![]() |
القيَامة الكبرى
التعريفُ بالقيَامة الكبرى سيأتي يوم يبيد الحيُّ القيوم فيه الحياة والأحياء ، مصداقاً لقوله تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ - وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) [ الرحمن : 26- 27 ] ، ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) [ القصص : 88 ] ، ثم يأتي وقت يعيد الله العباد ويبعثهم ، فيوقفهم بين يديه ويحاسبهم على ما قدموه من أعمال ، وسيلاقي العباد في هذا اليوم شيئاً عظيماً من الأهوال ، ولا ينجو من تلك الأهوال إلا من أعدَّ لذلك اليوم عدته من الإيمان والعمل الصالح ، ويساق العباد في ختام ذلك اليوم إلى دار القرار : الجنة أو النار . هذا اليوم هو يوم القيامة . |
أسمَاء يَوم القيَامَة سمى الله ذلك اليوم الذي يحل فيه الدمار بهذا العالم ، ثم يعقبه فيه البعث والنشور للجزاء والحساب بأسماء كثيرة ، وقد اعتنى جمع من أهل العلم بذكر هذه الأسماء ، وقد عدها الغزالي والقرطبي فبلغت خمسين اسماً كما يقول ابن حجر العسقلاني (1) .وقد ساق القرطبي هذه الأسماء مفسراً لها ، ولكنه أخذ تفسيرها من كتاب ( سراج المريدين ) لابن العربي ، وربما زاد عليه شيئاً ما في الشرح والتفسير (2) . وقد عدَّها بعضهم من غير تفسير ، منهم ابن نجاح في كتابه (( سبيل الخيرات )) ، وأبو حامد الغزالي في (( الإحياء )) وابن قتيبة في (( عيون الأخبار )) (3) . وسنقتصر في هذا الحديث على ذكر أشهر هذه الأسماء ، مع تعريف كل اسم تعريفاً مختصراً . أشهر أسماء ذلك اليوم : 1- يوم القيامة : ورد هذا الاسم في سبعين آية من آيات الكتاب ، كقوله تعالى : ( اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) [ النساء : 87 ] ، وقوله : ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ) [ الإسراء : 97 ] ، وقوله : ( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) [ الشورى : 45 ] . والقيامة في اللغة مصدر قام يقوم ، ودخلها التأنيث للمبالغة على عادة العرب ، وسميت بذلك لما يقوم فيها من الأمور العظام التي بينتها النصوص . ومن ذلك قيام الناس لرب العالمين . 2- اليوم الآخر : كقوله تعالى : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ) [ البقرة : 177 ] ، وقال : ( ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [ البقرة : 232 ] ، وقال : ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) [ التوبة : 18 ] . وأحياناً يسميه بالآخرة أو الدار الآخرة ، كقوله : ( وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) [البقرة : 130 ] . وقوله : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) [ النساء : 74 ] . وقوله : ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ) [ القصص : 83 ] ، وقوله : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [ا لعنكبوت : 64 ] . وسمى ذلك اليوم باليوم الآخر ، لأنه اليوم الذي لا يوم بعده . 3- الساعة ، قال تعالى: ( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ )[الحجر : 85] ، وقال : ( إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ) [ طه : 15 ] ، وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) [ الحج : 1 ] . قال القرطبي : " والساعة كلمة يعبر بها في العربية عن جزء من الزمان غير محدود ، وفي العرف على جزء من أربعة وعشرين جزءاً من يوم وليلة ، اللذين هما أصل الأزمنة .. وحقيقة الإطلاق فيها أن الساعة بالألف واللام عبارة في الحقيقة عن الوقت الذي أنت فيه، وهو المسمى بالآن ، وسميت به القيامة إما لقربها ، فإن كل آت قريب . وإما أن تكون سميت بها تنبيهاً على ما فيها من الكائنات العظام التي تصهر الجلود . وقيل : إنما سميت بالساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة .. " (4) . 4- يوم البعث : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ... ) [ الحج : 5 ] ، وقال : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذا يومُ البَعثِ ) [الروم : 56] . قال ابن منظور : " البعث : الإحياء من الله تعالى للموتى ، وبعث الموتى نشرهم ليوم البعث " (5) . 5- يوم الخروج : قال تعالى : ( يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ) [ق: 42] وقال : ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) [المعارج : 43] ، وقال : ( ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ) [ الروم : 25 ] . سمي بذلك لأن العباد يخرجون فيه من قبورهم عندما ينفخ في الصور . 6- القارعة : قال تعالى : ( الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ) [القارعة: 1-3] وقال : ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ ) [ الحاقة : 8 ] . قال القرطبي : " سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بأهوالها . يقال : قد أصابتهم قوارع الدهر ، أي : أهواله وشدائده ، قالت الخنساء : تعرفني الدهر نهشاً وحزا ××× وأوجعني الدهر قرعاً وغمزا أرادت أن الدهر بكبريات نوائبه وصغرياتها " (6) .7- يوم الفصل :قال تعالى : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) [ الصافات: 21 ] . وقال : ( هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ) [ المرسلات : 38 ] . وقال : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ) [ النبأ : 17 ] . سمي بذلك لأن الله يفصل فيه بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، وفيما كانوا فيه يختصمون ، قال تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) [ السجدة : 25 ] . 8- يوم الدين :قال تعالى : ( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ - يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ - وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) [ الانفطار : 14-19 ] . وقال : ( وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ) [ الصافات : 20 ] . والدين في لغة العرب : الجزاء والحساب . قال الشاعر : حصادك يوماً ما زرعت وإنما ××× يدان الفتى يوماً كما هو دائن سمي بذلك لأنه الله يجزي العباد ويحاسبهم في ذلك اليوم .9- الصاخة : قال تعالى : ( فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ ) [ عبس : 33 ] . قال القرطبي : " قال عكرمة : الصاخة النفخة الأولى " والطامة النفخة الثانية . قال الطبري : أحسبه من صخ فلان فلاناً إذا أصمه . قال ابن العربي : الصاخة التي تورث الصمم ، وإنها المسمعة ، وهذا من بديع الفصاحة حتى لقد قال بعض أحداث الأسنان حديثي الأزمان : أصمَّ بك الناعي وإن كنت أسمعا أصمَّني سيرهم أيام فرقتهم ××× فهل سمعتم بسير يورث الصمما ولعمر الله إن صيحة القيامة مسمعة ، تصم عن الدنيا ، وتسمع أمور الآخرة " (7) . وقال ابن كثير : " قال البغوي : الصاخّة يعني صيحة يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها تصخُّ الأسماع ، أي : تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها " (8) .10- الطامة الكبرى :قال تعالى:( فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى )[النازعات : 34] . سميت بذلك لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع ، كما قال تعالى : ( وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )[ القمر : 46 ] . قال القرطبي : " الطامَّة الغالبة . من قولك : طمَّ الشيء إذا علا وغلب . ولما كانت تغلب كل شيء كان لها هذا الاسم حقيقة دون كل شيء . قال الحسن : الطامة : النفخة الثانية . وقيل : حين يسار أهل النار إلى النار " (9) . 