بوابة الثانوية العامة المصرية

بوابة الثانوية العامة المصرية (https://www.thanwya.com/vb/index.php)
-   حي على الفلاح (https://www.thanwya.com/vb/forumdisplay.php?f=25)
-   -   أهمية العلم وقيمته في الإسلام (https://www.thanwya.com/vb/showthread.php?t=675675)

aymaan noor 18-01-2016 10:30 AM

أهمية العلم وقيمته في الإسلام
 
أهمية العلم وقيمته في الإسلام


قيمة العلم

باتت الحقيقة الأولى التي ظهرت في الأرض عند نزول جبريل لأوَّل مرَّة على رسول الله أن هذا الدين الجديد (الإسلام) دينٌ يقوم على العلم ويرفض الضلالات والأوهام جملةً وتفصيلاً؛ حيث نزل الوحي أوَّل ما نزل بخمس آيات تتحدَّث حول قضية واحدة تقريبًا، وهي قضية العلم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5].


ن هذا النزول الأوَّل بهذه الكيفيَّة ليُعَدُّ عجيبًا؛ وذلك من عِدَّة وجوه: فهو عجيب لأن الله قد اختار موضوعًا معيَّنًا من آلاف المواضيع التي يتضمَّنها القرآن الكريم وبدأ به، مع أن الرسول الذي يتنزل عليه القرآن أُمِّيٌ لا يقرأ ولا يكتب، فكان واضحًا أن هذا الموضوع الأوَّل هو مِفتاح فَهْمِ هذا الدِّين، ومفتاح فهم هذه الدنيا، بل وفهم الآخرة التي سيئول إليها الناس كلهم.

ثم هو عجيب كذلك لأنه نزل يتحدَّث عن قضية ما اهتم بها العرب كثيرًا في تلك الآونة، بل كانت الخرافات والأباطيل هي التي تحكم حياتهم من أوَّلها إلى آخرها، فكانوا يفتقرون إلى العلم في كل المجالات، اللهم إلا في مجال البلاغة والشعر، فكان هذا هو الميدان الذي تفوَّق فيه العرب وبرعوا، ولذلك نزل القرآن -وهو الأعجب- يتحدَّاهم في هذا الذي برعوا فيه، معلنًا لهم أنه ينادي بالعلم والتفوُّق فيه في كل الجوانب، بما فيها تلك التي يجيدونها.

الإسلام والعلم

يعد ظهور الإسلام بمنزلة ثورة علميَّة حقيقيَّة في بيئة ما أَلِفَتْ رُوح العلم وما تعوَّدت عليه، لدرجة أن المرحلة السابقة لنزول أولى كلمات القرآن صارت تُعْرَف باسم (الجاهلية)! فصفة الجهل ترتبط بما هو قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام ليبدأ العلم، ولِتُنَار الدنيا بنور الهداية الربانيَّة، فقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْـجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [ المائدة: 50].

فليس هناك مكانٌ في هذا الدين للجهل أو الظنِّ أو الشكِّ أو الرِّيبَة.

القرآن والعلم


لم تكن البداية فقط في هذا الكتاب المعجز (القرآن) هي التي تتحدَّث عن العلم وقيمته وأهميته في قوله سبحانه: {اقرأ}، بل كان هذا منهجًا ثابتًا في هذا الدستور الخالد، فلا تكاد تخلو سورة من سوره من الحديث عن العلم، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

و المفاجأة الكبرى عند بإحصاء عدد المرات التي جاءت فيها كلمة (العلم) بمشتقاتها المختلفة في كتاب الله ؛ تجد-بلا مبالغة- قد بلغت 779 مرَّة، أي بمعدَّل سبع مرَّاتٍ -تقريبًا- في كل سورة!

وهذا عن كلمة (العلم) بمادَّتها الثلاثية (ع ل م)، إلا أن هناك كلمات أخرى كثيرة تشير إلى معنى العلم ولكن لم تُذكر بلفظه؛ وذلك مثل: اليقين، والهدى، والعقل، والفكر، والنظر، والحكمة، والفقه، والبرهان، والدليل، والحجة، والآية، والبينة، وغير ذلك من معانٍ تندرج تحت معنى العلم وتحثُّ عليه. أمّا السُّنَّة النبويَّة فإحصاء هذه الكلمة فيها يكاد يكون مستحيلاً.

بل إن الملاحظ أن اهتمام القرآن بقضيَّة العلم لم يتبدَّ في أولى لحظات نزوله فقط، وإنما كان ذلك منذ بداية خلق الإنسان نفسه، كما حكى ذلك القرآن الكريم في آياته؛ فالله خلق آدم وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، ثم ذكر لنا وللملائكة سبب هذا التكريم والتعظيم والرِّفعة، فعيَّن أنه (العلم)؛ يقول تعالى في تقرير ذلك: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْـمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْـمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْـمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَـمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْـمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 30-34].

ومن هنا لم يكن الأمر من باب المبالغة حين أشار الرسول في حديثه إلى أن الدنيا بكاملها لا قيمة لها -بل هي ملعونة- إلا إذا ازدانت بالعلم وذِكْر الله ، فقد قال رسول الله : "الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ: ذِكْرَ اللهِ وَمَا وَالاَهُ، أَوْ عَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا"[1].

وقد كان لذلك كله أثر بعيد المدى في الدولة الإسلاميَّة بعد ذلك، حيث ولَّد نشاطًا علميًّا واسعًا في مختلَف ميادين العلم والمعرفة، نشاطًا لم يعهد له التاريخ مثيلاً، ممَّا جعله يحقِّق ازدهارًا حضاريًّا عظيمًا على أيدي علماء المسلمين، ويمدُّ التراث الإنساني بذخيرة علميَّة رائعة، يظلّ العالم بأسره مدينًا لها.

aymaan noor 18-01-2016 10:48 PM

تشجيع الإسلام على العلم



مظاهر حرص الإسلام على طلب العلم


لقد كان العلماء قبل الإسلام منعزلين عن العامَّة، وكانت الفجوة بينهما كبيرة، فالعلماء في فارس أو في روما أو عند اليونان كانوا يعيشون في عزلة تامَّة، تقوم بينهم المناظرات والنقاشات، ويتوارثون العلم فيما بينهم، بينما تعيش العامَّة في جهل مُطبِق، وبُعدٍ تامٍّ عن أي صورة من صور العلم، لكن الإسلام كان شيئًا آخر.

فقد جاء رسول الله ليقول بالحرف الواحد: "طَلَبُ الْعِلْـمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"[1]. لتصبح القضية واجبًا دينيًّا، وقضيَّة شعبيَّة مفروضة على الجميع؛ إذ يجب أن يطلب الجميعُ العلمَ، ليصبحوا جميعًا متعلِّمين، لم يُستثنَ من ذلك رجل أو امرأة.


وقام رسول الله بالتطبيق العملي لهذا المنهج عندما وافق أن يُطلِق سراح أسرى غزوة بَدْر في نظير أن يقوم كل منهم بتعليم عشرة من أهل المدينة المنورة القراءة والكتابة، فكان هذا فكرًا حضاريًّا لم يكن معروفًا البتَّة في العالم في ذلك الوقت، ولا حتى بعد ذلك الوقت بقرونٍ.

وقد أمر الإسلام أتباعه في ذلك بأن يجعلوا قضية العلم قضية أساسيَّة في حياتهم، وأمرهم أن يرفعوا من قدر العلماء، إلى الدرجة التي قال فيها رسول الله : "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْـمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْـجَنَّةِ، وَإِنَّ الْـمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْـمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالْـحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْـمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْـمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"

مظاهر الحركة العلمية في الإسلام

ولقد استمرَّت هذه الحركة العلميَّة الشعبيَّة بعد وفاة الرسول ، فظهرت آثارها ومظاهرها الرائعة، والتي كانت تُعَدُّ أحلامًا بالنسبة للأوربيين. ونكتفي هنا بذكر ثلاثة مظاهر لهذه الحركة العلميَّة الشعبيَّة التي أَسَّس لها الإسلام:



1- المكتبات العامة: فانطلاقًا من هذا الحثِّ وذاك التشجيع الذي بات من صميم الدين، أسَّس المسلمون المكتبات العامَّة المفتوحة لعموم الناس، فكانوا يقرءون فيها بالمجَّان، وينسخون ما يريدون من صفحات العلم المختلفة، بل وكان كبار الخلفاء والأمراء يستضيفون في هذه المكتبات طلاَّب العلم من البلاد المختلفة، ويُنْفِقون عليهم من أموالهم الخاصَّة. وقد وُجِدَتْ هذه المكتبات بكثرة في كل مدن العالم الإسلامي[3]، ولعلَّ من أشهرها مكتبات: بغداد، وقرطبة، وإشبيلية، والقاهرة، والقدس، ودمشق، وطرابلس، والمدينة، وصنعاء، وفاس، والقيروان.

2- ظهور مجالس العلم الضخمة:

فقَبْلَ الإسلام لم يكن هناك من يتكلَّم من العلماء مع عامَّة الناس، أمَّا بعد ظهور هذا الدين العظيم فقد انتشرت حلقات العلم في كل ربوع العالم الإسلامي، وكانت تصل في بعض الأحيان إلى أرقام غير متخيَّلة؛ فمجلس ابن الجوزي[4] مثلاً كان يحضره أكثر من مائة ألف إنسان! كلهم من عامَّة الشعب، وكذلك مجالس الحسن البصري، وأَحمد بن حنبل، والشافعي، وأبي حنيفة، والإمام مالك، بل وكان هناك أحيانًا في داخل كل مسجد أكثر من حلقة علم في وقت واحد؛ فهذه في تفسير القرآن، وهذه للفقه، وأخرى للحديث النبوي، ورابعة للعقيدة، وخامسة لدراسة الطبِّ، وهكذا.

3- اعتبار أن الإنفاق على العلم صدقة وقربة إلى الله : وهذا جعل الموسرين من أبناء الأُمَّة يُنْفِقون أموالهم على بناء المدارس ودور العلم، بل ويُوقفون الأوقاف الكثيرة لرعاية طلاَّب العلم، وبناء المكتبات، وتطوير المدارس، فصار هذا الإنفاق على العلم بابًا من أبواب الخير لرجال الاقتصاد كذلك، وليس لرجال العلم فقط.

وهكذا كانت قضية العلم عامَّة، تهم وتخص الجميع؛ حيث طلب العلم واجب وفريضة على كل مسلم، ومِن ثَمَّ انتشرت المكتبات وكثرت مجالس وحلق العلم، وانمحت الأمية أو كادت.

نقابي سر سعادتي 19-01-2016 06:38 AM

جزاكم الله خيرا وجعله في ميزان حسناتكم

أبو إسراء A 19-01-2016 02:59 PM

بارك الله فيك استاذنا الكريم

ناصر المنشاوى1 19-01-2016 04:32 PM

الهم اسالك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا:022yb4:

aymaan noor 20-01-2016 12:09 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نقابي سر سعادتي (المشاركة 6358801)
جزاكم الله خيرا وجعله في ميزان حسناتكم

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6359024)
بارك الله فيك استاذنا الكريم

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناصر المنشاوى1 (المشاركة 6359089)
الهم اسالك علما نافعا ورزقا طيبا وعملا متقبلا:022yb4:

شرفت بمروركم أساتذتى الأفاضل

جزاكم الله خيرا و بارك الله فيك

aymaan noor 20-01-2016 12:18 AM

الإسلام وعلوم الحياة
 
الإسلام وعلوم الحياة




الانفصام بين علوم شرع وعلوم الحياة
لا يخفى على أحد ذلك الخلل الكبير في المستوى العلمي لكثير من المسلمين، وأحيانًا يكون الخلل عند الملتزمين بتعاليم الدين، علمًا بأن مستوى هؤلاء الملتزمين في العلوم الشرعية غالبًا ما يكون على درجة طيبة جدًّا. مما يعكس اهتمامًا بالجانب الشرعي، وتغليبه -إلى حدٍ كبيرٍ- على الجانب الحياتي في قضايا العلوم والتعليم.

وهذا الفصل في الاهتمام بين علوم الشرع وعلوم الحياة أمرٌ غريبٌ على الشريعة الإسلامية، ودخيل على أمتنا، وهو أمر جد خطير؛ لأنه كما لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بغير العلوم الشرعية، فكذلك لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بدون العلوم الحياتية، والفصل بينهما - لا شك - يؤخر المسيرة، بل يكاد يوقفها، وما عرِفَتِ الأمة الإسلامية السيادة والقوة والمجد والصدارة إلا وكانت علومها الحياتية قوية وسابقة، وما عرفت الأمة الإسلامية الضعف والتأخر والتخلف إلا وكانت علومها الحياتية ضعيفة ومهملة. والتاريخ خير شاهد على ذلك، وفي أكثر من موضع.

إذن.. لماذا حدث هذا الفصام غير المفهوم؟!!
على ما يبدو فإن القضية في الأساس هي قضية فَهْم. وإن كان للأعداء تخطيطهم وتدبيرهم، إلا أن العيب ينبع أساسًا من داخلنا. فعلى مدار السنوات الماضية اختل فهم المسلمين -سواء بفعل فاعلٍ خارجي أو داخلي- لمعنى كلمـة "العلم النافع"، فصاروا يقصرونها على العلوم الشرعية فقط، مع أن الأدلة متواترة على عكس ذلك.

والأمر هذا كان مترتبًا على فهم أن ساحة التقرب إلى الله تعالى محصورة فقط في الشعائر التعبدية المحضة، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، أما ساحة الدنيا وعمرانها وإصلاحها وتسخير إمكانياتها، فقد ابتعدت عن تلك التي أُريد بها وجه الله سبحانه.

ففي العقود الأخيرة التي مرت بأمتنا نظر كثير من المسلمين إلى العلوم الحياتية نظرة إهمال، بل نظرة ازدراء وتنقيص، وساعد على هذا الفهم الخاطئ بعض العلماء الذين قسَّموا العلوم إلى علوم دينية وعلوم دنيوية، فغدت علوم الطب والهندسة والكيمياء، وما على شاكلتها علومًا دنيوية، بينما علوم الشريعة من فقه وتفسير وعقيدة وغيرها هي العلوم الدينية أو الأخروية!!

وهكذا فإن المسلم الملتزم سرعان ما يشعر بحرجٍ شديد وهو يدرس هذا العلم الدنيوي؛ إذ أنه ينصرف بذلك -فيما يعتقد- عن علوم الآخرة، وهذا يعني عنده أنه سيترك شيئًا من أمور "الدين" إلى شيء من أمور الدنيا!!

لماذا علوم الحياة؟!
والدنيا بصفة عامة مذمومة في الكتاب والسنة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تحث المسلمين على الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها ولا بحجمها. والأمر في ذلك أكثر من أن يُحصى، ويكفي للدلالة عليه أن نورد قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

ويقول سبحانه أيضًا منقصًا من شأنها وقدرها: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وروى المستورد الفهري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما مَثَلُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَثَلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي اليمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ" [1].

كذلك روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ" [2].

ونتيجة لربط هذه العلوم الطبيعية والحياتية بالدنيا، نظر الملتزمون إليها على أنها مما يُبعد عن الدين الإسلامي، وأن الاشتغال بها أمرٌ مذموم، وأن الدارس للهندسة -مثلاً- والكيمياء وعلوم الذرة، هو رجلٌ نسي دينه واهتم بدنياه!!

والحق أن هذه كلها أباطيل ما أنزل الله بها من سلطان؛ فعلوم الطب والهندسة وغيرها هي طرقٌ واضحة من طرق الجنة إذا صلحت النوايا وأخلصت لله تعالى، وهي علوم "أخروية" إذا ابتغى بها العبد ثواب الآخرة، وهي علوم "دينية" إذا أردا بها المسلم نصرة دينه ورفعة أمته.

والواقع كذلك أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تُجَّارًا وزُرَّاعًا وصُنَّاعًا، وقبلهم أنبياء الله عليهم السلام، كلٌ كان له حرفة وصناعة بجانب مهمته الأساسية، فكان آدم حراثًا، وكان داود حدادًا، وكان نوح نجارًا، وكان إدريس خياطًا، وكان موسى راعيًا، وكان زكريا نجارًا. فلم يقعد بهم انشغالهم بالآخرة والعمل لها وتعليم علومها عن العمل للدنيا وتعميرها وتسخيرها وتعليم علومها..

بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نظر إلى رجلٍ ذي سيما (هيئة حسنة) قال: أله حرفة؟ فإن قيل لا سقط من عينه [3]!! ثم ماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ" [4]؟! لماذا يغرسها وهي من نفع الدنيا، فضلاً عن أنه لن يستفيد منها دنيويًّا أصلاً؟!

والذي يُفهم من ذلك كله هو -كما يُعبر الدكتور عبد الباقي عبد الكبير [5]- أنه في سعْينا لقضاء حوائجنا والقيام بمسؤولية عمران الأرض ووظيفة الاستخلاف فيها بنية خالصة، سعْيٌ لإرضاء لله عز وجل. بل إن في سعْينا لعمران الأرض، وتعليم علومها، والوقوف على ثغراتها التنموية، وإخراج المجتمع من عوْز الحاجة، كلٌ في مجاله وحسب إمكانياته وقدراته الوظيفية. هو في الأساس سعيٌ لإعلاء كلمة الله تعالى ورفع راية الإسلام [6].

وعليه، وإذا كانت القضية في الأساس -كما رأينا- قضية فَهم وسوء فقه. فإننا نود القيام من ركائز ومنطلقات صلبة وقويمة، هي من أساس ديننا ومن صلب معتقداتنا.

وفي بداية هذا الطريق فلا أحبذ أبدًا إطلاق لفظ علوم "دنيوية" على هذه العلوم، وإنما يمكن أن نطلق عليها "علوم الحياة". فهي علوم أراد الله تعالى لنا أن نتعلمها لنصلح بها حياتنا على الأرض. والحياة بصفة عامة ليست مذمومة كالدنيا، بل هي نعمة من الله تعالى.

وانظر إلى قوله سبحانه وهو يربط بين مراعاة أحكام الشرع وبين الحياة الطيبة حين يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وهكذا، فتكون علوم "الحياة" من هذا المنظور، والتي تعني شيئًا عظيمًا علويًّا، أرقى وأعظم من علوم "الدنيا"، والتي تعني الدونية والسفلية. ويوضح هذا المعنى وذاك المراد قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122]. وعلى هذا النهج تسير كثير من الآيات والأحاديث.. مما يعطي ثراءً ملحوظًا لكلمة الحياة.

هل يعقل أن يُهمل المسلمون علوم الحياة؟!
ثم لنقف وقفة نحاور فيها ونناقش أولئك الذين صرفوا جل وقتهم واهتماماتهم لعلوم الشريعة، ولم يشاءوا أن يصرفوا قدرًا من جهدهم وفكرهم ومالهم ووقتهم لعلوم الحياة. ونجيب معهم على سؤال مهم مفاده: هل يعقل أن يُهمل المسلمون علوم الحياة؟؟ وفي معرض الجواب بالنفي الصريح على هذا السؤال، نقدم هذه الأدلة وتلك البراهين القطعية على نُبل هذه العلوم إذا ما وجهت لخير الأرض، ونفع البشرية، ورفعة هذا الدين، وعزة هذه الأمة.

الدليل الأول: هل نسي الإنسان أن الله تعالى قد جعله "خليفة" في الأرض؟!
وحين تكون الإجابة قطعًا بالنفي، فلنتفكر معًا: كيف يمكن أن يُستخلف الإنسان في الأرض وهو لا يعلم شيئًا عن علومها؟!

فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الذي يُستخلف في الأرض يجب أن يعرف ربه، وأن يعرف كيف يعبده، ثم لابد له أن يعلم طبيعة المكان الذي استخلف فيه، وكيف يمكن استغلاله لعبادة الله رب العالمين، قال تعالى:{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود:61].

فمن شروط الاستخلاف، ومن واجباته الأساسية، أن يعرف الإنسان كيف "يَعْمُر" الأرض، وكيف يكشف كنوزها ويستفيد من ثرواتها. وكيف يُسخِّر كل ما يمكن أن تصلح به "الحياة" على وجه هذه الأرض. ولما خلق الله آدم عليه السلام، وعظمه ورفع قدره، وأسجد الملائكة له. لم يكن ذلك إلا بالعلم الذي أتاه إياه، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].

والسؤال إذن: ما هذا العلم الذي علمه الله آدم عليه السلام، وبه تفوق على الملائكة؟
لقد علَّمه الله تعالى فيما يروي ابن عباس رضي الله عنهما أسماء كل شيء: الجبل، والشجر، والبحر، والنخلة، وأسماء الناس والدواب [7]. أي أن الله تعالى علمه العلوم "الطبيعية" التي سيحتاج إليها للحياة فوق الأرض وعمارتها، أما الملائكة فهي لا تعلم هذه الأسماء وتلك العلوم؛ لأنها لن تستخلف على الأرض، ومن ثم فهي ليست في حاجة إليها.

والواضح أنه لو علَّم الله تعالى آدم عليه السلام العبادة بمفهومها المقتصر على الصلاة والصيام والذكر والدعاء، لتفوقت الملائكة على آدم عليه السلام في هذا المجال، وما كان هناك داعٍ أن يُستخلف الإنسان في الأرض، بل يعيش في السماء كما تعيش الملائكة، يفعل أفعالهم، ويكتفي بعلومهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

فلم يكن علْمُ آدم عليه السلام علمًا شرعيًّا فقط، وإنما كان علمًا حياتيًّا كذلك، وعليه فإن الإنسان إذا أهمل العلوم الطبيعية أو علوم "الحياة"، فإنه بذلك يُهمل أهم مقومات استخلافه على الأرض، وهذا لا يجوز في حق مسلم واع، يفهم دينه، ويدرك طبيعة استخلافه على الأرض.

الدليل الثاني: هل اكتملت علوم الحياة؟
أكمل الله تعالى العلوم الشرعية قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وليس هناك وحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فستبقى العلوم الشرعية كأصول كما هي. نعم قد يجتهد علماء الشرع في بعض الأمور بحسب المتغيرات والمستجدات في البيئة والزمان والمكان، ولكن تبقى الأصول ثابتة موجودة في القرآن والسنة.

هذا بالنسبة للعلوم الشرعية. أما بالنسبة لعلوم الحياة، فإن الأمر يختلف؛ إذ أنها علوم لم تكتمل بعد، ولن تكتمل أبدًا، ففي كل يوم يمر علينا يُكشف لنا كشفٌ جديد في هذه العلوم، وعلم اليوم في الطب -مثلاً- يختلف عما سيكون عليه غدًا، وهما غير ما كانا عليه بالأمس وهكذا.

فعلوم الحياة في تطور وتغير مستمر، وما يُعَدُّ اليوم حقيقة علمية، قد يُكتَشف غدًا أنه وهم لا أصل له، أو أن هناك ما يتخطاه ويتعداه، وما أكثر المعتقدات العلمية التي ظلت موروثة لمئات السنين، ولم تتغير إلا منذ سنوات قلائل بعد اكتشاف خطئها.

يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. فالآية نزلت بصيغة المستقبل، وستظل تُقرأ إلى يوم القيامة بصيغة المستقبل، وسيظل المستقبل إلى يوم القيامة يحمل جديدًا في علوم الحياة، سواء كان في الكون (في الآفاق)، أو في الإنسان (وفي أنفسهم). والعمل الدءوب في هذا المجال مطلوب ومهم، وإلا سبق الركب، وتعذَّر اللحاق!

الدليل الثالث: حاجة علوم الشرع لعلوم الحياة
هناك الكثير من القضايا الشرعية والفقهية لا يستطيع فقهاء المسلمين أن يقطعوا فيها برأيٍ صائبٍ، يبين الحل أو الحرمة فيها إلا بالاستعانة بعلماء مسلمين في مجال العلوم الحياتية، يكونون مهرة في مهنتهم، أكفاء في تخصصهم.

فإذا أخذنا علم الاقتصاد والتجارة -على سبيل المثال- كنموذج للدراسة، فهل يستطيع فقيهٌ مسلم غير متخصص أن يستنبط آراء فقهية صائبة في كل المعاملات الاقتصادية والتجارية؟! هل يستطيع أن يقطع بحل أو حرمة في قضية من قضايا التجارة وعلم الاقتصاد دون أن يكون على إحاطة تامة بأوجه المعاملات والمضاربات التي تتم في البنوك والبورصة والشركات والأسواق وغيرها؟!

بالقطع الإجابة هي النفي، خاصة وأن العلوم قد تشعبت كثيرًا، حتى أصبح داخل كل علم علومٌ أخرى كثيرة تتفرع منه وتنبثق عنه، ولكل فرعٍ من هذه العلوم متخصصون وباحثون ودارسون.

ثم وعلى فرض إمكانية أن يُدلي الفقيه بدلوه في مثل هذه القضايا ودون الرجوع إلى متخصصين فيه -وهو مستحيل وغير جائز- فما الحال إذا وجدنا مخالفة شرعية في مثل هذه العلوم؟ كيف يمكن إصلاحها وأسلمتها وفق المنهج الإسلامي؟! وكيف يمكننا أن نتعامل مع الأنظمة الاقتصادية العالمية المحيطة على ما بها من مخالفات، دون الوقوع في مخالفة شرعية؟!

