأن ابن الزبير باشر في رفع بناء البيت، وزاد فيه الأذرع الستة التي أخرجت منه، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه، وإنما جرأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابًا شرقيًا وبابًا غربيًا فبلغت به أساس إبراهيم»([7]).
2- طريقة فض التنازع كانت موفقة وعادلة، ورضي بها الجميع وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروبًا طاحنة، وكان من عدل حكمه أن رضيت به جميع القبائل, ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وتسديده قبل البعثة، إن دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب الصفا كان قدرًا من الله، لحل هذه الأزمة المستعصية، التي حُلت نفسيًّا قبل أن تحل على الواقع، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الأمين الذي لا يظلم وهو الأمين الذي لا يحابي ولا يفسد, وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء([8]).
3- إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم الأدبية في الوسط القرشي([9]), وحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة شرفان، شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، وشرف تنافس عليه القوم وادخره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه
من البيت([10]).

4- إن المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي, وكمال التوفيق الرباني في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما يلاحظ كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ما تراه في حياته كلها صلى الله عليه وسلم وذلك معلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله([11]).

-------------------------

([1]) الرضم: حجارة منضودة بعضها على بعض من غير طين.
([2]) جمع سنام وهو أعلى ظهر البعير.
([3]) ففعل ذلك فوقع.
([4]) رواه البخاري، كتاب الحج رقم 1582.
([5]) انظر: وقفات تربوية ص 57، رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر، (3/29، 30).
([6]) السيرة النبوية للبوطي، ص57، 58. (2) البخاري: كتاب العلم رقم 126.


([8]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ص125. (4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/116).


([10]) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس, ص125، 126.
([11]) انظر: الأساس في السنة وفقهها- السيرة النبوية (1/175).

محمد رافع 52 04-09-2014 02:32 AM

ثالثـًا: تهيئة الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
شاءت حكمة الله تعالى أن يعد الناس لاستقبال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأمور منها:
1- بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم:
دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم، فأرسل محمدًا إجابة لدعوته، قال تعالى: )رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ([البقرة:129] وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين فقال تعالى: )الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ([الأعراف:157].
وبشر به عيسى عليه السلام، قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ
أَحْمَدُ([الصف:6].

وأعلم الله تعالى جميع الأنبياء ببعثته، وأمرهم بتبليغ أتباعهم بوجوب الإيمان به, واتباعه إن هم أدركوه([1]) كما قال تعالى: )وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ([آل عمران:81].
وقد وقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل, وحذف منهما التصريح باسم محمد صلى الله عليه وسلم إلا توراة السامرة, وإنجيل برنابا الذي كان موجودًا قبل الإسلام, وحرمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثًا، فقد جاء في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما جاء في الإصحاح الحادي والأربعين منه ونص العبارة: ([29] فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس [30] فلما التفت آدم رأى مكتوبا فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله)([2]).
قال ابن تيمية: «والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم» ثم قال: «ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشروا به يُعلم من وجوه:
أحدهما: ما في الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب.
الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب, ممن أسلم وممن لم يسلم, بما وجدوه من ذكره بها، وهذا مثل ما تواتر عن الأنصار, أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه، وأنه رسول الله, وأنه موجود عندهم، وكانوا ينتظرونه، وكان هذا من أعظم ما دعا الأنصار إلى الإيمان به لما دعاهم إلى الإسلام حتى آمن الأنصار به وبايعوه»([3]).
فمن حديث سلمة بن سلامة بن وقش t وكان من أصحاب بدر قال: «كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنًّا عليَّ بردة مضطجعًا فيها بفناء أهلي, فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقومٍ، وكانوا أهل شرك وأصحاب أوثان، لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت.
فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنًا أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به ولوَدَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور([4]) في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه([5]) وأن ينجو من تلك النار غدا.
قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد, وأشار بيده نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليَّ –وأنا من أحدثهم سنًّا– فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: «فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغيا وحسدا فقلنا: ويلك يا فلان: ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى: وليس به»([6]).
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله: «قد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة
محمد صلى الله عليه وسلم باسمه، ورأيت نسخة أخرى من الزبور فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في أخرى»([7]).

وقد ذكر عبد الله بن عمرو t صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: «.. والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميين([8])، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق([9])، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء([10])، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا»([11]).
ومن حديث كعب الأحبار قال: «إني أجد في التوراة مكتوبًا: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح أمته الحمادون، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل نجد، يأتزرون إلى أنصافهم، ويوضئون أطرافهم, صفُّهم في الصلاة، وصفُّهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة، ومهجره بطابة، وملكه بالشام»([12]).
2- بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:
أخبر سلمان الفارسي t في قصة إسلامه المشهورة عن راهب عمورية حين حضرته المنية قال لسلمان: «إنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره إلى أرض بين حَرَّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى, يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل»([13]).
«ثم قصَّ سلمان خبر قدومه إلى المدينة واسترقاقه ولقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، وإهدائه له طعامًا على أنه صدقة, فلم يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم إهدائه له طعاما على أنه هدية وأكله منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك» ([14]).
ومن ذلك إخبار أحبار اليهود ورجالاتها بقرب مبعثه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قصة أبي التيهان الذي خرج من بلاد الشام ونزل في بني قريظة ثم توفي قبل البعثة النبوية بسنتين، فإنه لما حضرته الوفاة قال لبني قريظة: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير –الشام– إلى أرض البؤس والجوع –يعني: الحجاز-؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إني قدمت هذه البلدة أتوكف –أنتظر– خروج نبي قد أظل زمانه، وكنت أرجو أن يبعث فأتبعه.
وقد شاع حديث ذلك, وانتشر بين اليهود وغيرهم حتى بلغ درجة القطع عندهم، وبناء عليه كان اليهود يقولون لأهل المدينة المنورة: إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، ن***كم معه *** عاد وإرم([15])، وكان ذلك الحديث سببًا في إسلام رجال من الأنصار وقد قالوا: «إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال اليهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن، ن***كم معه *** عاد وإرم»([16]).
وقد قال هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم: «وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم»([17]).
------------------


([1]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ص101، 102.
([2]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/118).
(1) انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/340).
([4]) التنور: الفرن. (3) يطبق عليه: يغلق عليه.


([6]) صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي ص31. (5) الجواب الصحيح (1/340).


([8]) حرزا للأميين: حفاظا لهم. (7) السخاب: رفع الصوت بالخصام.


([10]) العوجاء: ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها.
([11]) البخاري، كتاب التفسير رقم 4838. (3) صحيح السيرة النبوية ص30.

([13]) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/300).
([14]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/122).
([15]) انظر: دراسة تحليلية، د. محمد قلعجي ص107.
([16]) ابن هشام، بإسناد حسن (1/231). (2) انظر: صحيح السيرة النبوية ص146.


محمد رافع 52 04-09-2014 02:33 AM

3- الحالة العامة التي وصل إليها الناس:
لخص الأستاذ الندوي الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتذاك بقوله: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الإنسان في منتصف القرن السادس المسيحي أكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون في أفراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر.
ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض الجاهلية، ووثنية تخريبية, تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويؤوي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الإنسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد قال تعالى: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122].
قضية ا***اع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية, ترسيخًا لا يتصور فوقه، وغرس ميل إلى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الإنسانية والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف كل مقاومة وبالجملة الأخذ بحجز الإنسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق أولها سعادة، يحظى بها العارفون المؤمنون, وآخرها جنة الخلد التي وُعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المن ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم([1]): ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )[آل عمران:103].

-------------------------

([1]) انظر: الأساس في السنة وفقهها السيرة النبوية، سعيد حوى (1/180، 181).

محمد رافع 52 04-09-2014 02:35 AM

4- إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم:
ومن إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم تسليم الحجر عليه قبل النبوة، فعن جابر بن سَمُرَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن»([1]). ومنها الرؤيا الصادقة وهي أول ما بدئ له من الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح([2]).
وحبب إليه صلى الله عليه وسلم العزلة والتحنث (التعبد) فكان يخلو في غار حراء وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة, وتارة أكثر من ذلك إلى شهر، ثم يعود إلى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلا حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى، ويعود الكرة إلى غار حراء، وهكذا إلى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك([3]).