11- يوم الحسرة : قال تعالى : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ) [ مريم : 39 ] . سمي بذلك لشدة تحسر العباد في ذلك اليوم وتندمهم . أما الكفار فلعدم إيمانهم ( حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا ) [ الأنعام : 31 ] ، واستمع إلى تحسر الكفار عندما يحل بهم العذاب : ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [ الزمر : 56-58 ] . وتبلغ الحسرة ذروتها بأهل الكفر عندما يتبرأ السادة والأتباع من متبوعيهم ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) [ البقرة : 167 ] . ويتحسر المؤمنون في ذلك اليوم بسبب عدم استزادتهم من أعمال البر والتقوى . 12- الغاشية :قال تعالى : ( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) [ الغاشية : 1 ] ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بأفزاعها وتغمهم ، ومن معانيها أن الكفار تغشاهم النار ، وتحيط بهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، كما قال تعالى : ( يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) [ العنكبوت : 55 ] . وقال : ( لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ) [ الأعراف : 41 ] . 13- يوم الخلود :قال تعالى :( ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ) [ق : 34] . سمي ذلك اليوم بيوم الخلود لأن الناس يصيرون إلى دار الخلد ، فالكفار مخلدون في النار ، والمؤمنون مخلدون في الجنان ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة : 39 ] ، وقال : ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ آل عمران : 107 ] . 14- يوم الحساب :قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) [ ص : 26 ] . وقال : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) [ غافر : 27 ] . سمي بذلك اليوم بيوم الحساب ، لأن الله يحاسب فيه عباده ، قال القرطبي : " معنى الحساب أن الله يعدِّد على الخلق أعمالهم من إحسان وإساءة ، ويعدِّد عليهم نعمه ، ثم يقابل البعض بالبعض ، فما يشف منها على الآخر حكم للمشفوف بحكمه الذي عينه للخير بالخير ، وللشرِّ بالشرِّ ، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما منكم أحد إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان ". 15- الواقعة : قال تعالى : ( إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ) [ الواقعة : 1 ] ، قال ابن كثير :" سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها " (10) . وأصل وقع في لغة العرب كان ووجد . 16- يوم الوعيد :قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ) [ق : 20] ، لأنه اليوم الذي أوعد به عباده . وحقيقة الوعيد هو الخبر عن العقوبة عند المخالفة . 17- يوم الآزفة :قال تعالى : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ) [ غافر : 18 ] ، سميت بذلك لاقترابها ، كما قال تعالى : ( أَزِفَتْ الْآزِفَةُ -لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ) [ النجم : 57-58 ] . والساعة قريبة جداً . وكل آت فهو قريب وإن بَعُد مداه . والساعة بعد ظهور علاماتها أكثر قرباً . 18- يوم الجمع : قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ) [ الشورى : 7 ] ، سميت بذلك ، لأن الله يجمع فيه الناس جميعاً ، كما قال تعالى :( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ ) [هود : 103]. 19- الحاقة :قال تعالى : ( الْحَاقَّةُ - مَا الْحَاقَّةُ ) [ الحاقة : 1-2 ] ، سميت بذلك – كما يقول ابن كثير – لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد (11) . قال البخاري في صحيحه : " هي الحاقة لأن فيها الثواب وحواق الأمور . الحقة والحاقة واحد " . وقال ابن حجر في شرحه لكلام البخاري : " هذا أخذه من كلام الفراء. قال في معاني القرآن . الحاقة : القيامة . سميت بذلك لأن فيها الثواب وحواقّ الأمور . ثم قال : الحقة والحاقة كلاهما بمعنى واحد . قال الطبري : سميت الحاقة لأن تحقّ فيها . وهي كقولهم : ليلٌ قائم . وقال غيره : سميت الحاقة لأنها أحقت لقوم الجنة ولقوم النار . وقيل : لأنها تحاقق الكفار الذين خالفوا الأنبياء . يقال : حاققته فحققته ، أي : خاصمته فخصمته . وقيل : لأنها حق لا شك فيه " (12) . 20- يوم التلاق : قال تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ) [ غافر : 15 ] . قال ابن كثير : " قال ابن عباس : يلتقي فيه آدم وآخر ولده . وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد . وقال قتادة والسدي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة : يلتقي فيه أهل الأرض والسماء ، والخالق والخلق ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي فيه الظالم والمظلوم . وقد يقال : إن يوم التلاق يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر كما قاله آخرون " (13) . 21- يوم التناد :قال تعالى حاكياً نصيحة مؤمن آل فرعون قومه : ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ )[غافر : 32] ، سمي بذلك لكثرة ما يحصل من نداء في ذلك اليوم ، فكل إنسان يدعى باسمه للحساب والجزاء ، وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار، وأصحاب النار ينادون أصحاب الجنة ، وأهل الأعراف ينادون هؤلاء وهؤلاء . 22- يوم التغابن :قال تعالى : ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ )[ التغابن : 9 ] . سمي بذلك لأن أهل الجنة يغبنون أهل النار ، إذ يدخل هؤلاء الجنة ، فيأخذون ما أعد الله لهم ، ويرثون نصيب الكفار من الجنة . هذه هي أشهر أسماء يوم القيامة ، وقد أورد بعض العلماء أسماءً أخرى غير ما ذكرناه، وهذه الأسماء أخذوها بطريق الاشتقاق بما ورد منصوصاً ، فقد سموه بيوم الصدر أخذاً من قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ) [ الزلزلة : 6 ] ، ويوم الجدال أخذاً من قوله تعالى : ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ) [ النحل : 111 ] . وسموه بأسماء الأوصاف التي وصف الله بها ذلك اليوم ، فقالوا من أسمائه : يوم عسير، ويوم عظيم ، ويوم مشهود ، ويوم عبوس قمطرير ، ويوم عقيم . ومن الأسماء التي ذكروها غير ما تقدم : يوم المآب ، يوم العرض ، يوم الخافضة الرافعة ، يوم القصاص ، يوم الجزاء ، يوم النفخة ، يوم الزلزلة ، يوم الراجفة ، يوم الناقور، يوم التفرق ، يوم الصدع ، يوم البعثرة ، يوم الندامة ، يوم الفرار . ومنها أيضاً : يوم تبلى السرائر ، يوم لا تملك نفساً لنفس شيئاً ، يوم يُدَعُّون إلى نار جهنم دَعّا ، يوم تشخص فيه الأبصار ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ، يوم لا ينطقون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، يوم لا يكتمون الله حديثاً ، يوم لا مرد له من الله ، يوم لا بيع فيه ولا خلال ، يوم لا ريب فيه . وقد يضيف إليها بعض أهل العلم أسماء أخرى ، وقد يسمى الاسم بما يقاربه ويماثله، قال القرطبي : " ولا يمتنع أن تسمى بأسماء غير ما ذكر بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام والتضايق واختلاف الأقدام ، والخزي ، والهوان ، والذل ، والافتقار ، والصَّغار، والانكسار ، ويوم الميقات ، والمرصاد ، إلى غير ذلك من الأسماء " (14) . السر في كثرة أسمائه : يقول القرطبي : " وكل ما عظم شأنه تعددت صفاته ، وكثرت أسماؤه ، وهذا مهيع كلام العرب ، ألا ترى أن السيف لما عظم عندهم موضعه ، وتأكد نفعه لديهم وموقعه ، جمعوا له خمسمائة اسم ، وله نظائر . فالقيامة لما عظم أمرها ، وكثرت أهوالها ، سماها الله تعالى في كتابه بأسماء عديدة ، ووصفها بأوصاف كثيرة " (15) . -------------------------------- (1) فتح الباري : (11/396) . (2) التذكرة للقرطبي : 233 . (3) التذكرة : 232 . (4) التذكرة للقرطبي : 216 . (5) لسان العرب : مادة : ( ب ع ث ) (1/230) . (6) التذكرة للقرطبي : 209 . (7) تذكرة القرطبي : 227 . (8) تفسير ابن كثير : (7/217) . (9) تذكرة القرطبي : 227 . (10) تفسير ابن كثير : 6/507 . (11) تفسير ابن كثير : (7/99) . (12) فتح الباري : (11/395) . (13) تفسير ابن كثير : (6/130) . (14) التذكرة : 233 . (15) التذكرة : 214 . |
إفنَاء الأحيَاء المَبحَث الأول النفخ في الصّور هذا الكون العجيب الغريب الذي نعيش فيه ، يعجُّ بالحياة والأحياء الذين نشاهدهم والذين لا نشاهدهم ، وهم فيه في حركة دائبة لا تهدأ ولا تتوقف ، وسيبقى حاله كذلك إلى أن يأتي اليوم الذي يُهلك الله فيه جميع الأحياء إلا من يشاء ، ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ) [الرحمن : 26] ،( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [القصص : 88 ]. وعندما يأتي ذلك اليوم ينفخ في الصور ، فتُنهي هذه النفخة الحياةَ في الأرض والسماء ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ )[ الزمر : 68 ] . وهي نفخة هائلة مدمرة ، يسمعها المرء فلا يستطيع أن يوصي بشيء ، ولا يقدر على العودة إلى أهله وخلانه ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ) [ يس : 49-50 ] . وفي الحديث : " ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ، ورفع ليتاً (1) ، قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال : فيصعق ويصعق الناس " (2) . وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن سرعة هلاك العباد حين تقوم الساعة ، فقال : " ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة ، وهو يليط حوضه ، فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " (3) . -------------------------------- (1) أصغى : أمال : والليت : صفحة العنق . (2) صحيح مسلم ، كتاب الفتن : باب خروج الدجال: (4/2295) ورقمه : 2940 . (3) صحيح البخاري ، كتاب الفتن ، رقم (7120) ، فتح الباري : (13/82) عن أبي هريرة . ورواه في كتاب الرقاق ، فتح الباري : (11/352) . |
الصّور الذي ينفخ فيه الصور في لغة العرب القَرْن ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصور ، ففسره بما تعرفه العرب من كلامها ، ففي سنن الترمذي وسنن أبي داود ، وسنن ابن حبان، ومسند أحمد ، ومستدرك الحاكم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ما الصور ؟ قال : الصور قرن ينفخ فيه " (1) قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي فيه : حديث حسن صحيح .وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ( الصُوَر ) ، جمع صورة ، وتأوله على أن المراد النفخ في الأجساد لتعاد إليها الأرواح . ونقل عن أبي عبيدة والكلبي أن ( الصُّوْر ) بسكون الواو جمع صورة ، كما يقال : سور المدينة جمع سورة ، والصوف جمع صوفة ، وبسر جمع بسرة . وقالوا : المراد النفخ في الصور وهي الأجساد ، لتعاد فيها الأرواح ، وما ذكروه خطأ من وجوه : الأول : أن القراءة التي نسبت إلى الحسن البصري لا تصح نسبتها إلى الأئمة الذين يحتج بقراءتهم . الثاني : أن ( صورة ) تجمع على ( صُوَر ) ، ولا تجمع على ( صُوْر ) كما ادعى أبو عبيدة والكلبي ، قال تعالى : ( وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) [ غافر : 64 ] ، ولم يعرف عن أحد من القراء أنه قرأها : فَأَحْسَنَ صُوْركُمْ . الثالث : أن الكلمات التي ذكروها ليست بجموع ، وإنما هي أسماء جموع ، يفرق بينها وبين واحدتها بالتاء . الرابع : أن هذا القول خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة ، فالذي عليه أهل السنة والجماعة أن الصور بوق ينفخ فيه . الخامس :أن هذا القول مخالف لتفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث فسره بالبوق ، ومخالف للأحاديث الكثيرة الدالة على هذا المعنى . السادس : أن الله تعالى قال : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) [الزمر : 68] ، فقد أخبر الحق أنه ينفخ في الصور مرتين ، ولو كان المراد بالصور النفخ في الصُّوَر التي هي الأبدان لما صح أن يقال : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى )، لأن الأجساد تنفخ فيها الأرواح عند البعث مرة واحدة (2) . وما ذكره بعض أهل العلم من أن الصور من ياقوتة أو من نور فلا نعلم في ذلك حديثاً صحيحاً ، والله أعلم . -------------------------------- (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/68) ، ورقمه : 1080 . (2) راجع في هذه المسألة : تذكرة القرطبي : 182 ، 185 . فتح الباري (11/367) . لسان العرب : (2/493) . |
النَافخ في الصُّور قال ابن حجر العسقلاني : " اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام ، ونقل فيه الحليمي الإجماع ، ووقع التصريح به في حديث وهب ابن منبه ، وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي ، وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه ، وكذا في حديث الصور الطويل " (1) .وقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن صاحب الصور مستعد دائماً للنفخ فيه منذ أن خلقه الله تعالى ، ففي مستدرك الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن طَرْف صاحب الصور منذ وُكِّل به مستعد ينظر نحو العرش ، مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طَرْفه ، كأن عينيه كوكبان دُرِّيان " قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ووافقه الذهبي (2) . وفي هذا الزمان الذي اقتربت فيه الساعة ، أصبح إسرافيل أكثر استعداداً وتهيؤاً للنفخ في الصور ، فقد روى ابن المبارك في الزهد ، والترمذي في سننه ، وأبو نعيم في الحلية ، وأبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في المستدرك ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنعم ، وقد التقم صاحب القرنِ القرنَ ، وحنى جبهته ، وأصغى سمعه ، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ ، فينفخ . قال المسلمون : فكيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، توكلنا على الله ربنا " وقال الترمذي : حديث حسن ، وقد ذكر الشيخ ناصر رواته من الصحابة وطرقه ومتابعاته وشواهده في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة )) بما يدلُّ على صحته (3) . -------------------------------- (1) فتح الباري : (11/368) . (2) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/65) ، ورقمه : 1078 . (3) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (3/66) ، ورقمه : 1079 . |