ألا نحتاج في ذلك كله إلى اقتصادي متخصص؟! ألا نحتاج إلى من يدرس الاقتصاد بكل تفريعاته وعلومه، ويُلمُّ بكل تفصيلاته ودقائقه، ثم هو يدرس الفقه الإسلامي الخاص بالاقتصاد والتجارة، ثم يبدأ في صياغة الاقتصاد الإسلامي بالصورة التي تتناسب والعصر الذي نعيش فيه، ودون الوقوع في أدنى مخالفة شرعية؟!

ونستطيع أن نستشهد في ذلك بمثال واقعي في مجال الحقوق والقوانين، فقد كان الشهيد القاضي عبد القادر عودة من خريجي كلية الحقوق، وقد ألَّف كتابه "التشريع الجنائي الإسلامي"، والذي استطاع أن يُقدِّم فيه دراسة فقهية حول التشريع الجنائي في الإسلام وفلسفته ومقارنته مع القانون الوضعي، كما استطاع أن يُثبت بالأدلة والبراهين والحجج الدامغة محاسن الشريعة الإسلامية وتفوقها على القوانين الوضعية، مع سبقها إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم، والتي لم يهتد إليها العلماء إلا مؤخرًا.

ألا تحتاج الأمة في حياتها إلى مثل ذلك؟!!
أليست هذه ثغرةً إسلامية تحتاج إلى من يسدها ويقف عليها؟!

ثم أليس من يقوم بذلك يكون مأجورًا من الله تعالى على علمه وعمله هذا؟!

وهل يعتقد المسلمون المعظمون لدينهم أنهم لن يأثموا بترك هذا المجال وليس فيه متخصصون؟!

ألا يعتقد المسلمون أن دراسة الاقتصاد من هذا المنظور هو طريق مباشر من طرق الجنة؟!

والحقيقة أن الإجابة في ذلك لا تخفى على ذي عقل وصاحب لُبّ، وليكن في خلد الجميع أنه لن يقوم هذا الدين حقًا إلا بمبدعين في شتى مجالات وعلوم الحياة!!

وفي علم الطب -كنموذج ثانٍ للدراسة- نستطيع أن نقف أيضًا على نفس ما وقفنا عليه في علم الاقتصاد، من حاجة فقيه اليوم الماسة إلى طبيب مسلم متخصص، يساعده في تقرير فتواه فيما له علاقة ببعض جوانب الطب.

إذ كيف سيدلي عالمٌ شرعيٌ في قضايا دقيقة لها علاقة قوية بالطب، دون الاستعانة بطبيب مسلمٍ ماهر، يستطيع أن يشرح بدقة طبيعة الأمر في النقطة التي يحتاجها الفقيه؟!!

وكيف لنا أن نعرف حُكم الشرع في القضايا المستجدة وثيقة الصلة بالطب؟

كيف لنا أن نعرف حكم الشرع -مثلاً- في قضايا مثل "الاستنساخ" أو "زرع الأعضاء" أو "عمليات التجميل"، أو "أطفال الأنابيب" أو التداوي بما قد يتخلله مُحرَّم، وغيرها؟!

كل هذه الأمور وغيرها مما يستجد في حياتنا اليومية، نحتاج فيها -ولا شك- إلى أطباء مهرة في تخصصهم، ثم هم يدرسون في الشرع ما يختص بالفرع الذي يتقنونه، وبذلك يمتلكون القدرة على الإدلاء برأي صائب، يوافق بين رأي الطب ورأي الشرع.

أفلا يكون الطب من هذا المنظور طريقًا إلى الجنة؟! وهل يعذر المسلمون إذا لم يخرجوا لأمتهم أطباء يوضحون لهم هذه الأمور، ويبينوه للفقهاء، فيتمكنوا من الإفتاء بالحلال أو الحرام فيما يتعلق بهذه المسائل؟! فهذا -ولا ريب- بابٌ لابد من أن يتفوق فيه المسلمون، ليقيموا بذلك دينهم، وليطبِّقوه كما أراد الله تعالى.

ومن هذا المنطلق فهذه العلوم جميعًا، سواء أكانت علوم اقتصاد أو علوم سياسة أو علوم طب أو هندسـة، أو غيرها ممن هي على شاكلتها، وتنفع الأمة وتصلح الحياة للإنسان على الأرض. هي كلها علوم أُخروية، بشرط توفر النية الصالحة، والإخلاص لله عز وجل.

الدليل الرابع: حاجة الإسلام إلى التفوق في علوم الحياة
هل من مصلحة الدعوة أن يكون حاملوها في ذيل أهل التخصص؟! سواء كان ذلك على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، أو حتى على مستوى الأمة ككل؟!

وبصورة أوضح، إذا كان الطالب المسلم الملتزم بدينه غير متفوق في دراسته، ولم يكن سابقًا في علومه بين أقرانه، هل سيكون قدوة بين الطلاب، ومن ثم يقلدونه في منهج حياته، ويتبعونه في دعوته؟! وهل سيطمئن الآباء على أبنائهم في صحبتهم له؟!

إن من أخطر الأمور أن يتميز طالبٌ أو متخصصٌ بسمتٍ إسلامي ودعوي ظاهرٍ، ثم تخاله في مجال دراسته أو في تخصصه، أو حتى في مهنته -تخاله قليل العلم، أو ضعيف المستوي، أو بطيء الأداء، فهذه -ولا شك- دعوة سلبية، وهي دعوة إلى ترك هذا الدين الذي يلتزمه هذا المتأخر وذاك الضعيف، وذلك إما من أجل الخوف من أن يماثله في تأخره وضعفه، أو خوفًا من أن تتعطل أو تتعثر مسيرة العلوم..

وقد قال العلماء في تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85]، قالوا: إن معنى الدعاء في هذه الآية: أن لا تجعل الكافرين أعلى من المؤمنين وأعظم؛ فيفتن الكافرون بذلك، ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق ما نُصِرنا عليهم، ولو كانوا على الحق ما كانوا أضعف منا وأهون [8].

ولقد سمعت واحدًا من الأميركيين أسلم حديثًا يحمد الله أنه قرأ عن الإسلام واقتنع به قبل أن يرى حال المسلمين، وإلا لكانت فرصة إسلامه ضعيفة، والسبب أنه ربما لم تكن ستواتيه فرصة الاقتناع بهذا الدين الذي لا يدفع أصحابه -كما يعبر حالهم- إلى العلم والتقدم والعمل. لكنه -بفضل الله- كان قد قرأ عن الإسلام قبل أن يرى المسلمين، وعلم أنه يدعو إلى العمل ويحث على العلم ويحض على الفضيلة والمعاني الجميلة، وإعمار الأرض. وعلم أيضًا أن هؤلاء المسلمين الذين يراهم لا يمثلون حقيقة الدين الإسلامي، بل هم مخالفون لمبادئه، بعيدون عن تطبيق قوانينه.

والأمر في النهاية لا يخرج عن أن يكون فتنة؛ فكم من البشر صُدُّوا عن سبيل الله برؤية تأخر المسلمين هذا وبمعاينة تخلفهم وضعفهم؟!! أفلا يدعو كل ذلك المسلمين إلى النبوغ في مجالات العلوم الحياتية، تمامًا كما ينبغون في العلوم الشرعية؟! إن هذا -والله- لهو الحق الذي لا ريب فيه.

الدليل الخامس: الإسلام يدعو على التفكير والإبداع
الإسلام بصفة عامة يحث على تكوين العقلية العلمية الموضوعية، التي تبني أفكارها على الاستدلال والاستنباط، وينكر تمامًا ذلك التقليد الأعمى، الذي لا يُنظر فيه إلى حجة، ولا يُهتم فيه بمنطق ولا برهان.

فتراه سبحانه ينكر على الكفار تبعيتهم العمياء لآبائهم فيقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22].

وترى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على المسلم أن يكون هملا إمعة لا رأي له ولا قرار، فيقول في الحديث الذي رواه الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه: "لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ؛ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا" [9].

بل إن الله تعالى قد طلب البرهان من الكفار على كفرهم هذا وعنادهم فقال: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]. وقال أيضًا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].

وقد عرض ربنا سبحانه وتعالى كل القضايا بمنطق الحجة والبرهان والدليل، فقال في إثبات وحدانيته سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22].

وقال في موضع آخر: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91]. وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[لقمان:11].

وفي قضية البعث يقول سبحانه معدِّدًا الأدلة والبراهين والحجج العقلية: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس: 78 - 81].

وهكذا، فالإسلام يحث على استخدام العقل، وعلى التفكير الناضج، والفقه الواعي، بل إنه يعد الإنسان الذي عطَّل عقله أشبه بالحيوان، أو أحط قيمة منه!!

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

فالإسلام إذن دينٌ يدعو إلى إعمال العقل، وتحريره من قيود التقليد والجمود والمحاكاة، وأن يطلق له العنان لأداء وظيفته وفق ضوابط معينة وأطر خاصة.

وعليه فإن الذي يُعطِّل عقله عن العمل والتفكير والإبداع، يكون قد خالف المنهج الإسلامي مخالفة جسيمة، وأضرّ بنفسه، ثم بأمته من بعده.

aymaan noor 21-01-2016 12:56 AM

الحضارة الإسلامية وتقدير العلماء
 
الحضارة الإسلامية وتقدير العلماء


بمراجعة التاريخ الإسلامي نجد أن عهود القوة فيه كانت مرهونة دائمًا ومرتبطة تمام الارتباط بالتفوق في العلوم الشرعية والعلوم الحياتية معًا. كما أنه لم يكن في هذا التاريخ أيٌّ من مظاهر اضطهاد العلماء، كما كان الحال عند الأوربيين.

لكن .. لماذا يقال هذا الكلام ولماذا يراد تطبيقه على الدين الإسلامي؟ هل كان ثمة صراعٌ قد حدث بين علماء الدين والشريعة وبين علماء الحياة؟! هل حُورب علماء الطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والسلاح والجغرافيا؟ أم كُرِّموا وقُدِّموا على غيرهم؟!

لقد كان اتصاف المسلم بفضيلة العلم بشتى أنواعه كافيًا لتقديمه على غيره، ورفعه إلى مصافّ رجال الأمة وصُنَّاعها المبجلين، والمقربين إلى الخاصة وإلى العامة على حد سواء.

عباس بن فرناس

لقد كان عباس بن فرناس [1] من علماء المسلمين الأفاضل في الأندلس، وهو صاحب سبقٍ في اختراعات كثيرة، لعل أشهرها أنه أول من قام بمحاولة للطيران في التاريخ. ولهذا التفوق العلمي قرَّبه الخلفاء وعظموا قدره.

ولحاله هذا، ولِما وصل إليه من شهرة وحظوة لدى الأمراء، فقد كان له حسَّاد يتربصون به، وقد راحوا يتهمونه بالسحر والشعوذة، وأنه يقوم بأشياء غريبة وعجيبة في منزله، أو في معمله الاختباري إن صح التعبير، وذلك لأنه كان يشتغل بالكيمياء، وكان ينتج عن ذلك انبعاث أدخنة وتطاير أبخرة من منزله.

وقد استُدعي للمحاكمة في قرطبة -وكان الخليفة في ذلك الوقت هو عبد الرحمن بن هشام الأموي- وقيل له في ذلك أنك تفعل كذا وكذا، وتخلط أشياء بأشياء، وتقوم بغرائب وعجائب لم نعهدها، فقال في رده عليهم: أترون أني لو عجنت الدقيق بالماء فصيرته عجينًا، ثم أنضجت العجين خبزًا على النار، أأكون قد صنعت سحرًا؟ قالوا: لا؛ بل هذا مما علم الله الإنسان. فقال: وهذا ما أشتغل به في داري، أمزج الشيء بالشيء، وأستعين بالنار على ما أمزج، فيأتي مما أمزج شيء فيه منفعة للمسلمين وأحوالهم [2].

وكانوا قد أرادوا شاهدًا على صحة الدعوى، فكان الشاهد هو عبد الرحمن بن هشام، الخليفة الأموي نفسه. وفي المحكمة وحين سمع الأقوال راح يُدلي بشهادته فقال: أشهد أنه قال لي أنه يفعل كذا وكذا (يريد أن كل هذه الأشياء يعملها ولها أصول عنده)، وقد صنع ما أنبأني به، فلم أجد فيه إلا منفعة للمسلمين، ولو علمت أنه سحر لكنت أول من حدّه!!

لقد أتوا بقائد الدولة وخليفة المسلمين إلى المحكمة ليشهد، ثم هو يشهد بالحق ولصالح العالِم، فكان أن حكم القاضي والفقهاء ببراءة ابن فرناس، وأثنوا عليه وحثوه على أن يستزيد من عمله وتجاربه، وحُفظت له بذلك مكانته [3].

الحسن بن الهيثم

والأمثلة على توقير العلماء، وإنزالهم منزلتهم، وحفظ مكانتهم وقدرهم هي أكثر من أن تُحصى، ولعل ما يمكن أن نذكره هنا ما كان من حال عالم البصريات الأبرز في تاريخ الحضارة الإسلامية، الحسن بن الهيثم [4]، فقد كان أمراء عصره في كل أقطار العالم الإسلامي شغوفين بالعلم ورعاية العلماء والاهتمام بهم، الأمر الذي جعله يتنقل بحرية تامة في ربوع العالم الإسلامي بين مراكز الحضارة الإسلامية فيه، ينهل منها جميعها.

وكان للحاكم بأمر الله (الأمير العبيدي الفاطمي، ت411هـ) دوره المهم في تنمية علم المهندس البصري الحسن بن الهيثم، وذلك بعد أن سمع عنه وذاع صيته في البصرة، وخاصة لما علم قوله: "لو كنت بمصر لعملت فِي نيلها عملاً يحصل بِهِ النفع فِي كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عالٍ، وهو فِي طرف الإقليم المصري".

كان من أمر الحاكم بأمر الله أن دعا الحسن بن الهيثم للمجيء إلى مصر، على أن يُساعده ويقدم العون له والمال، للقيام بمشروع السد الذي يتحكم في مياه النيل كما قال.

وما أن جاء ابن الهيثم إلى مصر، حتى استقبله الحاكم بأمر الله في قصر الضيافة الملكي، وأمر بإنزاله وإكرامه، ثم سرعان ما تناقشا في أمر السد، وكان أن اقترح عليه الأمير أن يبدأ فيه.

ولما وصل ابن الهيثم إلى أرض الواقع، والموضع المعروف بالجنادل، قبلي مدينة أسوان، وهو موضع مرتفع ينحدر منه ماء النيل، عاينه وباشره واختبره من جانبيه، وجد أن ما يبغيه هو فوق جهد الناس في أيامه، فتراجع معتذرًا عن فكرته.

فابن الهيثم حين وصل إلى منطقة الجنادل جنوبي مصر (وهو نفس مكان السد العالي المقام حاليًّا) وعاين المكان، اكتشف استحالة تنفيذ فكرته في زمانه بوسائل وإمكانات عصره، فرجع إلى القاهرة معترفًا بفشله في تنفيذ فكرته بإقامة سد علي النيل يختزن المياه من أيام الفيضان لتروى أرض مصر في أيام التحاريق.

والشاهد في ذلك مدى اهتمام الأمير العبيدي الفاطمي بالعلماء، ومدى توقيره لهم، والذي ظهر من خلال دعوته لابن الهيثم للمجيء إلى مصر، ثم حسن استقباله له وإكرامه، ولم يكن ذلك إلا لعلم ابن الهيثم رحمه الله.

الخوارزمي

ويذكر التاريخ أيضًا أن الخوارزمي [5] انتقل من بلدته خوارزم (وكانت مركزًا من مراكز الثقافة الإسلامية) إلى بغداد عاصمة الخلافة، حيث "بيت الحكمة" ذلك المجمع العلمي الكبير الذي أقامه الخليفة هارون الرشيد، والذي بنى المأمون بجواره مرصدًا فلكيًّا.

ولأن الخوارزمي كان بارزًا في علوم الفلك والجغرافيا، فقد اتصل بالخليفة المأمون، لما عرف عنه من حبٍ للعلم والعلماء، وخاصة وأن المأمون كان بارعًا في هذين المجالين من العلوم.

وسرعان ما أحاطه المأمون بعناية خاصة وتكريم كبير، فولاه منصبًا كبيرًا في بيت الحكمة، ثم أوفده في بعض البعثات العلمية إلى البلاد المجاورة، للاتصال بعلماء هذه المناطق، والاستزادة من علوم الآخرين، ونشر العلم في أرجاء الدولة الإسلامية.

اهتمام المأمون بالعلم

وفي سياق الحديث عن مرصد المأمون، فقد كان اهتمام المأمون بعلم الفلك غالبًا على اهتمامه بمجالات العلوم الأخرى، ولذلك أمر العلماء أن يقيموا مرصدًا فلكيًّا لقياس الكواكب ومعرفة أحوالها. وقد تحدث صاعد الأندلسي عن اهتمام المأمون بعلم الفلك وجهوده في ذلك، فقال:

"ولما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون، وطمحت نفسه الفاضلة إلى إدراك الحكمة، وسمت به همته الشريفة إلى الإشراف على علوم الفلسفة، ووقف علماء وقته على كتاب المجسطي (لبطليموس)، وفهموا صورة آلات الرصد الموصوفة فيه ..، جمع المأمون علماء عصره من أقطار مملكته، وأمرهم أن يصنعوا مثل تلك الأدوات، وأن يقيسوا بها الكواكب ويتعرفوا بها أحوالها، كما صنع بطليموس ومن كان قبله، ففعلوا ذلك وتولوا الرصد بمدينة الشماسية من بلاد دمشق من أرض الشام، سنة أربع عشرة ومائتين، فوقفوا على زمن سنة الشمس الرصدية، ومقدار ميلها وخروج مركزها ووضع أوجهها، وعرفوا مع ذلك بعض أحوال باقي الكواكب من السيارة والثابتة، ثم قطع بهم عن استيفاء غرضهم موت الخليفة المأمون سنة ثماني عشرة ومائتين (833م)، فقيدوا ما انتهوا إليه، وسموه "المرصد المأموني" [6].

منح الجوائز للعلماء

وفي طور اهتمام الخلفاء بالعلم والعلماء، فقد كانوا يمنحون من الجوائز العظيمة والهبات الجزيلة التي تشجع على تحصيل هذه العلوم بصورة هي أقرب إلى الخيال، وبصورة أكثر من غيرها في أي مجال آخر.

فكان المأمون أيضًا إذا ترجم عالِمٌ من العلماء كتابًا من لغة غير العربية إلى اللغة العربية أعطاه وزن هذا الكتاب المترجَم ذهبًا، وبالطبع فليس في هذه العلوم المترجمة صلة بعلوم الشرع، إنما كانت من علوم اليونان أو الرومان أو الإغريق أو الهند، مما هي في الطب والرياضيات والهندسة وغيرها من علوم الحياة [7].

ولذلك فقد نشطت حركة الترجمة كثيرًا في ذلك الوقت، وعلى إثرها نُقل إلى المسلمين علوم هائلة، فاستطاعوا أن يقيموا أروع حضارة عرفتها البشرية في تاريخها.

الترجمة في عصر المأمون وعصرنا

وبهذه المناسبة والحديث عن الترجمة، فإننا نُعرّج قليلا على حركة الترجمة في البلاد الإسلامية في عصرنا هذا، لنقارنه بما كانت عليه الحياة العلمية والحضارة الإسلامية بصفة عامة في عصر الخليفة المأمون.

فإن الإحصائيات الحديثة تشير إلى أن العالم العربي يُترجِم ثلاثة كتب سنويًّا لكل مائة ألف مواطن، بينما وعلى الجانب الآخر، فإن دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) وحدها -على سبيل المثال- تترجم مائة كتاب سنويًّا لكل مائة ألف مواطن!!

وهذا يوقفنا بعض الشيء على حقيقة الوضع العلمي المتردي الذي نعيشه الآن!!

وفي هذا الشأن أيضًا أرسل المنصور والمأمون والمتوكل الرُّسلَ إلى القسطنطينية وغيرها من المدن البيزنطية لاجتلاب الكتب اليونانية التي أهملها أصحابها -على حد تعبير علي بن عبد الله الدفاع في روائع الحضارة العربية والإسلامية- ولم يعرفوا قيمتها.

فكان خلفاء المسلمين يرسلون أحيانا العلماء إلى أعدائهم أباطرة الروم ليشتروا منهم الكتب العلمية اليونانية، كما أن خلفاء الدولة الأموية والدولة العباسية كانوا يقبلون المخطوطات والكتب العلمية من أساقفة النصارى والصابئة والمجوس وغيرهم بدلا من دفع الجزية[8]!!

أبلغ تكريمٌ للعلم والعلماء، وأبلغ رسالة في الحرص عليه، والتشجيع له .. ذلك الذي كان بقوم به الخلفاء المسلمون؟!

والحديث في هذه الأمثلة لا ينقطع، ولم تكن هذه الأحداث عابرة في حياة الأمة الإسلامية، إنما كانت متكررة عبر قرون متتالية، مما يؤكد على أنها لم تكن من قبيل المصادفة، أو نتيجة وجود خليفة معين أو حاكم بذاته يهتم بالعلوم.

فلقد كانت هذه العلوم سمة أصيلة من أهم سمات ومقومات الدولة الإسلامية في شتى مراحلها. وهو ما حدا بجامعات مثل قرطبة وإشبيلية وغرناطة وطليطلة في الأندلس، لأن تفتح أبوابها للراغبين في العلم من كل أنحاء أوربا، إذ لم يكن هناك جوٌ علمي، ولا بيئة علمية إلا في هذه البقاع المسلمة.

ويقول سارتون: "حقق المسلمون -عباقرة الشرق- أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت معظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر لغة العلم الارتقائية للجنس البشري، حتى لقد كان ينبغي لأي كائن إذا أراد أن يلم بثقافة عصره وبأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية، ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بها، وأعتقد أننا لسنا في حاجة أن نبين منجزات المسلمين العلمية في الرياضيات والفيزياء وعلم الفلك والكيمياء والنبات والطب والجغرافيا" [9].

ولنا أن نتساءل بعد:

لماذا يهرب كثيرٌ من المسلمين من القضايا العلمية الآن؟ ولماذا يُتَّهم الإسلام بالتخلف والجمود؟ ولماذا يُعلّق كثيرٌ من المتشائمين والعلمانيين الغربيين على أن هذه القواعد التي ذكرنا هي قواعد نظرية، لا مجال لها للتطبيق في مجال الحياة، وفي واقع الناس؟ ولماذا يرسخون في اعتقادنا أن الدين عكس العلم وأنه يضاده ويتنافى معه؟ وأن الإنسان إذا أراد أن يكون عالمًا حقًا، فعليه أولاً أن يتخلص من قيود الدين؟!

ألا يثبت ذلك التشجيع المكثف على العلم، وذاك الحرص الشديد عليه الذي رأيناه من قِبل الخلفاء المسلمين على مدى عصورهم، وتلك المكانة السامقة والرفيعة للعلم والعلماء في الإسلام بصفة عامة، وعلى مدى تاريخهم الحضاري بصفة خاصة، ألا يثبت ذلك أنه تشجيعٌ عملي واقعي، قابلٌ للتطبيق والتكرار؟!

{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53].

أبو إسراء A 22-01-2016 03:43 PM

جزاك الله خيرا

aymaan noor 23-01-2016 04:11 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6361524)
جزاك الله خيرا

جزاك الله خيرا أساذنا أبو اسراء و بارك الله فيك

aymaan noor 23-01-2016 04:21 AM

المنهج التجريبي في الحضارة الإسلامية
 
المنهج التجريبي في الحضارة الإسلامية



دور علماء المسلمين في اكتشاف المنهج التجريبي
يُعَدُّ التوصُّل إلى المنهج العلمي التجريبي الرصين في البحث، والقائم على القياس والاستقراء، والمستند إلى المشاهدة والتجربة - إضافةً إسلاميَّة مهمة لمسيرة العلم في العالم.

وهو منهج مخالف تمامًا لما كان عليه اليونانيون أو الهنود أو غيرهم؛ فهذه الحضارات كانت تكتفي في كثير من الأحيان بافتراض النظريات دون محاولة إثباتها عمليًّا، فكانت في أغلبها فلسفات نظريَّة، لا تطبيق لها في الكثير من الأحايين، حتى وإن كانت صحيحة، وكان يؤدِّي هذا إلى الخلط الشديد بين النظريات الصحيحة والباطلة، إلا أن جاء المسلمون فابتكروا الأسلوب التجريبي في تناولهم للمعطيات العلمية والكونية من حولهم، وهو ما أدَّى إلى تأسيس قواعد المنهج العلمي التجريبي، الذي ما زال العلم المعاصر يسير على هَدْيِه.

وقد أدَّى تطبيق المسلمين للمنهج التجريبي على النظريات السابقة، ودون اعتبار إلى اسم صاحب النظرية مهما كان مشهورًا، أدَّى إلى اكتشاف الكثير من الأخطاء التي توارثها العلماء على مدار قرون متتالية.

فلم يكن العلماء المسلمون يكتفون بنقد النظريات السابقة واختبارها، ولكن كانوا كثيرًا ما يفترضون الافتراضات الجديدة، ثم يختبرونها حتى يتحوَّل الافتراض إلى نظرية -إذا أُثبت قربه من الحقيقة- ثم يختبرون النظريَّة حتى يثبت لهم في النهاية أنها أصبحت حقيقة وليست نظريَّة، وفي سبيل هذا كانوا يُجْرُون الكثير من التجارِب دون ملل.