* * *






([1]) مسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه قبل النبوة رقم 2277.
([2]) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 3.
([3]) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص60.

محمد رافع 52 06-09-2014 08:32 PM

الفصل الثاني


نزول الوحي والدعوة السرية


المبحث الأول


نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم

كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليالٍ أخرى، وفي نهار يوم الاثنين([1]) من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء([2])، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه –وهو التعبد– الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: «ما أنا بقارئ» فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ )[العلق:1: 4] فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: «زملوني! زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خشيت على نفسي» فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل([3]) وتكسب المعدوم([4])، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق([5])، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى, ابن عم خديجة، وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى: فقال له ورقة: هذا الناموس([6]) الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا([7])، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَمُخْرِجِيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا([8])، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي([9])»([10]).
عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن أهمها:
أولاً: الرؤيا الصالحة:
ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن أول ما بدئ به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحيانًا بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح([11]) ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا, وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل, فقد يصيبه شيء من الفزع، فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده([12]) والرؤيا الصادقة الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما ورد في الحديث الشريف([13]) وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة.
والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «أيها الناس, إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له»([14]).
فكان صلى الله عليه وسلم قبل نزول جبريل عليه السلام عليه بالوحي في غار حراء يرى الرؤى الجميلة فيصحو منشرح الصدر، متفتح النفس لكل ما في الحياة من جمال([15])، لقد أجمعت الروايات من حديث بدء الوحي أن أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منها شيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبهت السيدة عائشة رضي الله عنها- وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه([16]).
ثانيًا: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه:
وقبيل النبوة حبب إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم الخلوة، ليتفرغ قلبه وعقله وروحه إلى ما سيلقى إليه من أعلام النبوة، فاتخذ من غار حراء متعبدًا، لينقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، واستجماعًا لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية، وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، تفرغًا لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود([17]) والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يبعث على التأمل والتفكر، تنظر إلى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه, مكة إذا كان حاد البصر([18]).
كانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه([19]).
وقد أخذ بعض أهل السلوك إلى الله من ذلك, فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحل السلوك، لتنوير قلبه وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفوته، ومن سنن النبي صلى الله عليه وسلم سنة الاعتكاف في رمضان([20]) وهي مهمة لكل مسلم سواء كان حاكمًا أو عالمًا، أو قائدًا، أو تاجرًا.. لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب([21]).
ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره.
وفي قول السيدة عائشة: «فيتحنث الليالي ذوات العدد» يقول الشيخ محمد عبد الله دراز: «هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل إلى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، وما زال هذا الهدي الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال، شعارًا للملة الإسلامية ورمزًا للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين»([22]).

محمد رافع 52 06-09-2014 08:33 PM

ثالثـًا: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء المَلَك فقال: اقرأ.
قال: قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ`خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ`اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ`الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ )[العلق:1-4].
لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم, فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان([23]) وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقد كان هذا الحادث ضخمًا، لقد عبر عنه الشهيد سيد قطب –رحمه الله– في ظلاله فقال: «إنه حادث ضخم, ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد –بغير مبالغة– هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم –في عليائه– فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون, لا يكاد يُرى اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده – سبحانه – بهذه الخليقة..»([24]).
كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته, في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة([25]).
وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ )[العلق:1].
وما زال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم
قال تعالى: ( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )[المجادلة:11] وقال سبحانه ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ )[الزمر:9].

إن مصدر العلم النافع من الله عز وجل، فهو الذي علم بالقلم, وعلم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها([26]).
رابعًا: الشدة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم ووصف ظاهرة الوحي:
لقد قام جبريل عليه السلام بضغط النبي صلى الله عليه وسلم مرارا حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من الوحي شدة وتعبًا وثقلاً كما قال تعالى: ( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً )[المزمل:5]. كان في ذلك حكمة عظيمة لعل منها: بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الاهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ما جاءها إلا بعد شدة وكرب([27]).
إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية, حيث تلقى النبي صلى الله عليه وسلم كلام الله (القرآن) بواسطة الملك جبريل (عليه السلام)؛ وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني, أو الاستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي صلى الله عليه وسلم، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحى وتبليغه، وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله صلى الله عليه وسلم([28]).
إن حقيقة الوحي, هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين, بعقائده وتشريعاته وأخلاقه, ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم, بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي، وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمدًا كان رجلاً عصبيًا أو مصابًا بداء الصرع([29]).
والحقيقة تقول: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له: اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمرا ذاتيًا داخليًا مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقٍّ لحقيقة خارجية لا علاقة لها بالنفس وداخل الذات، وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلا في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيدا لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ما قد يتصور، من أن الأمر لا يعدو كونه خيالاً داخليًا فقط.
ولقد أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب والخوف مما سمع ورأى, وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده, وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متشوقا للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس,([30]) وقد قال تعالى تأكيدا لهذا المعنى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ` صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ )[الشورى:52-53].
وقال تعالى ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.قُل لَّوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )[يونس: 15،16].
لقد تساقطت آراء المشككين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة رضي الله عنها، وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي، وأنه ليس كما أراد المشككون.
وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي:
1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فورًا، وعلى حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه؛ لا لأن الحديث كلام من عنده لا علاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحى به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عز وجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عز وجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2- كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسأل عن بعض الأمور، فلا يجيب عليها وربما مر على سكوته زمن طويل، حتى تنزل آية من القرآن في شأن سؤاله، وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.
3- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميًّا.. وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف عليه السلام, وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم، وقصة فرعون, ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه صلى الله عليه وسلم أميًّا: ( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ )[العنكبوت:48].
4- إن صدق النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون صلى الله عليه وسلم من قبل ذلك صادقًا مع نفسه، ولذا فلا بد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره, وكأن هذه الآية جاءت ردًا لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي ( فَإِن كُنْتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ )[يونس:94].
ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول هذه الآية: «لا أشك ولا أسأل»([31]).

محمد رافع 52 06-09-2014 08:42 PM

خامسًا: أنواع الوحي:
تحدث العلماء عن أنواع الوحي فذكروا منها:
1- الرؤيا الصادقة: وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم, وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد جاء في الحديث «رؤيا الأنبياء وحي»، قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام: ( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ).
2- الإلهام: وهو أن ينفث الملك في روعه – أي قلبه من غير أن يراه- كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي» ([32]) أي: إن جبريل عليه السلام نفخ في قلبي: «أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» ([33]).
3- أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، أي مثل صوته في القوة، وهو أشده، كما في حديث عائشة: أن الحارث t سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي, فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول»([34]).
4- ما أوحاه الله تعالى إليه، بلا وساطة ملك, كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء([35]).
5- أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله تعالى أن يوحيه.
6- أنه صلى الله عليه وسلمكان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا([36]). هذا ما قاله ابن القيم عن مراتب الوحي.
لقد كان نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية عهد جديد في حياة الإنسانية بعد ما انقطع، وتاهت البشرية في دياجير الظلام.
وكان وقْع نزول الوحي شديدًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من النص, بالرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلبًا، كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر، ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله تعالى, ليستقبله من اصطفاه الله جل وعلا لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر.
ولقد كان موقفًا رهيبًا ومسئولية عظمى, لا يقوى عليها إلا من اختاره الله تبارك وتعالى لحمل هذه الرسالة وتبليغها([37]).
ومما يصور رهبة هذا الموقف ما جاء في هذه الرواية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خشيت على نفسي» وقول عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: (فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها قال: «زملوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع.
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الإمام البخاري ومسلم -رحمهما الله- من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: (ولقد رأيته –تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقًا) ([38]) وحديث عبادة بن الصامت t قال: (كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك وترَبَّد وجهه)([39]).
سادسًا: أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة:
كان موقف خديجة رضي الله عنها يدل على قوة قلبها، حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر، واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر إلى ورقة بن نوفل، وعرضت الأمر عليه([40]).
كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها، حيث قارنت بين ما سمعت, وواقع النبي صلى الله عليه وسلم, فأدركت أن من جُبـِـل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبدًا، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الإنسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والإحسان إلى الناس، فإن أقارب الإنسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء أقاربه, وكسبهم بما له عليهم من معروف كان طبيعيا بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس([41]).
كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها قد سارعت إلى إيمانها الفطري، وإلى معرفتها بسنن الله تعالى في خلقه، وإلى يقينها بما يملك محمد صلى الله عليه وسلم من رصيد الأخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، وإلى ما ألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم في مواقف, لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الإنسانية السارية في حياة ذوي المكارم، من أصحاب المروءات في خاصة البشر([42]).
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، وأشرف الشمائل العلية، وأكمل النحائز الإنسانية ما يضمن له الفوز, ويحقق له النجاح والفلاح, فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي([43]), فقد استنبطت خديجة رضي الله عنها من اتصاف محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قط؛ لأن الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله تعالى جمَّل أحدًا من عباده بفطرة الأخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره الله عليها، لا تُطاول ولا تُسامى([44]).
ولم تكتفِ خديجة رضي الله عنها بمكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم دليلاً على نبوته, بل ذهبت إلى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل -رحمه الله- الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان, لما عرفه من علماء أهل الكتاب, على دنو زمانه, واقتراب مبعثه، وكان لحديث ورقة أثر طيب في تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه, وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيرا بين الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
لَجـِجت وكنت في الذكرى لجوجًا --- لَهمٍّ طالما بعث النَّشيجا