اليَوم الذي يكون فيه النفخة تقوم الساعة في يوم الجمعة ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ، فيه خُلِق آدم ، وفيه أُدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة " (1) . وفي حديث آخر أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الساعة تقوم في يوم الجمعة ، وفيها يُبعث العباد أيضاً ، فعن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصَّعْقَة ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة عليَّ " رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، والدارمي ، والبيهقي في (( الدعوات الكبير )) (2) . وفي (( مسند الطبراني الأوسط )) ، و (( الحلية )) لأبي نعيم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عُرِضَت عليَّ الأيام ، فعُرض عليَّ فيها يوم الجمعة ، فإذا هي كمرآة بيضاء في وسطها نكتة سوداء، فقلت : ما هذه ؟ قيل : الساعة " (3) . ولما كانت الساعة تقع في هذا اليوم فإن المخلوقات في كل يوم جمعة تكون مشفقةً خائفةً إلا الإنس والجن ، ففي موطأ الإمام مالك ، وسنن أبي داود ، وسنن الترمذي والنسائي ، ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خُلق آدم ، وفيه هبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة (4) ، يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس ، شفقاً من الساعة ، إلا الجن والإنس " (5) . -------------------------------- (1) صحيح مسلم : 854 . (2) مشكاة المصابيح : (1/430) ، ورقمه : (1361) ، وقال – محقق المشكاة : إسناده عند أبي داود صحيح ، وصححه جماعة . (3) رمز الشيخ ناصر للحديث بالصحة في صحيح الجامع : (4/31) ، ورقمه (3895) وأورد طرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/568) ، ورقمه : (1930) . (4) منتظرة قيام الساعة . (5) مشكاة المصابيح : (1/428) ، ورقمه (1359) وعزاه محقق المشكاة إلى الموطأ والترمذي . وقال الترمذي فيه : حسن صحيح . |
كم مَرَّة ينفخ في الصُّور ؟ الذي يظهر أن إسرافيل ينفخ في الصور مرتين ، الأولى يحصل بها الصعق ، والثانية يحصل بها البعث ، قال تعالى : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) [ الزمر : 68 ] . وقد سمى القرآن النفخة الأولى بالراجفة ، والنفخة الثانية بالرادفة ، قال تعالى : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) [ النازعات : 6-7 ] . وفي موضع آخر سمى الأولى بالصيحة ، وصرح بالنفخ بالصور في الثانية ، قال تعالى: ( مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ - فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ - وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ) [ يس : 49-51 ] . وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرحة بالنفختين ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بين النفختين أربعون ". قالوا : يا أبا هريرة ، أربعون يوماً ؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون شهراً ؟ قال : أبيت ، قالوا : أربعون سنة ؟ قال : أبيت " (1) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثم ينفخ في الصور ، فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ، ورفع ليتاً (2) ، فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ، ويصعق الناس ، ثم يرسل الله – أو قال : ينزل الله مطراً ، كأنه الطَّلُّ ، أو الظِّلُّ، ( نعمان (3) الشاك ) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (4) . وأخرج البيهقي بسند قوي عن ابن مسعود موقوفاً : " ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض ، فينفخ فيه ، والصور قرن ، فلا يبقى خلق في السماوات ولا في الأرض إلا مات إلا من شاء ربك ، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون " (5) . وروى أوس بن أوس الثقفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه الصعقة وفيه النفخة " (6) ، وقد أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم (7) . وقد رجح هذا الذي دلت عليه هذه الآيات والأحاديث التي سقناها جمع من أهل العلم ، منهم القرطبي (8) ، وابن حجر العسقلاني (9) . وذهب جمع من أهل العلم إلى أنها ثلاث نفخات ، وهي نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة البعث . وممن ذهب هذا المذهب ابن العربي (10) ، وابن تيمية (11) ، وابن كثير (12) ، والسفاريني (13) ، وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله ذكر نفخة الفزع في قوله : ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ النمل : 87 ] . كما احتجوا ببعض الأحاديث التي نصت على أن النفخات ثلاث ، كحديث الصور، وهو حديث طويل ، أخرجه الطبري ، وفيه : " ثم ينفخ في الصور ثلاث نفخات : نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة القيام لرب العالمين " (14) . أما استدلالهم بالآية التي تذكر نفخة الفزع فليست صريحة على أن هذه نفخة ثالثة ، إذ لا يلزم من ذكر الحق تبارك وتعالى للفزع الذي يصيب من في السماوات والأرض عند النفخ في الصور أن تجعل هذه نفخة مستقلة ، فالنفخة الأولى تفزع الأحياء قبل صعقهم ، والنفخة الثانية تفزع الناس عند بعثهم . يقول ابن حجر رحمه الله تعالى : " ولا يلزم من مغايرة الصعق الفزع أن لا يحصلا معاً من النفخة الأولى " (15) ، وجاء في تذكرة القرطبي : " ونفخة الفزع هي نفخة الصعق ، لأن الأمرين لازمين لها ، أي : فزعوا فزعاً ماتوا منه " (16) . أما حديث الصور فهو حديث ضعيف مضطرب كما يقول الحجة في علم الحديث ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى ، ونقل تضعيفه عن البيهقي (17) . وذهب ابن حزم رحمه الله تعالى إلى : " أن نفخات يوم القيامة أربع : الأولى نفخة إماتة ، والثانية نفخة إحياء ، يقوم بها كل ميت ، وينشرون من القبور ، ويجمعون للحساب . والثالثة : نفخة فزع وصعق ، يفيقون منها كالمغشي عليه ، لا يموت منها أحد . والرابعة : نفخة إفاقة من ذلك الغشى " (18) . قال ابن حجر بعد أن حكى مقالة ابن حزم : " هذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعاً ليس بواضح ، بل هما نفختان فقط ، ووقع التغاير في كل واحد منهما باعتبار من يستمعهما ، فالأولى يموت فيها كل من كان حياً ، ويُغشى على من لم يمت ممن استثنى الله. والثانية : يعيش بها من مات ، ويفيق بها من غشي عليه ، والله أعلم " (19) . -------------------------------- (1) رواه البخاري في صحيحه ، كتاب التفسير ، تفسير سورة الزمر ، فتح الباري : (11/551) ورواه مسلم في صحيحه : (4/2270) ، ورقمه 2955 . (2) الليت : صفحة العنق ، وإصغاؤه : إمالته . (3) هو نعمان بن سالم أحد رواة هذا الحديث . (4) رواه مسلم :(4/2258) ،ورقمه : 2940 . (5) فتح الباري : (11/370) . (6) فتح الباري : (11/370) . (7) فتح الباري : (11/370) . (8) التذكرة للقرطبي : 183 ، 184 . (9) فتح الباري : (11/369) . (10) فتاوي شيخ الإسلام : (4/260) . (11) فتح الباري : (11/369) تذكرة القرطبي : ص 184 . (12) النهاية لابن كثير : (1/253) . (13) لوامع الأنوار البهية : (2/161) . (14) فتح الباري:(11/369) . (15) فتح الباري:(11/369) . (16) تذكرة القرطبي : 184 . (17) فتح الباري : (11/369) . (18) فتح الباري : (6/446) . (19) فتح الباري : (6/446) . |