نماذج لعلماء المسلمين اعتمدوا على المنهج التجريبي
ومن العلماء المسلمين الذين كان لهم باع طويل في هذا المجال جابر بن حيان، والخوارزمي، والرازي والحسن بن الهيثم، وابن النفيس، وغيرهم كثير.

جابر بن حيان
فهذا جابر بن حيان شيخ الكيميائيين يقول: "ومِلاك كمال هذه الصنعة العمل والتجرِبة؛ فمَنْ لم يعمل ولم يجرِّب لم يظفر بشيء أبدًا". وفي كتاب (الخواصّ الكبير) المقالة الأولى يقول: "إننا نذكر في هذه الكتب خواصَّ ما رأيناه فقط دون ما سمعناه، أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحنَّاه وجرَّبناه، فما صحَّ أوردناه، وما بَطَل رفضناه، وما استخرجناه نحن أيضًا قايسناه على أحوال هؤلاء القوم".

ولذلك يُعَد جابر أوَّل مَنْ أدخل التجربة العلميَّة المخبريَّة في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده، وكان أحيانًا ما يُسمِّي التجرِبة بالتدريب، فكان يقول: "فمَنْ كان دَرِبًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دَرِبًا لم يكن عالمًا، وحسبُك بالدُّرْبَة في جميع الصنائع أن الصانع الدَّرِب يحذق، وغير الدَّرِب يعطل"!!

وعليه يكون جابر قد قطع خطوة أبعد مما قطع علماء اليونان قبله في وضع التجرِبة أساس العمل لا اعتمادًا على التأمُّل الساكن. يقول قدري طوقان: يمتاز جابر على غيره من العلماء بكونه في مقدِّمة الذين عملوا التجارِب على أساس علمي، وهو الأساس الذي نسير عليه الآن في المعامل والمختبرات؛ إذ دعا إلى الاهتمام بالتجرِبة وحثَّ على إجرائها مع دقَّة الملاحظة، كما دعا إلى التأنِّي وترك العجلة، وقال: إن واجب المشتغل في الكيمياء هو العمل وإجراء التجربة، وإن المعرفة لا تحصل إلاَّ بها.

الرازي
ولعل الرازي يكون هو أول طبيب في العالم يستخدم هذا المنهج التجريبي، وذلك من خلال إجراء تجاربه على الحيوانات، وخاصةً القرود، لاختبار طرق العلاج الجديدة قبل أن يُجْرِيَها على الإنسان، وهو منهج علمي رائع لم يُقِرَّه العالَم إلاَّ منذ فترة وجيزة؛ ففي منهجه الذي سار عليه تراه يقول: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع النظريَّة السائدة يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظريات السائدة تأييدًا لمشاهير العلماء"! فهو يقرِّر أن الجميع قد ينبهر بآراء العلماء المشهورين الكبار، ويتوقَّف عند نظرياتهم، إلاَّ أن التجرِبة أحيانًا ما تتعارض مع النظرية، فهنا يجب علينا رفض النظرية -وإن كانت لمشاهير العلماء- وقَبول التجرِبة والواقعة، والبدء في تحليلها والاستفادة منها.

ابن الهيثم
وبسبب المنهج التجريبي أيضًا حفلت كتب ابن الهيثم بانتقادات كثيرة لنظريات إقليدس وبطليموس، مع علوِّ قدرهما العلمي، ويتَّضح منهج ابن الهيثم العلمي إجمالاً من مقدِّمة كتابه (المناظر)، فقد بيَّن فيه بإيجاز الطريقة التي هداه تفكيره إلى أنها الطريقة المثلى في البحث، والتي اتَّبعها في بحوثه، يقول ابن الهيثم: "... ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفُّح أحوال المبصرات، وتمييز خواصِّ الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخصُّ البصر في حال الإبصار، وما هو مطَّرد لا يتغيَّر، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدِّمات والتحفُّظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفَّحه استعمال العدل لا اتِّباع الهوى، ونتحرَّى في سائر ما نميِّزه وننتقده طلب الحقِّ لا الميل مع الآراء".

فابن الهيثم أخذ في بحوثه بالاستقراء والقياس، واعتنى في البعض منها بالتمثيل، وهي عناصر البحوث العلميَّة العصريَّة، وابن الهيثم -كواحد من علماء المسلمين الذين أسَّسوا للمنهج التجريبي- لم يسبق فرنسيس بيكون إلى طريقته الاستقرائيَّة فحسب، بل سما عليه سموًّا كبيرًا، وكان أوسع منه أفقًا وأعمق تفكيرًا، وإن لم يَعْنِ كما عَنِيَ بيكون بالتفلسف النظري.

ويذهب الأستاذ مصطفى نظيف إلى أكثر من هذا فيقول: "بل وإن ابن الهيثم قد عمَّق تفكيره إلى ما هو أبعد غورًا بما يظن أول وهلة، فأدرك ما قال من بعد (ماك) و(كارل بيرسون) وغيرهما من فلاسفة العلم المحدَثِين في القرن العشرين، وأدرك الوضع الصحيح للنظريَّة العلميَّة، وأدرك وظيفتها الحقَّة بالمعنى الحديث".

بل إن بعض علماء المسلمين اعتبر الكتابة غير دقيقة إن لم تسبقها تجارِب، فقال الجلدكي أحد أعلام الكيمياء من علماء القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) عن الطغرائي(ت 513هـ) الكيميائي المعروف: "كان الطغرائي رجلاً على جانب عظيم من الذكاء، ولكنه لم يعمل إلاَّ قليلاً من التجارِب، وهذا أمر يجعل كتاباته غير دقيقة".

وهكذا يكون المسلمون قد توصَّلوا إلى المنهج العلمي التجريبي، والذي من خلاله تعلَّمت البشريَّة كيف تصل إلى الحقيقة العلميَّة بثقةٍ واقتدار، بعيدًا عن الظنون والأوهام والأهواء.

أبو إسراء A 23-01-2016 02:23 PM

جزاكم الله خيرا

عبدالرازق العربى 23-01-2016 07:19 PM

بارك الله فيك

aymaan noor 23-01-2016 08:17 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6362233)
جزاكم الله خيرا

جزانا الله و اياك أستاذنا الفاضل أبو اسراء

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 23-01-2016 08:19 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالرازق العربى (المشاركة 6362478)
بارك الله فيكم

بارك الله فيك أستاذنا الفاضل عبد الرازق العربى

شكرا لحضرتك على مرورك العطر

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 23-01-2016 08:19 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالرازق العربى (المشاركة 6362471)
بارك الله فيك

بارك الله فيك أستاذنا الفاضل عبد الرازق العربى

شكرا لحضرتك على مرورك العطر

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 23-01-2016 11:18 PM

منهجية البحث العلمي عند علماء المسلمين
 
منهجية البحث العلمي عند علماء المسلمين



إنّ البحث العلمي واحد من أوجه النشاط المعقدة التي يمارسها العلماء باستقصاء منهجي في سبيل زيادة مجموع المعرفة العلمية وتقنياتها، ويطلق على العلم المعنيّ بطرائق وأساليب البحث في العلوم الكونية للوصول إلى الحقيقة العلمية أو البرهنة عليها اسم (علم مناهج البحث) (Methodology)، كما يطلق على منهج البحث في العلوم الكونية التي تبحث في الظواهر الجزئية للكون والحياة اسم ( المنهج التجريبي الاستقرائي)، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة.

وينسب الكثير من المؤرخين وعلماء المناهج الفضل في اكتشاف هذا المنهج إلى العالم الإنجليزي (فرنسيس بيكون) الذي وضع إبّان عصر النهضة الأوربية الحديثة كتابه المشهور "الأورجانون الجديد" ويعني به منهج البحث التجريبي، ليعارض به أرسطو في كتابه "الأرجانون القديم".
ويشهد استقراء تاريخ الفكر البشري بأنّ علماء الحضارة الإسلامية كانوا أسبق من الغربيين إلى نقض منطق أرسطو النظري واتباع المنهج التجريبي قبل بيكون بعدة قرون، فقد استطاعوا أن يميزوا بين طبيعة الظواهر العقلية الخالصة من جهة، والظواهر المادية الحسية من جهة أخرى، وفطنوا إلى أن الوسيلة أو الأداة التي تستخدم في هذه الظواهر يجب أن تناسب طبيعة كل منها، ويعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية من أوائل العلماء المسلمين الذين نقدوا منطق أرسطو الصوري، حيث هاجمه بعنف في كتابه ( نقد المنطق) ودعا إلى الاستقراء الحسي الذي يصلح للبحث في الظواهر الكونية ويوصل إلى معارف جديدة.

سبق المسلمون:

اتجه علماء الحضارة الإسلامية إلى المنهج التجريبي الاستقرائي عن خبرة ودراية بأصوله وقواعده، وأحرزوا على أساسه تقدمًا ملموسًا في حركة التطوير العلمي والتقني، فهذا هو الحسن بن الهيثم -على سبيل المثال لا الحصر- يصف ملامح المنهج التجريبي الاستقرائي الذي اتبعه في بحث ظاهرة الإبصار بقوله: "... رأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى بغاية الإمكان، ونخلص العناية به، ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مباديه ومقدماته، ونبتدئ باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير، وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس... ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى -في سائر ما نميزه وننتقده- طلب الحق لا الميل مع الآراء... فلعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي به يثلج الصدر، ونصلب التدرج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف، وتنحسم بها مواد الشبهات... وما نحن من جميع ذلك براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكننا نجتهد بقدر مالنا من القوة الإنسانية... ومن الله نستمد العون في جميع الأمور".

مقومات المنهج العلمي:

ويوضح هذا النص بما لا يدع مجالاً للشك أنّ القواعد العامة التي وضعها ابن الهيثم لمنهج الاستقراء تتميز عن قواعد المنهج البيكوني بأنّها ليست مجموعة من التعليمات والإرشادات التي تلتزم ترتيبًا محددًا لا ينبغي تجاوزه؛ مما يضفي عليها قدرًا كافيًا من المرونة يحول دون جمودها أمام حركة العلم وتطوره. كذلك تعكس عبارات ابن الهيثم كثيرًا من خصائص العلم التجريبي ومقومات نجاح البحث العلمي التي افتقدها كل من (المنطق الأرسطي) و(المنهج البيكوني) وتوضح المقارنة أن التجريبية خطوة مقصورة في أسلوب البحث العلمي عند علماء المسلمين.

من ناحية أخرى يتضح من القراءة المتأنية للنصوص العلمية في التراث الإسلامي أنّ الفضل في اكتشاف المنهج العلمي (التجريبي الاستقرائي) لا ينسب إلى عالم إسلامي بعينه على غرار ما يقال عادة عن منهج أرسطو أو بيكون أو ديكارت بل إنه يعزى إلى علماء كثيرين مهدوا له في مختلف فروع العلم، فها هو جابر بن حيان يلقي مزيدًا من الضوء على خصائص المنهج التجريبي الذي اتبعه فيؤكد أنّ "لكل صنعة أساليبها الفنية"، ويحذر من الإفراط في الثقة بنتائج تجاربه بالرغم من موضوعيته في البحث العلمي فيقول: "إنّا نذكر في هذه الكتب خواص ما رأيناه فقط -دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه- بعد أن امتحناه وجربناه، وما استخرجناه نحن قايسناه على أقوال هؤلاء" ويقول أيضًا: "ليس لأحد أن يدّعي بالحق أنّه ليس في الغائب إلا مثل ما شاهد أوفي الماضي والمستقبل إلا مثل ما في الآن".

ونجد في مؤلفات الرازي والبيروني والبتاني والبوزجاني والتيفاشي والخازني وابن النفيس وابن يونس وغيرهم ما يؤكد إيمانهم بالمنهج الجديد في تحصيل الحقيقة العلمية وممارستهم لهذا المنهج عن إدراك وفهم دقيق لكل مسلماته وأدواته وخصائصه وغاياته، وفي هذه الحقيقة الهامة يكمن السر -الدافع- وراء نجاح هذا المنهج ومواكبته لحركة التقدم العلمي التي حثت عليها تعاليم الإسلام الحنيفة ومبادئه السامية متمثلة في آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي تكرم العلم والعلماء، وتحث على إعمال العقل، ومداومة البحث في ملكوت السموات والأرض، وتحرر التفكير من القيود والأوهام المعوقة للكشف والإبداع، وتحارب التنجيم والتنبؤ العشوائي والتعصب للعرق والعرف، وتحذر من الاطمئنان إلى كلما هو شائع أو موروث من آراء ونظريات، ولا شك أن هذا كله أوسع وأشمل مما يعرف بأوهام الكهف والسوق والمسرح والجنس، وهى الأوهام الأربعة المنسوبة لـ(بيكون) والتي كثيرًا ما يباهي بها فلاسفة العلم وشراح المنهج العلمي.

القرآن الكريم... نقطة الانطلاق:

وتدلنا قراءة التراث الإسلامي على أن المسلك الذي اتبعه علماء الأصول وعلماء الحديث في الوصول إلى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال قد انسحب على أسلوب التفكير والتجريب في البحث العلمي، فنرى -على سبيل المثال- أن الحسن بن الهيثم يستعمل لفظ الاعتبار وهو لفظ قرآني ليدل على الاستقراء التجريبي أو الاستنباط العقلي، ويستخدم قياس الشبه في شرحه لتفسير عملية الإبصار وإدراك المرئيات، كذلك نجد أبا بكر الرازي يستخدم الأصول الثلاثة: الإجماع، والاستقراء، والقياس في تعامله مع المجهول، فهو يقول: "إنّا لما رأينا لهذه الجواهر أفاعيل عجيبة لا تبلغ عقولنا معرفة سببها الكامل لم نر أن نطرح كل شيء لا تدركه ولا تبلغه عقولنا؛ لأنّ في ذلك سقوط جل المنافع عنا، بل نضيف إلى ذلك ما أدركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به، ولا نحل شيئًا من ذلك محل الثقة إلا بعد الامتحان والتجربة له.. ما اجتمع عليه الأطباء وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك".

ولقد استند علماء الحضارة الإسلامية على اختلاف تخصصاتهم -في ممارستهم للمنهج العلمي- إلى مبادئ أساسية استمدوها من تعاليم دينهم الحنيف، ويمكن إيجازها فيما يلي:

1- عقيدة التوحيد الإسلامي هي نقطة الانطلاق في رؤية الإنسان الصائبة لحقائق الوجود قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]، فالله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق، وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التي أمرنا بالبحث عنها واستقرائها في عالم الشهادة باعتبارها مصدرا للثقة واليقين، وليست ظلالاً أو أشباحًا كما نظرت إليها الثقافة اليونانية قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].

2- الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى يستلزم بالضرورة العقلية أن يرد الإنسان كل شيء في هذا الوجود إلى الخالق الحكيم الذي أوجد هذا العالم بإرادته المباشرة المطلقة على أعلى درجة من الترتيب والنظام والجمال، وأخضعه لقوانين ثابتة لا يحيد عنها، وحفظ تناسقه وترابطه في توازن محكم بين عوالم الكائنات، وقد شاءت إرادته تعالى أن تبين لنا من خلال نظام الكون ووحدته اطراد الحوادث والظاهرات كعلاقات سببية لنراقبها وندركها، وننتفع بها في الحياة الواقعية بعد أن نقف على حقيقة سلوكها ونستدل بها على قدرة الخالق ووحدانيته، والانطلاق في التفكير العلمي في إطار المفهوم الإيماني يجعل الطريق مفتوحًا دائمًا أمام تجدد المنهج العلمي وتطوره بما يناسب مع مراحل تطور العلوم المختلفة، كما أنّه يضفي على النفس الاطمئنان والثقة اللازمين لمواصلة البحث والتأمل، وينقذ العلماء من التخبط في التيه بلا دليل، كالإحالة على الطبيعة أو العقل أو المصادفة، أو ما إلى ذلك من التصورات التي طرحتها الفلسفات الوضعية المتصارعة قديمًا وحديثًا وأصابتها بالعجز والعطب.

قال تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3، 4].

3- منهج البحث والتفكير يقوم في المفهوم الإسلامي على التأليف بين العقل والواقع، ويعوَّل في اكتساب المعرفة على العقل والحواس وباقي الملكات الإدراكية التي وهبها الله للإنسان، وقد حملنا الله سبحانه وتعالى مسئولية استخدام وسائل العلم وأدواته في مواضع كثيرة من القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقوله سبحانه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقوله عز من قائل: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10].

وهكذا نجد أن علماء الحضارة الإسلامية قد تشربوا تعاليم دينهم الحنيف واصطنعوا لنفسهم منهجًا علميًّا إسلاميًّا تجاوزوا به حدود الآراء الفلسفية التي تميزت بها علوم الإغريق، وانتقلوا إلى إجراء التجارب واستخلاص النتائج بكل مقومات الباحث المدقق، مدركين أن لمنهجهم الجديد شروطًا وعناصر نظرية وعملية وإيمانية يجب الإلمام بها، وتكشف قراءتنا المتأنية لعلوم التراث الإسلامي عن سبق علماء المسلمين إلى تحديد عناصر المنهج العلمي بما يتفق مع كثير من المسميات والمصطلحات الجديدة التي يتداولها اليوم علماء المنهجية العلمية مثل أنواع الملاحظة والتجربة (الاستطلاعية الضابطة الحاسمة) ومقومات الفرض العلمي، واستخدام الخيال العلمي في المماثلة بين الظواهر المختلفة والكشف عن الوحدة التي تربط بين وقائع متناثرة.

وليس هناك من شك في أنّ الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى تعتبر حلقة هامة في تاريخ العلم والحضارة بما قدمه علماؤها من تأسيس لمنهج علمي سليم ساعد على تطوير معارف جديدة، لكننا في عالمنا الإسلامي لا نزال بحاجة ماسة إلى إعادة قراءة تراثنا بأسلوب العصر ومصطلحاته، ليس فقط من أجل تحديث الثقافة العلمية الإسلامية، بل أيضًا من أجل أسلمة طرق التفكير العلمي طبقًا لخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، إن إسلامية المعرفة بعامة والمعرفة العلمية بخاصة يجب أن تكون من الروافد الأساسية للصحوة الإسلامية المنشودة.

أبو إسراء A 24-01-2016 03:04 PM

جزاك الله خيرا

aymaan noor 24-01-2016 08:43 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6363071)
جزاك الله خيرا

جزاك الله مثله و أكثر منه أستاذى أبو إسرا

شرفت بمرورك بالموضوع

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 25-01-2016 07:09 AM

قصة العلوم في الإسلام
 
قصة العلوم في الإسلام



العلم حتى النصف الأول من القرن الثاني الهجري

بلغت مكانة العلوم الحياتية والتطبيقية في ظلِّ الإسلام مبلغًا عظيمًا، حتى أصبح المسلمون فيها سادة، وقد ملكوا ناصيتها كما ملكوا ناصية العالم، فغدت جامعاتهم مفتوحة للطلبة الأوروبيين الذين نزحوا من بلادهم لطلب تلك العلوم، وطفق ملوك أوروبا وأمراؤها يفدون على بلاد المسلمين ليُعَالَجوا فيها، وهو ما دعا العلامة الفرنسي غوستاف لوبون أن يتمنَّى لو أن العرب المسلمين استولوا على فرنسا؛ لتغدو باريس مثل قرطبة في إسبانيا المسلمة! فقال تعبيرًا عن عظمة الحضارة العلمية في الإسلام: "إن أوروبا مدينة للعرب (المسلمين) بحضارتها".

وقد كان ذلك لمَّا فَقِه المسلمون حقيقة دينهم، وعلموا كيف أنه يُشجِّع على العلم النافع بكُلِّ أشكاله، ويُعلي من شأن العلماء ومكانتهم، فطفقوا يجُوبون في تحصيله، شعارهم أنهم أحقُّ الناس به أنَّى وجدوه، وفي ذلك فإنهم لم يُفرِّقوا بين علوم شرع أو علوم حياة؛ فإذا كان بعلوم الشرع يُقام الدين، فإن علوم الحياة هي أيضًا تلك العلوم النافعة التي يحتاج إليها الإنسان ليُصْلِح بها حياته، ويعمِّر بها أرضه، ويستكشف بها كونه وبيئته، فتتحقَّق بذلك أهليَّته كخليفة لله في الأرض.

الإسلام دين العلم

والحقيقة التاريخية تؤكِّد أن العلوم الحياتية نشأت أوَّل ما نشأت عند المسلمين في أحضان الدين وفي ظلِّ تعاليم القرآن، فعندما نزل الوحي بأول كلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي {اقْرَأْ}[العلق: 1]؛ كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر عصر العلم، فالقراءة هي مِفتاح العلوم بـ "القلم" في السورة التي تلت آيات سورة العلق في النزول{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]؛ مما رسَّخ في أذهان المسلمين عظمة طلب العلم وتحقيق السبق والتفوُّق فيه.، فقال: ، وأكَّد ذلك وزاد من أهميته قسمُه
وإيمانًا من النبي صلى الله عليه وسلم بقيمة العلم جعل فداء المشرك الأسير لنفسه في غزوة بدر تعليمه عشرة من الصحابة الكتابة والخطَّ، وهذا إعلان من النبي صلى الله عليه وسلم بأهمية العلم وعظمة تعلُّمه.

الطب النبوي من أعظم العلوم

وقد تعدَّدت الأحاديث النبوية الكثيرة التي تحث المسلمين على التعلم، وتدفعهم دفعًا إلى طلب العلم وتحصيله، ومما جاء في ذلك، وبالأخص في مجال العلوم الحياتية، قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل في المدينة: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ".

كما كانت أحاديثه في الطبِّ، والصحَّة، والمرض، والوقاية من العدوى، والتي بلغت ثلاثمائة حديث ثم في عهد الخلفاء الراشدين، وقد كان يُؤخَذ بالدُّربة والتجرِبة والممارسة؛ يؤيِّد ذلك ما رواه ابن الجوزي عن هشام، قال: كان عروة يقول لعائشة: لا أعجب من فقهك، أقول: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت أبي بكر... ولكن أعجب من علمك بالطب!! فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سقيمًا في آخر عمره، فكانت تقدَم عليه وفود العرب من كل وجه، فتنعت الأنعات، فكنت أعالجها له، فمن ثَمَّ - وقد سمِّيت فيما بعد بالطب النبوي - مُلْهِمًا لكل مَن يَعْمَل بالطبِّ أن يبحث عن الدواء وسبب الداء، فكان الطبُّ من أهمِّ العلوم التي ظهرت وزاد الاهتمام بها في عهد الرسول فمن كثرة ما كانت ترى من وصفهم الدواء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعالجتها له أصبحت عائشة رضي الله عنها خبيرة بالطبِّ.

هذا وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة مِن أَسْلَم يُقال لها: رُفَيْدَة في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة مَن كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: "اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتَّى أَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ". والمؤرِّخون المسلمون يعتبرون هذه الخيمة نواة البيمارستانات (المستشفيات) في الإسلام .

وكان ممن اشتهر من الأطباء في تلك الفترة وذاع صيتهم -غير رُفَيْدة- كُعَيْبَة، وأُمُّ عطية الأنصارية الصحابيتان، والحارث بن كلدة الثقفي الذي تعلَّم الطب في اليمن وفي مدرسة جُندَيسابور بفارس.

أما عصر الخلافة الراشدة فكان بصورة عامَّة عصر إعداد للدولة الإسلامية وتثبيت لأركانها، وكان جُلُّ اهتمام الصحابة تثبيت العقيدة وتعاليم الدين؛ لذلك لم يظهر في ذلك العصر تطوُّر ملموس في العلوم الحياتية والتطبيقية، اللهم إلا ما كان امتدادًا للعهد النبوي.

النقلة الحضارية والعلمية

عند الحديث عن قصة العلوم بصفة عامَّة وإنجازات العلماء المسلمين فيها فإنه يجب ألا يغيبَ عن بَالِنَا أن تاريخ العرب قبل الإسلام لم يكن يحمل أي اهتمام بهذا المجال، وقد جاء الإسلام وأحدث نقلة حضارية وعلمية هائلة؛ نتبيَّن مراحلها فيما يلي.

نشاط حركة الترجمة

وبإمكاننا هنا أن نؤرِّخ لقصة العلوم بعد عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة بشخصيات علمية رائدة، نبغت وأثَّرت في عصرها فكانت علامة بارزة فيه، والحقيقة أن أغلب هؤلاء العلماء كانوا موسوعيون، لهم في أكثر من علم باعٌ عريض وشهرة فائقة.

وعلى هذا فإنَّ أوَّل ظهور حقيقي لقصَّة العلوم في الإسلام يُعَدُّ مع ظهور حكيم بني أمية الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ - 704م)، الذي كان على يديه أوَّل نقل في الإسلام من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، فيما عُرف ببداية حركة الترجمة، تلك التي نشطت في بداية عصر الخلافة الأموية، أواخر القرن الأول الهجري، الثامن الميلادي.

