![]() |
الكبائر
أقدم لحضراتكم كتاب الكبائر للامام الذهبى أرجو أن تستفيدوا منه
مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم ـ الحمد لله رب العالمين ، و لا عدوان إلا على الظالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد سيد المرسلين و إمام المتقين و على آله و صحبه أجمعين . أما بعد فهذا كتاب مشتمل على ذكر جمل في الكبائر و المحرمات و المنهيات الكبائر : ما نهى الله و رسوله عنه في الكتاب و السنة و الأثر عن السلف الصالحين ، و قد ضمن الله تعالى في كتابه العزيز لمن اجتنب الكبائر و المحرمات أن يكفر عنه الصغائر من السيئات لقوله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم و ندخلكم مدخلاً كريماً " . فقد تكفل الله تعالى بهذا النص لمن اجتنب الكبائر أن يدخله الجنة . و قال تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و إذا ما غضبوا هم يغفرون " . و قال تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة" " . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الصلوات الخمسة و الجمعة إلى الجمعة ، و رمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " ، فتعين علينا الفحص عن الكبائر ، ما هي لكي يجتنبها المسلمون ، فوجدنا العلماء رحمهم الله تعالى قد اختلفوا فيها ، فقيل هي سبع . و احتجوا بقول النبي صلى الله تعالى عليه و على آله و سلم " اجتنبوا السبع الموبقات " فذكر منها الشرك بالله و السحر ، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، و أكل مال اليتيم ، و أكل الربا ، و التولي يوم الزحف ، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات . متفق عليه . و قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع ، و صدق و الله ابن عباس . و أما الحديث فما فيه حصر الكبائر ، و الذي يتجه و يقوم عليه الدليل أن من ارتكب شيئاً من هذه العظائم مما فيه حد في الدنيا كالقتل و الزنا و السرقة ، أو جاء فيه وعيد في الآخرة من عذاب أو غضب أو تهديد ، أو لعن فاعله على لسان نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فإنه كبيرة . و لا بد من تسليم أن بعض الكبائر أكبر من بعض . ألا ترى أنه صلى الله عليه و سلم عد الشرك بالله من الكبائر ، مع أن مرتكبه مخلد في النار و لا يغفر له أبداً . قال الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء " . |
الشرك بالله الكبيرة الأولى : فأكبر الكبائر الشرك بالله تعالى و هو نوعان : أحدهما ـ أن يجعل لله نداً و يعبد غيره من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو نجم أو ملك أو غير ذلك ، و هذا هو الشرك الأكبر الذي ذكره الله عز و جل قال الله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء " و قال الله تعالى : " إن الشرك لظلم عظيم " . و قال الله تعالى : " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار " . و الآيات في ذلك كثيرة . فمن أشرك بالله ثم مات مشركاً فهو من أصحاب النار قطعاً ، كما أن من آمن بالله و مات مؤمناً فهو من أصحاب الجنة و إن عذب بالنار .و في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ قالوا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله و عقوق الوالدين ، و كان متكئاً فجلس فقال : ألا و قول الزور ، ألا و شهادة الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت . و قال صلى الله عليه و سلم " اجتنبوا السبع الموبقات " فذكر منها الشرك بالله ، و قال صلى الله عليه و سلم " من بدل دينه فاقتلوه " الحديث . و النوع الثاني من الشرك : الرياء بالأعمال كما قال الله تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربه أحدا " . أي لا يرائي بعمله أحداً . و قال صلى الله عليه و سلم : " إياكم و الشرك الأصغر ، قالوا يا رسول الله و ما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء . يقول الله تعالى يوم يجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤونهم بأعمالكم في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " و قال صلى الله عليه و سلم " يقول الله : من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك و أنا منه بريء " . و قال " من سمع سمع الله به و من رايا رايا الله به " . و عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه و آله و سلم قال : " رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع و العطش ، و رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر " يعني أنه إذا لم يكن الصلاة و الصوم لوجه الله تعالى فلا ثواب له ، كما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " مثل الذي يعمل للرياء و السمعة كمثل الذي يملأ كيسه حصى ثم يدخل السوق ليشتري به ، فإذا فتحه قدام البائع فإذا هو