ووصفٍ من خديجة بعد وصفٍ --- فقد طال انتظاري يا خديجا



ببطن المكَّتين([45]) على رجائي --- حديثك أن أرى منه خروجا



بما خَبرَّتنا من قول قَس --- من الرهبان أكره أن يعوجا



بأن محمدًا سيسود فينا --- ويَخْصِم من يكون له حجيجا([46])




لقد صدَّق ورقة بن نوفل برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين»([47]).
وعن عائشة رضي الله عنها أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله عن ورقة فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» قال الهيثمي: وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «أبصرته في بُطنان الجنة وعليه السندس»([48]).
لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدور مهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية, من الرحمة والحلم والحكمة والحزم, وغير ذلك من مكارم الأخلاق, والرسول صلى الله عليه وسلم قد وفقه الله تعالى إلى هذه الزوجة المثالية؛ لأنه قدوة للعالمين وخاصة للدعاة إلى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الإسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها([49]).
إن السيدة خديجة رضي الله عنها مثال حسن, وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية إلى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة، ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب همٍّ ورسالة، همٍّ على ضياع أمته، وانتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهمٍّ لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات, وظلم وجوع، وإذلال، وما يصيب الدعاة منهم من تشريد وتضييق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتًا طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها ما دام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت الزوجة من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ما أوتيت، إنه يحتاج إلى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تمامًا ما يقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، وما يعانيه من مشاقّ, فتقف إلى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقا وشوكة في طريقه([50]).
إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد اتضح ذلك في موقف خديجة رضي الله عنها وما قامت به من الوقوف بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة إلى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين([51]) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة»([52]).

محمد رافع 52 06-09-2014 08:46 PM

سابعًا: وفاء النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً عاليًا للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة, في حياتها وبعد مماتها، وقد بشرها صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة في حياتها، وأبلغها سلام الله جل وعلا, وسلام جبريل عليه السلام، فعن أبي هريرة t قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام –أو طعام أو شراب– فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها, عز وجل, ومني, وبشرها ببيت في الجنة من قصب([53]) لا صخب فيه ولا نصب»([54]).
وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بعد وفاتها بقولها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة, وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما *** الشاة ثم يقطّعها أعضاءً ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد»([55]).
وأظهر صلى الله عليه وسلم البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذنت عليه لتذكُّره خديجة, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة([56]) فارتاح لذلك، فقال: «اللهم هالة بنت خويلد» فغرت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين([57]) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرًا منها ([58])، وأظهر صلى الله عليه وسلم الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة وبين أن حفظ العهد من الإيمان([59]).
ثامنًا: سنة تكذيب المرسلين:
(يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم«أَوَ مُخرجيّ هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا) ([60]) فقد بين الحديث سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم إلى الله عز وجل وهي التكذيب والإخراج, كما قال تعالى عن قوم لوط: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ )[النمل:56].
وكما قال قوم شعيب: ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ )[الأعراف:88].
وقال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ )[إبراهيم:13].
تاسعًا: قوله «وفتر الوحي»:
تحدث علماء السيرة قديمًا وحديثًا عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخيره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود([61]).
فعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث- أي بحديث النبي صلى الله عليه وسلم- عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ` قُمْ فَأَنْذِرْ` وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ` وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ )[المدثر:1-5] فحمى الوحي وتتابع»([62]).
وقال صفي الرحمن المباركفوري: أما مدة فترة الوحي فاختلفوا فيها على عدة أقوال, والصحيح أنها كانت أيامًا, وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك ، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنين أو سنتين ونصف فليس بصحيح, وأما ما جاء بلاغًا أنه صلى الله عليه وسلم حزن حزنًا جعله يغدو ليتردى من شواهق الجبال، وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله فمرسل ضعيف، كما أنه يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه وسلم([63]).

***




([1]) انظر: صحيح السيرة للعلي ص67.
([2]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/125).
([3]) تحمل الكل: تنفق على الضعيف، واليتيم والعيال، والكل أصله: الثقل والإعياء.
([4]) وتكسب المعدوم: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق.
([5]) نوائب الحق:الكوارث والحوادث.
([6]) الناموس: هو جبريل عليه السلام.
([7]) جَذَعا: الشاب القوي. (3) مؤزرا: قويًا بالغًا.


([9]) فتر الوحي: تأخر نزوله. (5) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 3.


([11]) انظر: طريق النبوة والرسالة، حسين مؤنس ص 21.
([12]) انظر: منامات الرسول صلى الله عليه وسلم، عبد القادر الشيخ إبراهيم ص57.
([13]) انظر: الرؤيا ضوابطها وتفسيرها، هشام الحمصي ص7.
([14]) ابن ماجه، كتاب تعبير الرؤيا رقم 3899 حسن الإسناد.
([15]) انظر: طريق النبوة والرسالة ص22.
([16],2) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (1/254).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/256).
(4) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (1/469).
(5) انظر: الأساس في السنة وفقهها - السيرة النبوية، سعيد حوى (1/195).

([21]) انظر: فقه السيرة للغضبان.
([22]) المختار من كنوز السنة /19 ط2 1978، دار الأنصار / القاهرة.
([23]) انظر: تفسير ابن كثير (4/528).
([24]) في ظلال القرآن (6/3936) (4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/260).


([26]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى ص34. (2) نفس المصدر ص30، 31.

([28]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/129).
([29]) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ص64.
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64.

([31]) أخرجه الطبراني 17906، 17908، بسنده عن قتادة، تفسير القرطبي، (8/340).
([32]) حديث صحيح بشواهده (زاد المعاد (1/78) مؤسسة الرسالة.
([33]) نفس المصدر (زاد المعاد 1/79).(4) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 2.
(5) انظر: الرؤى والأحلام في النصوص الشرعية، أسامة عبد القادر ص108.
(6) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، (1/33-34).


([37]) انظر: التاريخ الإسلامي مواقف وعبر للحميدي (1/60).
([38]) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 2، مسلم، كتاب الفضائل رقم 2333.
([39]) مسلم، كتاب الفضائل رقم 2334.
([40]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/61). (5) انظر التاريخ الإسلامي للحميدي (1/64).


([42]) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (1/307).
([43]) انظر: محمد رسول الله، عرجون (1/307، 308). (3) نفس المصدر (1/232).

([45]) المكتين: جانبا مكة،أو بطاحها وظواهرها. (5) سيرة ابن هشام (1/191، 192).

([47]) المستدرك (2/609) وقال: صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(2) مجمع الزوائد (9/416).
([49]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/69).
([50]) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، البلالي ص40.
([51]) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/68).
([52]) رواه مسلم رقم 1467, ص1090، كتاب الرضاع.(3) يعني: من لؤلؤ أو ذهب.


([54]) مسلم، كتاب فضائل الصحابة ص1887، رقم 2432.
([55]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار (7/132)
([56]) يعني لتشابه صوتيهما.(7) يعني لا أسنان لها من الكبر.
(8) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ص1889 رقم 2437. (9) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (1/71).