فما أن استقرَّت الخلافة الأموية وازدهرت سياسيًّا واقتصاديًّا، وورثت علوم الأعاجم من الفرس والروم وغيرهم بعد انهيار دُولهم، حتى كان الاتجاه إلى الحركة الفكرية؛ فتُرجمت كثير من كتب الحضارات السابقة من إغريقية وفارسية وغيرها، ونُقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية؛ لِتُعْتَبر حدثًا مُهِمًّا من الناحية الحضارية؛ لأنها فتحت نافذةً أَشْرَفَ منها العلماء العرب والمسلمون لأوَّل مرَّة على ما لدى غيرهم من معارف وعلوم.

ازدهار علم الطب

وقد نالت العلوم التجريبية نصيبًا مُهِمًّا من بين هذه العلوم المترجَمة، وكان على رأسها جميعًا الطبُّ؛ فقد كان الطبُّ الإسلامي في أوَّل هذه الفترة معتمِدًا على إرشادات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الأعشاب والنباتات الطبِّيَّة، والكيِّ، والفصد، والحجامة، والختانة، وبعض العمليات الجراحية البسيطة، ولمَّا بدأ الأطباء المسلمون والعرب يتَعَرَّفون على الطبِّ اليوناني عَبْر مدرسة الإسكندرية ومدرسة جُندَيسابور كان اتِّجاههم إلى ترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية. وفي هذا فقد ترجم ماسرجويه، الطبيب اليهودي الذي يُعدُّ من أبرز المترجِمِين في ذلك العصر، للخليفة مروان بن الحكم (64 - 65هـ) موسوعة طبية يونانية تُسَمَّى "الكُناش".

وقد ازدهر الطبُّ على ذلك، وبُنيت المستشفيات، واعْتَبَر بعضُ المؤرِّخين للعلوم العلمية أن الخليفة الأُموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ) هو أوَّل من بنى مستشفًى نموذجيًّا في الإسلام، وذلك سنة 88 هجرية، وقد زوَّده بالطعام والأدوية والملابس، وعَمَّره بالأطباء والصيادلة، وألحق به صيدلية تحتوي على مختلف أنواع الأدوية من الشراب والمعاجين.

كما اشْتَهرت أسماء لامعة في الطبِّ في هذه الفترة، وتأتي عائلة أبي الحكم الدمشقي في المقدِّمة، وكان في مقدِّمتهم أبو الحكم الدمشقي (ت 210هـ)، الذي استطبَّه الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ، وكان قد عُمِّر أكثر من مائة سنة، وتياذوق (ت نحو 90هـ) الذي كان مُقَرَّبًا من الحجاج بن يوسف الثقفي.

ويمثِّل ظهور خالد بن يزيد أيضًا بَدْء ظهور علم الكيمياء، وقد تتلمذ خالد في ذلك للراهب الرومي مريانوس وتعلَّم منه صنعة الطب والكيمياء، ثم كان له في صنعة (الكيمياء) ثلاث رسائل هي: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب)، ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس، وكيف تعلم منه الرموز التي أشار إليها.

النصف الثاني من القرن الثاني الهجري

جابر بن حيان صاحب المنهج التجريبي

يمكن التأريخ للفترة الثانية من تاريخ قصة العلم، وهي النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والنصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، بالعالم الكيميائي "جابر بن حيان" (ت 200هـ / 815م)؛ فقد كان علامة بارزة وفارقة ظهرت في هذه الفترة، وعلى يديه كان بَدْء ظهور المنهج العلمي التجريبي، والذي يعتمد على التجرِبة والملاحظة، اللَّتان اعْتُبِرَتا حجر الزاوية لدراسة العلوم الطبيعية، كما أنه يُعَدُّ شيخ علماء الكيمياء المسلمين، والذين كانت لهم إسهاماتهم البارزة في ذلك العلم.

فترى جابر بن حيان يدعو إلى الاهتمام بالتجربة، ودقَّة الملاحظة، تلك التي يقوم عليها المنهج التجريبي، فيقول: "ومِلاكُ كمال هذه الصنعة العملُ والتجرِبة؛ فمَن لم يعمل ولم يُجَرِّب لم يظفر بشيء أبدًا".

وقد كانت الكيمياء قبل جابر خرافية تستند على الأساطير البالية، حيث سيطرت فكرة تحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة؛ وذلك لأن العلماء في الحضارات ما قبل الحضارة الإسلامية كانوا يعتقدون أن المعادن المنطرقة مثل: الذهب، والفضة، والنُّحاس، والحديد، والرصاص، والقصدير من نوعٍ واحد، وأن تباينها نابع من الحرارة والبرودة، والجفاف والرطوبة الكامنة فيها، وهي أعراض متغيِّرة، (نسبة إلى نظرية العناصر الأربعة: النار، والهواء، والماء، والتراب)، لذا يمكن تحويل هذه المعادن من بعضها البعض بواسطة مادة ثالثة وهي الإكسير، ومن هذا المنطلق تخيَّل بعض علماء الحضارات السابقة للحضارة الإسلامية أنه بالإمكان ابتكار إكسير الحياة أو حجر الحكمة الذي يُزيل عِلَل الحياة ويُطيل العمر.

وقد تأثَّر بعض العلماء العرب والمسلمين الأوائل، كجابر بن حيان وأبي بكر الرازي، بنظرية العناصر الأربعة التي ورثها علماء العرب والمسلمين من اليونان، لكنهما قاما بدراسة علمية دقيقة لها؛ أدَّت هذه الدراسة إلى وضعِ وتطبيق المنهج العلمي التجريبي في حقل العلوم التجريبية.

وعليه يكون جابر قد قطع خطوة أبعد مما قطع اليونان في وضع التجرِبة أساس العمل، ولذلك يُعَدُّ أوَّل من أدخل التجرِبة العلمية المخبرية في منهج البحث العلمي الذي أرسى قواعده؛ يقول هولميارد Holmyard، وهو الذي اهتم بأعمال جابر ومؤلَّفاته ومنهجه العلمي، حتى عكف على إبراز القيمة العلمية لعمله: "إن الصنعة الخاصَّة عند جابر هي أنه على الرغم من توجُّهِهِ نحو التصوُّف والوهم، فقد عَرَف وأكَّد على أهمية التجريب بشكل أوضح من كل مَن سبقه من الكيميائيين".

صنعة جابر

وقد سُمِّيَ علم الكيمياء باسم جابر بن حيان؛ فقيل: "صنعة جابر"، ومن أبرز إسهامات جابر فيه أنه يُعَدُّ أوَّل من استخرج حامض الكبريتيك، وسمَّاه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصود الكاوي، وأوَّل مَن استحضر ماء الذهب، ودرس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها، وقد بلغت تصانيفه 232 كتابًا.

يقول غوستاف لوبون: "تتألَّف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وتشتمل هذه الكتب على وصف كثير من المركَّبات الكيميائية التي لم تُذْكَر قبله، كماء الفضة (الحامض النتري) الذي لا نتصور علم الكيمياء بغيره".

ولقد تُرجمت كتب جابر إلى اللاتينية، وظلَّت المرجع الأوفى للكيمياء زُهاء ألف عام، وكانت مؤلَّفاته موضع دراسة مشاهير علماء الغرب، أمثال: كوب، وبرثولية، وكراوس، وهولميارد الذي أنصفه ووضعه في القمَّة، وبدَّد الشكوك التي أثارها حوله العلماء المغرضون. وسارتون الذي أرَّخ به هذه الحِقبة من الزمن في تاريخ الحضارة الإسلامية، فيقول عنه مندهشًا: "ما قدر جابر أن الكتب التي ألَّفها لا يمكن أن تكون من وضع رجل عاش في القرن الثاني للهجرة؛ لكثرتها ووفرة ما بها من معلومات".

وفي عصر جابر زاد الاهتمام بحركة الترجمة بصورة ملحوظة، ويَرْجِع السبب الرئيسي في ذلك إلى تشجيع الخلفاء - وهم العباسيُّون - ورعايتِهم للعلماء والمترجِمِين، وإجزالِ العطاء لهم، بصرف النظر عن مِلَلِهم وعقائدهم، لتَخْرُج تلك الحركة من حيِّز المحاولات الفردية إلى أن تكون لها سياسة منهجية متَّبَعَة، تُشرف عليها الدولة نفسها، وهو ما أدَّى إلى أن يتَّسع نطاق العلوم المترجَمة، ليشمل الفلسفة والمنطق والكتب الأدبية، بجانب الطب وسائر العلوم التجريبية كلها.

الاهتمام بالعلوم في عهد الخلافة العباسية

فهذا أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين (135 - 158هـ) قد كان مولعًا بالطبِّ والفلك والهندسة، يُكاتِب ملوك الروم فيطلب منهم ما لديهم في هذا الشأن، فبعثوا إليه كليات إقليدس في الهندسة، وفي الطبيعيات[29]. وهذا هارون الرشيد (170 - 194ﻫ) حين افْتَتَح عَمُّورِية وأنقرة انتخب من أبنائها فريقًا من العلماء والتراجمة وجعلهم في حاشيته، وطلب إليهم أن يختاروا عيون الكتب التي وُجدت في مكتبات هاتين البلدتين، فاختاروا الكتب النادرة التي لا توجد عند غيرهم، في ميدان الطبِّ والفلك وغيرهما، ونقلوها إلى بغداد، وأمر الرشيد آنذاك أبا زكريا يوحنا بن ماسويه (ت 244هـ) - أكبر أطباء عصره - أن يرعى هذه النُّقُولات.

بيت الحكمة

وقد وصل الاهتمام بالعلم والترجمة الذُّروة في عصر الخليفة المأمون (198 - 218ﻫ)، الذي يُعَدُّ من أزهى العصور في تاريخ الحركات العلمية والثقافية؛ فقد عمَّر بيت الحكمة، ووسَّع من نشاطه، وأمدَّه بمكتبة ضمَّت آلاف المخطوطات في شتى العلوم والفنون؛ ليكون بمثابة أكاديمية علمية عالمية يجتمع في رحابها المعلِّمون والمتعلِّمون، وقد قام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلَّفات يونانية في شتى ألوان المعرفة[31]، وقد ذكر ابن النديم أنه كان بين المأمون وإمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن.

بل إن المأمون لم يكتفِ بإرسال العلماء إلى بلاد الروم والأعاجم كي يبحثوا له عن أمهات الكتب الأجنبية وجلبها، وإنما كان إذا عقد معاهدة أو أبرم حلفًا مع ملوك الروم أو غيرهم، فإنه يجعل من بين شروط المعاهدة شرطًا؛ بأن يُتْحِفَه الطرف الآخر بما لديه من نفائس كتب الحكمة، وذخائر الفلسفة والعلوم في بلادهم، ومن ذلك أنه جعل أحد شروط معاهدة الصلح بينه وبين إمبراطور الروم ميخائيل الثالث أن يتنازل الثاني للأوَّل عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية، وكان من بين ذخائرها الثمينة كتاب بطليموس في الفلك، فأمر بنقله إلى العربية وسمَّاه: (المجسطي).

قياس الكرة الأرضيَّة

وليس أعجب بعد ذلك من أن يُنسَب إلى المأمون أنه أوَّل مَن قام بمحاولة قياس أبعاد الكرة الأرضية، وذلك بمساعدة فريقين من علماء الفلك والجغرافيا، والذي قال عنه المستشرق نللينو في كتابه (علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطى): إن قياس العرب للكُرة الأرضيَّة هو أوَّل قياس حقيقي، أُجْرِيَ كله مباشرة مع كل ما تقتضيه تلك المسافة الطويلة وهذا الفريق الكبير من العلماء والمساحين العرب؛ فهو يُعَدُّ من أعمال العرب المأثورة وأمجادهم العلمية. وقال عنه الأستاذ كراتشوكوفسكي في كتابه (تاريخ الأدب الجغرافي العربي): إن الخطأ في مقاس العرب يقلُّ عن كيلو متر واحد!

النصف الأوَّل من القرن الثالث الهجري

الخوارزمي: مؤسس علم الجبر

أما النصف الأوَّل من القرن الثالث الهجري والنصف الأوَّل من القرن التاسع الميلادي فيمثِّله بلا مُنازع الخوارزمي (ت 232هـ / 846م) الذي إذا ذُكر اسمه تطاير إلى الآفاق علم الجبر والرياضيات.

فهو الرياضي والجغرافي والفلكي، والذي يُعَدُّ مؤسِّس ومبتدع علم الجبر كعلم مستقلٍّ عن الحساب، وقد أخذه الأوروبيون عنه، كما أنه أوَّل مَن استعمل كلمة "جبر" للعلم المعروف الآن بهذا الاسم، فحتَّى الآن ما زال الجبر يُعرف باسمه العربي في جميع اللغات الأوروبية، وتَرجِع كل الكلمات التي تنتهي في اللغات الأوروبية بـ "algorism/algorithme" إلى اسم الخوارزمي، كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالأرقام العربية؛ ولهذا كان الخوارزمي أهلاً لتسميته بأبي الجبر.

ويُعَدُّ كتابه (الجبر والمقابلة) الكتاب الرئيسي ذا الأثر الحاسم الذي درس فيه تحويل المعادلات وحلِّها، وفي مقدمته بيَّن الخوارزمي أن الخليفة المأمون هو الذي طلب منه تأليفه، وقد ترجمه إلى اللاتينية "جيررْدودي كريمونا" ونشر النصَّ العربي روزن مع ترجمة إنجليزية في لندن سنة 1851م.

وترجم له أيضًا "يوحنا الأسباني" الذي تَرْجَم من العربية إلى اللاتينية عِدَّة مؤلَّفات في الفلك والنجوم من بينها كتب للخوارزمي، بفضلها انتقل الحساب الهندي والنظام العشري في الحساب إلى أوروبا؛ حتى عُرِفَت العمليات الحسابية باسم Alguarismo، والغريب أنها تُرجمت إلى العربية باسم "اللوغاريتمات" وهي في الأصل منسوبة إلى الخوارزمي!! والصحيح أن تُترجَم "الخوارزميات" أو "الجداول الخوارزمية".

وقد أصبح الكتاب مصدرًا أساسيًّا في الرياضيات في الجامعات الأوروبية حتى القرن السادس عشر، وكان معظم ما ألَّفه مَن خلفه في علم الجبر مستنِدًا عليه، وقد نقله من اللغة العربية إلى اللاتينية روبرت أوف شستر ( Robert of chester) فاستنارت به أوروبا، وحديثًا حقَّق الدكتوران علي مصطفى مشرفة ومحمد مرسي هذا الكتاب، وذلك في سنة 1968م.

أبو يوسف الكندي

وقد عاصر الخوارزمي عالم آخر مشهور هو الفيلسوف أبو يوسف الكندي (185- 256 هـ / 805 - 873م) الذي يُعَدُّ من أوائل العلماء المسلمين الذين طرقوا ميدان علم البصريات، فتناول الظواهر الضوئية وعالجها في كتابه الشهير "علم المناظر"، وكان ذلك أوَّل كتاب عربي يعني بعلم البصريات، وفيه أخذ الكندي بنظرية الانبعاث الإغريقية، إلا أنه أضاف كذلك وصفًا دقيقًا لمبدأ الإشعاع، وصاغ من خلال ذلك أساس نظام تصوُّريٍّ جديد يحُلُّ في نهاية الأمر محلَّ نظرية الانبعاث، وكان لهذا الكتاب صدًى في المحافل العلمية العربية، ثم الأوروبية خلال العصور الوسطى.

النصف الثاني من القرن الثالث الهجري

أبو بكر الرازي

ويمثِّل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الثاني من القرن التاسع الميلادي أبو بكر الرازي (ت 311هـ / 923م) الذي يُعَدُّ عَلَمًا من أعلام الطبِّ في الحضارة الإسلامية, ويُعتبر من أعظم معلِّمي الطبِّ الإكلينيكي، وقد تولَّى تدبير مارستان الرَّيِّ، ثم رياسة أطباء المارستان المقتدري في بغداد، وهو أوَّل مَن أدخل المركَّبات الكيماوية في العلاجات الطبية، وأوَّل مَن صنف مقالات خاصَّة في أمراض الأطفال، وأوَّل مَن استعمل أمعاء الحيوان كخيوط في العمليات الجراحية.

كما يعُتَبَر أوَّل مَن دوَّن ملاحظاته على مَرْضاه، ومراتبَ تطوُّر المرض، وأَثَر العلاج فيه، وأوَّل من وصف الجدري والحصبة، وقال بالعدوى الوراثية، واستخدم الحيوان في تجارِب الأدوية، ومن مؤلَّفاته غير الكتاب المذكور: الحاوي، ورسالة في الجدري والحصبة، والكتاب المنصوري، وكتاب الأسرار، والكتاب الجامع.

ولتَمَكُّنه ونتيجة كثرةِ تجارِبه فقد أطاح بنظريات جالينوس التي ادَّعى فيها أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غيرَ منظورة، يتسرَّب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلا أن تُرفرفا فوق القلب فتبرد حرارته وحرارة الدم، ويتسرَّب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيُغذِّي ذلك القلب والدم.

فانتقد الرازي هذه الآراء، حتى إنه ألَّف كتابًا خصِّيصًا للردِّ على جالينوس أعظم أطباء اليونان، وسمَّاه "الشكوك على جالينوس", وذكر فيه الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج.

ولطالما ورد ذكر البيمارستانات أو المستشفيات العامَّة المجانية، فقدت انتشرت في العصر العباسي بصورة ملحوظة، وكانت بمثابة مدارس عالية للطبِّ، وقد فاقت في تجهيزاتها وتخصُّصاتها كل وصف، حتى لقد أبدعت في وصفها زيغريد هونكه فقالت: "إن كل مستشفى مع ما فيه من ترتيبات ومختبرات، وكل صيدلية ومستودع أدوية في أيامنا هذه، إنما هي في حقيقة الأمر نُصُب تذكارية للعبقرية العربية، كما أن كل حبَّة من حبوب الدواء، مُذَهَّبة أو مسكَّرة، إنما هي – كذلك - تذكار صغير ظاهر، يُذكِّرنا باثنين من أعظم أطباء العرب، ومُعلِّمي بلاد الغرب".

بنو موسى بن شاكر

ويُضارع الرازيَّ في الشهرة في تلك الفترة بنو موسى بن شاكر، وهم الإخوة الثلاثة: محمد وأحمد والحسن (عاشوا في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، وتُوُفِّيَ محمد، وهو أعلمهم، سنة 873م)، وقد لمعوا في علوم الرياضيات والفلك والعلوم التطبيقية والتقنية، واشتهروا بكتابهم القيِّم المعروف باسم "حيل بني موسى"، والذي يقول عنه ابن خلِّكان: "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها". ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل.

والعلم الذي برع فيه بنو موسى هو علم "الحيل النافعة"، أو الهندسة الميكانيكية - بِلُغَةِ العلم المعاصرة - وهو يمثِّل الجانب التقني المتقدِّم في علوم الحضارة الإسلامية؛ حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها في كل ما يخدم الدين، ويُحَقِّق مظاهر المدنية والإعمار، وقد جعلوا الغاية من هذا العلم هي: "الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير"، ويُقصد به استعمال الحيلة مكان القوَّة, والعقل مكان العضلات, والآلة بدل البدن، وذلك بعد أن كانت غاية السابقين من علم الحيل لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والرُّوحي على أتباع مذاهبهم، مثل استعمال التماثيل المتحرِّكة أو الناطقة بواسطة الكُهَّان، واستعمال الأرغن الموسيقى وغيره من الآلات المصوّتة في المعابد[44]!!

ومن أمثلة تركيبات بني موسى الميكانيكية هذه عَمَلُ سراج إذا وُضِع في الريح العاصف لا ينطفئ، وعملُ سراج يُخرِج الفتيلة لنفسه، ويصبُّ الزيت لنفسه، وكل مَن يراه يظنُّ أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا ألبتة، وعملُ نافورة يَفُور منها الماء مدَّة من الزمان كهيئة التُّرس، ومدَّة متماثلة كهيئة القناة، وكذلك لا تزال دهرها تتبدَّل.

وكان استخدام بني موسى للصمامات المخروطية ولأعمدة المرافق التي تعمل بصورة آليَّة، وغير ذلك من مبادئ وأفكار التحكُّم الآلي استخدامًا غير مسبوق، وسبقوا به أوَّل صَفٍّ لآليَّة عمود المَرَافِق الحديث في أوروبا بخمسمائة عام، ويُعَدُّ أيضًا مِن أهمِّ الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عامٍّ. وقد استحدثوا كذلك آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام مُعَيَّنة تتَمَكَّن أن تُصِيب مأكلها ومشربها، فلا تُنازِعها غيرها الطعام والشراب، وعمل خزانات للحمَّامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تُثَبَّتُ في الحقول كيلا تضيع كَمِّيَّات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية رَيِّ المزروعات، وكان لكل هذه الأفكار الإبداعية أثر كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قُدُمًا، حيث تميَّزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة[45].

أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينَوَري

وكان يُعاصر الرازيَّ أيضًا أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينَوَري (ت 282هـ / 895م) الذي يُعَدُّ أوَّل المؤلِّفين المسلمين في علم النبات، وقد استطاع أن يستولد ثمارًا ذات صفات جديدة بطريقة التطعيم، وأن يُخرج أزهارًا جديدة بالمزاوجة بين الورد البرِّيِّ وشجرة اللوز.

عباس بن فرناس الأندلسي

وفي حاضرة الإسلام في الأندلس كان هناك في ذاك العصر أيضًا عباس بن فرناس الأندلسي (ت 274هـ / 888م)، فمن اختراعاته: النظارات والساعات الدقَّاقة المعقَّدة التركيب، والقبَّة الفلكية التي صنعها في بيته، وقد اشتهر بأنه أوَّل من قام بمحاولة للطيران في الجوِّ، وهي المحاولة التي أودت بحياته[47].

النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري

علي بن الحسين المسعودي

أما النصف الأوَّل من القرن الرابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن العاشر الميلادي فيمثِّله أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346هـ / 957م)، فقد كان ملمًّا بكثير من العلوم والثقافات، وقد اشتهر أكثر ما اشتهر في علم الجغرافيا، ويُعَدُّ كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر) من أفضل المصنفات العربية الجغرافية التي تناول فيها الكثير من فروع علم الجيولوجيا في ثنايا المعلومات الجغرافية؛ فقد تناول فيه استدارة الأرض وإحاطتها بغلاف جوي، وطبيعة العواصف التي تهُبُّ على الخليج العربي والمناطق المحيطة به، ووصف الأرض والبحار، ومبادئ الأنهار والجبال، ومساحة الأرض، ووصف الزلازل التي حدثت سنة (334هـ/ 945م)، وتحدَّث عن كُرويَّة البحار، وأورد الشواهد على ذلك، ودرس ظاهرة المدِّ والجزر وعَلاقة القمر بذلك، وتحدَّث عن دورة الماء في الطبيعة وتراكم الأملاح في البحر ووصف البراكين الكبريتية في قمم بعض الجبال، كما أورد العلامات التي يُستدَلُّ بها على وجود الماء في باطن الأرض، كما تناول في كتابه (التنبيه والإشراف) كثيرًا من الجوانب في الجغرافيا البشرية، وذكر أحوال العمران، وهو العلم الذي أسَّسه ورتب قواعده ابن خلدون (ت 808هـ / 1406م).

وبصفة عامَّة فقد أبدع المسلمون في رسم الخرائط والمصوَّرات الجغرافية، وعرفوا كُرويَّة الأرض، وقاسوا أبعادها بدقَّة، خصوصًا أيام المأمون، وحدَّدوا خطوط الطول ودوائر العرض، مُتَّخذِين جزر البليار مبدأ خطوط الطول، وقد ظهرت أبحاث حديثة تقول: إنهم وصلوا عبر بحر الظلمات (الأطلسي) إلى أمريكا قبل كولومبوس بمدة 300 أو 400 سنة!!

وقد نشرت صحف البرازيل في سنة 1952م تصريحًا للدكتور جغرز أستاذ العلوم الأثرية الاجتماعية في جامعة (ويتواترستراند) في جمهورية أفريقيا الجنوبية، جاء فيه أن كتب التاريخ تُخطئ عندما تنسب اكتشاف أمريكا إلى كريستوف كولومبس؛ ذلك لأن العرب في الواقع هم الذين اكتشفوها قبله بمئات السنين!

وفي عصر المسعودي اشتهر أيضًا الهَمْداني (ت 334 هـ / 945م)، والذي كان له دور لا يخفى في اكتشاف قانون الجاذبية؛ فهو الذي ربط ظاهرة الجاذبية بالأرض التي تجذب الأجسام الصغيرة في كل جهاتها، وأخبر بأن هذا الجذب إنما هو قوَّة طبيعية مركَّزة في الأرض؛ وبهذا المفهوم العلمي يكون الهَمْداني - كما يقول الدكتور أحمد فؤاد باشا - قد أرسى أوَّل حقيقة جزئية في فيزياء ظاهرة الجاذبية، وإن كان لم يقُلْ في النصِّ صراحة أن الأجسام تجذب بعضها بعضًا، وهو المعنى الأساسي الشامل لقانون الجذب العام لنيوتن.