الذين لا يُصعقون عند النفخ في الصّور أخبرنا الباري جلَّ وعلا أن بعض من في السماوات ومن في الأرض لا يُصعقون عندما يُصعق من في السماوات ومن في الأرض ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ) [ الزمر : 68 ] . وقد اختلف العلماء في تعيين الذين عناهم الحق بالاستثناء في قوله : ( إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ). 1- فذهب ابن حزم إلى أنهم جميع الملائكة ، لأن الملائكة في اعتقاده أرواح لا أرواح فيها ، فلا يموتون أصلاً (1) . وهذا الذي ذهب إليه من أن الملائكة لا يموتون لا يُسلم له ، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى ، وهم عبيد مربوبون مقهورون ، خلقهم ، وهو قادر على إماتتهم وإحيائهم ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه ، وعن غير واحد من الصحابة أنه قال : " إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة منه مثل الغشى " ، وفي رواية : " إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا " فأخبر في هذا الحديث أنهم يصعقون صعق الغشي ، فإذا جاز عليهم صعق الغشي ، جاز عليهم صعق الموت " (2) . 2- وذهب مقاتل وغيره إلى أنهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت (3) . وأضاف إليه بعض أهل العلم حملة العرش (4) . وصحة هذا متوقف على أحاديث رووها ، وأهل العلم بالحديث لا يصححون مثلها (5) . 3- وذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أن المراد بهم الذين في الجنة من الحور العين والولدان ، وأضاف إليهم أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة ، والضحاك بن مزاحم : خزان الجنة والنار ، وما فيها من الحيات والعقارب (6) . يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وأما الاستثناء فهو متناول لما في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت " (7) . 4- وقد جنح أبو العباس القرطبي صاحب (( المفهم إلى شرح مسلم )) إلى أن المراد بهم الأموات كلهم ، لكونهم لا إحساس لهم ، فلا يصعقون (8) . وما ذهب إليه أبو العباس صحيح إذا فسرنا الصعق بالموت ، فإن الإنسان يموت مرة واحدة ، قال تعالى : ( لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى ) [ الدخان : 56 ] . وقد عقد ابن القيم في كتابه : (( الروح )) فصلاً بيَّن فيه أن أهل العلم قد اختلفوا في موت الأرواح عند النفخ في الصور . والذي رجحه ابن القيم أن موت الأرواح هو مفارقتها للأجساد ، وخروجها منها ، وردَّ قول الذين قالوا بفناء الأرواح وزوالها ، لأن النصوص دلت على أن الأرواح تبقى في البرزخ معذبة أو منعمة (9) . أما إذا فسرنا الصعق بالغشى ، فإن الأرواح تصعق بهذا المعنى ولا تكون داخلة فيمن استثنى الله تبارك وتعالى ، فإن الإنسان قد يسمع أو يرى ما يفزعه ، فيصعق ، كما وقع لموسى عندما رأى الجبل قد زال من مكانه ( وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) [الأعراف : 143] . وقد جاء هذا المعنى صريحاً في بعض النصوص ، ففي حديث أبي هريرة ، عند البخاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (10) . ورواه البخاري أيضاً عن أبي هريرة بلفط : " إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة ، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش ، فلا أدري ، أكذلك كان ، أم بعد النفخة " (11) . ورواه في موضع ثالث بلفظ : " فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله " (12) . وهذا الحديث صريح في أن الموتى يصعقون ، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين يصعق ، فغيره أولى بالصعق . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يصعق صعق غشى هم الشهداء دون غيرهم من الأموات ، وأضاف إليهم آخرون من الأنبياء . والسر في قَصْر هذا على الشهداء والأنبياء – كما يقول شيخ القرطبي : أحمد بن عمر - : " أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين ، وهذه صفة الأحياء في الدنيا ، وإذا كان هذا حال الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى، مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس ، وفي السماء ، وخصوصاً بموسى ، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه روحه ، حتى يرد السلام على كل من يسلم عليه ، إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيبوا عنا بحيث لا ندركهم ، وإن كانوا موجودين أحياء .. وإذا تقرر أنهم أحياء ، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق ، صعق كل من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله " (13) . وذهب إلى أن الشهداء والأنبياء يصعقون صعق غشي البيهقي فقال في صعق الأنبياء: " ووجهه عندي أنهم أحياء عند ربهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا ، ثم لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه ، إلا في ذهاب الاستشعار ، وقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون موسى ممن استثنى الله ، فإن كان منهم فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة بسبب ما وقع في صعقة الطور " (14) . وبناء على هذا الفقه يكون الأنبياء والشهداء من الذين يصعقون ، ولا يكونون داخلين في الاستثناء ، وقد نقل عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد ابن جبير أن الأنبياء والشهداء من الذين استثناهم الله (15) ، وعزاه ابن حجر إلى البيهقي (16) ، فإن كان المراد استثناؤهم من الموت فإن هذا حق، وإن كان المراد استثناؤهم من الصعق الذي يصيب الأموات كما دل عليه حديث موسى فالأمر ليس كذلك . وذهب بعض أهل العلم إلى أن الأولى بالمسلم التوقف في تعيين الذين استثناهم الله ، لأنه لم يصح في ذلك نص يدل على المراد . قال القرطبي صاحب التذكرة : " قال شيخنا أبو العباس : والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، والكل محتمل " (17) . وقال ابن تيمية : " وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين ، فإن الجنة ليس فيها موت ، ومتناول لغيرهم ، ولا يمكن الجزم بكل ما استثناه الله ، فإن الله أطلق في كتابه .. والنبي صلى الله عليه وسلم قد توقف في موسى ، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا ؟ فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يُخْبَر بكل من استثنى الله ، لم يمكننا نحن أن نجزم بذلك ، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء ، وأمثال ذلك مما لم يخبر الله به ، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر ، والله أعلم " (18) . ونقل القرطبي عن الحليمي أنه أبى أن يكون المستثنون هم حملة العرش أو جبرائيل وميكائيل وملك الموت ، أو الولدان والحور العين في الجنة ، أو موسى ، ثم بيَّن سر إنكاره لهذا فقال : " أما الأول ، فإن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات ولا الأرض ، لأن العرش فوق السماوات كلها ، فكيف يكون حملته في السماوات . وأما جبرائيل وميكائيل وملك الموت فمن الصافين المسبحين حول العرش ، وإذا كان العرش فوق السماوات ، لم يكن الاصطفاف حوله في السماوات . وكذلك القول الثاني لأن الولدان والحور العين في الجنان ، والجنان وإن كان بعضها أرفع من بعض ، فإن جميعها فوق السماوات ودون العرش ، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء ، فلا شك أنها بمعزل عما خلق الله تعالى للفناء ، وصَرْفُه إلى موسى لا وجه له ، لأنه قد مات بالحقيقة ، فلا يموت عند نفخ الصور ثانية " (19) . ورد قول الذين قالوا المستثنون هم الأموات : " لأن الاستثناء إنما يكون لمن يمكن دخوله في الجملة ، فأما من لا يمكن دخوله في الجملة فيها ، فلا معنى لاستثنائه منها ، والذين ماتوا قبل نفخ الصور ليسوا بفرض أن يصعقوا فلا وجه لاستثنائهم " (20) . والذي اختاره أن الغشية التي تصيب موسى ليست هي الصعقة التي تهلك الناس وتميتهم ، وإنما هي صعقة تصيب الناس في الموقف بعد البعث ، على أحـد الاحتمالين عنده . ونقل القرطبي عن شيخه أحمد بن عمر أنه ذهب هذا المذهب ، قال القرطبي : " قال شيخنا أحمد بن عمر : وظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن ذلك إنما هو بعد النفخة الثانية نفخة البعث ، ونص القرآن يقتضي أن ذلك الاستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق ، ولما كان هذا قال بعض العلماء : يحتمل أن يكون موسى عليه السلام ممن لم يمت من الأنبياء ، وهذا باطل ، بما تقدم من ذكر موته . وقال القاضي عياض : يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشر ، حين تنشق السماوات والأرض فتستقل الأحاديث والآيات والله أعلم " (21) . وقد جزم ابن القيم رحمه الله تعالى بأن الصعقة التي تحدّث عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، هي صعقة تكون بعد البعث ، وهي المراد بقوله تعالى : ( فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ) (22) [ الطور : 45 ] . والله أعلم بالصواب . -------------------------------- (1) فتح الباري : (6/371) . (2) راجع مجموع فتاوي شيخ الإسلام : (4/260) . (3) الروح لابن القيم : ص 50 ، وفتح الباري : (6/371) . (4) فتح الباري : (6/371) . (5) راجع فتح الباري : (6/371) . (6) الروح لابن القيم : ص 50 ، وفتح الباري : (6/371) . (7) مجموع فتاوى شيخ الإسلام : (4/261) . (8) فتح الباري : (6/370) . (9) الروح ، لابن القيم : ص 49 . (10) صحيح البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب وفاة موسى ، فتح الباري : (6/441) . (11) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، تفسير سورة الزمر ، فتح الباري : (8/551) . (12) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب النفخ في الصور ، فتح الباري : (11/367) . (13) تذكرة القرطبي : 169 . (14) فتح الباري : (11/371) . (15) الروح لابن القيم : 50 . (16) فتح الباري : (11/371) . (17) التذكرة : ص 167 . (18) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : (4/261) . (19) التذكرة للقرطبي : ص 168 . (20) التذكرة : ص168 . (21) التذكرة : ص168 . (22) الروح : ص 52 . |
البَعث والنشور المَبحَث الأول التعريفُ بالبَعث وَالنشور المراد بالبعث المعاد الجسماني ، وإحياء العباد في يومي المعاد ، والنشور مرادف للبعث في المعنى ، يقال : نشر الميت نشوراً إذا عاش بعد الموت ، وأنشره الله أحياه . فإذا شاء الحق تبارك وتعالى إعادة العباد وإحياءهم أمر إسرافيل فنفخ في الصور فتعود الأرواح إلى الأجساد ، ويقوم الناس لرب العالمين ، ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) [الزمر : 68]وقد حدثنا الحق – تبارك وتعالى – عن مشهد البعث العجيب الغريب فقال : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ - قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ - إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ )[يس :51-53] . وقد جاءت الأحاديث مخبرة بأنه يسبق النفخة الثانية في الصور نزول ماء من السماء، فتنبت منه أجساد العباد ، ففي صحيح مسلم عن عبد الله ابن عمرو قال : قال رسول الله صلـى الله عليه وسلم : " ثم ينفخ في الصـور ، فلا يسمعـه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ". قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، قال : فيصعق ، ويصعق الناس . ثم يرسل الله – أو قال : ينزل الله – مطراً كأنه الطَّل أو الظِّلُّ ، ( نعمان أحد رواة الحديث هو الشاك ) فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " (1) . وإنبات الأجساد من التراب بعد إنزال الله ذلك الماء الذي ينبتها يماثل إنبات النبات من الأرض إذا نزل عليها الماء من السماء في الدنيا ، ولذا فإن الله قد أكثر في كتابه من ضرب المثل للبعث والنشور بإحياء الأرض بالنبات غبَّ نزول الغيب ، قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [الأعراف : 57] . وقال في موضع آخر : ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ) [ فاطر : 9 ] . ولاحظ في كلا الموضعين قوله : ( كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى ) ، ( كَذَلِكَ النُّشُورُ ) ، فإنهما يدلان على المماثلة والمشابهة بين إعادة الأجسام بإنباتها من التراب بعد إنزال الماء قبيل النفخ في الصور ، وبين إنبات النبات بعد نزول الماء من السماء . ونحن نعلم أن النبات يتكون من بذور صغيرة ، تكون في الأرض ساكنة هامدة ، فإذا نزل عليها الماء تحركت الحياة فيها ، وضربت بجذورها في الأرض ، وبسقت بسوقها إلى السماء ، فإذا هي نبتة مكتملة خضراء . والإنسان يتكون في اليوم الآخر من عظم صغير ، عندما يصيبه الماء ينمو نمو البقل ، هذا العظم هو عجب الذنب ، وهو عظم الصلب المستدير الذي في أصل العجز ، وأصل الذنب . ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بين النفختين أربعون ، ثم ينزل من السماء ماء ، فينبتون كما ينبت البقل ، وليس في الإنسان شيء إلا بَلي ، إلا عظم واحد ، وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة " . ولمسلم طرف في عجب الذنب ، قال : " إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً، فيه يركب يوم القيامة ، قالوا : أي عَظْم هو يا رسول الله ؟ قال : عجب الذنب " . وفي رواية له وللموطأ وأبي داود والنسائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب ، منه خلق ، وفيه يركب " (2) . وقد دلت النصوص الصحيحة أن أجساد الأنبياء لا يصيبها البلى والفناء الذي يصيب أجساد العباد ، ففي الحديث الذي يرويه أبو داود ، وصححه ابن خزيمة وغيره : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " (3) . -------------------------------- (1) صحيح مسلم : (4/2259) ، ورقمه : 2940 . (2) جامع الأصول : (10/421) ، ورقمه : 7941 . (3) انظر فتح الباري : (6/488) . |