(1) البخاري، كتاب الوحي، مسلم (2/197-204) الإيمان.
(2) فتح الباري (1/36).
(3) البخاري، بدء الوحي رقم 4. (4) الروض الأنف للسهيلي، (2/433-434).


hi all 06-09-2014 10:13 PM

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

محمد رافع 52 06-09-2014 10:24 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hi all (المشاركة 5990563)
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد

عليه افضل صلاة وازكى سلام

محمد رافع 52 16-09-2014 12:33 AM

المبحث الثاني


الدعــــوة الســـــــــــــرية

أولاً: الأمر الرباني بتبليغ الرسالة:
عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة اليقين أنه أصبح نبيا لله الرحيم الكريم، وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، وأنزل الله على نبيه قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ` قُمْ فَأَنْذِرْ` وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ` وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ )[المدثر:1-4].
كانت هذه الآيات المتتابعة إيذانًا للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم, يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته([1]).
وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية, والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع([2]).
كانت هذه الآيات تهييجًا لعزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لينهض بعبء ما كُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدمًا بدعوته، لا يبالي العقبات والحواجز، كان هذا النداء المتلطف ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) إيذانا بشحذ العزائم, وتوديعًا لأوقات النوم والراحة, وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنهوض ( قُمْ ) في عزيمة ناهضة وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجيء الأمر بالإنذار منفردًا عن التبشير في أول خطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي, إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور، والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم، وشد أزره وحضه على المضي قدما إلى غاية ما أمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات مهما يكن شأنها فقيل له: ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي: لا تعظم شيئا من أمور الخلق, ولا يتعاظمك منهم شيء, فلا تتهيب فعلا من أفعالهم، ولا تخشى أحدًا منهم، ولا تعظم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، فرباك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده, حتى أخرجك للناس نبيًّا ورسولاً، بعد أن أعدّك خَلْقًا وخُلُقًا، لتحمل أمانة أعظم رسالاته، ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فكل تعظيم وتكبير وإجلال حق لله تعالى وحده، لا يشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته([3]).
وفي قوله: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: فأنت على طهرك وتطهرك بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا, أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله إلى العالمين، وكمال الرسالة في كمال الخلق الاجتماعي, صبرًا، وحلمًا، وعفوًا، وإحسانًا ودُؤُوبًا على الجد في تبليغ الدعوة إلى الله تعالى, ولا يثنيك إيذاء, ولا يقعدك عن المضي إلى غايتك فادح البلاء([4]).
وفي قوله: ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) فكأنه قيل له صلى الله عليه وسلم: ليكن قصدك ونيتك في تركك ما تركت، فطرة وطبعًا هَجْرَه تكليفًا وتعبدًا لتكون قدوة أمتك، وعنوان تطهرها بهداية رسالتك([5]).



([1]) انظر: فقه السيرة للغزالي ص90.
([2]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، د. كامل سلامة، ص181.
([3]) انظر: محمد رسول الله, صادق عرجون (1/589، 590، 591).
([4],2) محمد رسول الله ص(1/592، 593).
(3) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين كركر ص36.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:37 AM

ثانيًا: بدء الدعوة السرية:
بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه.
1- إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها:
كان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أول وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم بعد غار حراء([1]).
كان أول شيء فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة، وقد جاء في الأخبار حديث تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة الوضوء والصلاة, حين افترضت على رسول الله؛ أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت منه عين, فتوضأ جبريل عليه السلام, والرسول ينظر ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل عليه السلام فصلى به وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها, يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صلى به جبريل عليه السلام([2]).
2- إسلام علي بن أبي طالب t:
وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الإسلام، وكان أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن إسحاق([3])، وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام, حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه.([4]) وكان علي t ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد خديجة رضي الله عنها([5]).
وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيًا من أبيه، ومن جميع أعمامه, وسائر قومه, فيصليان الصلوات فيها, فإذا أمسيا رجعا, ليضمهما ذلك البيت الطاهر التقي بالإيمان, المفعم بصدق الوفاء وكرم المنبت([6]).
3- إسلام زيد بن حارثة t:
هو أول من آمن بالدعوة من الموالي([7]) حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومولاه، ومُتَبنَّاه: زيد بن حارثة الكلبي, الذي آثر رسولَ الله على والده وأهله، عندما جاءوا إلى مكة لشرائه من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فترك رسول الله الأمر لحارثة فقال زيد لرسول الله: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، وأنت مني بمنزلة الأب والعم، فقال له والده وعمه: ويحك تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، وإني رأيت من هذا الرجل شيئًا ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا أبدًا([8]).
4- إسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم:
وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم، كل من زينب، وأم كلثوم، وفاطمة ورقية، فقد تأثرن قبل البعثة بوالدهن صلى الله عليه وسلم في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن، فأسرعن إلى الإيمان([9])، وبذلك أصبح بيت النبي صلى الله عليه وسلم أول أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانة عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية, لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة فهو:
أول مكان تُلي فيه وحي السماء بعد غار حراء.
وهو أول بيت ضم المؤمنة الأولى سابقة السبق إلى الإسلام.
وهو أول بيت أقيمت فيه الصلاة.
وهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون إلى الإسلام، خديجة وعلي وزيد بن حارثة.
وهو أول بيت تعهد بالنصرة، ولم يتقاعس فيه فرد من أفراده كبارا أو صغارا عن مساندة الدعوة([10]).
يحق لهذا البيت أن يكون قدوة، ويحق لربته أن تكون مثالاً ونموذجًا حيًّا لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة, مخلصة, وزيرة الصدق والأمان، وابن العم المحضون والمكفول, مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات([11]).
وهكذا كان للبيت النبوي مكانته الأولى, والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في المعاشرة, ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله ربًّا وبمحمد نبيًّا ورسولاً([12]).
إن الحقيقة البارزة في المنهج الرباني تشير إلى أهمية بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، كأول حلقة من حلقات الإصلاح، والبناء، ثم المجتمع الصالح، ولقد تجلت عناية الإسلام بالفرد المسلم وتكوينه ووجوب أن يسبق أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي, ولما كانت الأسرة التي تستقبل الفرد منذ ولادته وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به طوال حياته، فهي المحضن المتقدم الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها، كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع، فإذا كان هذا الوسط سليمًا قويًّا أمد طرفيه -الفرد والمجتمع- بالسلامة والقوة([13]).
ولهذا اهتم الإسلام بالأسرة واتجه إليها, يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نموًّا سليمًا، ويوجهها الوجهة الربانية لتكون حلقة قوية في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي تسعى لصناعة الحضارة الربانية في دنيا الناس([14]).

محمد رافع 52 16-09-2014 12:40 AM

5- إسلام أبي بكر الصديق t:
كان أبو بكر الصديق t أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم([15]) حين دعوته ولا تردد فيه»([16])، فأبو بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو حسنة من حسناته عليه الصلاة والسلام, لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن إسحاق في موقع العين منها:
كان رجلا مألفًا لقومه محببًا سهلاً.
وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها, وبما كان فيها من خير وشر.
وكان رجلاً تاجرًا.
ذا خلق ومعروف.
وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر, لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته([17]).
لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز، ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه, جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لألفة القوم, وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر» ([18]) وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق t النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها، وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علمًا لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون، والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائمًا، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تلقى عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه([19]) كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيما، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم:
عثمان بن عفان t في الرابعة والثلاثين من عمره.
عبد الرحمن بن عوف t في الثلاثين من عمره.
سعد بن أبي وقاص t وكان في السابعة عشرة من عمره.
والزبير بن العوام t وكان في الثانية عشرة من عمره.
وطلحة بن عبيد الله t وكان في الثالثة عشرة من عمره([20]).
كان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر t, دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهم أعزه الله وأيده, وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد، والاثنين، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام([21]).
إن تحرك أبي بكر t في الدعوة إلى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته إلى أن توفاه الله جل وعلا لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
ونلاحظ أن أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة، ولهذا كان أثر
أبي بكر t في الإسلام أكثر من غيره([22]).