النصف الثاني من القرن الرابع الهجري

أبو الوفاء البوزجاني

ويمثِّل النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والنصف الثاني من القرن العاشر الميلادي أبو الوفاء البوزجاني (ت 388هـ / 998م)، والذي يُعَدُّ أحد الأئمة المعدودين في الرياضيات والفلك، وله فيهما مؤلَّفات قيِّمة، من أشهرها: منازل في الحساب، وتفسير الجبر والمقابلة للخوارزمي؛ والمدخل إلى الأرثماطيقي، وكتاب استخراج الأوتار، وكتاب العمل بالجدول الستيني، وكتاب معرفة الدائرة من الفلك، والكامل، والزيج الشامل، وكتاب المجسطي. وقد اعترف له كل من جاء بعده من رياضيي الشرق والغرب بأنه من أشهر الذين برعوا في الهندسة، وعندما ألّف في الجبر أضاف إضافات ذات شأن على بحوث الخوارزمي؛ فاعْتُبِرَت أساسًا لعَلاقة الهندسة بالجبر، ويعود الفضل للبوزجاني في وضع النسبة المثلثية (الظلّ)، وهو أوَّل مَن استعملها في حلول المسائل الرياضية، كما أوجد طريقة جديدة لحساب جداول الجَيْب، وكانت جداوله دقيقة للغاية، ووضع بعض المعادلات التي تتعلق بجيب الزاويَتَيْنِ، وكشف بعض العَلاقات بين الجيب والمماس والقاطع ونظائرها.

وقد اكتشف البوزجاني إحدى المعادلات لتقويم مواقع القمر سُمِّيت معادلة السرعة، ومن أهمِّ إسهاماته في علم الفلك اكتشافه للخلل في حركة القمر، وهو الاكتشاف الذي أدَّى فيما بعد إلى اتِّساع نطاق علمي الفلك والميكانيكا، وقد ظلَّ المؤرِّخون مختلفين فيما إذا كان تيخو براهي (ت1010هـ / 1601م) الفلكي الدنماركي هو صاحب هذا الاكتشاف أم البوزجاني، إلى أن ثبَت حديثًا بعد التحريات الدقيقة أن الخلل الثالث هو من اكتشاف البوزجاني.

وشهد عصر البوزجاني عَلَم آخر من أعلام الحضارة الإسلامية هو أبو القاسم بن أحمد المجريطي (ت 397هـ / 1007م) الذي عاش في قرطبة؛ فقد استطاع تحضير أُكسيد الزئبق، تلك المادَّة التي أدَّت دورًا مهمًّا في أبحاث بريستلي ولافوازيه في القرن الثامن عشر.

عبد الرحمن المصري

وكان هناك أيضًا أبو سعيد عبد الرحمن بن يونس المصري (ت 399هـ / 1009م)، الذي اخترع الرَّقَّاص (البُنْدُول)، وعرف أشياء كثيرة من قوانين تذبذبه، وبعد 650 عامًا من اختراعه جاء جاليليو الإيطالي (ت 1052هـ / 1624م) ليتوسَّع في دَرْس الرقَّاص، وليَضَعَ أكثر القوانين التي نعرفها اليوم عن الرقَّاص، ثم حسبها حسابًا رياضيًّا.

النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري

أبو الريحان البيروني

أما الفترة العلمية من النصف الأوَّل من القرن الخامس الهجري والنصف الأوَّل من القرن الحادي عشر فيمثِّلها أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (ت 440هـ / 1048م)، العالم الموسوعي الذي كان لمؤلَّفاته اليَدُ الطُولَى في صناعة أمجاد عصر النهضة والثورة الصناعية في العالم الغربي؛ فقد حدَّد بدقَّة خطوط الطول ودوائر العرض، وناقش مسألة ما إذا كانت الأرض تدور حول محورها أم لا، وسبق في ذلك جاليليو وكوبرنيكوس[55]! كما وضع البيروني قاعدة حسابية لتسطيح الكرة، أي نَقَلَ الخطوط والخرائط من الكرة إلى سطح مُسطَّح وبالعكس؛ وبهذا سهَّل رسم الخرائط الجغرافية[56]وصفه المستشرق الألماني سخاو بقوله: "أعظم عقلية عرَفها التاريخ". وقد.

والبيروني يكاد يكون قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره، ومن أبرز ما قام به أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركَّبًا بعضها من الأحجار الكريمة، وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني من الروَّاد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها، وقد تناول ذلك في آراء بثَّها في كتب مختلفة، وأشهر آرائه في ذلك ضمنها كتابه (القانون المسعودي)، ومن مؤلَّفاته الأخرى الرائدة: الصيدلة في الطب، والجماهر في معرفة الجواهر، ومفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة، والآثار الباقية، وتحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، والعمل بالأسطرلاب، وتحقيق منازل القمر.

ابن الهيثم "أبو البصريات"

وقد عاصر البيرونيَّ علماءُ أعلامٌ طارت شهرتهم وإنجازاتهم في الآفاق؛ الأمر الذي يجعل من القرن الخامس الهجري بصفة عامَّة قمَّة أوج وازدهار الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب، وكان منهم في المشرق الإسلامي - على سبيل المثال - ابن الهيثم (430هـ / 1038م)، العالم المسلم الفذُّ الذي سلك الطريقة المثلى في إجراء البحث العلمي، وقال بالأخذ بالاستقراء، والقياس، والتمثيل، وضرورة الاعتماد على النمط المتَّبع في البحوث العلمية الحديثة، وقد وضَّح ذلك من خلال مقدِّمة كتابه (المناظر).

وابن الهيثم في طريقة البحث العلمي لم يَسْبِق بيكون إلى طريقته الاستقرائية فحسب، بل سما عليه سموًّا كبيرًا، ولقد كان أوسع منه أُفقًا وأعمق تفكيرًا؛ تقول زيغريد هونكه: "والواقع أن روجر باكون، أو باكوفون فارولام، أو ليوناردو دا فنشي، أو جاليليو، ليسوا هم الذين أسَّسوا قواعد البحث العلمي؛ إنما السابقون في هذا المضمار كانوا من العرب، والذي حقَّقه ابن الهيثم لم يكن إلا علم الطبيعة الحديث، بفضل التأمُّل النظري والتجرِبة الدقيقة".

وتُعَدُّ أعمال ابن الهيثم العلمية فتحًا جديدًا ووثبة خطيرة في عالم البصريات وفسيولوجية الإبصار، وكانت أعماله هي الأساس الذي بنى عليه علماء الغرب جميع نظرياتهم في هذا الميدان، وكان في طليعة العلماء الأجانب الذين اعتمدوا على نظريَّاته - بل أغاروا عليها ونسبوها لأنفسهم - روجر بيكون وفيتلو وعلماء آخرون، ولا سيما في بحوثهم الخاصَّة بالمجهر والتلسكوب والعدسة المكبرة.

فقد بدأ ابن الهيثم أوَّلاً بمناقشة نظريات إقليدس وبطليموس في مجال الإبصار، وأظهر فساد بعض جوانبها، ثمَّ في أثناء ذلك قدَّم وصفًا دقيقًا للعين وللعدسات وللإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية بعامَّة، وخاصَّة إذا نفذ من جسم شفاف كالهواء، والماء، والذرَّات العالقة بالجو، فإنه ينعطف - أي ينكسر - عن استقامته.

وقد بحث في (الانعكاس) وتبيين الزوايا المترتبة على ذلك، كما تطرَّق إلى شرح أن الأجرام السماوية تظهر في الأفق عند الشروق قبل أن تصل إليه فعلاً، والعكس صحيح عند غروبها، فإنها تبقى ظاهرة في المجال الأفقي بعد أن تكون قد احتجبت تحته، وهو أوَّل من نوَّه باستخدام الحجرة السوداء التي تُعتَبَر أساس التصوير الفوتوغرافي.

والكتاب الذي خلَّد اسمَ ابن الهيثم عبر القرون هو "كتاب المناظر"، والذي يوضِّح تصوُّر البصريات كنظرية أوَّليَّة في الإبصار، مختلفة جذريًّا عن فرض الشعاع المرئي الذي حافظ عليه التقليد الرياضي منذ إقليدس وحتى الكندي.

الزهراوي الأندلسي

ومن العلماء الأعلام الذين عاصروا البيروني، ولكن في المغرب الإسلامي (الأندلس): خلف بن عباس الزهراوي الأندلسي (ت 427هـ / 1036م)، والذي كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبحث في التهاب المفاصل، وفي السلِّ وغيرها.

ابن سينا "الشيخ الرئيس"

كما عاصر البيروني أيضًا الشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428هـ / 1037م)، والذي ظلَّ لسبعة قرون متوالية المرجع الرئيسي في علم الطب، وبقي كتابه (القانون) في الطب العمدة في تعليم هذا الفن حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا[65]! ويُعَدُّ ابن سينا أوَّل من وصف التهاب السَّحايا الأوَّليِّ وصفًا صحيحًا، ووصف أسباب اليرقان، ووصف أعراض حصى المثانة، وانتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء.


النصف الثاني من القرن الخامس الهجري

عمر الخيام

ويمثِّل عمر الخيام (ت 517هـ / 1123م) النصف الثاني من القرن الخامس الهجري والنصف الثاني من القرن الحادي عشر؛ وهو مِن أنبغ مَن اشتغل بالفلك والرياضيات، ولا سيما الجبر، إلا أن شهرته في الشعر والفلسفة طغت على نبوغه العلمي[67]؛ فقد درس بديهيَّات هندسة إقليدس ونظرياتها العامَّة، وهو من أوائل العلماء الذين حاولوا تصنيف المعادلات بحسب درجاتها وعدد الحدود التي فيها، واستخدم بعض المعادلات التي استعملها الخوارزمي من قبل في الجبر والمقابلة، واستطاع أن يحِلَّ المعادلات التكعيبية هندسيًّا، واعتبر أن المعادلات ذات الدرجات الأولى والثانية والثالثة إما أن تكون بسيطة أو مركَّبة، ووَضَعَ للمعادلات البسيطة ستة أشكال وللمركبة اثني عشر شكلاً، وقد دعاه السلطان ملكشاه إلى المرصد الذي شيَّده في مدينة الرَّيِّ لإصلاح التقويم الفارسي، ونجح في ذلك، وللخيام تصانيف كثيرة، من أهمها في الرياضيات بالعربية: شرح ما يُشكل من مصادرات أقليدس، ومقالة في الجبر والمقابلة، ومن أهمها في الفلك: زيج ملكشاه، الذي يُعَدُّ من أشهر الأزياج التي وُضِعَت خلال نهاية القرن الخامس الهجري، ولعبقريته الفذَّة لقبه علماء الشرق والغرب على السواء بـ "علامة الزمان".

النصف الأوَّل من القرن السادس الهجري

الإدريسي.. أعظم علماء الجغرافيا

أما النصف الأوَّل من القرن السادس الهجري والنصف الأوَّل من القرن الثاني عشر الميلادي فيمثِّله أحد العلماء العظام في علم الجغرافيا، وهو الإدريسي (ت 560هـ / 1165م) الذي أَلَّف كتابًا سمَّاه (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) في وصف بلاد أوروبا وإيطاليا، وكان قد استدعاه ملك جزيرة صقلية النورماندي روجر الثاني، وخصَّه بالكثير من العطف والعناية، فصنع له الإدريسي كرة أرضيَّة من الفضة، محفوظة في متحف برلين اليوم، ووضع له الكتاب المذكور.

يصفه غوستاف لوبون بأنه: "أشهر جغرافيِّ العرب"، ويقول عن كتابه السابق: "مِن كتبه التي تُرجمت إلى اللاتينية وعلَّمت أوروبا علم الجغرافيا في القرون الوسطى". ويقول المستشرق الفرنسي (جاك ريسلر): "لم يكن بطليموس الأستاذ الحقيقي في جغرافية أوروبا، لكنه الإدريسي... ومصوَّرات الإدريسي التي تَعْتَرف بكُروية الأرض كانت تتويجًا لعلم المصوَّرات الجغرافية في العصر الوسيط بوفرتها وصحَّتها واتِّساعها... ". ويقول (ألدو مييلي): "لقد عرَف العرب (المسلمون) وضع الخرائط وضعًا علميًّا مبنيًّا على تعيين الطول والعرض في العناصر الجغرافية المختلفة، حيث وصلوا بذلك - على يَدِ الإدريسي - إلى تحقيق خطوة جديرة بالإعجاب حقًّا في هذا الفنِّ الذي هو فرع عظيم الأهمية من الجغرافية العلمية".

أبو مروان الأندلسي

وقد عاصره في حاضرة المسلمين في الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر الأندلسي (ت 557هـ / 1162م) الذي ذاع صيته في الطبِّ، والذي كان يرى أنه لا ينبغي للطبيب أن يقوم بتحضير الأدوية؛ فسبق بهذا الرأي إلى مفهوم الطبَّ الحديث من فصل الجراحة والطبِّ الباطني عن الصيدلة، ويُعْتَبَر مؤلَّفه: "التيسير في المداوة والتدبير" من خير ما ألَّف المسلمون في الطبِّ العملي؛ فقد تحرَّر فيه من كل ما تقيَّد به غيره من آراء نظرية، وأخذ فيه بما تُؤَدِّي إليه الملاحظة المباشرة، وفيه وصف التهاب التامور، والتهاب الأذن الوسطى، وشلل البلعوم، كما وصف عملية استخراج الحصى من الكُلَى وفتح القصبة الهوائية.

عبد الرحمن الخازني

كما عاصره أبو الفتح عبد الرحمن الخازني (ت 550هـ / 1155م)، والذي كانت له إسهاماته في قانون الجاذبية؛ فقد تحدَّث عن التسارُع (أو العجلة) في سقوط الأجسام نحو الأرض، وضمَّن كتابه (ميزان الحكمة) ما يدُلُّ على معرفته بالعَلاقة الصحيحة بين السرعة التي يسقط بها الجسم نحو سطح الأرض، والبُعد الذي يقطعه، والزمن الذي يستغرقه، وهي العَلاقة التي تنُصُّ عليها المعادلات الرياضية المنسوبة لجاليليو في القرن السابع عشر الميلادي.

النصف الثاني من القرن السادس الهجري

هبة الله بن ملكا البغدادي

ويمثِّل النصف الثاني من القرن السادس الهجري والنصف الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي هبة الله بن ملكا البغدادي (ت560هـ / 1164م)، ولقد كانت له أيضًا آراؤه واكتشافاته المهمَّة بخصوص قانون الجاذبية؛ فقد نجح ابن ملكا في تصحيح الخطأ الجسيم الذي وقع فيه أرسطو عندما قال بسقوط الأجسام الثقيلة أسرع من الأجسام الخفيفة، وسبق جاليليو في إثبات الحقيقة العلمية المهمَّة التي تقضي بأن سرعة الجسم الساقط سقوطًا حُرًّا تحت تأثير الجاذبية الأرضية لا تتوقف إطلاقًا على كُتلته، وذلك عندما تخلو الحركة من أي معوقات خارجية، وأضاف ابن ملكا حقائق جديدة عن ظاهرة الجاذبية من خلال دراسته لحركة المقذوفات، من حيث إن حركتها إلى أعلى عند القذف تُعاكس فعل الجاذبية الأرضية، أو أن القوَّة القسيرة التي قُذِف بها الجسم إلى أعلى تعمل في تضادٍّ مع قوَّة الجاذبية الأرضية.

ولطالما كان الحديث عند إنجازات بعض علماء المسلمين في اكتشاف قانون الجاذبية، فإن هذا يجرنا إلى الحديث عن دورهم أيضًا في اكتشاف قوانين الحركة، والتي تُنْسَبُ خطأ إلى العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن (ت 1139هـ / 1727م)، وذلك منذ أن نشرها في كتابه المسمَّى "الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، ولقد ظلَّت هذه هي الحقيقة المعروفة في العالم كلِّه، حتى تصدَّى للبحث فيها جماعة من علماء الطبيعة المسلمين المعاصرين، وكان في مقدِّمتهم الدكتور مصطفى نظيف أستاذ الفيزياء، والدكتور جلال شوقي أستاذ الهندسة الميكانيكية، والدكتور على عبد الله الدفاع أستاذ الرياضيات، فتوفَّروا على دراسةِ ما جاء في المخطوطات الإسلامية في هذا المجال، فاكتشفوا أن الفضل الحقيقي في اكتشاف هذه القوانين إنما يرجع إلى علماء المسلمين، وما كان دور نيوتن وفضله فيها إلا تجميع مادة هذه القوانين وصياغتها، وتحديده لها في قالب رياضي!!

وقد ساقوا الشواهد على ذلك من كتب علماء المسلمين، مثل: (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا، و(المعتبر في الحكمة) لأبي البركات هبة الله بن ملكا البغدادي (480 / 560هـ) (1087/ 1164م), و(المناظر) لابن الهيثم (ت 430 هـ / 1039م).

النصف الأوَّل من القرن السابع الهجري

عبد اللطيف بن يوسف البغدادي

أما النصف الأوَّل من القرن السابع الهجري والنصف الأوَّل من القرن الثالث عشر الميلادي فيمثله أحد العلماء المكْثِرِين من التصنيف في الحكمة، وعلم النفس، والطب، والتاريخ، والبُلدان، والأدب, وهو عبد اللطيف بن يوسف البغدادي (ت 629هـ / 1231م)، والذي يُعرف بابن اللباد، وبابن النقطة، والذي اشتهر باعتماده على التجرِبة الحسية أساسًا لبحوثه العلمية، فنقض في سبيل ذلك أقوال جالينوس في شرحه لعَظْم الفك، وذلك بعد مشاهدة أكثر من ألفي جمجمة!! وقال مقولته: "الحسُّ أصدق منه (من جالينوس)"، وقد كان ينتقل بطلابه الذين يتردَّدون عليه في دراسة الطبِّ إلى المقابر ليتحقَّق بنفسه من أشكال العظام!

رشيدُ الدين الصوري

وقد عاصر البغداديَّ رشيدُ الدين الصوري (ت 639هـ / 1241م) من أعظم علماء النبات، والذي استطاع أن يصف 585 عقارًا، منها 466 من فصيلة النبات، و75 من المعادن، و44 من فصيلة الحيوان، وقد أتى ذِكْر كثير من هذه الأعشاب في كتابيه "الأدوية المفردة"، و"التاج"، يقول ابن أبي أصيبعة يَصِفُ الصوري: "قد اشتمل على جمل الصناعة الطبِّيَّة، واطَّلع على محاسنها الجلية والخفية، وكان أَوْحَد في معرفة الأدوية المفردة وماهياتها واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصها وتأثيراتها"[76].

ابن البيطار

على أن الذي يُعَدُّ رئيس العشَّابين، وكبير العطارين، وأعظم عالم نباتي ظهر في القرون الوسطى هو أبو محمد، عبد الله بن أحمد المالقي، المعروف بابن البيطار (ت 646هـ / 1248م)؛ إذ كان الحجة في معرفة أنواع النباتات وتحقيقها، وصفاتها، وأسمائها، وأماكنها، حتى عُرف في أوروبا بحقٍّ باسم "أبي علم النبات". وله في ذلك: "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية"، و"المغني في الأدوية المفردة"[77]، وكلا الكتابين قد تُرجم إلى كثير من لغات العالم[78].

النصف الثاني من القرن السابع الهجري

ابن النفيس

ويمثِّل علماء النصف الثاني من القرن السابع الهجري والنصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي العالم الفذُّ ابن النفيس (ت 687هـ / 1288م)، الذي يُعَدُّ أعظم وأشهر عالم بوظائف الأعضاء في القرون الوسطى برُمَّتِها.

فقد عارض نظريةَ جالينوس - التي ذكرناها سابقًا في وظيفة الرئتين، والتي ادَّعى فيها أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غير منظورة يتسرَّب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلا أن تُرفرفا فوق القلب فتبرد حرارته وحرارة الدم، ويتسرَّب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب، فيُغذي ذلك القلب والدم - عارض ابن النفيس تلك النظرية معارضة شديدة، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشكِّ أن اليونان لم يفهموا وظيفة الرئتين والأوعية التي بين القلب والرئتين، وأنه فهم وظيفتها، وأوعيتها، وتركيب الرئة، والأوعية الشَّعْرية التي بين الشرايين والأوردة الرئوية، وشرح الفُرَج الرئوية شرحًا واضحًا، كما فَهِمَ أيضًا وظائف الأوعية الإكليلية، وأنها تنقل الدم ليتغذَّى القلب به، ونفى التعليم القائل بأن القلب يتغذَّى من الدم الموجود في البُطَيْن الأيمن.

ثم أكَّد ذلك في حديثه عن الدورة الدموية الصغرى وطريقة عملها، ذاكرًا آراء ابن سينا وأقوال جالينوس التي اعتمد عليها ابن سينا، ثم عارضها بمنتهى الحماسة، وكان حقيق بعدُ بأن يصفه جورج سارتون بأنه أوَّل من اكتشف الدورة الدموية، ليكون بذلك الرائدَ لوليام هارفي الذي يُنسب إليه هذا الاكتشاف[79].

القرن الثامن الهجري وما بعده

عزُّ الدين الجلدكي

أما النصف الأوَّل من القرن الثامن الهجري والنصف الأوَّل من القرن الرابع عشر الميلادي فيمثِّله عالم الكيمياء هو عزُّ الدين الجلدكي (ت 1363م) صاحب كتاب (التقريب في أسرار التركيب)، وهو الذي فَصَل الذهب عن الفضة بوساطة حامض النتريك، وهي طريقة ما تزال تُستخدَم، ولها شأن في تقدير عيارات الذهب في المشغولات والسبائك الذهبية.

ومنذ بداية القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي بدأ منحنى الحضارة العلمية الإسلامية يتوقَّف ثم يأخذ اتجاه آخر نحو الهبوط والانحدار، وإن بقي أثر تلك الحضارة بارزًا في أوروبا حتى القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي، وقد تخلل هذه الفترة بعض الإنجازات والابتكارات القليلة.

آق شمس الدين بن حمزة

فمن ذلك ما كان من أمر الشيخ آق شمس الدين بن حمزة (ت 1459م) أحد أعلام الحضارة الإسلامية في عهدها العثماني، ونموذجًا فريدًا في تعانق العلوم الشرعية مع العلوم الحياتية، وعَلَم بارِز من علماء النبات والطبِّ والصيدلة، وهو أحد شيوخ الخليفة العثماني محمد الفاتح، عُدَّ خبيرًا أوَّلاً في زمنه في مجال صُنْعِ الأدوية من النبات، واهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بالأمراض المعدية، وألَّف في ذلك كتابًا بالتركية بعنوان (مادة الحياة)، وضع فيه لأول مرة تعريف الميكروب، ولم يكن الميكروسكوب قد ظهر بعدُ.

ولا يمكن هنا تجاهل العالم الجغرافي الفذِّ، والقائد البحري العثماني الذي كان سيد البحار: بيري ريس، واسمه الكامل محيي الدين بن محمد الريس (ت 960هـ - 1513م)؛ فله الفضل في رسم أقدم خريطة لأمريكا!!

وهذه الخريطة اكتشفها المستشرق الألماني[82]Kahleعندما عثر عليها في مكتبة (توب كابي سراي) بإستانبول، ونشرها على العالم سنة 1929م، بعد تحقيق علمي دُولي استمرَّ عدَّة سنوات؛ فقد أذهلت هذه الخريطة العالم كله وحيَّرت العلماء، وهي في الواقع أكثر من خريطة مفردة؛ فهي تُبيِّن المحيط الأطلسي؛ في الشرق ترى إسبانيا والساحل الإفريقي, وفي الغرب ترى القارة الأمريكية بسواحلها، وجزرها، وموانيها، وحيواناتها، وسكانها الهنود الحمر، الذين يرسمهم عُرَاة وهم يرعَوْن الغنم.

وفي 26 أغسطس سنة 1956م عُقِدَت في جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية ندوة إذاعية عن خرائط البيري ريس، اتَّفق كلُّ الجغرافيين فيها بأن خرائط البيري ريس لأمريكا: "اكتشاف خارق للعادة".

وإن أعجب ما في خرائط بيري ريس أنها عادت لتَشغل العلماء بعد عصر رحلات الفضاء وتصوير الأرض من الأقمار الصناعية، فقد كان الاعتقاد الأوَّل لدى علماء الخرائط في أمريكا وأوروبا في القرن العشرين أن الخرائط غير دقيقة, وبها أخطاء في الرسم حسب أحدث معلوماتهم عن الشاطئ الأمريكي, ولكنهم فوجئوا بعد ظهور أوَّل صورة مأخوذة من القمر الصناعي لهذه المناطق أن خرائط محيي الدين الريس أدقُّ مِن كل ما عرَفوه وتصوَّروه, وأنها تُطابق تمامًا صور القمر الصناعي, وأن معلوماتهم هي التي كانت خاطئة.

وعلى إثر ذلك عكف فريق من العلماء في وكالة الفضاء الأمريكية على إعادة دراسة الخرائط مُقَطَّعة بعد تكبيرها عدَّة مرَّات، فكانت المفاجأة الثانية، وهي أن الريس قد وضع في خرائطه القارة السادسة في القطب الجنوبي والمسمَّاة Antartica قبل اكتشافها بأكثر من قرنين، كما أنه وصف جبالها ووديانها التي لم تُكتشف حتى سنة 1952م.