البَعث خَلق جَديد يعيد الله العباد أنفسهم ، ولكنهم يخلقون خلقاً مختلفاً شيئاً ما عما كانوا عليه في الحياة الدنيا ، فمن ذلك أنهم لا يموتون مهما أصابهم البلاء ( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) [ إبراهيم : 17 ] ، وفي الحديث الذي يرويه الحاكم بإسناد صحيح عن عمرو بن ميمون الأودي قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : " يا بني أَوْدٍ ، إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعلمون المعاد إلى الله ، ثم إلى الجنة أو النار ، وإقامة لا ظعن فيه ، وخلود لا موت ، في أجساد لا تموت " ورواه الطبراني في ((الكبير)) و ((الأوسط)) بنحوه (1) .ومن ذلك إبصار العباد ما لم يكونوا يبصرون ، فإنهم يبصرون في ذلك اليوم الملائكة والجن ، وما الله به عليم ، ومن ذلك أن أهل الجنة لا يبصقون ولا يتغوطون ولا يتبولون . وهذا لا يعني أن الذين يبعثون في يوم الدين خلق آخر غير الخلق الذين كانوا في الدنيا ، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى : " النشأتان نوعان تحت جنس : يتفقان ويتماثلان ويتشابهان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه آخر ، ولهذا جعل المعاد هو المبدأ ، وجعله مثله أيضاً . فباعتبار اتفاق المبدأ والمعاد فهو هو ، وباعتبار ما بين النشأتين من الفرق فهو مثله ، وهكذا كل ما أعيد ، فلفظ الإعادة يقتضي المبدأ والمعاد .. " (2) . -------------------------------- (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة:(4/231)،ورقم الحديث: 1668 . (2) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : (17/253) وقد أطال الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المعنى الذي نقلناه عنه . فارجع إليه إن شئت المزيد من الإيضاح والبيان . |
أول من تنشق عنه الأرض أول من يبعث وتنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع .. وأول مشفع " (1) .وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " استب رجل من المسلمين ، ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمد على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فرفع المسلم عند ذلك يده ، فلطم اليهودي ، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم ، فقال : لا تُخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق ، أو كان ممن استثنى الله عز وجل " . وفي رواية لهما : " ... فإنه ينفخ في الصور ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من يبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش ، فلا أدري : أحوسب بصعقة الطور ، أم بعث قبلي ؟ " (2) . -------------------------------- (1) صحيح مسلم ، كتاب الفضائل ، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم : (4/1782) ورقمه : 2278 . (2) جامع الأصول : (8/513) ، ورقمه : (6308) . |
حشر الخلائق جَميعاً إلى الموقف العظيم سمى الله يوم الدين بيوم الجمع ، لأن الله يجمع العباد فيه جميعاً : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) [ هود : 103 ] ، ويستوي في هذا الجمع الأولون والآخرون ( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ) [ الواقعة : 49-50 ] .وقدرة الله تحيط بالعباد ، فالله لا يعجزه شيء ، وحيثما هلك العباد فإن الله قادر على الإتيان بهم ، إن هلكوا في أجواز الفضاء ، أو غاروا في أعماق الأرض ، وإن أكلتهم الطيور الجارحة أو الحيوانات المفترسة ، أو أسماك البحار ، أو غيبوا في قبورهم في الأرض، كل ذلك عند الله سواء : ( أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ البقرة : 148 ] . وكما أن قدرة الله محيطة بعباده تأتي بهم حيثما كانوا ، فكذلك علمه محيط بهم ، فلا ينسى منهم أحد ، ولا يضلُّ منهم أحد ، ولا يشذُّ منهم أحد ، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى ، وعَدَّهم عداً ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا - لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا - وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) [ مريم : 93-95 ] ، ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) [ الكهف : 47 ] . وهذه النصوص بعمومها تدل على حشر الخلق جميعاً الإنس والجن والملائكة ، ولا حرج على من فقه منها أن الحشر يتناول البهائم أيضاً . وقد اختلف أهل العلم في حشر البهائم ، فذهب ابن تيمية – رحمه الله – إلى أن ذلك كائن . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " وأما البهائم فجميعها يحشرها الله سبحانه ، كما دل عليه الكتاب والسنة . قال تعالى : ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) [ الأنعام : 38 ] وقال تعالى : ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) [ التكوير : 5 ] ، وقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ ) [الشورى : 29 ] ، وحرف ( إذا ) إنما يكون لما يأتي لا محالة (1) . وحكى القرطبي خلاف أهل العلم في حشر البهائم ورجح أن ذلك كائن للأخبار الصحيحة في ذلك ، قال القرطبي : " واختلف الناس في حشر البهائم ، وفي قصاص بعضها من بعض ، فروي عن ابن عباس أن حشر البهائم موتها ، وقاله الضحاك . وروي عن ابن عباس في رواية أخرى أن البهائم تحشر وتبعث ، وقاله أبو ذر وأبو هريرة وعمرو بن العاص ، والحسن البصري وغيرهم ، وهو الصحيح ، لقوله تعالى : ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) ، ( ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) [ الأنعام : 38 ] . قال أبو هريرة : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة : البهائم ، والطير ، والدواب ، وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً ، فذلك قوله تعالى حكاية عن الكفار ( وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا ) [ النبأ : 40 ] ونحوه " (2) . -------------------------------- (1) مجموع فتاوي شيخ الإسلام : (4/248) . (2) تذكرة القرطبي : 273 . |
صِفَةُ حشر العبَاد يحشر العباد حفاة عراة غرلاً ، أي : غير مختونين ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً " ثم قرأ ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) (1) [ الأنبياء : 104 ] .وعندما سمعت عائشة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال : " يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض " متفق عليه (2) . وقد جاء في بعض النصوص أن كل إنسان يبعث في ثيابه التي مات فيها ، فقد روى أبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد، فلبسها ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها " وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ، وقال الشيخ ناصر الدين فيه : وهو كما قالا (3) . وقد وفق البيهقي بين هذا الحديث وسابقه بثلاثة أوجه : الأول : أنها تبلى بعد قيامهم من قبورهم ، فإذا وافَوْا الموقف يكونون عراة ، ثم يلبسون من ثياب الجنة . الثاني : أنه إذا كسي الأنبياء ثم الصديقون ، ثم من بعدهم على مراتبهم فتكون كسوة كل إنسان من جنس ما يموت فيه ، ثم إذا دخلوا الجنة لبسوا من ثياب الجنة . الثالث : أن المراد بالثياب ها هنا الأعمال ، أي يبعث في أعماله التي مات فيها من خير أو شر ، قال الله تعالى : ( وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ) [ الأعراف : 26 ] ، وقال : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [ المدثر : 4 ] . واستشهد البيهقي على هذا الجواب الأخير بحديث الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يبعث كل عبد على ما مات عليه " (4) . وحديث جابر هذا رواه مسلم في صحيحه (5) ، ولا يفقه من أن العبد يبعث في ثيابه التي كُفِّنَ فيها أو مات فيها ، وإنما يبعث على الحال التي مات عليها من الإيمان والكفر ، واليقين والشك ، كما يبعث على العمل الذي كان يعمله عند موته ، يدلًُّ على هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أراد الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على أعمالهم " (6) . فالذي يموت وهو محرم يبعث يوم القيامة ملبياً ، ففي صحيح البخاري ومسلم ومسند أحمد عن عبد الله بن عباس قال : إن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته (7) ناقته وهو محرم فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تُمِسُّوه بطيب ، ولا تخمروا رأسه (8) ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً " (9) . والشهيد يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب ، اللون لون الدم والريح ريح المسك . ومن هنا استحب تلقين الميت لا إله إلا الله ، لعله يموت على التوحيد ، ثم يبعث يوم القيامة ناطقاً بهذه الكلمة الطيبة . -------------------------------- (1) مشكاة المصابيح : (3/75) ، ورقم الحديث : 5535 . (2) مشكاة المصابيح : (3/57) ، ورقم الحديث : 5536 . (3) سلسلة الأحاديث الصحيحة : (4/234) ، ورقم الحديث : 1671 . (4) النهاية لابن كثير : (1/288) . (5) رواه مسلم : (4/2206) ، ورقم الحديث : 2878 . (6) صحيح مسلم (2/2206) ورقم الحديث : 2879 . (7) أي أسقطته فكسرت عنقه . (8) أي لا تغطوا رأسه . (9) مشكاة المصابيح : (1/520) ، ورقم الحديث : 1637 . |
كِسَوة العبَاد في يَوم المعَاد ذكرنا فيما سبق أن الله يحشر العباد يوم القيامة حفاة عراة غرلاً ، كما صحت بذلك الأحاديث ، ثم يكسى العباد ، فالصالحون يكسون الثياب الكريمة ، والطالحون يسربلون بسرابيل القطران ، ودروع الجرب ، ونحوها من الملابس المنكرة الفظيعة .وأول من يكسى من عباد الله نبي الله إبراهيم خليل الرحمن ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل " (1) . قال ابن حجر : " وأخرج البيهقي من طريق ابن عباس نحو حديث الباب وزاد : " وأول من يكسى من الجنة إبراهيم ، يكسى حلة من الجنة ، ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش ، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر " (2) . وذكر العلماء أن تقديم إبراهيم على غيره بالكسوة في يوم القيامة ، لأنه لم يكن في الأولين والآخرين أخوف لله منه ، فتعجل له الكسوة أماناً له ليطمئن قلبه ، ويحتمل لأنه – كما جاء في الحديث – أول من لبس السراويل إذا صلى مبالغة في التستر وحفظاً لفرجه من أن يماسَّ مصلاه ، ففعل ما أمر به ، فجزي بذلك أن يكون أول من يستر يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون الذين ألقوه في النار جردوه ، ونزعوا ثيابه على أعين الناس ، كمن يفعل بمن يراد قتله ، فجزي بكسوته في يوم القيامة أول الناس على رؤوس الأشهاد، وهذا أحسنها " (3) . -------------------------------- (1) صحيح البخاري ، كتاب الرقاق ، باب الحشر ، فتح الباري : (11/377) ، ورواه أيضاً في كتاب الأنبياء ، انظر فتح الباري : (6/387) . (2) فتح الباري : (11/384) . (3) تذكرة القرطبي : 209 . |
أرض المحشر الأرض التي يحشر العباد عليها في يوم القيامة أرض أخرى غير هذه الأرض ، قال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) [إبراهيم : 48] . وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن صفة هذه الأرض الجديدة التي يكون عليها الحشر ، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي " قال سهل أو غيره : " ليس فيها معلم لأحد " (1) .قال الخطابي : العفر : بياض ليس بناصع . وقال عياض : العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلاً . وقال ابن فارس : معنى عفراء خالصة البياض (2) . والنَقِيّ : فتح النون وكسر القاف ، أي : الدقيق النقي من الغش والنخال (3) . والمعْلم : العلامة التي يُهتدى بها إلى الطريق ، كالجبل والصخرة ، أو ما يضعه الناس دالاً على الطرقات ، أو على قسمة الأراضي . وقد جاءت نصوص كثيرة عن عدد منا لصحابة تفيد معنى الحديث الذي سقناه هنا ورواه صاحبا الصحيحين ، فقد أخرج عبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله ابن مسعود في قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) [ إبراهيم : 48 ] . قال : تبدل الأرض أرضاً كأنها الفضة لم يسفك عليها دم حرام ، ولم يعمل عليها خطيئة ، ورجاله رجال الصحيح ، وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوع . وقال : الموقوف أصح (4) . وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ : " أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة " ورجاله موثقون أيضاً (5) . وعند عبد بن حميد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال : بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا تطوى ، وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها . وفي حديث الصور الطويل : " تبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات ، فيبسطها ويسطحها ، ويمدّها مدَّ الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً ، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدَّلة ، في مثل مواضعهم من الأولى ، ما كان في بطنها كان في بطنها ، وما كان على ظهرها كان على ظهرها " (6) . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الذي يبدل من الأرض إنما هو صفاتها فحسب ، فمن ذلك حديث عبد الله بن عمرو الموقوف عليه ، قال : " إذا كان يوم القيامة مُدت الأرض مد الأديم ، وحشر الخلائق " . ومن ذلك حديث جابر رفعه : تمدُّ الأرض مدّ الأديم ، ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه " . ورجاله ثقات ، إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه (7) . ومنها حديث ابن عباس في تفسير قوله تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) [إبراهيم : 48] ، قال : " يزاد فيها ، وينقص منها ، ويذهب آكامها وجبالها ، وأوديتها، وشجرها ، وتمد مد الأديم العكاظي " (8) . الوقت الذي تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات : أفادنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوقت الذي يتم فيه هذا التبديل هو وقت مرور الناس على الصراط أو قبل ذلك بقليل ، ففي صحيح مسلم عن عائشة قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ) [إبراهيم : 48] ، فأين يكون الناس يا رسول الله ؟ فقال : على الصراط " (9) . وفي صحيح مسلم أيضاً عن ثوبان أن حبراً من أحبار اليهود سأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم في الظلمة دون الجسر " (10) ، والمراد بالجسر الصراط . -------------------------------- (1) رواه البخاري في كتاب الرقاق ، باب يقبض الله الأرض ، فتح الباري : (11/372) . ومسلم في كتاب صفات المنافقين ، باب البعث والنشور . (4/215) ورقم الحديث : 2790 والسياق للبخاري . (2) فتح الباري : (11/375) . (3) المصدر السابق . (4) فتح الباري : (11/375) . (5) فتح الباري : (11/375) . (6) فتح الباري : (11/375) . (7) فتح الباري : (11/376) . (8) فتح الباري : (11/376) . (9) صحيح مسلم ، كتاب صفات المنافقين ، باب البعث والنشور ، (4/2150) ورقمه (2791) . (10) صحيح مسلم ، كتاب الحيض ، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة ، (1/252) ورقمه (315) . |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 06:12 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.