بعد أن كانت صحبة الصديق لرسول الله، مبنية على مجرد الاستئناس النفسي والخلقي, صارت الأنسة بالإيمان بالله وحده، وبالمؤازرة في الشدائد، واتخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبي بكر، وأُنس الناس به ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق، فوق ما كان له عليه الصلاة والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس([23]).
ومضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء, والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة, التي ستسعى لإقامة دولة الإسلام ودعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس لها مثيل.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:41 AM

6- الدفعة الثانية:
جاء دور الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن مخزوم بن مرة ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم (برة بنت عبد المطلب) وأخوه من الرضاع، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقدامة وعبد الله ابنا مظعون، وفاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وزوجة سعيد بن زيد، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وخباب بن الأرت حليف بني زهرة([24]).
7- الدفعة الثالثة:
أسلم عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم.. بن هذيل, ومسعود بن القاري، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعيد بن عبد العزى، بن حمالة بن القارة.
وأسلم سليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب وعبد الله بن جحش وأخوه أحمد، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه حطاب بن الحارث, وامرأته فُكَيهة بنت يسار وأخوهما مَعْْمَر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب ابن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحَّام بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وفهيرة وأمه، وكان عبدًا للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وامرأته أُمَينة بنت خلف، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف، وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عَنْسي من مَذْحج. وصهيب بن سنان, هو (سابق الروم).
ومن السابقين إلى الإسلام: أبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه([25]).
ومن أوائل السابقين: بلال بن رباح الحبشي.
وهؤلاء السابقون من جميع بطون قريش, عدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفرًا([26]).
وقال ابن إسحاق: ثم دخل الناس في الإسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة، وتُحدِّث به([27]).
ويتضح من عرض الأسماء السابقة، أن السابقين الأولين إلى الإسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يقول بعض الباحثين في السيرة:إنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ما شابه ذلك– وجانب الصواب بعض كُتَّاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين الأولين إلى الإسلام، عندما وصفوهم بأن معظمهم كان خليطـًا من الفقراء والضعفاء والأرقاء فما الحكمة في ذلك؟).
وبقولهم: كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها, أربعين رجلاً وامرأة, عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء، وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي)
إن البحث الدقيق يثبت أن مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف الأعاجم هو ثلاثة عشر، ونسبة هذا العدد من العدد الكلي من الداخلين في الإسلام لا يقال «أكثرهم» ولا «معظمهم» ولا «عامتهم».
إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن يدفعهم دافع دنيوي، وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له, ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم, يشترك في ذلك الشريف والرقيق، والغني والفقير, ويتساوى في هذا أبو بكر وبلال وعثمان وصهيب([28])، رضي الله عنهم.
ويقول الأستاذ صالح الشامي: نحن لا نريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء ولكن نريد أن ننفي أن يكونوا هم الغالبية - لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة – ولو كانوا كذلك لكانت دعوة طبقية, يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ، ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون، إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو يعلن إسلامه، إنهم يدخلون في هذا الدين على اعتبارهم إخوة في ظل هذه العقيدة، عبادا لله، وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الأولى بالذات من كرام أقوامهم، وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافًا من الهوان ما سبق لهم أن عانوها أو فكروا بها([29]).
لقد كان الإسلام ينساب إلى النفوس الطيبة, والعقول النيرة, والقلوب الطاهرة التي هيأها الله لهذا الأمر، ولقد كان في الأوائل خديجة وأبو بكر وعلى وعثمان والزبير، وعبد الرحمن وطلحة، وأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن جحش، وجعفر بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص، وفاطمة بنت الخطاب وخالد بن سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة وغيرهم، رضي الله عنهم, وهم من سادة القوم وأشرافهم([30]).
هؤلاء هم السابقون الأولون الذين سارعوا إلى الإيمان والتصديق بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم.





([2]) انظر: ابن هشام (1/244), من معين السيرة صالح الشامي ص41.
([3]) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/284). (2) ابن هشام (1/246).


([5]) عيون الأثر، ابن سيد الناس (1/115).
([6]) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين ص42.
([7]) يطلق المولى على السيد، وعلى المملوك الذي أعتق وهو المراد هنا.
([8]) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول د. محمد قلعجي ص191.
([9]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/284).
([10]) انظر: المرأة في العهد النبوي د. عصمة الدين ص43. (2) نفس المصدر ص45.


([12]) نفس المصدر ص46.
([13]) انظر: دولة الرسول من التكوين حتى التمكين، كامل سلامة ص208.
([14]) نفس المصدر ص208.
([15]) ما تلبث بل سارع. (2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/284).

([17]) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/371).
([18]) أورده الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/8) ج3.
([19]) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/115). (2) انظر: التربية القيادية (1/116).


([21]) انظر: محمد رسول الله، عرجون (1/533).
([22]) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة د. يحيى اليحيى ص62.
([23]) انظر: خاتم النبيين لأبي زهرة ص398.
([24]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين, ص212.
([25]) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/287). (2) انظر: سيرة ابن هشام (1/245 إلى 262).

([27]) المصدر السابق.
([28]) انظر: من معين السيرة صالح الشامي ص40.
([29],2) انظر: من معين السيرة صالح الشامي، ص40.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:43 AM

ثالثـًا: استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:
استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية, يستقطب عددا من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة, بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول صلى الله عليه وسلم لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية, وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة والمشقة, في تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنوا من شره، ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة, كما تقتضي صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين ملزمًا منذ البداية بالصلاة, ودراسة ما تيسر من القرآن -مثلا- ولم يكن يستطيع أن يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يتخفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة([1]).
1- الحس الأمني:
إن من معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكوّن من بعض المسلمين أُسرًا (مجموعات) وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب, لا اختفاء جبن وهروب حسب ما تقتضيه التدبيرات، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظم أصحابه من أسر ومجموعات صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما, عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل طعامه، ويجعل منهم حلقات, فمن حفظ شيئًا من القرآن علم من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم.
إن المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أتباعه هو: القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق والحس الأمني وغيرها؛ ولذلك نجد في القرآن الكريم آيات كريمة تحدثت عن الأخذ بالحس الأمني؛ لأن من أهم عوامل نهوض الأمة أن ينشأ الحس الأمني في جميع أفرادها، وخصوصا في الصف المنظم الذي يدافع عن الإسلام, ويسعى لتمكينه في دنيا الناس، ولذلك نجد النواة الأولى للتربية الأمنية كانت في مكة, وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى دولة.
ولا شك أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمن يريدون دعوته للإسلام وكانت القيادة تشرف على ذلك، ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب جهاز أمني رفيع يشرف على الاتصال المنظم بين القيادة والقواعد ليضمن تحقيق مبدأ السرية.
إن السيرة النبوية غنية في أبعادها الأمنية, منذ تربية الأفراد, وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات الإسلامية والدول المسلمة, لإيجاد أجهزة أمنية متطورة (في زمننا المعاصر) تحمي الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للإسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمنية، ولا بد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.
إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبهم المفاجآت العدوانية «إذا عرفت العدو وعرفت نفسك, فليس هناك ما يدعوك إلى أن تخاف نتائج مائة معركة، وإذا عرفت نفسك, ولم تعرف العدو فإنك ستواجه الهزيمة في كل معركة»([2]).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرف بنفسه على تربية أصحابه في كافة الجوانب، ووزعهم في أسر، فمثلا كانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، كانوا في أسرة واحدة مع نعيم بن عبد الله النحام بن عدي، وكان معلمهم خباب بن الأرت، وكان اشتغالهم بالقرآن لا يقتصرون منه على تجويد تلاوته وضبط مخارج حروفه ولا على الاستكثار من سرده، والإسراع في قراءته, بل كان همهم دراسته وفهمه, ومعرفة أمره ونهيه والعمل به([3]).
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم ويحسب لكل خطوة حسابها، وكان مدركًا تمامًا أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علنًا وجهرًا، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة الجماعة المؤمنة المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لا بد من مقر لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي وصحبه على دار الأرقم بن أبي الأرقم، إذ أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في السرية والتنظيم، ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان آمن بعيد عن الأنظار، ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده, خير وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد أتباعه ليكونوا بناة الدولة وحملة الدعوة، وقادة الأمم, هو حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان مجرد داعية لما احتاج الأمر إلى كل هذا.
ولو كان يريد مجرد إبلاغ الدعوة للناس لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر –غير ذلك– فلابد من السرية التامة في التنظيم، وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي الطريقة التي يحضرون بها إلى مكان اللقاء([4]).