كما لا يمكن أيضًا تجاهل تقي الدين الدمشقي (ت 1525م)، الذي ساهم في بناء مرصد إسطنبول؛ فقد اخترع المضخَّة ذات الأُسْطُوانات الستِّ، وهي فكرة المحرِّكات الانفجارية في جوهرها.

وهكذا كانت قصة العلوم في الحضارة الإسلامية.. مفخرة للإنسانية، ومنارة للعالم أجمع.. وذلك يومَ أن بزغ المسلمون في كل أنواع المعرفة، ينهَلُون منها ويغترفون، لا يعيقهم عائق، ولا يقف في طريقهم حاجز.. فمن مبادئ الإسلام انطلقوا، وبتشجيع ذوي السلطان وأولي الأمر تثبَّتوا.. ليُورِثُوا أُمَّتهم حضارة عَلَتْ على العلياء، وأبت على الأعداء، وقادت البشرية جمعاء، وكانت سببًا مباشرًا في بناء الأمم والحضارات اللاحقة!

احلام المحنونة 30-01-2016 02:36 PM

العلم نوراااااااااااااا

aymaan noor 30-01-2016 09:22 PM

العلماء ورثة الأنبياء
 
العلماء ورثة الأنبياء

http://islamstory.com/sites/default/...shape3elma.png

العلم صفة الأنبياء
إن أعلى منزلة وأسمى رتبة في الخلق وبين البشر عند الله تعالى هي منزلة الأنبياء ورتبة النبوة، ولمكانة العلم ولأهميته القصوى ومكانته في ميزانه سبحانه وتعالى، فإن الله تعالى قد ربط في كتابه الكريم بين الأنبياء وصفة العلم، على أساس أنها صفة ثابتة ولازمة لهم، بل وضَّح سبحانه أن العلم هو أهم الصفات التي يتميز بها هؤلاء الأنبياء، وكيف لا والدور الرئيسي لهم في الدنيا أن يُعلِّمُوا غيرهم؟

فإذا كان فاقد الشيء لا يُعطيه كما قيل- فكان لزامًا على النبي أن يكون عالمًا، بل وأن يحرص على زيادة علمه، وفي ذات الوقت يكون حريصًا على نقل علمه هذا إلى غيره، وألا يكتم علمًا علَّمه الله إياه.. قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].

فكيف يُبلِّغ شيئًا بلاغًا مبينًا وهو يجهله ولا يعلمه؟!

ومن هنا فقد جاء ذِكْرُ الأنبياء دائمًا مرتبطًا بالعلم، فقال سبحانه في حق آدم عليه السلام: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31].

وقال في حق لوط عليه السلام: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 74].

وقال في حق موسى عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [القصص: 14].

وقال في حق يعقوب عليه السلام: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68]. وقال في حق يوسف عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].

وقال في حق داود وسليمان عليهما السلام: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].

وقال في حق عيسى عليه السلام: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110].

وقال كذلك في حق رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3- 5].

وقال أيضًا: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113].

وقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ" .

فكان العلم أثمن ما يمتلك الأنبياء، ولذلك كان هو الذي أورثوه لنا. وعليه فمن أراد أن يحمل لواء الأنبياء، وأن يسير في طريقهم، ومن ثم يُحشر في زمرتهم يوم القيامة، فعليه بطريق العلم.

العلم ميزان التفاضل

ولعظم قيمة العلم ومكانته، فقد امتن به الله تعالى على أُناس معينين واختصهم بالزيادة منه، وقد اصطفاهم سبحانه على غيرهم، فجعل -على سبيل المثال- مؤهلات القيادة عند طالوت عليه السلام هي العلم والقوة، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247].

وقد قدَّم هنا العلم على القوة؛ لأن العلم بإمكانه أن يُسخِّر القوة لصالحه، وليس العكس بصحيح، إذ أنه بإمكان الرجل الضعيف أن يُسخر الأسد القوى لخدمته، كون هذا لا يرجع إلى معيار القوة والضعف عند الرجل، وإنما يرجع إلى سعة علمه وإحاطته بما يمكن من خلاله أن يتفادى مهاجمة الأسد له، وما يمكن من خلاله أن يزلِّلَه له.

بل إن الله عز وجل جعل العلم سببًا في السيطرة والهيمنة والعلوّ، فقال في قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس ملكة سبأ: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].

وينسب الله تعالى إلى أهل العلم دائما كل صلاحٍ وفلاح، بل وشهادة حق وعمق نظرة ودراية، فيقول في إشارة إلى من أدرك منهم حقيقة التوحيد: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].

ويقول عن أولئك الذين يحفظون القرآن في صدورهم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49].

وفيمن يدرك الحق من غيره، يقول سبحانه: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].

وفي إشادة بأولئك الذين فقهوا حقيقة الدنيا والآخرة في قصة قارون يقول تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].

وقد مدح أيضًا الخضر، ودلّ موسى عليه السلام عليه ليتعلّم منه، لأنه اتصف بالرحمة والعلم فقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].

وقد امتن سبحانه على المؤمنين بصفة خاصة، فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

وامتن على الإنسان بصفة عامة، فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4].

مع ملاحظ تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان، مع أن الإنسان خُلق أولا ثم عُلِّم، ولكنه قدم العلم ليوحي بأن الإنسان إذا فقد العلم فَقَدَ معه إنسانيته، فكأنه لم يُخلق بعد، ثم إنه أعقب الحديث عن خلق الإنسان بقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وكأن العلم يحيط بحياة الإنسان من أولها إلى أخرها، فقبل ذكْر الخلق يمدح العلم، وبعد ذكْر الخلق يمدح العلم.

ولم يَقْصُر سبحانه رفع العلم لأصحابه على عالم الإنس فقط، بل تعدى ذلك عنده ليشمل عالم الجن أيضًا، قال تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 39-40].

وفي عالم الحيوان والطير، فإنه سبحانه يرفع من شأن الجوارح المعلَّمة والكلب المعلَّم عن الجوارح غير المعلمة، فيُحل الصيد الذي تصطاده الجوارح المعلمة، ويحرِّم الذي تصطاده غير المعلمة، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [المائدة: 4].

وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا عظيمًا يجب على الإنسان أن يتنافس فيه مع غيره، ويتمنى أن لو تفوَّق فيه عليهم. يروي في ذلك البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا" .

كل هذه الملاحظات وغيرها تبين مدى أهمية العلم، وأنه أعظم النعم التي أنعم بها الله العليم الخبير على مخلوقاته. فلا غرو إذن أن يكون العلم من الأشياء القليلة التي أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يطلب الاستزادة منها، فقال تعالى موجهًا نبيه والأمة الإسلامية من بعده: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].

ثم إن الإنسان لَيقف مذهولاً أمام علم الله تعالى الذي وصفه سبحانه في كتابه حيث قال: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80].

وقد وصف سبحانه علم البشر بكل أنواعه وتصانيفه وتفريعاته، من علوم فضاء وسلاح وكيمياء وطب وهندسة وجغرافيا، وعلوم نووية وبيولوجية وغيرها، وصف كل هذه العلوم بالقليل فقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وذلك في إشارة خفيَّة منه سبحانه إلى البحث عن المزيد، والتنقيب عن ذلك المجهول.

وإننا لم نسع إلى حصر كل ما جاء عن العلم في كتاب الله عز وجل، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن ذلك أمر يصعب جدًّا، ولكننا فقط نضع أيدينا على الوزن الحقيقي له من منظور الشريعة الإسلامية؛ فلن يهتم إنسان قطّ إلا بما يشعر بأهميته وقيمته، ونسأل الله تعالى أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.

الأستاذة ام فيصل 31-01-2016 09:28 PM

إن مثل العلماء في الأرض، كمثل النجوم في السماء يهتدي بها في ظلمات البر و البحر، فإذا انطمست النجوم، أوشك أن تضل الهداة



جزاكم الله خيرا وبلرك الله فيكم

aymaan noor 01-02-2016 08:44 PM

النقلة الحضارية والعلمية
 
النقلة الحضارية والعلمية



عند الحديث عن قصة العلوم بصفة عامَّة وإنجازات العلماء المسلمين فيها فإنه يجب ألا يغيبَ عن بَالِنَا أن تاريخ العرب قبل الإسلام لم يكن يحمل أي اهتمام بهذا المجال، وقد جاء الإسلام وأحدث نقلة حضارية وعلمية هائلة؛ نتبيَّن مراحلها فيما يلي.

نشاط حركة الترجمة
وبإمكاننا هنا أن نؤرِّخ لقصة العلوم بعد عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة بشخصيات علمية رائدة، نبغت وأثَّرت في عصرها فكانت علامة بارزة فيه، والحقيقة أن أغلب هؤلاء العلماء كانوا موسوعيون، لهم في أكثر من علم باعٌ عريض وشهرة فائقة.

وعلى هذا فإنَّ أوَّل ظهور حقيقي لقصَّة العلوم في الإسلام يُعَدُّ مع ظهور حكيم بني أمية الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ - 704م)، الذي كان على يديه أوَّل نقل في الإسلام من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، فيما عُرف ببداية حركة الترجمة، تلك التي نشطت في بداية عصر الخلافة الأموية، أواخر القرن الأول الهجري، الثامن الميلادي.

فما أن استقرَّت الخلافة الأموية وازدهرت سياسيًّا واقتصاديًّا، وورثت علوم الأعاجم من الفرس والروم وغيرهم بعد انهيار دُولهم، حتى كان الاتجاه إلى الحركة الفكرية؛ فتُرجمت كثير من كتب الحضارات السابقة من إغريقية وفارسية وغيرها، ونُقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية؛ لِتُعْتَبر حدثًا مُهِمًّا من الناحية الحضارية؛ لأنها فتحت نافذةً أَشْرَفَ منها العلماء العرب والمسلمون لأوَّل مرَّة على ما لدى غيرهم من معارف وعلوم.

ازدهار علم الطب
وقد نالت العلوم التجريبية نصيبًا مُهِمًّا من بين هذه العلوم المترجَمة، وكان على رأسها جميعًا الطبُّ؛ فقد كان الطبُّ الإسلامي في أوَّل هذه الفترة معتمِدًا على إرشادات الرسول ، وعلى الأعشاب والنباتات الطبِّيَّة، والكيِّ، والفصد، والحجامة، والختانة، وبعض العمليات الجراحية البسيطة، ولمَّا بدأ الأطباء المسلمون والعرب يتَعَرَّفون على الطبِّ اليوناني عَبْر مدرسة الإسكندرية ومدرسة جُندَيسابور كان اتِّجاههم إلى ترجمة الكتب الطبية إلى اللغة العربية. وفي هذا فقد ترجم ماسرجويه، الطبيب اليهودي الذي يُعدُّ من أبرز المترجِمِين في ذلك العصر، للخليفة مروان بن الحكم (64 - 65هـ) موسوعة طبية يونانية تُسَمَّى "الكُناش".

وقد ازدهر الطبُّ على ذلك، وبُنيت المستشفيات، واعْتَبَر بعضُ المؤرِّخين للعلوم العلمية أن الخليفة الأُموي الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ) هو أوَّل من بنى مستشفًى نموذجيًّا في الإسلام، وذلك سنة 88 هجرية، وقد زوَّده بالطعام والأدوية والملابس، وعَمَّره بالأطباء والصيادلة، وألحق به صيدلية تحتوي على مختلف أنواع الأدوية من الشراب والمعاجين.

كما اشْتَهرت أسماء لامعة في الطبِّ في هذه الفترة، وتأتي عائلة أبي الحكم الدمشقي في المقدِّمة، وكان في مقدِّمتهم أبو الحكم الدمشقي (ت 210هـ)، الذي استطبَّه الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان ، وكان قد عُمِّر أكثر من مائة سنة، وتياذوق (ت نحو 90هـ) الذي كان مُقَرَّبًا من الحجاج بن يوسف الثقفي.

ويمثِّل ظهور خالد بن يزيد أيضًا بَدْء ظهور علم الكيمياء، وقد تتلمذ خالد في ذلك للراهب الرومي مريانوس وتعلَّم منه صنعة الطب والكيمياء، ثم كان له في صنعة (الكيمياء) ثلاث رسائل هي: (السر البديع في فك الرمز المنيع)، و(فردوس الحكمة في علم الكيمياء)، و(مقالتا مريانوس الراهب)، ذكر فيه ما كان بينه وبين مريانوس، وكيف تعلم منه الرموز التي أشار إليها.

aymaan noor 05-02-2016 08:46 AM

الحضارة الإسلامية والتكامل في بنية التفكير العلمي
 
الحضارة الإسلامية والتكامل في بنية التفكير العلمي



يمكن الغفلة عن واقعة أساسية، وهي أن القفزة العلمية الجديدة التي شهدها العالم الإسلامي القديم، إنما حدثت نتيجة لتغيير حضاري شامل أحدثه الإسلام في البيئة العربية أولاً والبيئات التي فتحها المسلمون ثانيًا.

ويترتب على ذلك أن تلاحظ أهمية الوحي في تأسيس عقلية منهجية جديدة، إن العقلية الإسلامية التي قدمت لتاريخ العلوم إضافات نوعية نظريًّا ومنهجيًّا، قد تشكلت بفضل الوحي أولاً، فعن الوحي (القرآن والسنة) صدرت الصياغة المنهجية العقلية للمعارف العلمية في لحظة التأسيس وهي: علوم الوحي (التفسير والأصول والحديث)، وعلوم الآلة (اللغة والنحو)، وعلوم الحال (الرياضيات، الفيزياء)، وانبثقت طرق الاستدلال بالتبع عن هذه الصياغة المنهجية الخاصة، وهكذا يتجلى التكامل العلمي (أو الشمولية) في بنية التفكير العلمي الإسلامي في جوانب تجمعها الخطاطة التالية:

قد يرد على هذه الخطاطة اعتراض من قبل كثير ممن استهانوا بخصوصية العلم الإسلامي، وزعموا أن العلماء العرب والمسلمين أخذوا علومهم عن اليونان والفرس والهنود، واكتفوا بالشرح والتعليق ، ولكن الحقيقة أن المسلمين أخذوا بالفعل عن باقي الحضارات، غير أنهم أخضعوا ما أخذوه إلى منهج ينبع من عقلانية جهوية خاصة.

إن التكامل إذن، جوهر لا عرض طارئ على العقلانية الإسلامية الأصيلة، فالعقل الذي تشكل ابتداء من الوحي كان العلم الدقيق كالطب والحساب داخلاً في أركانه. لنأخذ علم الحساب مثلاً.

اعتبره بعض الفقهاء من أركان الدين، قال الفقيه المتفنن ابن هيدور التادلي الفاسي:

"واعلم أن الحساب ركن من أركان الدين؛ به تؤخذ القبلة، وأوقات الصلاة، وبه حساب الأعوام والشهور والأيام، وجري الشمس في البروج، وحركات الكواكب، وحلول القمر في المنازل، ومعرفة الساعات النهارية والليلية، وأكثر مسائل العلم الشرعية يدخل فيها الحساب لا من العبادات ولا من غيرها، كالزكاة مثلاً... والتصرف أيضًا في الغنائم في الجهاد، وتعيين الخمس والأربعة أخماس، وقسمة ذلك على الغانمين ، وكقسمة أيمان القسامة على أولياء الدم عند طلب القصاص، ومسائل القراض، والمساقاة والإجارة والتفليس...إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية.

فأكثر المسائل الفقهية يدخلها العدد ، وكفى بالحساب جلالة وشرفًا أنه صفة من صفات الكمال، إذ اتصف به الجليل جل جلاله بإضافته إليه، قال تعالى: ﴿وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾(الأنبياء:47).

يترتب ذلك على أمرين:

1- وحدة العقل والنقل: ذلك أن تعارض النص الصريح من الكتاب والسنة مع العقل الصحيح السليم غير متصور أصلاً، بل هو مستحيل كما تقدم.

2- قدسية الحقيقة العلمية من قدسية الدين نفسه: وهي قدسية تبلورت من جهتين: إحداهما جهة الاشتراك في قيمة العلم، إذ يقع طلب العلم، كيفما كان وحيثما وجد في أعلى درجات العبادة الدينية، فمحراب البحث العلمي لا يقل قدسية عن محراب العبادة الدينية، والثانية جهة الوسيلة المنهجية، إذ دفعت قدسية الأحاديث النبوية علماء الإسلام إلى ضبط المنهجية العلمية في البحث والتنقيب، رواية ودراية، نقلاً ونقدًا، داخل حقل علوم الحديث وخارجه، لقد عممت هذه القدسية على الحقيقة العلمية حيث كانت وكيفما كانت؛ مما أدى إلى تشارك معرفي عام وتفاعل منهجي خاص بين العلوم الدائرة على الوحي من أصول وحديث وفقه وعقائد من جهة، ثم بينها وبين علوم الطب والصيدلة والرياضيات والفلك من جهة أخرى. وهو ما يؤدي إلى تكامل في الموضوعات والمناهج داخل العلوم الإسلامية.

التكامل في الموضوعات والمناهج:

الشمول: فمعناه اتساع دائرة البحث العلمي للنظر في كل الموضوعات الطبيعية والإنسانية، وتوحيد التصور بصدد الغيب ، فالمجالات العلمية تتكامل بينها، لأن "الحياة بكل كائناتها ومكوناتها مجال لأداء سعي المسلم، ولذلك فهو مكلف بالسعي بكل طاقته لطلب العلم والمعرفة بشؤون الحياة والكائنات، ومكلف بكل الجدية والإبداع، والسعي بكل الطرق، للتمكن من الوسائل اللازمة لتسخير الحياة والكائنات ورعايتها وإدارتها وتنظيم شؤونها".

صحيح أن البحث في العقائد هو مما لا ينبغي التوسع فيه، إلا بقدر ما يوحد تصور المسلمين عن الله والنبوة والأخرويات، ولكن السبب في ذلك يرجع إلى الرغبة في توجيه العقل المسلم نحو التفكير العلمي المنتج.

ومن هنا نفهم سبب اعتراض الفقهاء والعلماء على إغراق المتكلمين في الانشغالات الجدلية، فقد كانت تعرقل فعل العقل المنهجي المنتج.

إن التكامل في ميادين المعرفة يتدرج من الخاص إلى العام، فهو يبدأ من تكامل خاص على مستوى المادة العلمية الواحدة، ثم يمضي إلى تكامل عام على مستوى مادتين علميتين؛ كالفقه والأصول... ثم يرتقي إلى تكامل أعم بين جميع المواد العلمية التي تنتمي إلى مجال واسع، مثل الفقه والأصول والحديث والتفسير، ثم يصل إلى حد التكامل بين جميع المجالات العلمية.

• التنوع: فمعناه تنويع الأدوات المنهجية المستعملة؛ وهو يترجم التكامل على صعيد الوسائل المعرفية المنهجية ، ويتبين ذلك على مستويين سبق الإلماع إليهما:

أ- وسائل المنهج العلمي: حيث تتنوع الوسائل العلمية في الدراسة وتنفتح على وسائل التجريب (الحس) ووسائل النظر (التدبر)، ووسائل الخبر (النقل). إذ "ما من وسيلة صالحة من وسائل البحث العلمي وطلب المعرفة إلا والعقل المسلم مكلف باستخدامها والإفادة منها في توليد المعرفة والقدرة على الأداء، تستوي في ذلك الوسائل المادية، والمعنوية، والكمية، والكيفية، كما تستوي في ذلك الوسائل الاستقرائية والاستنباطية والعلمية والتجريبية والتنظيرية والتحليلية".

بـــــ- المصدر المنهجي: يعود بالدليل إلى الجهد الشخصي للعالم (تنقيح الأدلة وبناء الاستدلال)، وإلى التوفيق الإلهي وإعانة الله عز وجل مما أعطى للعلم صبغة أخلاقية.

• الوصل: وله معنى مزدوج، التداخل والتقريب:

أ-التداخل: فمن أهم مظاهر الشمول التي تدرك بها الحقيقة التكاملية للتراث هي التداخل الذي حصل بين المعارف والعلوم في الممارسة التراثية، سواء اتخذ هذا التداخل صورة "التراتب" أو صورة "التفاعل" بين العلوم التي نبتت في مجال التداول الإسلامي العربي.

يتعلق الأمر إذن، بشدة "Power" التكامل، أي درجة الربط بين مكونات المنهج التي توضح شدته ، ومن أهم أنماط شدة التداخل بين العلوم الإسلامية ما يلي:

نمط التناسق: المبني على المصادرة والتسليم بين العلوم. ويسميه البعض بـ"آلية الخدمة"؛ حيث العلوم يخدم بعضها بعضا، ينتج عن ذلك أن العلوم الإسلامية تتداخل فيما بينها، بحيث "يتسلّم" بعضها نتائج بعض لتصبح مسلمات يصح البناء عليها، أو يستعير بعضها آليات منهجية تمكن من حل مسائل بعضها الآخر، ولذا فليس صحيحًا ما يذهب إليه البعض من أن أصول الفقه هو أقرب العلوم التراثية إلى قيام بالمقتضيات النظرية لمجال التداول الإسلامي،(4) إلا جزئيًّا، صحيح أنه يصلح أن يكون أحد المناهج الأساسية -لا المنهج الوحيد- لمشروع "فقه الفلسفة" لأن المنهج الأصولي هو عبارة عن نسيج متكامل من الآليات المقررة والأدوات الإجرائية التي وقع استمدادها من علوم كثيرة، كما أنه نموذج علمي لبيان التداخل الداخلي في المعارف الإسلامية، ولكن الدراسة الأرحب لتاريخ العلوم الإسلامية وإبستمولوجيتها يبين مدى التفاعل الذي حصل بين كل المعارف العلمية وبين كل مناهج البحث، ناهكيك عن كون المنهجية الأصولية نفسها اقتربت في طريق المتأخرين بالمنهجية المنطقية الصورية والمباحث الجدلية الكلامية التي ابتعدت بها أحيانًا عن القيام بالمقتضيات النظرية لمجال التداول الإسلامي.

نمط التداخل الجزئي: وذلك إذا كان بين العلوم تقاطعات معرفية ومنهجية، فإن انعدمت الفواصل صار التداخل كليًّا وكان النمط عبارة عن إدماج، وصار في الغالب أمرًا معيبًا، يدل على ابتلاع علم لآخر أكثر مما يعني تكاملاً في المعرفة.كابتلاع الهم الفقهي أو الكلامي أو غيرهما من الطرق المذهبية للفعل التفسيري.

بـ-الوصل أو التقريب أي وصل المنقول بالأصلي: إن نمط التداخل بين العلوم يميز التكامل بما هو صفة للعلائق فيما بينها، أما علاقة العلوم الإسلامية بما نقل إليها من مجالات تداولية أخرى (كالعلوم اليونانية والهندية والفارسية) فإن التكامل هنا يأخذ صفة التتميم، وأهم مظهر له هو "التقريب"، حسب اصطلاح الدكتور طه عبد الرحمن. ومعناه "وصل المعرفة المنقولة بباقي المعارف الأصلية". وفي هذا يقرر طه عبد الرحمن، دعوى أساسية تقول: لا سبيل إلى معرفة الممارسة التراثية بغير الوقوف على التقريب التداولي الذي يتميز عن غيره من طرق معاجلة المنقول، باستناده إلى شرائط مخصوصة يفضي عدم استيفائها إلى الإضرار بوظائف المجال التداولي الإسلامي، فضلاً عن استناده إلى آليات صورية محددة.



أبو إسراء A 07-02-2016 03:18 PM

جزاكم الله خيرا

aymaan noor 07-02-2016 04:23 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6373974)
جزاكم الله خيرا

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 07-02-2016 08:24 PM

علم التعدين فى الحضارة الاسلامية
 
علم التعدين فى الحضارة الاسلامية



التَّعْـدين عملية الحصول على المعادن ومواد أخرى من الأرض. وتشمل هذه المواد مركبات الفلزات، والمواد غير المعدنية مثل الفحم الحجري والرمل والزيت والغاز الطبيعي، وكثيرًا من الأشياء الأخرى المفيدة.

علم التعدين: التعريف والأهمية والنشأة

التَّعْدين عملية الحصول على المعادن ومواد أخرى من الأرض. وتشمل هذه المواد مركبات الفلزات، والمواد غير المعدنية مثل الفحم الحجري والرمل والزيت والغاز الطبيعي, وكثيرًا من الأشياء الأخرى المفيدة.

ويوفر التعدين الحديد والنحاس اللازمين لصناعة الطائرات والسيارات والثلاجات. وتمدنا المناجم أيضًا بملح الطعام والذهب والفضة والماس لصناعة الحلي والفحم الحجري اللازم للوقود. ويُستخرج اليورانيوم للطاقة النووية، والأحجار للاستخدام في المباني، والفوسفات لنمو النباتات، والحصى لرصف الطرق.

تُستخرَج بعض المعادن بتكلفة أقل من معادن أخرى؛ نظرًا لوجودها على سطح الأرض. وتوجد بعض المعادن بعيدة عن سطح الأرض، وهذه تستخرج -فقط- بالحفر العميق في باطن الأرض, وتوجد عناصر أخرى في المحيطات والبحيرات والأنهار.

ظل الناس ـ منذ آلاف السنين ـ يحصلون على المعادن من الأرض، وقد قاموا حوالي عام 6000 ق.م، بحفر الحُفَر والأنفاق للحصول على حجر الصَّوَّان ـ والصَّوَّان حجر صلب استخدمه الأنسان في صناعة العُدَدَ والأسلحة ـ وبحلول عام 3500 قبل الميلاد تمكن الناس من تعدين القصدير والنحاس. وخلطوا هذين الفلزين لصناعة البرونز، وهو سبيكة صلبة (خليط من الفلزات). وصنعت من هذه السبيكة عدَد وأسلحة أفضل من تلك المصنوعة من الصوان. ولعل قدماء الرومان أول من أدرك أن التعدين يمكن أن يجعل الأمة غنية وقوية. فقد تاجَرَ الرومان في الأحجار والمعادن النفيسة وجلبوا الثروة للإمبراطورية الرومانية، كما استولوا على المناجم في كل دولة غزوها.

وقد اضمحلت الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي. ومنذ ذلك التاريخ ولفترة ألف عام لم يطرأ إلا تقدم ضئيل على صناعة التعدين, ثم حدثت قفزة بعد ذلك في التعدين في القرن الخامس عشر الميلادي، حيث استُخرِج حينذاك الفحمُ الحجريُّ والحديد والمعادن الأخرى في أوروبا، خاصة في ألمانيا والسويد وفرنسا, كما تطور التعدين في أمريكا الجنوبية أيضًا خلال نفس الفترة، حيث استخدم هنود الإنكا وقبائل أمريكا الجنوبية الأخرى المعادن لصناعة العُدَد والحُليِّ والأسلحة.

يقول العالم الفرنسي برتلو، في كتابه تاريخ علم الكيمياء: "إن العلم البشري الأول وُلِدَ من صناعات التعدين البدائية. أي حينما اهتدى الإنسان لصنع الخلائط المعدنية، وقام بتزجيج الفخار،, وصنع الزجاج وصبغ الأقمشة، وتعلم استعمال الميزان...".

ويقول ديورانت، في كتابه تاريخ الحضارة: "إن النحاس كان أول معدن استخدمه الإنسان فيما نعلم، في أعلى مجرى الرافدين، في عصر يرجع إلى(4500ق.م). ثم نجده في مقابر البداري في مصر، ويرجع عهده إلى مايقرب من (4000ق.م). ونجده كذلك في آثار أور في زمن يرجع إلى (3000ق.م).

وكان سكان وادي النيل من أوائل الشعوب التي اكتشفت الذهب والفضة منذ فجر التاريخ. ذلك لأن هذين المعدنين يُصادَفان بشكل حبيبات من المعدن الحر، تجتمع على شكل عروق في باطن الصخور. وبتأثير السيول والأمطار تتفتت تلك الصخور وتتحرر منها الحبيبات التي تُصادَف بين الرمال في مجاري السيول والأنهار والموجودة خاصة في جنوب وادي النيل.

أما النحاس فقد اكتشف في صحراء سيناء على شكل فلزات كبريتية، واستحصلوه منها بإحراقها بعد مزجها بالفحم النباتي الذي يرجع الأكاسيد المعدنية، ويحرر المعدن.

ونظراً لِلِّيونة وقابلية التطريق، اللتين يتمتع بهما الذهب والفضة والنحاس، فقد صنعوا منها كثيراً من الأواني والأدوات والحلي، فاستعملوا بعضها للزينة وبعضها لتحضير الطعام. وقد أبدع المصريون في صنع التحف والتماثيل الذهبية، كما أبدع اليمنيون في صنع الحلي والأسلحة الفضية.(2)

علم التعدين قبل النهضة الإسلامية

اشتُهِرَت الشعوب القديمة من سكان الشرق بتجربتها الواسعة في صناعة التعدين، وقد انتقل تراثها الحضاري إلى سائر شعوب البحر المتوسط. وهنالك بعض الأساطير القديمة التي تؤيد ذلك، منها: أن أحد ملوك فينيقية، ويدعى قدموس Cadmus، قد جاء إلى بلاد اليونان بصناعة التعدين، وهو أول من استفاد من مناجم الذهب والفضة الموجودة في جبال مكدونيا.

كما يحكى أن أميراً فينيقياً آخر يدعى تاسوس Tassus استثمر مناجم الذهب الموجودة في جزيرة تقع شمال بحر إيجه فسميت الجزيرة باسمه.

الجزيرة العربية:

يقول الدكتور جواد علي في كتاب المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام:

"لقد اكتشفت المعادن، وخاصة الذهب والفضة والنحاس، في الجزيرة العربية منذ أقدم العصور. وبما أن الصناعة لا تقوم إلا في مكان تتوافر فيه إمكانياتها، من استقرار وأمن وتوافر المواد الأولية ووجود حاجة إليها، لذلك فإن حالة البداوة التي كانت سائدة في بطن الجزيرة العربية لم تكن مؤهلة لاستثمار تلك الخامات. إلا أن الأقطار الواقعة في أطراف الجزيرة بدأت فيها صناعة التعدين في وقت باكر".

واليمن كانت في مقدمة الأقطار العربية في هذه الصناعة. وقد انتشرت منتجاتها المتعددة في جزيرة العرب وخارجها، فزادت صادراتها على وارداتها. وهذا ماجعل المستوى المعاشي فيها أعلى من المستوى المعاشي لبقية الأقطار العربية، وكانت تجارة المعادن الخام والمصنعة، وتصدير الأحجار الكريمة، من أكثر نشاطاتها.

كانت الصناعة في الجزيرة العربية محتقرة بصورة عامة، وهي عمل لايليق بالعربي الحر-كما كانوا يرون- أن يقوم به، لهذا قامت الصناعة على أكتاف العبيد والخدم والأعاجم.

كان الرقيق منتشراً في كل مكان من الأقطار العربية، ولاسيما في الأماكن الزراعية ومراكز التجارة والتعدين. وكان يشكل اليد العاملة المتوافرة الرخيصة والماهرة. ويُطلَق اسم أهل القرى على المستوطنين الذين يعثرون على بئر ماء، فيُنشِئوا مزرعة حوله، أو يعثرون على منجم (معدن) فيقوموا باستثماره. وهم يعملون لحسابهم إذا كانوا أحراراً، أو يعملون لحساب مالكهم إذا كانوا عبيداً.

وكان من العرب من عمل في صناعة التعدين كالوليد بن المغيرة والعاص بن هشام أخي أبي جهل وكانا حدادين، وخباب بن الأرت الذي كان من صانعي السيوف، وترد في الشعر الجاهلي أسماءُ كثيرٍ ممن عملوا في المعادن منهم: قَعْضَب وهو رجل من بني قشير كان يعمل في صناعة الأسنة ذكره امرؤ القيس في شعره، فقال:

ردينيّة فيها أَسِنَّةُ قَعْضَب وأَوْتَادُه ماذيّةٌ وعمادُهُ

ومنهم سُرَيْجٌ رجل من بني أسد كان ماهراً في صناعة السيوف، وفيه يقول خراشة بن عمرو العبسي:

رقيق الحواشي يترك الجرحَ أنجلا بِكُلِّ سُرَيْجيٍّ جَلا القَيْنُ مَتْنَهُ

ومنهم ابن مُجدّع الذي ذكره أوس بن حجر وأشاد بدقة صناعته، فهو يقطع السيف ويجلوه ويحدّ شفرته، وهو سيف أبيض

يتلألأ لمعاناً كأثر الجراد إذا دَبّ على الأرض، يقول أوس:

لـه رَوْنـَقٌ ذَرِّيُّــهُ يتـآكَلُ وذو شطباتٍ قَدُّهُ ابن مُجـَدَّعٍ

مَدَبُّ دبا سُودٍ سَرَى وهو مُسْهِلُ وأَخـْرَجَ منه القينُ أثْراً كأنَّهُ

وحظيت صناعة الدروع بنصيب وافر من اهتمام الشعراء، وهم ينسبونها إلى داود وسليمان عليهما السلام إلى تُبّع ومُحَرِّق

والحطمة بن محارب بن عبد القيس ، يقول سلامة بن جندل في نسبتها إلى داود عليه السلام وآل محرق :

كالنِّهي، يوم رياحِهِ، الرّقراق لبسوا من الماذيّ كلّ مُفَاضَةٍ

غـالٍ غرائبُهُنَّ فـي الآفاق مـن نَسْجِ داودٍ، وآل مُحَرِّقٍ

اهتمام الإسلام بعلم التعدين

كما اهتم الإسلام بكافة العلوم اهتم كذلك بعلم التعدين، وجاء في القرآن ما يشير إلى هذا العلم وأن له أهمية كبيرة وفائدة عظيمة جليلة على البشرية كلها تستوجب من الإنسان أن يشكر ربه أن وهب له هذا العلم النافع قال الله تعالى: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}، وقال تعالى: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله} ، وفي قصة ذي القرنين، قام عليه السلام بعمل سور عظيم باستخدام الحديد وغيره من المعادن {آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا}، وقال تعالى عن داود عليه السلام: {وألنّا له الحديد أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا}، وقال تعالى عن سليمان عليه السلام: {وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير * يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور} .

عرف العرب المعادن والأحجار الكريمة، وكانت كلمة المعدن في أول الأمر تعني لديهم المنجم. وأول من استخدم الكلمة لتدل على المعنيين هو القزويني في عجائب المخلوقات. وتناول العلماء المسلمون أيضًا تكوين الصخور الرسوبية، وتكوين أسطحها، ورواسب الأودية، وعلاقة البحر بالأرض والأرض بالبحر، وما ينشأ عن هذه العلاقة من تكوينات صخرية أو عوامل تعرية.

* المعادن: تحدث العلماء المسلمون عن المعادن والأحجار، وعرفوا خواصها الطبيعية والكيميائية، وصنفوها ووصفوها وصفًا علمياً دقيقًا، كما عرفوا أماكن وجود كل منها. واهتموا بالتمييز بين جيِّدها ورديئها. ولعل عطارد بن محمد الحاسب (ت 206هـ، 821م) كان أول من ألّف كتابًا في الأحجار باللغة العربية. وهذا الكتاب هو كتاب (منافع الأحجار)، وفيه ذكر أنواع الجواهر والأحجار الكريمة ودرس خواص كل منها. وقد ذكر الرازي هذا المؤلَّف في كتابه (الحاوي). وهناك من العلماء من يعزو كتاب الأحجار لأرسطو إلى أصل سوري أو فارسي، وكتبت النسخة العربية منه في أخريات القرن الثاني الهجري، وعلى الرغم من قلة المادة العلمية فيه، إلا أنها تعكس آراء المسلمين عن المعادن في ذلك الوقت.

لعلَّ أقدم نص احتوى على أسماء الجواهر التي تعدن من الأرض، هو ما جاء في أمالي الإمام جعفر بن محمد المسماة التوحيد، نذكر منها الجص (أكسيد الكالسيوم)، والكلس (كربونات الكالسيوم) والمرتك (أكسيد الرصاص)، والذهب، والفضة، والياقوت، والزمرد، والقار، والكبريت، والنفط. ثم جاء جابر بن حيان تلميذ جعفر الصادق ليضيف بعض الجواهر والمعادن مثل الأسرب (نوع من الرصاص)، والمرقيشيا والياقوت الأحمر. وأضاف إخوان الصفا 31 جوهرًا جديدًا منها: الطاليقوني، والإسرنج، والزاجات، والشبوب، وبواسق الخبز والعقيق والجزع. ثم أضاف البيروني الزفت واليشم والخارصين. وبالجملة نجد أنهم عرفوا من المعادن حتى عصر البيروني نحوًا من 88 جوهرًا مختلفًا مما يستخرج من الأرض.

وتحدث العلماء العرب والمسلمون عن الأشكال الطبيعية للمعادن، كما توجد في الطبيعة، كما تحدثوا عما يطرأ على خصائصها من تغير فيزيائي نتيجة لعوامل خارجية. فقد ذكروا أن بعض المعادن تتخذ أشكالاً هندسية طبيعية خاصة بها، ولا دخل للإنسان في تشكيلها، ولربما كان ذلك إرهاصًا لما نسميه اليوم بعلم البلورات. فقد وصف البيروني بعضها متناولاً تناسق أسطحها وهندسية أشكالها. ويقول معبرًا عن ذلك: إن أشكال الماس ذاتية، مخروطية مضلَّعة، ومنها ما يتكون من مثلثات مركبة كالأشكال المعروفة بالنارية، متلاصقة القواعد، ومنها ما يكون على هيئة الشكل الهرمي المزدوج.

ويبدو أن دراسة البلورات قد اتسعت رويدًا رويدًا بمرور الزمن بحيث نجد القزويني بعد مُضِيِّ نحو 240 سنة يصف بلورات الألماس المثلثة وصفًا فيه الكثير من الدقة؛ فيصفه بأن جميع أقطاعه مثلثة، وأن حجر السون أملس مخمس إذا كسر قطعًا تكون جميع أقطاعه مخمسة. وابن الأكفاني (ت 749هـ، 1348م) يصف الزمرد بأن أكثر ما يظهر منه خرز مستطيل ذو خمسة أسطح تسمى الأقصاب. ووصفوا الأحجار بظلال الألوان فقسموا الياقوت إلى أبيض، وأصفر، وأحمر، وأكهب (أزرق). ويتفرع الأكهب إلى طاووسي، وإسمانجوني، ونيلي، وأحور، وكحلي، ونفطي. أما الأحمر فرماني، وبهرماني، وأرجواني، ولحمي، وجلناري، ووردي.

كما عرفوا البريق واللمعان وانعكاس الضوء في خصائص بعض الأحجار، وحددوا الصلابة؛ فالياقوت عند البيروني يغلب بصلابته ما دونه من الأحجار، لكن الألماس (الماس) يغلبه.

كما عرف العرب التشقق، وسَمُّوا الشقوق الرفيعة في الأحجار الشعيرات، وعرفوا الثقل النوعي وأجروا الاختبارات الكيميائية على المعادن والجواهر، وعالجوا بعضًا منها بالأحماض كما ورد سابقًا عند الحديث عن الكيمياء.

اهتم العرب والمسلمون باستغلال المعادن والأحجار الكريمة بنفس القدر الذي أولوه لدراستها. وتكلم المؤلفون عن المناجم والمحاجر التي يستخرج منها الذهب والزمرد وغيرهما.

كما عرفوا بعض أماكن توافر النفط واستغلوه في أعمالهم. وقد كانت لصياغة الحُلي والأحجار الكريمة في عهد العباسيين منزلة كبيرة، فكان الذهب والفضة والزمرد وأنواع الياقوت واللازورد والآزوريت واللؤلؤ يجلب من خراسان وإيران والبحرين ونيسابور وصنعاء ولبنان والهند وسيلان والسودان. ومن الأسماء التي اشتهرت بالخبرة في التعدين في أواخر الدولة الأموية والدولة العباسية: عون العبادي، وأيوب البصري، وبشر بن شاذان، وصباح جدّ يعقوب بن إسحاق الكندي، وأبو عبدالله بن الجصاص، وابن البهلول وغيرهم كثيرون .

عرف العرب نوعين من النفط: النفط الأسود ، والنفط الأبيض ؛ فالنفط كما يقول القزويني ¸يطفو على الماء في منابع المياه، منه أسود ومنه أبيض، وقد يصّاعد الأسود بالقَرْع والأنبيق فيصير أبيض وينفع من الأوجاع. وقد وجد ابن جبير في العراق في رحلته الأولى بقعة من الأرض سوداء كأنها سحابة مليئة بالعيون الكبيرة والصغيرة التي تنبع بالقار، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان، وتصنع لها أحواض ليجتمع فيها فتراه يشبه الصلصال أسود أملس صقيلاً ، واستخدمه أهل بغداد في طلاء جدران الحمامات .

الصخور

كانت للعلماء المسلمين نظريات عديدة عن أصل الصخور، وكيفية تكونها، وخصوا بالذكر الصخور الرسوبية، وتعاقب الطبقات بعضها فوق بعض وتحدثوا عن النيازك واقترحوا لها تسميات فئوية.

تتكون الصخور في رأي ابن سينا من الطين أو الماء أو النار؛ لأن كثيرًا من الأحجار يتكون من الجوهر الغالب في الأرضية، وكثير منها يتكون من الجوهر الذي تغلب عليه المائية؛ فكثير من الطين يجف ويستحيل أولا شيئًا بين الحجر والطين، وهو حجر رخو، ثم يستحيل حجرًا، وأولى الطينيات ما كان لزجًا، فإن لم يكن لزجًا فإنه يتفتت في أكثر الأمر قبل أن يتحجر... ويجوز أن ينكشف البر عن البحر، وكل بعد طبقة. وقد يرى بعض الجبال كأنه منضود (متراص) سافًا فسافًا (صفًا صفًا)؛ فيشبه أن يكون ذلك قد كانت طينتها في وقت ما كذلك سافًا فسافًا، بأن كان سافًا ارتكم أولاً، ثم حدث بعده في مدة أخرى ساف آخر فارتكم. وكان قد سال على كل ساف جسم من خلاف جوهره، فصار حائلاً بينه وبين الساف الآخر. فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انشق وانتثر عما بين السافين. وأن حائلاً من أرض البحر قد تكون طينته رسوبية، وقد تكون طينته قديمة ليست رسوبية، ويشبه أن يكون ما يعرض له انفصال الأرهاص (الصخور) من الجبال رسوبيّاً.

يتضح من آراء ابن سينا أن لها نظائر في علم الجيولوجيا الحديث. فقوله: إن نوعًا من الصخور يتكون من جراء الطين الذي يستحيل في مرحلة من المراحل إلى صخر أمر يثبته العلم الحديث؛ فبعض الصخور الرسوبية تتكون من الطين الذي يتصلب فينتج عنه ما يطلق عليه الطفال. أما نظريته في أن الترسيب قد يستغرق مدّة زمنية طويلة، يحدث بعدها ساف آخر يتراكم على الأول وهكذا دواليك، تجعلنا نقول مطمئنين إنه كان أول من أشار إلى قانون تعاقب الطبقات. ولم يفت ابن سينا أن يتحدث عن رواسب الأودية التي تحدث من جرّاء السيول. وتكوُّن الصخور من الماء ومن النار إذا طفئت. وقد أثبت العلم الحديث أن هناك صخورًا رسوبية تتكون نتيجة لتفاعلات كيميائية تتم داخل المياه، أو نتيجة للتبخر العالي الذي يؤدي إلى تكوّن رواسب التبخر. أما تكوّنها من النار فيكون فيما يُسمى الصخور النارية التي تتكون من آثار الحمم البركانية التي إذا خمدت وبردت أصبحت نوعًا من الصخور البركانية. ويقسم ابن سينا النيازك إلى نوعين: حجري و حديدي، وهو نفس التقسيم المتبع في الوقت الراهن.

آراء آخرين. وردت إشارات كثيرة في وصف أنواع من الصخور في كتابات جابر بن حيان والبيروني والتيفاشي وغيرهم. وبعض الأحجار التي تكلموا عنها ما هي إلا الصخور في لغة علم الجيولوجيا الحديث؛ فجابر بن حيّان يقسم الصخور إلى ثلاثة أقسام: قسم أوّل كالخلق الأول من الحجارة... وقسم ثان منفصل من الحجر الأول... وقسم ثالث هو الحجر المكوّن لنا بقصد...

ولعل هذا أول تلميح للتقسيم الحالي لما يُسمى الصخور النارية والصخور الرسوبية والصخور المتحركة.

وعلى الرغم من أن الجاحظ لم يكن ذا باع في هذا العلم، إلا أنه أشار إلى تكون الصخور الرسوبية في كتاب التربيع والتدوير؛ فيقول: ومنذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء، وأين تراب هذه الأودية؟ وأين طين ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها؟ في أي بحر كُبست؟ وأي هبطة أشحنت؟ وكم نشأ لذلك من أرض...؟

أما البيروني فيقول في الجماهر: وأظن أن حبات الرمل جواهر (معادن) شتى إذا تؤملت رؤي فيها الأسود والأحمر والأبيض والمشف البلوري؛ وبالطبع فرمال البحار وما شاكلها تتكون من الكوارتز (المرو) في معظمها، وتختلط بها نسب متفاوتة من المعادن الأخرى ذات الألوان المختلفة. وتحدث البيروني في كتابه تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن عن التغيرات الجيولوجية التي ينتج عنها انتقال العمران من موضع إلى آخر، ومنها انحسار البحار عن مواضع وظهور اليابسة مكانها، وطغيانها على مواضع مأهولة فتتحول إلى بحار، ويدلل على رأيه بوجود آثار البحار في المناطق اليابسة وذلك عند حفر الآبار والحياض؛ فإن حجارتها تشتمل على أصداف وقواقع على حالها أو بالية تشَكّل باطن الحجر بشكلها.(6)

علماء المسلمين في مجال علم التعدين

الهمداني

يعد العالم اليمني أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني، والمعروف بابن ذي الدِّمنة، أحد روّاد علم الجيولوجيا والمعادن في بلاد اليمن. وإلى جانب ذلك كان شاعراً ومؤرخاً ومفكراً متعدد الجوانب، وكثير المؤلفات.

ولد الهمداني في مدينة صنعاء عام 280هـ/ 893م. وفي عام 292هـ/905م انتقل من صنعاء إلى صعدة، حيث أمضى أربعة عشر عاماً مع أبيه الذي كان يتاجر بالذهب، ويعمل في حمل الحجاج والتجار إلى مكة من صعدة. وفي إحدى تلك الرحلات جاور الحسن بمكة سنة306هـ، وأمضى فيها نحو سبع سنوات، تلقى خلالها علوم اللغة والنحو والحديث والجغرافيا. ثم عاد إلى صعدة بعد أن اقتنى كتباً ومؤلفات عربية مهمة ودواوين شعر. ويقال إنه وقف على نقول عربية مبكرة لكتب بطليموس.

وبعد عودة الهمداني إلى بلده بدأت المرحلة المهمة في حياته وهي تتجلى في التفكير والدراسة والتأليف. وفي عام 319هـ/931م غضب عليه الإمام الناصر لدين اللّه أمير صعدة، بسبب وشاية نقلها إليه بعض الشعراء المنتسبين إلى عدنان، ومنهم أيوب بن محمد البرسمي الذي ينسب إلى الفرس. فأُدخل الهمداني السجن وبقي فيه مقيداً حتى عام 321هـ/933م. وبعد أن أطلق سراحه خرج من صعدة إلى صنعاء. ويقول القاضي محمد بن علي الأكوع: إن وفاة الهمداني كانت بين عامي (350-360)هـ، وأنه صنف مالا يقل عن عشرين مؤلفاً في مختلف العلوم، بقي منها:

1-كتاب الإكليل: ويعد أشهر مؤلفات الهمداني، وهو موسوعة تتألف من عشرة أجزاء. تكلم فيها عن أنساب بني حِمْيَر، وفضائل القحطانيين، وسير ملوكهم وأساطيرهم، ومدافنهم وكنوزهم، واللسان الحميري، وحروف المسند. وقد حُقِّق أربعة أجزاء من هذه الموسوعة وطبعت، وهي: الأول والثاني والثامن والعاشر، وبقية الأجزاء الأخرى مفقودة.

2-كتاب صفة جزيرة العرب: وهو كتاب حقق وطبع عدة مرات، كان آخرها عام 1403هـ/1983م.

لقد تجلت في هذا الكتاب المواهب التي تحلَّى بها الهمداني كعالم في الجغرافيا والتاريخ والآثار واللغة العربية وعلم الأنساب.

3-كتاب الجوهرتين: وهو من أجود مؤلفات الهمداني وأنفعها، ويتعلق بمعدني الذهب والفضة، من حيث تعدينهما وصياغتها، وكل مايتصل بهما. وقد ترجم الكتاب إلى الألمانية ونشره باللغتين الأستاذ كريستوفر تول Christopher Tool في مدينة إبسالا بالسويد عام 1968م.

الكندي

كان الكندي، كما يبدو من مؤلفاته، خبيراً بالمعادن، الثمين منها والمبتذل. ولربما كانت رسالته في الجواهر والأشباه، وكذلك رسالته في السيوف وأجناسها، من أوائل ماكتب باللغة العربية في هذا القبيل. ولكن للأسف الشديد لم يعثر من الرسالة الأولى إلا على بعض الاقتباسات والمقتطفات، التي أوردها البيروني في كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر). أما الرسالة الثانية فهي من أكثر المخطوطات العربية شهرة في الوقت الحاضر. وقد اكتشفها ولخصها في المجلة الآسيوية البارون بورغستال سنة 1854م. ثم حققها ونشرها عبد الرحمن زكي في مجلة كلية الآداب، جامعة فؤاد الأول سنة 1952م. والسبب في شهرة رسالة الكندي في السيوف أنها أول مرجع عربي تكلم فيه صاحبه عن صناعة السيوف في البلاد العربية والإسلامية.

لقد عدد الكندي من أنواع السيوف خمسة وعشرين نوعاً، وأطلق على كل نوع اسم المكان الذي كان يصنع فيه. فهناك السيوف اليمانية، والقلعية والهندية، وهي سيوف كريمة (عتيقة)، ثم السيوف الخرسانية والبصرية والدمشقية والمصرية والكوفية، وهي سيوف (مُوَلَّدة)، أي أن فولاذها مصنوع حديثاً. ويُصنع السيف العربي من الحديد، فيقال له: السيف الأنيث (النرماهن)، أو يصنع من الفولاذ، أو من الحديد ورأسه من الفولاذ ويقال له السيف المذكر (الشابرقان). لقد وصف الكندي مختلف أنواع السيوف، وميّز بين السيوف التي تطبع من حديد مستورد، وبين التي تطبع من حديد معمول في المكان نفسه، كما تحدث عن صناعة السيوف، ولكن وصفه لطريقة العمل لم يكن كافياً لمعرفة أسرار هذه الصناعة.