([1]) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة.
([2])انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة، ص311.
([3]) انظر: الدعوة الإسلامية، د. عبد الغفار محمد عبد العزيز ص96.
([4]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص218.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:46 AM

2- دار الأرقم بن أبي الأرقم (مقر القيادة):
تذكر كتب السيرة أن اتخاذ دار الأرقم مقرًا لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى, التي برز فيها سعد بن أبي وقاص t. قال ابن إسحاق: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص t في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحي بعير فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام» ([1]).
أصبحت دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جديد من الوحي، ويستمعون له –عليه الصلاة والسلام– وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم, عليه الصلاة والسلام على عينه. كما تربى هو على عين الله عز وجل، وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم([2]).
رابعًا: أهم خصائص الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت الجماعة الأولى التي تربت على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد برزت فيها خصائص مهمة جعلتها تتقدم بخطوات رصينة نحو صياغة الشخصية المسلمة، التي تقيم الدولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرائعة، فمن أبرز هذه الخصائص:
1- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه:
إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع, والآداب وغيرها لا يكون
إلا عن طريق الوحي المنزل, قرآنـًـا وسنة؛ والتزام الدليل الشرعي هو منهج
الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح([3]) قال تعالى: ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ )[الأعراف:181].

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم من غيرهم انتفاعا بالدليل والوحي، وتسليمًا له، لأسباب عديدة، منها:
أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ما جاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ما جاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقيادا مطلقا، دون حرج ولا تردد، ولا إحجام.
ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
ج- وكانت النصوص –قرآنـًا وسنة– تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم –بصورة فردية، أو جماعية– فتخاطبهم خطابًا مباشرًا، وتؤثر فيهم أعظم التأثير؛ لأنها تعالج أحداثًا واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
فكانوا إذا سمعوا أحدا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم، كما يقول ابن عباس t([4]).
2- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح، فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق إلى لقائه, والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف منه، والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ما عنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم بذلك آثار العلم بالله والإيمان به، وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم في تحصيل العلم، وإذا فقدت، فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضرر في العاجل والآجل([5]).
وكان الصحابة فرسانـًا بالنهار، ورهبانا بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية، من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون.



([1]) انظر: ابن هشام (1/236). (3) انظر: التربية القيادية (1/198).


([3]) انظر صفة الغرباء، سلمان العودة ص83. (2) نفس المصدر ص94.

([5]) انظر: صفة الغرباء ص97.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:47 AM

خامسًا: شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية, كيف لا، وأستاذها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون, الذين حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم من الظلمات إلى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة([1]).
في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة, حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية.
لقد استطاع الرسول المربي الأعظم صلى الله عليه وسلم أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعدادا خاصا ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة, وعمالقة الدعاة.
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين) فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار([2]).
كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيحدث للمدعو تحول غريب, واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم, فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة.
كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض, والعظمة دائما تُحب، وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون, يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعد آخر له أثر في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه, فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر, أو للبشر الرسول, ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب -الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة- هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه([3]).



([1]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص219.
([2]) المصدر السابق ص220.
([3]) انظر: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب ص34، 35.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:49 AM

سادسًا: المادة الدراسية في دار الأرقم:
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم القرآن الكريم, فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد, بقيمه ومشاعره، وأهدافه، وسلوكه وتطلعاته، لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصًا شديدًا على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه, وألا يختلط تعليمه بشيء من غير القرآن([1]).
لقد تلقى الرعيل الأول القرآن الكريم بجدية ووعي, وحرص شديد, على فهم توجيهاته، والعمل بها بدقة تامة، فكانوا يلتمسون من آياته ما يوجههم في كل شأن من شؤون حياتهم الواقعية، والمستقبلية.
فنشأ الرعيل الأول على توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهية، التي تخرج فيها الدعاة والقادة الربانيون، ذلك الجيل الذي لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل ومن بعد, لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله، لينشئ به أمة ويقيم به دولة، وينظم به مجتمعًا, وليربي به ضمائرَ وأخلاقًا وعقولاً، ويبني به عقيدة وتصورًا وأخلاقًا، ومشاعرَ، فخرّج الجماعة المسلمة الأولى التي تفوقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات، العقدية، والروحية والخلقية، والاجتماعية والسياسية والحربية([2]).



([1]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين ص225.
([2]) نفس المصدر ص335. (2) انظر: المنهج الحركي للغضبان (1/49).

محمد رافع 52 16-09-2014 12:51 AM

سابعًا: الأسباب في اختيار دار الأرقم:
كان اختيار دار الأرقم لعدة أسباب منها:
1- أن الأرقم لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره.
2- أن الأرقم بن الأرقم t من بني مخزوم, وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3- أن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي, فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام.
فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر t أو غيره، ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدا أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء([1]).

محمد رافع 52 16-09-2014 12:54 AM

ثامنًا: من صفات الرعيل الأول:
كانت الفترة الأولى من عمر الدعوة, تعتمد على السرية والفردية, وكان التخطيط النبوي دقيقًا ومنظمًا، وكان تخطيطًا سياسيًا محكمًا، فما كان اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ وإرشادات، وإنما كانت مركزًا للقيادة، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزًا خاصًّا، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام([1]).
كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية, وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل المتمثل في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا )[الكهف:28].
فالآية الكريمة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم, خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لا يغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لا يسمع فيهم منتقصًا، ولا يطيع فيهم متكبرًا, أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها([2]).
إن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى والتي من أهمها:
أ- الصبر في قوله تعالى: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ): إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم, ويوصي الناس بها بعضهم بعضا، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران.
قال تعالى: ( وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) [العصر] فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة:
1-الإيمان بالله. 2- العمل الصالح.
3- التواصي بالحق. 4- التواصي بالصبر.
لأن نجاة الإنسان لا تكون إلا إذا أكمل الإنسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وأكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، «والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية»([3]).
ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله: وهذا يظهر في قوله تعالى: ( يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات, فلا بد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة, على حسن الصلة بالله, وكثرة الدعاء؛ لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر([4]).
ج- الإخلاص: ويظهر في قوله تعالى: ( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ), ولا بد عند إعداد الأفراد إعدادًا ربانيًا أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كله لوجه الله وابتغاء مرضاته, وحسن مثوبته, من غير نظر إلى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، وحتى يصبح جنديًّا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ` لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )[الأنعام:162-163]
إن الإخلاص ركن من أركن قبول العمل, ومعلوم أن العمل عند الله لا يقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنة والشرع.
د- الثبات: ويظهر في قوله تعالى:( وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) [الكهف:28].
وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم, ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )[الأحزاب:23].
ففي الآيات الكريمة ثلاث صفات، إيمان, ورجولة، وصدق. وهذه العناصر مهمة للثبات على المنهج الحق؛ لأن الإيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتشبث بها، ويبعث على التضحية بالنفس ليبقى المبدأ الرفيع، والرجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائمًا دافعة نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرفيع، والصدق يحول دون التحول أو التغيير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله الثبات الذي لا يتلون معه الإنسان, وإن رأى شعاع السيف على رقبته، أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى الدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها.
ولا شك أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة تحتاج إلى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية, والغايات الجميلة والقيم الرفيعة([5]).
هذه من أهم الصفات التي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى.

([1]) انظر: دولة الرسول من التكوين إلى التمكين, ص237.

([2]) انظر: الطريق إلى جماعة المسلمين، حسين بن محسن ص170.

([3]) انظر: الظلال(6/3968).

([4]) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم ص221.

([5]) انظر: دعوة الله بين التكوين والتمكين، د. علي جريشة ص91، 92.

محمد رافع 52 16-09-2014 12:56 AM

تاسعًا: انتشار الدعوة في بطون قريش وعالميتها:
كان انتشار الإسلام في المرحلة السرية, في سائر فروع قريش بصورة متوازنة دون أن يكون ثقل كبير لأي قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها في الوقت نفسه لم تؤلب عليها العشائر الأخرى بحجة أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان في انتشار الإسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من (تيم)، وعثمان بن عفان من (بني أمية)، والزبير بن العوام من (بني أسد)، ومصعب بن عمير من (بني عبد الدار)، وعلي بن أبي طالب من (بني هاشم)، وعبد الرحمن بن عوف من (بني زهرة)، وسعيد بن زيد من (بني عدي)، وعثمان بن مظعون من (بني جُمَح)، بل إن عددًا من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش، فعبد الله بن مسعود من (هُذيل)، وعتبة بن غزوان من (مازن)، وعبد الله بن قيس من (الأشعريين)، وعمار بن ياسر من (عنس) من مَذْحج، وزيد بن حارثة من (كلب)، والطفيل بن عمرو من (دوس)، وعمرو بن عبسة من (سليم)، وصهيب النمري من (بني النمر بن قاسط)، لقد كان واضحا أن الإسلام لم يكن خاصًّا بمكة([1]).
لقد شق النبي صلى الله عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة, وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، فاهتم بالتربية العميقة، والتكوين الدقيق، والتعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطبيعي في المجتمع، والإعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوة سرية, يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من الناس من ظلمات الشرك والجاهلية, إلى نور الإسلام والتوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها, منذ خطواتها الأولى، حيث إن القرآن المكي بين شمول الدعوة وعالميتها: قال تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ )[ص:87].
وقال تعالى: ( وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ )[القلم:52].
إن الدعوة جاءت لتخاطب البشر، كل البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى، وهذا يعني أن الدعوة جاءت ومن خصائصها، الإعلان والصدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتحمل ما يترتب على هذا من التكذيب، والإيذاء وال***.
إن استسرار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته أول الأمر، إنما هو حال استثنائي لظروف وملابسات خاصة، وهي ظروف بداية الدعوة وضعفها وغربتها، وينبغي أن يفهم هذا ضمن هذا الإطار.
وإن كان الكتمان والاستسرار, سياسة مصلحية في كثير من أمور الإسلام في الحرب والسلام، فهو كذلك في موضوع الدعوة، فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع, وإلا فالأصل هو بيان دين الله وشرعه, وحكمه لكل الناس، أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات, فهو أمر مصلحي, خاضع للنظر والاجتهاد البشري، إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان، ولا بلاغ، ومن ذلك مثلا معرفة عدد الأتباع المؤمنين بالدعوة، فهذا أمر مصلحي لا يخل بقضية البلاغ والنذارة, التي نزلت الكتب وبعثت الرسل من أجلها، فيمكن أن يظل سرًّا متى كانت المصلحة في ذلك مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد أن صدع بدعوته، وأنذر الناس وأعلن النبوة, ظل يخفي أشياء كثيرة, لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وما هي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي([2]).

* * *






([1]) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/133).
([2]) انظر: الغرباء الأولون ص124 : 126.

محمد رافع 52 16-09-2014 01:01 AM

المبحث الثالث


البناء العقدي في العهد المكي

أولاً: فقه النبي صلى الله عليه وسلمفي التعامل مع السنن:
إن بناء الدول وتربية الأمم, والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان, وهي كثيرة جدًا, والذي يهمنا منها في هذا الكتاب ما يتعلق بحركة النهوض تعلقًا وثيقًا.
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى, التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها, والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله, والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض, فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعًا في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافًا, والحياة لا تجري في الأرض عبثًا، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين, لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه([1]).
والسنن التي تحكم الحياة واعدة، فما وقع منها من زمان مضى، وسيقع في كل زمان([2]).
والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربهم, المبرزة لهم في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين «فإن التمكين لا يأتي عفوًا ولا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط عشواء، بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم؛ ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة» ([3]).
«إن من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهًا شاملاً رشيدًا هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو ما نعبر عنه بـ«فقه السنن» ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعية, والمعادلات الحضارية([4]).
يقول الأستاذ البنا في منهجية التعامل مع السنن:
«لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها, واستخدموها, وحوّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد» ([5]).
ونلاحظ عدة أمور مهمة:
1- عدم المصادمة. 2- المغالبة
3- الاستخدام. 4- التحويل.
5- الاستعانة ببعضها على بعض. 6- ترقب ساعة النصر([6]).
إن ما وصل إليه الأستاذ البنا يدل على دراسته العميقة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وتجارب الشعوب، والأمم, ومعرفة صحيحة للواقع الذي يعيشه وتوصيف سليم للداء والدواء.
إن حركة الإسلام الأولى التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين قد ذكرت بعضها بنوع من الإيجاز، كأهمية القيادة في صناعة الحضارات، وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل، وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات، ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنة التدرج وهي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله.
ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل، لا سيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية, وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج.
فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى متدرجة، تسير بالناس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز, وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدة منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك([7]).
واعتبار هذه السنة في غاية الأهمية «ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون النظر في العواقب, ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات أو للأساليب والوسائل» ([8])
«إننا إذا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف، وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى الله عليه وسلم... فلقد كانت الأمور تسير رويدًا رويدًا حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين..» ([9]).
«وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقًا، فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس, أو ملك, أو من مجلس قيادي أو برلماني، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أي بالإعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والاجتماعية.
وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن, الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين»([10]).

محمد رافع 52 16-09-2014 01:03 AM

ثانيًا: سنة التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي:
من السنن الهامة على طريق النهضة: السنة التي يقررها قول الله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ )[الرعد:11] وارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره([11]).
إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية, وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة([12]).
لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم - بمنهجه القرآني- بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه, فتغير ما حوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة، ثم مكة، ثم الجزيرة، ثم بلاد فارس والروم, في حركة عالمية تسبّح وتذكر خالقها بالغدو والآصال.
كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتى الأساليب, فغمرت قلوبهم معاني الإيمان, وحدث لهم تحول عظيم. قال تعالى موضحا ذلك الارتقاء العظيم: ( أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأنعام:122].
ثالثًا: تصحيح الجانب العقدي لدى الصحابة:
كان تصور الصحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة تصورًا فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[الأعراف:180] فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة, وتثبيتها في قلوب المؤمنين, وإيضاحها للناس أجمعين, ذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به من الملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره, واليوم الآخر وإثبات الرسالة للرسل عليهم السلام، والإيمان بكل ما أخبروا به([13]).
وتربى الرعيل الأول رضوان الله عليهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى, وعبدوه بمقتضاها فَعَظُم الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غاية مقصدهم وسعيهم, واستشعروا مراقبته لهم في كل الأوقات ([14]).
إن التربية النبوية الرشيدة للأفراد على التوحيد هي الأساس الذي قام عليه البناء الإسلامي وهي المنهجية الصحيحة التي سار عليها الأنبياء والمرسلون من قبل.
وقد آتت تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ثمارها المباركة, فتطهر الصحابة في الجملة مما يضاد توحيد الألوهية, وتوحيد الربوبية, وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله، ولم يتبعوا أحدًا على غير مرضاة الله, ولم يحبوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله, ولم يتوكلوا إلا على الله, ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم ي***وا إلا لله, ولم ينذروا إلا لله, ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا- فيما لا يقدر عليه إلا الله- إلا بالله وحده، ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبدوا إلا لله وحده، ولم يشبهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزهوه غاية التنزيه ([15]).
وكما رسَّخ القرآن المكي في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة,
حول التوحيد بأنواع, وحول الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة, صحح عقيدتهم حول سائر أركان الإيمان الأخرى.