البيروني

أما البيروني فهو يعد من غير شك رائد من كتب، في علم الجواهر والأحجار، خلال العصر العباسي. وقد قام بتحقيق كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر)، ونقله إلى اللغة الإنكليزية، المستشرق الدكتور فرتيز كرنكو. وتم طبعه في مدينة حيدرأباد في الهند عام 1938م.

يضم كتاب البيروني خمسة وأربعين بحثاً عن اللآلئ والأحجار، منها سبعة معادن، وخمسة عشر مركباً معدنياً. أما المعادن فهي: الزئبق، الذهب، الفضة، النحاس، الحديد، الأسرب (رصاص)، الخارصين (توتيا). ففي مبحث الزئبق وصف طريقة استحصاله من مناجمه، إذا كان حراً، ووصف طريقة تحضيره من أحجاره الحمر (Shg2) بالتقطير. وفي مبحث الذهب تكلم على جمعه من بين الرمال، وتنقيته وفصله عن حبيبات الرمل بوساطة الزئبق.

ويعود الفضل للبيروني في توضيح طريقة تحضير الفولاذ المصهور بالبواتق، والذي كانت تصنع منه السيوف الدمشقية، وهو يقول بهذا الصدد: "ولمزيد بن علي، الحداد الدمشقي، كتاب في وصف السيوف التي اشتملت رسالة الكندي على أوصافها. ابتدأ العمل بنصاب الفولاذ، وصنعة الكور، وعمل البواطق ورسومها، وصفة أطيانها وتطيينها. ثم أمر أن يجعل في كل بوطقة خمسة أرطال من نعال الدواب ومساميرها، المعمولة من النرماهن، ومن كل واحد من الروسختج والمرقشيتا الذهباني، والمغنيسيا الهشّة وزن عشرة دراهم. وتطيّن البواطق، وتودع الكور، ويملأ فحماً وينفخ عليه بالمنافيخ الرومية، كل منفاخ برجلين، إلى أن تذوب وتدور. وقد أعدّ له صرراً فيها إهليلج وقشر رمان وملح العجين وأصداف اللؤلؤ بالسوية مجرّشة، في كل صرة أربعون درهماً، يلقى في كل بوطقة واحدة. ثم ينفخ عليها ساعة نفخاً شديداً بلا رحمة. ثم تترك حتى تبرد...".

ولكن من الفائدة أن نذكر، عند الكلام على تحضير الحديد والفولاذ، جابر بن حيان. ذلك لأنه سبق البيروني بما يقرب من قرنين، فألف (كتاب الحديد)، وهو مخطوط يوجد منه ثلاث نسخ موزعة بين باريس وطهران ودبلن. وفيه وصف لاستخراج الحديد الصلب من خاماته، بالإضافة إلى وصف صنع الفولاذ بالصهر داخل البواتق. وقد تكلم على ذلك بإسهاب كل من الأستاذين: الدكتور أحمد يوسف الحسن رئيس جامعة حلب، ومدير معهد التراث العلمي العربي سابقاً، والدكتور عفيف البهنسي المدير العام للمتاحف والآثار في سورية سابقاً.

أما المركبات المعدنية التي ورد ذكرها في كتاب (الجماهر في معرفة الجواهر) للبيروني فهي:

اللازودر: فحمات النحاس الطبيعية Azurite، السنباذج: مسحوق من بلورات الألومين Emeri، الدهنج: فحمات النحاس المائية Malachite، المرداسنج: (أو المرتك) أكسيد الرصاص الأصفر Litharge Pbo، الشاذنج (أو الشادنة): Hematite Fe2 o3، الأسرنج: (أو السيليقون) أكسيد الرصاص الأحمر Minium pb3 o4، المغناطيس: Magnetite Fe3 O4، الاسفيداج: خلات الرصاص (الصنعي) -فحمات الرصاص (الطبيعي)، الخماهن: حجر أسود قابل للجلي Chalcopytite، المرقشيتا Marcgassite: كبريت الحديد الطبيعي Fe s2.

الزجاج: سليكيات الصوديوم والبوتاسيوم، البورق: بورات الصوديوم المائية Borax، البلور: الطبيعي (كريستال)، البلور الصنعي الزجاج مع أوكسيد الرصاص.

التنكار: بورات الصوديوم الطبيعية Tincal، المينا: تستحصل من معالجة الرمل بأكسيد معدني Email، نطرون: فحمات الصوديوم المائية Natron الشبه: خليط نحاس مع توتيا أو رصاص Laiton، الاسفيدوري: النحاس الأبيض (خليط النحاس مع الفضة)، الصفر: خليط نحاس مع قصدير Bronze، التوبال: خبث المعادن الذي يطفو على وجهها، أو يعلق في قبة الكور عند صهرها. الطاليقون: خليط من النحاس مع توبال النحاس فيه سمِّية.(7)

بعض مؤلفات المسلمين في علم التعدين

لقد استعان الخلفاء والأمراء منذ القرن الثالث للهجرة ببعض العلماء الذين قاموا برحلات ووضعوا مؤلفات في علم الجغرافية الطبيعية والإنسانية. وأطلق على تلك المؤلفات أسماء شتى منها: صورة الأرض- المسالك والممالك- حدود العالم- حدود الجزيرة العربية- من آثار البلاد وأخبار العباد- كتاب البلدان- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. كما أطلق على بعضها اسم الرحلات، مثل: رحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن جبير، وكان القصد منها حب الاطلاع على مافي الكون من عجائب المخلوقات ومصادر الثروات وغرائب العادات. وبما أن أسماء كثير من البلدان قد دخلها التصحيف والتحريف، أو لم تعيّن أماكنها وحدودها بدقة، لذلك أصبح من الضروري وضع مؤلف يشمل الأسماء الصحيحة لجميع البلدان التي ورد ذكرها في الكتب المذكورة. وهذا مافعله عبد اللّه البكري (ت 487هـ) في (معجم ما استعجم من البلاد والأماكن)، وياقوت الحموي في (معجم البلدان) الذي ألفه سنة 625هـ.

لقد توالى ظهور المؤلفات التي تحمل اسم المسالك والممالك منذ القرن الثالث للهجرة/ التاسع للميلاد. وهي مؤلفات تبحث بصورة خاصة في الجغرافية الوصفية، وتبيّن حدود الأقاليم السبعة على الكرة الأرضية، وما تضم من بلدان ومدن وقرى، مع تقدير المسافات التي تفصل بينها، وتصف الجبال والأنهار والمحاصيل الزراعية والصناعية التي تنتجها. وتعدد مساجدها وكنائسها وأسواقها ومناجمها، وتتكلم أحياناً عن علمائها وحكامها. وأول هذه المؤلفات ما كتبه جعفر المروزي (ت274هـ/887م) ولكن كتابه في المسالك والممالك لم يزل مفقوداً. ثم ظهر كتاب يحمل الاسم نفسه، مؤلفه أحمد السرخسي، قرأ علي يعقوب بن إسحاق الكندي، وعلّم المعتضد باللّه العباسي ونادمه، وولي الحسبة والمواريث، وسوق العبيد ببغداد. مات مقتولاً (286هـ/899م).

ولعبيد اللّه بن خرداذبة كتاب في المسالك والممالك اقتبسه من كتاب الجغرافية لبطليموس. وهو مؤرخ وكاتب أصله من خراسان (ت 300هـ/913م). تكلم في كتابه عن بلاد فارس ومقاطعاتها ومدنها. وتحدث فيه عن طريقة جمع الذهب في منطقة جيحون فقال: ويخرج أهلها على شط النهر ويمدون مسوك (جلود) الماعز، الشعر إلى أعلاه. ويشدونها ويستوثقون منها بوضع الأوتاد حواليها. وينزل أحدهم في النهر على الشط فينضح الماء على تلك المسوك، ويقوم آخر بمسح الماء من المسوك ويرسله، والماء كدر ثقيل. فإذا عرفوا أن أصول الشعر قد امتلأت من الرمل والذهب أخذوه وبسطوه على وجه الأرض في عين الشمس، حتى إذا جف نفضوه على انطاع مفروشة وأخذوا منها الذهب.

ولإبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري، والمعروف بالكرخي (ت 346هـ/957م) كتاب أيضاً في المسالك والممالك، تكلم فيه عن صفات بلاد الإسلام وغيرها. وكان وصفه موجزاً أحياناً، ولكن ملاحظاته كانت في معظم الأحيان دقيقة وقيمة، وقلما نقل عن غيره. لقد سعى الإصطخري في كتابه إلى الكلام على بلاد الإسلام التي زارها، فوضع لكل إقليم من أقاليمها خريطة، تبين توزع مدنه وقراه وجباله وسهوله وأنهاره. وذكر مواردها الطبيعية وصناعاتها التقليدية، والأماكن التي تستخرج منها المعادن والأحجار الكريمة. فتكلم مثلاً على جبل رضوى، وقال: إنه يقع بالقرب من ينبع، وهو جبل منيف ذو شعاب. ومن واديه يحمل حجر المس إلى سائر الآفاق، وبواسطته تصقل السيوف والأحجار.

ومن الرحالة المشهورين الذين وضعوا كتاباً في المسالك والممالك أبو القاسم محمد بن علي النصيبي، والمعروف بابن حوقل. كان تاجراً رحل إلى بغداد، ثم دخل المغرب وصقلية، وجاب بلاد الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، وكان حياً عام (367هـ/978م). عاش في ظل الدولة الحمدانية، وبدأ سفره من مدينة السلام عام 331هـ. وكان غرضه كما قال تصوير الأقاليم التي لم يذكرها أحد، وقد فصَّل بلاد الإسلام إقليماً إقليماً وصقعاً صقعاً.... وكورة كورة، وتكلم عنها مستوفياً الأغراض المارة الذكر.

أما المعادن والأحجار التي تكلم عنها، ففي اليمن، ومن جبل شبام، يؤخذ الجمّست والعقيق والجَزْع. وإلى غربي بحر القلزم يوجد أرض قفرة تنتهي ببادية البجّة، وهي تقع بين الحبشة وأرض النوبة ومصر، وفيها يكثر الذهب. كما يؤخذ هذا المعدن أيضاً قرب أسوان. وعلى بعد عشر مراحل يوجد حصن على البحر يسمى عيذاب، يجتمع به الناس الذين يقومون بجمع الذهب.

وفي أرض فارس تكثر بصورة عامة المعادن، من فضة وحديد وآنُك (قصدير) وكبريت، مما يغني أهلها عن جلبها من البلاد الأخرى. كما يكثر الحديد بجبال إصطخر، وفي قرية من كورة إصطخر، تعرف بدار أبجرد، يكثر معدن الزئبق. وعند الكلام على مقاطعة كرمان قال: إن جبال القُفص غنيّة بالحديد، وإنه بالقرب من جبال البارز يوجد شعب يعرف بدرفارد غني بمعدن الفضة.

لقد اعتمد ابن حوقل في جمع هذه المعلومات -كما يقول-على سادة النواحي, ووكلاء التجار, وقراءة الكتب. وكان لايفارقه كتاب ابن خرداذبة وكتاب الجيهاني وتذكرة أبي الفرج قدامة بن جعفر.

أما الجيهاني فهو أبو عبد اللّه أحمد بن محمد. أديب وكاتب، تولّى الوزارة للسامانيين ببخارى. من آثاره كتاب الرسائل، العهود والخلفاء والأمراء، كتاب المسالك والممالك، وكان معاصراً لابن حوقل.

وفي الأندلس كانت هنالك دوافع كثيرة لتشجيع طلاب العلم على القيام برحلات خارج بلدهم. لقد عاشوا في ظل اضطرابات اشتدت بصورة خاصة قبيل حكم المرابطين وبعد حكم الموحّدين. وكان منهم محمد بن عبدون الجبلي، وأبو العباس النباتي، وابن ميمون، وابن البيطار وغيرهم. كما كان منهم من اكتفى بالتجول في أنحاء الأندلس فوصف مدنها وقراها ومعادنها. وكان من أشهرهم عبيد اللّه بن عبد العزيز البكري. وهو لغوي ومؤرخ وجغرافي، ولد بقرطبة وتوفي فيها عام (487هـ/1094م). له عدة مؤلفات منها (معجم ما استعجم من البلدان)، بالإضافة إلى كتاب (المسالك والممالك)، والذي انتهى من تأليفه عام (460هـ/1058م).

اقتبس البكري كثيراً من المعلومات التي أوردها في كتبه من مؤلفات المؤرخ والجغرافي الكبير أحمد بن محمد الرازي الكناني، الذي عاش في قرطبة وتوفي فيها عام (344هـ/955م). كما اعتمد البكري على تاريخ الطبري، ومروج الذهب للمسعودي، وخاصة بما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها الطبيعية. ويعتبر كتاب المسالك والممالك لمحمد بن يوسف الوراق أحد المصادر الأساسية للبكري، بالنسبة إلى كل مايتعلق بالمغرب العربي. ومن مراجعه أيضاً كتاب الأعلاق النفيسة لابن رسته، الذي وصف بلاد قمار (الهند الصينية)، وكان حياً سنة 290هـ.

وتكلّم البكري على ما يوجد في البلاد الواقعة وراء النهر من معادن الذهب والفضة والزئبق بما لايقارن به مدن في سائر البلاد كثرة.

-وفي الشمال المغربي وعلى ساحل البحر ولد في مدينة سبتة أشهر جغرافي عربي، هو محمد بن محمد بن عبد اللّه الحسني، والمعروف بالشريف الإدريسي. تلقى علمه في قرطبة، وطاف في أنحاء الأندلس، ثم انتقل إلى جزيرة صقلية، حيث اتصل بملكها النورماندي روجر الثاني، الذي حكم من عام (562هـ/1166م) إلى عام (585هـ/1189م). وألف له كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق)، الذي يعتبر من أفضل ماكتب عن جغرافية أوربة بصورة عامة والأندلس بصورة خاصة.

يتألف كتاب نزهة المشتاق -المطبوع- من جزأين، تكلم الإدريسي في مقدمة الجزء الأول عن الكرة الأرضية من ناحية شكلها وبحارها وأقاليمها فقال: "والأرض في ذاتها مستديرة، لكنها غير صادقة الاستدارة، فمنها منخفض ومنها مرتفع، والماء يجري من أرفعها إلى أخفضها، والبحر المحيط يحيط بنصف الأرض إحاطة متصلة". ويشبّه الإدريسي الكرة الأرضية ببيضة مغرقة في الماء إلى نصفها، والماء في طست، هو البحر المحيط...

ويشكل القسم المسكون من الأرض ربعها، وقد قسمه العلماء إلى سبعة أقاليم، كل إقليم منها مار من المغرب إلى المشرق فوق خط الاستواء. وليست هذه الأقاليم بخطوط طبيعية، لكنها خطوط وهمية محدودة.

أطلق الإدريسي على البحر المتوسط اسم البحر الشامي، واعتبره خليجاً يتفرع من البحر المظلم عن طريق المجاز (مضيق جبل طارق) المسمى بالزقاق، وعلى طرفيه من ناحيتي الشرق والغرب الجزيرة الخضراء وجزيرة طريف. وعلى الساحل الإفريقي تجاه الجزيرة الخضراء تقع مدينة سبتة. ويقول الإدريسي إنه يصاد فيها شجر المرجان الذي لايعدله صنف من صنوف المرجان المستخرج من جميع البحار. وفي مدينة سبتة سوق لتفصيله وحكّه وثقبه وصنع خرز منه، وهو ينظم عقوداً تحمل إلى غانة وبلاد السودان.

ثم تحدث الإدريسي عن المعادن (المناجم) المنتشرة في إسبانية؛ فقال: وعلى ضفة نهر (تاجه) الشمالية تقع مدينة لشبونة، وفي جنوبها يقع حصن المعدن، وسمي بذلك لأنه عند هيجان البحر يقذف بالذهب والتبر. فإذا جاء الشتاء قصد أهل تلك البلاد هذا الحصن لجمع الذهب. وفي جبال طليطلة يوجد معادن الحديد والنحاس، ولكن الإدريسي لم يتكلم على الصناعة فيها بالتفصيل، لأنها كانت قد وقعت بأيد الإسبان. لكنه تكلم على مدينة المرية وقال إنه كان يصنع فيها أصناف الأدوات النحاسية والحديدية. وبالقرب من النهر الكبير تقع قرية بطرنة، وبها معدن التوتيا الذي فاق جميع معادن التوتيا طيباً.

ثم تكلم الإدريسي عن مدينة فرنجولش التي تقع على نهر ملبال، المار من إشبيلية وقرطبة. وهي مدينة حصينة وعلى مقربة منها معادن الفضة في موضع يعرف بالموج. وعلى بعد ستة عشر ميلاً منها حصن قسطنطينة وبجبال معادن الحديد الجيد الذي يرسل إلى جميع أنحاء الأندلس. وبشمال مدينة قرطبة، وعلى بعد مرحلة منها، يوجد الحصن الذي به معدن الزئبق، ومنه يصدّر الزئبق والزنجفر (كبريت الزئبق الطبيعي) إلى جميع أقطار الأرض.

ويقول الإدريسي: إن هذا المنجم كان يخدمه أكثر من ألف عامل، فقومٌ للنزول فيه وقطع الحجر، وقومٌ لنقل الحطب وحرق الفلز، وقوم لصنع أواني سبك الزئبق وتصعيده، وقوم لبناء الأفران والحرق. ويذكر الإدريسي أنه رأى ذلك المنجم، وأخبره العمال أن عمقه من وجه الأرض إلى أسفله يبلغ أكثر من (250) قامة.

ثم انتقل إلى جزيرة سردينية فقال إنها كبيرة القطر كثيرة الجبال قليلة المياه. وأهلها في الأصل روم أفارقة متبربرون ومتوحشون. وفيها معادن الفضة الجيدة، ومنها تخرج إلى كثير من بلاد الروم.

وحينما زار الإدريسي صقلية، وصف بالتفصيل أهم معالمها، وذكر أماكن وجود مناجم الحديد والذهب بالقرب من مدينة مسيني، ففي الجبل المجاور لها يوجد معدن الحديد، وعلى بعد مرحلة منها منجم للذهب. وقال عن جزيرة كريت إن فيها معدن الذهب أيضاً، ولكن لم يعين مكانه ولاصفاته وكميته. ولما وصل إلى جزيرة قبرص وصف أرضها وأشهر مدنها، وقال إن فيها معادن الزاج المنسوب إليها لكنه لم يتكلم على طريقة تحضير النحاس فيها.

ثم انتقل الإدريسي إلى الساحل السوري فعدد مدنه المشهورة وهي طرابلس الشام وجبلة وانطرسوس وبانياس وحصن المرقب واللاذقية. وعين مسافات بُعد بعضها عن بعض، لكنه لم يذكر شيئاً عن صناعاتها المعدنية. وتابع طريقه إلى جزيرة ابن عمر ومنها إلى أرمينية، حيث يوجد قرية عامرة تدعى التل، وهي على نهر سريط، وعلى بعد مرحلة من جبل جوغان، وهناك منجم حديد جيد يستخرج منه الكثير ويحمل إلى الآفاق. وحينما وصل الإدريسي بكلامه إلى مدن العراق ذكر أن في القادسية يصنع الزجاج، وفي جبل ماردين يوجد جوهر الزجاج الجيد.

وتكلم بعد ذلك على بلاد خراسان، وكانت مدينة نوقان دار الإمارة، وبها قبر علي بن موسى الرضا رضي الله عنه. وإلى جانبها جبل منه يقطع البرام لسائر البلاد، وفيه معادن الفضة والنحاس والحديد. ويوجد بها من أحجار الفيروزج والخماهن والدهنج والبلور الشيء الكثير.
رأي الغربيين في إسهامات المسلمين في علم التعدين

يقول دونالد ر . هيل : (( "الفرند" نموذج متميز لنصال السيوف "الدمشقية" التي كانت أشهر إنجاز تحقق في مراكز صناعة الدوات المعدنية في المشرق . وقد لاحظ " كيريل ستانلي سميث Cyril Stanely Smith" المؤرخ المشهور في علم المعادن والتعدين أن الاستمتاع والانتفاع بهذا الإنجاز في الشرق كان أكثر إثارة للإعجاب مقارنة بالإهمال النسبي له من جانب علماء التعديت الأوربيين .

في بلاد الشرق كان يستخدم الحفر على المعدن Etching لبيان نماذج تعتمد على الفروق في التركيب بالتعاصر مع السيف الأوربي ذي النصل الملتحم ، ومن ثم واصل السيف الدمشقي تطوره فيما بعد حتى بلغ مستوى رفيعًا " ))

نصائح للمختصين

علم المعادن والتعدين يعتبران من العلوم المهمة التي مارستها الشعوب التي كانت تقطن في مصر والشام وبلاد الرافدين، منذ أقدم العصور. وبما أن تاريخ التكنولوجيا، الذي يضم هذين العلمين، لم يكتب بصورة علمية واضحة، لأن ذلك يكشف عن أسرار صنعات سعى أصحابها لإخفائها؛ لذلك قام بعض المستشرقين، منذ قرن ونصف تقريباً بدراسة ونشر بعض المؤلفات العربية التراثية المتعلقة بهذه العلوم. ولكن العمل لم يزل يحتاج لمتابعة وتعمق، علماً بأن الباحث في علم التكنولوجيا يجب أن يتوافر فيه شرطان:

الأول: أن يكون ضليعاً في اللغة العربية وملماً باللغات اليونانية والهندية والفارسية.

والثاني: أن يكون اختصاصياً بمادة البحث.

إن كتاب (الجماهر في معرفة الجواهر)، تبين بعد طبعه أنه يحوي كثيراً من المصطلحات والجمل المبهمة، والأخطاء الناجمة عن التصحيف والتحريف. لذلك لابد من إعادة النظر فيه، علماً بأن البيروني كان على معرفة تامة باللغة العربية والفارسية والهندية، ولكنه لم يكن ملماً باليونانية.


دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ 08-02-2016 04:04 AM

جزاك ربي الجنة والدي الغالي

aymaan noor 08-02-2016 11:52 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة دّقْـــةُ قْـــلِـــبّـ (المشاركة 6374503)
جزاك ربي الجنة والدي الغالي

شكرا لك ابنتى الغالية دقة قلب

جزاك ربى الجنة و أسعد أيامك و حقق طموحاتك

الاسلام دين علم و عمل و عمارة للأرض و للانسان

لقد فهمه المسلمن الأوائل حق فهمه فكانت لهم حضارة أعترف بها العالم

فاذا لم يكن الدين مرشدا لنا و هاديا لعمارة الأرض و التقدم التكنولوجى والحضارى

اذا فالتقصير منا كمسلمين أننا لم نفهم ديننا حق فهمه

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

أبو إسراء A 08-02-2016 02:51 PM

بارك الله فيك أستاذنا الفاضل

صوت الامة 08-02-2016 03:09 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aymaan noor (المشاركة 6374661)
شكرا لك ابنتى الغالية دقة قلب

جزاك ربى الجنة و أعد أيامك و حقق طموحاتك

الاسلام دين علم و عمل و عمارة للأرض و للانسان

لقد فهمه المسلمن الأوائل حق فهمه فكانت لهم حضارة أعترف بها العالم

فاذا لم يكن الدين مرشدا لنا و هاديا لعمارة الأرض و التقدم التكنووجى والحضارى

اذا فالتقصير منا كمسلمين أننا لم نفهم ديننا حق فهمه

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

كلمات توزن بالذهب استاذنا
جزاك الله خيرا :)


aymaan noor 10-02-2016 08:15 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو إسراء a (المشاركة 6374770)
بارك الله فيك أستاذنا الفاضل

خالص شكرى وتقديرى لحضرتك أستاذنا الفاضل أبو اسراء لمرورك الكريم

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

aymaan noor 10-02-2016 08:18 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة aymaan noor (المشاركة 6374661)
شكرا لك ابنتى الغالية دقة قلب

جزاك ربى الجنة و أعد أيامك و حقق طموحاتك

الاسلام دين علم و عمل و عمارة للأرض و للانسان

لقد فهمه المسلمن الأوائل حق فهمه فكانت لهم حضارة أعترف بها العالم

فاذا لم يكن الدين مرشدا لنا و هاديا لعمارة الأرض و التقدم التكنووجى والحضارى

اذا فالتقصير منا كمسلمين أننا لم نفهم ديننا حق فهمه

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صوت الامة (المشاركة 6374787)
كلمات توزن بالذهب استاذنا
جزاك الله خيرا :)


جزيل شكرى وتقديرى لحضرتك أستاذنا الفاضل صوت الامة

ما أحوجنا اليوم الى معرفة ديننا حق المعرفة لكى نشارك فى صنع الحضارة الانسانية

و فى عمارة الأرض كما أمرنا الله سبحانه و تعاى

جزاك الله خيرا وبارك الله فيك


جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:15 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.