رابعًا: وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره على الصحابة:
ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز, فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين، وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم وحتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين.
1- الجنة لا مثيل لها:
وقد جاءت الآيات الكريمة مبينة وواصفة للجنة، بما لا يمكن أن يكون له مثيل في الكون، فأثر ذلك في نفوس الصحابة أيما تأثير.
إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين, نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عز وجل شيئًا من نعيمها, إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار قال تعالى: ( فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[السجدة:16-17].
2- أفضل ما يعطاه أهل الجنة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيرفع الحجاب، فينظرون إلى وجه الله, فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى» وجاء في رواية أخرى: ثم تلا هذه الآية: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )[يونس:26]([16]).
إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم بها مهم في نهضة أمتنا، فعندما تحيا صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة, يندفعون لمرضات الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت, وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار, ومثابرة على إعزاز دين الله.
خامسًا: وصف النار في القرآن الكريم وأثره في نفوس الصحابة:
كان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه، وكانت لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم عظيم، وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة؛ لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة ومعالمها, من قبض الأرض ودكها، وطي السماء، ونسف الجبال، وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها, وتكوير الشمس, وخسوف القمر, وتناثر النجوم، وصَّور القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين([17]) وكان لهذا الحديث أثره العظيم في نفوس الصحابة، وصور القرآن الكريم ألوان العذاب في النار فأصبح الرعيل الأول يراها رأي العين.

محمد رافع 52 16-09-2014 01:05 AM

سادسًا: مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصحابة رضي الله عنهم:
اهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر، قال تعالى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )[القمر:49]، وكان صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر.
فكان للفهم الصحيح, والاعتقاد الراسخ في قلوب الصحابة لحقيقة القضاء والقدر, ثمار نافعة ومفيدة, عادت عليهم بخيرات الدنيا والآخرة, فمن تلك الثمرات:
1- أداء عبادة الله عز وجل.
2- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك؛ لأن المؤمن يعتقد أن النافع والضار، والمعز والمذل، والرافع والخافض هو الله وحده سبحانه وتعالى.
3- الشجاعة والإقدام، فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون أن الآجال بيد الله تعالى وأن لكل نفس كتابًا.
4- الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب.
5- سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال.
6- عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين.
إن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة وهذه من باب الإشارة.
ولم تقتصر تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان الستة المتقدمة، بل صحح عندهم كثيرًا من المفاهيم والتصورات والاعتقادات, عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما, ليسير المسلم على نور من الله, يدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقق ما أراد الله منه غاية التحقيق، ويتحرر من الوهم والخرافات([18]).
سابعًا: معرفة الصحابة لحقيقة الإنسان:
إن القرآن الكريم عرَّف الإنسان بنفسه بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر، ويجيب على تساؤلات الفطرة، من أين؟ وإلى أين؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كل إنسان سوي، وتلح في طلب الجواب([19]).
وبين القرآن الكريم للصحابة الكرام حقيقة نشأة الإنسانية وأصولهم التي يرجعون إليها، وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟ وما هو مصيرهم بعد الموت؟
ثامنًا: تصور الصحابة لقصة الشيطان مع آدم عليه السلام:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال المنهج القرآني، يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم ويشرح لهم حقيقة الصراع بين الإنسان مع عدوه اللدود, الذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة مثل قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ )[الأعراف:27].
كانت الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة آدم وصراعه مع الشيطان, قد علمت الرعيل الأول قضايا مهمة في مجال التصور والاعتقاد والأخلاق فمنها:
1- أن آدم هو أصل البشر.
2- جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله.
3- قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة.
4- خطيئة آدم تعلم المسلم ضرورة التوكل على ربه.
5- ضرورة التوبة والاستغفار.
6- الاحتراز من الحسد والكبر.
7- إبليس هو العدو الأول لآدم وزوجه وذريتهما.
من الوسائل التي استخدمها الصحابة الكرام لمحاربة الشيطان، التخاطب بأحسن الكلام امتثالاً لقول الله تعالى: ( وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا )[الإسراء:53].
هذه صورة موجزة عن حقيقة إبليس وتصور الصحابة رضي الله عنهم لهذا العدو اللعين.
تاسعًا: نظرة الصحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات:
ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كتاب الله تعالى ويربيهم على التصور الصحيح, في قضايا العقائد, والنظر السليم للكون والحياة من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فبين بدء الكون ومصيره. وقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان، لا تقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي قررها في كل جوانب الكون والحياة.
وهكذا نظم القرآن الكريم أفكار وتصورات الرعيل الأول عن الكون وما فيه من مخلوقات وعجائب, وعن حقيقة هذه الحياة الفانية، واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في غرس حقيقة المصير, وسبيل النجاة في نفوس أصحابه, موقنًا أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز, سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك السبيل، حتى يظفر غدًا بهذه النجاة وذلك الفوز، وركز صلى الله عليه وسلم في هذا البيان على جانب مهم هو:
أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير.
إن كثيرا من العاملين في مجال الدعوة بهتت في نفوسهم حقيقة أن الدنيا لهو ولعب وغرور، لأنهم انغمسوا في هذه الحياة الدنيا ومتاعها, وشغفتهم حبا، فهم يلهثون وراءها، وكلما حصل على شيء من متاعها طلب المزيد, فهو لا يشبع ولا يقنع، بسبب التصاقه بالدنيا وإنها لكارثة عظيمة على الدعوة والنهوض بالأمة، أما التمتع بهذه الحياة في حدود ما رسمه الشرع واتخاذها مطية للآخرة، فذلك فعل محمود.

* * *







ا


([2]) نفس المصدر (1/478).
([3]) انظر: جيل النصر المنشود للقرضاوي, ص15.
([4]) انظر: المشروع الإسلامي لنهضة الأمة- قراءة في فكر البنا, ص58.
([5]) انظر: رسالة المؤتمر الخامس, ص127.
([6]) انظر: المشروع الإسلامي لنهضة الأمة، ص58.
([7]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ص227. (2) انظر: آفات على الطريق (1/57) وما بعدها.

([9]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية- نقلا عن المودودي, ص229.
([10]) انظر: الخصائص العامة للإسلام، ص168 بتصرف يسير.
([11]) انظر: التمكين للأمة الإسلامية، ص210.
([12]) انظر: نفوس ودروس في إطار التصوير القرآني ص367 لتوفيق محمد سبع.
([13]) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، علي العلياني ص47.
([14]) انظر:المصدر السابق, ص 53.
([15]) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص54، 55.
([16]) مشكاة المصابيح للبغوي (3/88). (2) انظر: الوسطية في القرآن الكريم ص402.


([18]) انظر أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية، ص59.
([19]) انظر: منهج التربية الإسلامية، محمد قطب، (2/54).

محمد رافع 52 19-09-2014 11:20 PM

المبحث الرابع


البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي

أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات:
رَبَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم إلى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها:
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى.
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في الكون، بل ما في عالم الغيب والشهادة.
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده.
والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها.
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، ويشمل كل شيء يُنْتَوى به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فهو عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة([1]).
إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن, وذكر الله تعالى, والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الإسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من أدرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقودًا وزادًا ودفعًا قويًّا إلى القيام بما تؤمر به.
إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم, ولعل من أبرز آثارها التي أصابت الرعيل الأول.
1- الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه: وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين استجابوا لأمره، فقال عز وجل: ( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )[الشورى:38].
وكان الرعيل الأول يرى أن لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة وتأثيرا في النفس وتزكية للروح.
2- مناجاة العبد ربه: وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا من مشاهد هذه المناجاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم: قال الله تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين: قال: مجدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين, قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» ([2]).
3- طمأنينة النفس وراحتها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى,([3]) وقد جُعلت قرة عينه في الصلاة([4]), وقد علّم الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كثيرًا من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم, وتصبح الصلاة سلاحًا مهما لحل همومهم ومشاكلهم.
4- الصلاة حاجز عن المعاصي:قال تعالى: ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )[العنكبوت:45].
كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يؤدون صلاتهم تستريح بها نفوسهم، وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، فكانت لهم سياجًا منيعًا حماهم من الوقوع في المعاصي([5]).
ثانيًا: التربية العقلية:
كانت تربية النبيصلى الله عليه وسلم لأصحابه شاملة؛ لأنها مستمدة من القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان ككل, يتكون من الروح، والجسد، والعقل، فقد اهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر؛ لأن ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله، وهذا مطلب قرآني.
ولذلك وضع القرآن الكريم منهجًا لتربية العقل, سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتربية أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج:
1- تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد.
2- إلزام العقل بالتحري والتثبت.
3- دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون.
4- دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله.
5- دعوة العقل إلى النظر إلى سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر
في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول.


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 04:20 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.