حصى و ضرب به وجهه ، و لا منفعة له في كيسه سوى مقالة الناس له ما أملا كيسه و لا يعطي به شيئاً . فكذلك الذي يعمل للرياء و السمعة فليس له من عمله سوى مقالة الناس و لا ثواب له في الآخرة " . قال الله تعالى : " و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا " . يعني الأعمال التي عملوها لغير وجه الله تعالى أبطلنا ثوابها و جعلناها كالهباء المنثور و هو الغبار الذي يرى في شعاع الشمس . و روى عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " يؤمر بفئام ـ أي بجماعات ـ من الناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها و استنشقوا رائحتها ، و نظروا إلى قصورها و إلى ما أعد لأهلها فيها ، نودوا أن اصرفوهم عنها فإنهم لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة و ندامة ما رجع الأولون و الآخرون بمثلها ، فيقولون : ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثواب ما أعددت لأوليائك كان أهون علينا . فيقول الله تعالى : ذلك ما أردت بكم . كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظام ، و إذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم . هبتم الناس و لم تهابوني و أجللتم الناس و لم تجلوني ، و تركتم للناس و لم تتركوا لي ـ يعني لأجل الناس ـ فاليوم أذيقكم أليم عقابي مع ما حرمتكم من جزيل ثوابي " . و سأل رجل رسول الله ما النجاة ؟ فقال صلى الله عليه و سلم : " أن لا تخادع الله . قال : و كيف يخادع الله ؟ قال : أن تعمل عملاً أمرك الله و رسوله به و تريد به غير وجه الله . و اتق الرياء فإنه الشرك الأصغر ، و إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا مرائي ، يا غادر ، يا فاجر ، يا خاسر ضل عملك و بطل أجرك ، فلا أجر لك عندنا ، اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع " . و سئل بعض الحكماء رحمهم الله من المخلص : فقال : المخلص الذي يكتم حسانته كما يكتم سيئاته . و قيل لبعضهم : ما غاية الإخلاص ؟ قال : أن لا تحب محمدة الناس . و قال الفضيل بن عباس رضي الله عنه : ترك العمل لأجل الناس رياء ، و العمل لأجل الناس شرك ، و الإخلاص أن يعافيك الله منهما . اللهم عافنا منهما و اعف عنا . |
الإصرار على ترك صلاة الجمعة و الجماعة من غير عذر الكبيرة السادسة و الستون : الإصرار على ترك صلاة الجمعة و الجماعة من غير عذر قال الله تعالى : " يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون " . قال كعب الأحبار : ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات . و قال سعيد بن المسيب إمام التابعين رحمه الله : كانوا يسمعون حي على الصلاة حي على الفلاح فلا يجيبون و هم سالمون أصحاء . و في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " . و في رواية لمسلم من حديث أبي هريرة : " لقد هممت أن آمر فتيتي أن يجمعوا لي حزماً من حطب ثم آتي قوماً يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم " . و في هذا الحديث الصحيح و الآية التي قبله وعيد شديد لمن يترك صلاة الجماعة من غير عذر فقد روى أبو داود في سننه " بإسناد إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سمع المنادي فلم يمنعه من إتيانه عذر ـ قيل و ما العذر يا رسول الله قال خوف أو مرض ـ لم تقبل منه الصلاة التي صلى " يعني في بيته . و روى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل يصوم النهار و يقوم الليل و لا يصلي في جماعة و لا يجمع ، فقال : إن مات هذا فهو في النار . و روى مسلم " أن رجلاً أعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فرخص له ، فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم ، قال : فأجب " . و في رواية أبي داود " أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قال : يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام و السباع و أنا ضرير البصر فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : تسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ؟ قال : نعم . قال : فأجب ، فحي هلا " . و في رواية " أنه قال : يا رسول الله إني ضرير شاسع الدار و لي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة " : و قوله ( فحي هلا ) أي تعال و أقبل . و روى الحاكم في مستدركه على شرط الصحيحين " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر فلا صلاة له . قالوا و ما العذر يا رسول الله ؟ قال : خوف أو مرض " . و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " لعن الله ثلاثة ـ من تقدم قوماً و هم له كارهون ، و امرأة باتت و زوجها عليها ساخط ، و رجلاً سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب " . قال أبو هريرة : لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجيب . و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ، قيل من جار المسجد ؟ قال : من يسمع الآذان ، قال أيضاً : من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر . و قال ابن مسعود رضي الله عنه : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن ، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه و سلم سنن الهدى ، و إنها من سنن الهدى ، و لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، و لو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، و لقد رأيتنا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض . و لقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف ، يعني يتكىء عليهما من ضعفه حرصاً على فضلها و خوفاً من الإثم في تركها . ( فصل ) : و فضل صلاة الجماعة عظيم كما في تفسير قوله تعالى : " و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " . إنهم المصلون الصلوات الخمس في الجماعات . و في قوله تعالى : " و نكتب ما قدموا و آثارهم " . أي خطاهم . و في الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته أحدهما تحط خطيئة و الأخرى ترفع درجة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه الذي صلى فيه يقولون : اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه أو يحدث فيه " . و قال صلى الله عليه و سلم : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا و يرفع به الدرجات ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إسباغ الوضوء على المكاره ، و كثرة الخطا إلى المساجد ، و انتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط فذلكم الرباط " . رواه مسلم . |
إفطار يوم من رمضان بلا عذر الكبيرة السادسة : إفطار يوم من رمضان بلا عذر قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر " . و ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " بني الإسلام على خمس :شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و إقام الصلاة ، و إيتاء الزكاة ، و حج البيت ، و صوم رمضان " . و قال صلى الله عليه و سلم :" من أفطر يوماً من رمضان بلا عذر لم يقضه صيام الدهر و إن صامه " ، و عن ابن عباس رضي الله عنهما " عري الإسلام و قواعد الدين ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله و الصلاة و صوم رمضان " فمن ترك واحدة منهن فهو كافر . نعوذ بالله من ذلك . |
أكل الحرام و تناوله على أي وجه كان الكبيرة الثامنة و العشرون : أكل الحرام و تناوله على أي وجه كان قال الله عز و جل : " و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " . أي لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني باليمين الباطلة الكاذبة يقتطع بها الرجل مال أخيه بالباطل و الأكل بالباطل على وجهين ، أحدهما أن يكون على جهة الظلم نحو الغصب و الخيانة و السرقة . والثاني على جهة الهزل و اللعب كالذي يؤخذ في القمار و الملاهي و نحو ذلك ، و في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة " . و في صحيح مسلم حين ذكر النبي صلى الله عليه و سلم : " الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب و مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام ، و غذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك " و " عن أنس رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال صلى الله عليه و سلم : يا أنس أطب كسبك تجب دعوتك ، فإن الرجل ليرفع اللقمة من الحرام إلى فيه فلا يستجاب له دعوة أربعين يوماً " ، و روى البيهقي باسناده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، و إن الله يعطي الدنيا من يحب و من لا يحب و لا يعطي الدين إلا من يحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه و لا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه و لا يتصدق منه فيقبل منه و لا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار . إن الله لا يمحو السيء بالسيء و لكن يمحو السيء بالحسن " . و " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الدنيا حلوة خضرة من اكتسب فيها مالاً من حله و أنفقه في حقه أثابه الله و أورثه جنته ، و من اكتسب فيها مالاً من غير حله و أنفقه في غير حقه أدخله الله تعالى دار الهوان . و رب متخوض فيما اشتهت نفسه من الحرام له النار يوم القيامة " . و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال الله من أي باب أدخله النار " . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لأن يجعل أحدكم في فيه تراباً خير من أن يجعل في فيه حراماً " . و قد روي عن يوسف بن أسباط رحمه الله قال : إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه : انظروا من أين مطعمه ، فإن كان مطعم سوء قال : دعوه يتعب و يجتهد فقد كفاكم نفسه . إن إجهاده مع أكل الحرام لا ينفعه و يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه و سلم " عن الرجل الذي مطعمه حرام و مشربه حرام و ملبسه حرام و غذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ " . و قد روي في حديث أن ملكاً على بيت المقدس ينادي كل يوم و كل ليلة : من أكل حراماً لم يقبل الله منه صرفاً و لا عدلا . الصرف : النافلة ، و العدل : الفريضة . و قال عبد الله بن المبارك : ( لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف و مائة ) . و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من حج بمال حرام فقال لبيك ، قال ملك : لا لبيك و لا سعديك حجك مردود عليك " . و روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من اشترى ثوباً بعشرة دراهم و في ثمنه درهم من حرام لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه " . و قال وهب بن الورد : لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام . و قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا يقبل الله صلاة امرىء و في جوفه حرام حتى يتوب إلى الله تعالى منه ) . و قال سفيان الثوري : من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول ، و الثوب لا يطهره إلا الماء ، و الذنب لا يكفره إلا الحلال ، و قال عمر رضي الله عنه : ( كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام ) . و " عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ، لا يدخل الجنة جسد غذي بالحرام " . و عن زيد بن أرقم قال : كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج ـ أي قد كاتبه على مال ـ و كان يجيئه كل يوم بخراجه فيسأله : من أين أتيت بها ؟ فإن رضيه أكله و إلا تركه . قال فجاءه ذات ليلة بطعام و كان أبو بكر صائماً فأكل منه لقمة و نسي أن يسأله ، ثم قال له : من أين جئت بهذا ؟ فقال: كنت تكهنت لأناس بالجاهلية و ما كنت أحسن الكهانة ، إلا أني خدعتهم . فقال أبو بكر : أف لك كدت تهلكني ! ثم أدخل يده في فيه فجعل يتقيأ و لا يخرج ، فقيل له : إنها لا تخرج إلا بالماء ، فدعا بماء فجعل يشرب و يتقيأ حتى قاء كل شيء في بطنه . فقيل له : يرحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟ فقال رضي الله عنه : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها . إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : " كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به " . فخشيت أن ينبت بذلك في جسدي من هذه اللقمة . و قد تقدم قوله صلى الله عليه و سلم : " لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام " . و إسناده صحيح . قال العلماء رحمهم الله : و يدخل في هذا الباب : المكاس ، و الخاتن ، و الزغلي ، و السارق ، و البطال ، و آكل الربا و موكله ، و آكل مال اليتيم ، و شاهد الزور ، و من استعار شيئاً فجحده ، و آكل الرشوة ، و منقص الكيل و الوزن ، و من باع شيئاً فيه عيب فغطاه ، و المقامر ، و الساحر ، و المنجم ، و المصور ، و الزانية ، و النائحة و العشرية ، و الدلال ، إذا أخذ أجرته بغير إذن من البائع ، و مخبر المشتري بالزائد و من باع حراً فأكل ثمنه . ( فصل ) روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " يؤتى يوم القيامة بأناس معهم من الحسنات كأمثال جبل تهامة ، حتى إذا جيء بهم جعلها الله هباءً منثورا ثم يقذف بهم في النار . فقيل يا رسول الله : كيف ذلك ؟ قال : كانوا يصلون و يصومون ، و يزكون ، و يحجون ، غير أنهم كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه فأحبط الله أعمالهم " . و عن بعض الصالحين أنه رؤي بعد موته في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : خيراً ، غير أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها . فنسأل الله تعالى العفو و العافية و التوفيق لما يحب و يرضى إنه جواد كريم رءوف رحيم . ( موعظة ) عباد الله أما الليالي و الأيام تهدم الآجال ؟ أما مآل المقيم في الدنيا إلى زوال ، أما آخر الصحة يؤول إلى الإعتلال ، أما غاية السلامة نقصان الكمال أما بعد استقرار المنى هجوم الآجال ، أما أنبئتم عن الرحيل و قد قرب الإنتقال أما بانت لكم العبر و ضربت لكم الأمثال ؟ و عزيز ناعم ذل له كل صعب المرتقى وعر المرام فكساه بعد لين ملبس خشناً بالرغم منه في الرغام و وجوه ناضرات بدلت بعد لون الحسن لوناً كالقتام و شموس طالعات أفلت بعد ذاك النور منها بالظلام و منيف شامخ بنيانه لين الأعطاف مهتز القوام أف للدنيا فما شيمتها غير نقض العقد أو خفر الذمام فاستعدوا الزاد تنجوا و اعملوا صالحاً من قبل تقويض الخيام يا متعلقاً بزخرف يروق بقاؤه كلمح البروق ، يا مضيعاً في الهوى واجبات الحقوق ، تبارز الخالق و تستحي من المخلوق ؟ يا مؤثراً أعلى العلالي ساتراً ذلك الفسوق ، ألا سترى ذلك الفسوق ! يا متولهاً مهاد الهوى و هو في سجن الردى مرموق ، إبك على نفسك العليلة فإنك بالبكاء محقوق ، عجباً لمن رأى فعل الموت لصحبه ، و أيقن بتلفه و ما قضى نحبه ، و سكن الإيمان بالآخرة في قلبه ، و نام غافلاً على جنبه ، و نسي جزاءه على جرمه و ذنبه و أعرض إلى ربه من الهوى عن ربه ، كأني به و قد سقي كأس حمام يستغيث من شربه ، و أفرده الموت عن أهله و سربه ، و نقله إلى قبره ذل فيه بعد عجبه . فياذا اللب جز على قبره و عج به . لقد خرقت المواعظ المسامع و ما أراه انتفع به السامع ، لقد بدا نور المطالع لكنه أعمى المطالع ، و لقد بانت العبر بآثار الغير لمن اغتر بالمصارع . فما بالها لا تسكب المدامع ؟ يا عجبا لقلب عند ذكر الحق غير خاشع ، لقد نشبت فيه مخالب المطامع . يا من شيبه قد أتى هل ترى ما مضى من العمر براجع ؟ انتبه لما بقي و انته و راجع ، فالهول عظيم و الحساب شديد و الطريق شاسع ، إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع . |
قذف المحصنات الكبيرة الحادية و العشرون : قذف المحصنات قال الله تعالى : " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " . و قال الله تعالى : " و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبداً و أولئك هم الفاسقون " . بين الله تعالى في الآية أن من قذف امرأة محصنة حرة عفيفة عن الزنا و الفاحشة إنه ملعون في الدنيا و الآخرة و له عذاب عظيم ، و عليه في الدنيا الحد ثمانون جلدة و تسقط شهادته و إن كان عدلاً . و في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " فذكر منها قذف المحصنات الغافلات المؤمنات و القذف أن يقول لامرأة أجنبية حرة عفيفة مسلمة : يا زانية ، أو يا باغية ، أو يا **** . أو يقول لزوجها : يا زوج ال**** ، أو يقول لولدها : يا ولد الزانية أو يا ابن ال**** . أو يقول لبنتها يا بنت الزانية أو يا بنت ال**** . فإن ال**** عبارة عن الزانية ، فإذا قال ذلك أحد من رجل أو امرأة كمن قال لرجل : يا زاني ، أو لصبي حر يا علق ، أو يا منكوح ، وجب عليه الحد ثمانون جلدة ، إلا أن يقيم بينة بذلك ، و البينة كما قال الله : أربعة شهداء يشهدون على صدقه فيما قذف به تلك المرأة أو ذاك الرجل ، فإن لم يقم بينة جلد إذا طالبته بذلك التي قذفها أو إذا طالبه بذلك الذي قذفه ، و كذلك إذا قذف مملوكه أو جاريته بأن قال لمملوكه : يا زاني أو لجاريته يا زانية أو يا باغية أو يا **** ، لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " و كثير من الجهال واقعون في هذا الكلام الفاحش الذي عليهم فيه العقوبة في الدنيا و الآخرة و لهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها النار أبعد مما بين المشرق و المغرب . فقال له معاذ بن جبل يا رسول الله و إنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : ثكلتك أمك يا معاذ و هل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ؟ " و في الحديث : " من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " . و قال الله تبارك و تعالى في كتابه العزيز : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " و قال عقبة بن عامر : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال : " أمسك عليك لسانك و ليسعك بيتك ، و ابك على خطيئتك ، و إن أبعد الناس إلى الله القلب القاسي " . و قال صلى الله عليه و سلم : " إن أبغض الناس إلى الله الفاحش المبذي الذي يتكلم بالفحش و رديء الكلام " ، وقانا الله و إياكم شر ألسنتنا بمنه و كرمه إنه جواد كريم . |
أكل مال اليتيم و ظلمه الكبيرة الثالثة عشرة : أكل مال اليتيم و ظلمه قال الله تعالى : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً " ، و قال الله تعالى : " و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " . و " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في المعراج : فإذا أنا برجال و قد وكل بهم رجال يفكون لحالهم ، و آخرون يجيئون بالصخور من النار فيقذفونها بأفواههم و تخرج من أدبارهم . فقلت : يا جبريل من هن هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " رواه مسلم . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يبعث الله عز و جل قوماً من قبورهم تخرج النار من بطونهم تأجج أفواههم ناراً ، فقيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : ألم تر أن الله تعالى يقول : " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً " " . و قال السدي رحمه الله تعالى : يحشر آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة و لهب النار يخرج من فيه و من مسامعه و أنفه و عينه كل من رآه يعرفه أنه آكل مال اليتيم . قال العلماء : فكل ولي ليتيم إذا كان فقيراً فأكل من ماله بالمعروف بقدر قيامه عليه في مصالحه و تنمية ماله فلا بأس عليه ، و ما زاد على المعروف فسحت حرام لقول الله تعالى : " و من كان غنياً فليستعفف و من كان فقيراً فليأكل بالمعروف " . و في الأكل بالمعروف أربعة أقوال : أحدهما : أنه الأخذ على وجه القرض و الثاني : الأكل بقدر الحاجة من غير إسراف ، و الثالث : أنه أخذ بقدر إذا عمل لليتيم عملاً ، و الرابع : أنه الأخذ عند الضرورة فإن أيسر قضاه و إن لم يوسر فهو في حل . و هذه الأقوال ذكرها ابن الجوزي في تفسيره . و في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " أنا و كافل اليتيم في الجنة هكذا و أشار بالسبابة و الوسطى و فرج بينهما " . و في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه و سلم قال : " كافل اليتيم له أو لغيره أنا و هو كهاتين في الجنة و أشار بالسبابة و الوسطى " . كفالة اليتيم هي القيام بأموره و السعي في مصالحه من طعامه و كسوته و تنمية ماله إن كان له مال ، و إن كان لا مال له أنفق عليه و كساه ابتغاء وجه الله تعالى و قوله في الحديث : له أو لغيره ـ أي سواء كان اليتيم قرابة أو أجنبياً منه ، فالقرابة مثل أن يكفله جده أو أخوه أو أمه أو عمه أو زوج أمه أو خاله أو غيره من أقاربه ، و الأجنبي من ليس بينه و بينه قرابة . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من ضم يتيماً من المسلمين إلى طعامه و شرابه حتى يغنيه الله تعالى أوجب الله له الجنة إلا أن يعمل ذنباً لا يغفر " و قال صلى الله عليه و سلم : " من مسح رأس يتيم لا يمسحه إلا لله كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنة ، و من أحسن إلى يتيم أو يتيمه عنده كنت أنا و هو هكذا في الجنة " . و قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه : أوصني بوصية . قال : ارحم اليتيم و أدنه منك و أطعمه من طعامك ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه رجل يشتكي قسوة قلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أردت أن يلين قلبك فادن اليتيم منك و امسح رأسه و أطعمه من طعامك ، فإن ذلك يلين قلبك و تقدر على حاجتك . و مما حكي عن بعض السلف قال : كنت في بداية أمري مكباً على المعاصي و شرب الخمر ، فظفرت يوماً بصبي يتيم فقير فأخذته و أحسنت إله و أطعمته و كسوته و أدخلته الحمام و أزلت شعثه ، و أكرمته كما يكرم الرجل ولده بل أكثر فبت ليلة بعد ذلك فرأيت في النوم أن القيامة قامت و دعيت إلى الحساب ، و أمر بي إلى النار لسوء ما كنت عليه من المعاصي ، فسحبتني الزبانية ليمضوا بي إلى النار و أنا بين أيديهم حقير ذليل يجروني سحباً إلى النار ، و إذا بذلك اليتيم قد اعترضني بالطريق ، و قال : خلو عنه يا ملائكة ربي حتى أشفع له إلى ربي ، فإنه قد أحسن إلي و أكرمني . فقالت الملائكة : إنا لم نؤمر بذلك ، و إذا النداء من قبل الله تعالى يقول : خلوا عنه فقد وهبت له ما كان منه بشفاعة اليتيم و إحسانه إليه . قال : فاستيقظت و تبت إلى الله عز و جل ، و بذلت جهدي في إيصال الرحمة إلى الأيتام و لهذا قال أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه و سلم : خير البيوت بيت فيه يتيم يحسن إليه ، و شر البيوت بيت فيه يتيم يساء إليه ، و أحب عباد الله إلى الله تعالى من اصطنع صنعاً إلى يتيم أو أرملة . و روي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : يا داود كن لليتيم كالأب الرحيم ، و كن للأرملة كالزوج الشفيق ، و اعلم كما تزرع كذا تحصد : معناه أنك كما تفعل كذلك يفعل معك ، أي لا بد أن تموت و يبقى لك ولد يتيم أو امرأة أرملة . و قال داود عليه السلام في مناجاته : إلهي ما جزاء من أسند اليتيم و الأرملة ابتغاء وجهك ؟ قال : جزاؤه أن أظله في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي . معناه ظل عرشي يوم القيامة. و مما جاء في فضل الإحسان إلى الأرملة و اليتيم عن بعض العلويين ـ و كان نازلاً ببلخ من بلاد العجم و له زوجة علوية و له منها بنات و كانوا في سعة و نعمة ، فمات الزوج و أصاب المرأة و بناتها بعده الفقر و القلة ، فخرجت ببناتها إلى بلدة أخرى خوف شماتة الأعداء ، و اتفق خروجها في شدة البرد فلما دخلت ذلك البلد أدخلت بناتها في بعض المساجد المهجورة ، و مضت تحتال لهم في القوت فمرت بجمعين : جمع على رجل مسلم و هو شيخ البلد ، و جمع على رجل مجوسي و هو ضامن البلد . فبدأت بالمسلم و شرحت حالها له ، و قالت : أنا امرأة علوية و معي بنات أيتام أدخلتهم بعض المساجد المهجورة ، و أريد الليلة قوتهم . فقال لها : أقيمي عندي البينة أنك علوية شريفة . فقالت : أنا امرأة غريبة ما في البلد من يعرفني فأعرض عنها ، فمضت من عنده منكسرة القلب فجاءت إلى ذلك الرجل المجوسي فشرحت له حالها ، و أخبرته أن معها بنات أيتام و هي امرأة شريفة غريبة ، و قصت عليه ما جرى لها مع الشيخ المسلم فقام و أرسل بعض نسائه ، و أتوا بها و بناتها إلى داره فأطعمهن أطيب الطعام ، و ألبسهن أفخر اللباس و باتوا عنده في نعمة و كرامة . قال فلما انتصف الليل رأى ذلك الشيخ المسلم في منامه كأن القيامة قد قامت ، و قد عقد اللواء على رأس النبي صلى الله عليه و سلم ، و إذا القصر من الزمرد الأخضر شرفاته من اللؤلؤ و الياقوت و فيه قباب اللؤلؤ و المرجان ، فقال : يا رسول الله لمن هذا القصر ؟ قال لرجل مسلم موحد . فقال : يا رسول الله أنا رجل مسلم موحد . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أقم عندي البينة أنك مسلم موحد . قال : فبقي متحيراً فقال له صلى الله عليه و سلم : لما قصدتك المرأة العلوية قلت أقيمي عندي البينة أنك علوية ، فكذا أنت أقم عندي البينة أنك مسلم : فانتبه الرجل حزيناً على رده المرأة خائبة ، ثم جعل يطوف بالبلد و يسأل عنها حتى دل عليها أنها عند المجوسي ، فأرسل إليه فأتاه فقال له : أريد منك المرأة الشريفة العلوية و بناتها . فقال : ما إلى هذا من سبيل و قد لحقني من بركاتهم ما لحقني . قال : خذ مني ألف دينار و سلمهن إلي ، فقال لا أفعل فقال : لا بد منهن . فقال : الذي تريده أنت أنا أحق به و القصر الذي رأيته في منامك خلق لي . أتدل علي بالإسلام ؟ فوالله ما نمت البارحة أنا و أهل داري حتى أسلمنا كلنا على يد العلوية ، و رأيت مثل الذي رأيت في منامك ، و قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : العلوية و بناتها عندك ؟ قلت : نعم يا رسول الله . قال : القصر لك و لأهل دارك و أنت و أهل دارك من أهل الجنة خلقك الله مؤمناً في الأزل . قال : فانصرف المسلم و به من الحزن و الكآبة ما لا يعلمه إلا الله . فانظر رحمك الله إلى بركة الإحسان إلى الأرملة و الأيتام نا أعقب صاحبه من الكرامة في الدنيا ! و لهذا ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " الساعي على الأرملة و المساكين كالمجاهد في سبيل الله " . قال الراوي أحسبه قال : " و كالقائم لا يفتر و كالصائم لا يفطر " ، و الساعي عليهم هو القائم بأمورهم و مصالحهم ابتغاء وجه الله تعالى . وفقنا لله لذلك بمنه و كرامه أنه جواد كريم رؤوف غفور رحيم . |
الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة الكبيرة الحادية و الخمسون : الاستطالة على الضعيف و المملوك و الجارية و الزوجة و الدابة لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى : " و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً و بالوالدين إحساناً و بذي القربى و اليتامى والمساكين و الجار ذي القربى و الجار الجنب و الصاحب بالجنب و ابن السبيل و ما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " . قال الواحدي : في قوله تعالى " و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً " : أخبرنا أحمد بن إبراهيم المهرجاني بإسناده " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه و سلم على حمار ، فقال : يا معاذ ، لبيك و سعديك يا رسول الله . قال : هل تدري ما حق الله على العباد و ما حق العباد على الله ؟ قلت : الله و رسوله أعلم ، قال : فإن حق الله على العباد أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً ، و حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً " . و " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله عليه و سلم أعرابي فقال : يا نبي الله أوصني ، قال : لا تشرك بالله شيئاً و إن قطعت و حرقت ، و لا تدع الصلاة لوقتها فإنها ذمة الله ، و لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر " . قوله : " و بالوالدين إحساناً " يريد البر بهما مع اللطف و لين الجانب ، و لا يغلظ لهما الجواب ، و لا يحد النظر إليهما ، و لا يرفع صوته عليهما ، بل يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللاً لهما . قوله : " و بذي القربى " قال يصلهم و يتعطف عليهم ، " و اليتامى " يرفق بهم و يدنيهم و يمسح رؤوسهم ، " و المساكين " ببذل يسير ورد جميل ، " و الجار ذي القربى " يعني الذي بينك و بينه قرابة فله حق القرابة و حق الجوار و حق الإسلام ، و " و الجار الجنب " هو الذي ليس بينك و بينه قرابة يقال رجل جنب إذا كان غريباً متباعداً أهله ، و قوم أجانب و الجنابة : البعد . " عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " . و " عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الجار ليتعلق بالجار يوم القيامة يقول : يا رب أوسعت على أخي هذا و اقترب علي ، أمسي طاوياً و يمسي هذا شبعان ، سله لم أغلق بابه و حرمني ما قد أوسعت به عليه " . " و الصاحب بالجنب " قال ابن عباس و مجاهد : هو الرفيق في السفر له حق الجوار و حق الصحبة . " و ابن السبيل " : هو الضعيف يجب اقراؤه إلى أن يبلغ حيث يريد ، و قال ابن عباس : هو عابر السبيل تؤويه و تطعمه حتى يرحل عنك . " و ما ملكت أيمانكم " : يريد المملوك يحسن رزقه و يعفو عنه فيما يخطىء قوله : " إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً " ، قال ابن عباس : يريد بالمختال العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله ، و الفخور هو الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته و ما أعطاه من نعمه . " عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : بينما رجل شاب ممن كان قبلكم يمشي في حلة مختالاً فخوراً إذ ابتلعته الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة " . و " عن أسامة قال : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من جر ثوبه خيلاً . لم ينظر الله إليه يوم القيامة " هذا ما ذكره الواحدي . " و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عند خروجه من الدنيا في آخر مرضه يوصي بالصلاة ، و بالإحسان إلى المملوك ، و يقول : الله الله الصلاة و ما ملكت أيمانكم " . و في الحديث : " حسن الملكة يمن و سوء الملكة شؤم " و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يدخل الجنة سيء الملكة " . قال " أبو مسعود رضي الله عنه : كنت أضرب مملوكاً لي بالسوط فسمعت من صوتاً من ورائي : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام . قال ، قلت يا رسول الله لا أضرب مملوكاً لي بعده أبداً " . و في رواية سقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و في رواية : فقلت هو حر لوجه الله ، فقال : " أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار يوم القيامة " رواه مسلم . و روى مسلم أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من ضرب غلاماً له حداً لم يأته أو لطمه فكفارته أن يعتقه " ، و من حديث حكيم بن حزام قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا " . و في الحديث من ضرب بسوط ظلماً اقتص منه يوم القيامة ، و قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم كم نعفو عن الخادم ؟ قال : " في اليوم سبعين مرة " . و كان في يد النبي صلى الله عليه و سلم يوماً سواك فدعا خادماً له فأبطأ عليه فقال : : " لولا القصاص لضربتك بهذا السواك " ، و كان لأبي هريرة رضي الله عنه جارية زنجية فرفع يوماً عليها السوط فقال : لولا القصاص لأغشيتكيه و لكن سأبيعك لمن يوفيني ثمنك ، اذهبي فأنت حرة لوجه الله . و جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إني قلت لأمتي يا زانية ، قال : " و هل رأيت عليها ذلك ؟ قالت : لا . أما أنها ستستقيد منك يوم القيامة فرجعت إلى جاريتها فأعطتها سوطاً ، و قالت : اجلديني . فأبت الجارية فأعتقتها ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته بعتقها فقال : ( عسى ) أي عسى أن يكفر عتقك لها ما قذفتها به " . و في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من قذف مملوكه و هو بريء مما قاله جلد يوم القيامة حداً إلا أن يكون كما قال " . و في الحديث " للملوك طعامه و كسوته و لا يكلف ما لا يطيق " . و كان صلى الله عليه و سلم يوصيهم عند خروجه من الدنيا و يقول : " الله الله في الصلاة و ما ملكت أيمانكم ، أطعموهم مما تأكلون و اكسوهم مما تكتسون ، و لا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون ، فإن كلفتموهم فأعينوهم و لا تعذبوا خلق الله ، فإنه ملككم إياهم و لو شاء لملكهم إياكم " . و دخل جماعة على سلمان الفارسي رضي الله عنه و هو أمير على المدائن فوجدوه يعجن عجين أهله ، فقالوا له : ألا تترك الجارية تعجن ؟ فقال رضي الله عنه : إنا أرسلناها في عمل فكرهنا أن نجمع عليها عملاً آخر . و قال بعض السلف : لا تضرب الملوك في كل ذنب و لكن احفظ له ذلك ، فإذا عصى الله فاضربه على معصية الله و ذكره الذنوب التي بينك و بينه . ( فصل ) و من أعظم الإساءة إلى الملوك و الجارية التفريق بينه و بين ولده ، أو بينه و بين أخيه لما جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من فرق بين والدة و ولدها فرق الله بينه و بين أحبته يوم القيامة " . قال علي كرم الله وجهه : " وهب لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين أخوين فبعث أحدهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رده رده " و من ذلك أن يجوع الملوك و الجارية و الدابة . يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم " كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته " . و من ذلك أن يضرب الدابة ضرباً وجيعاً أو يحبسها و لا يقوم بكفايتها ، أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قول الله تعالى : " و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم " الآية . قيل : يؤتى بهم و الناس وقوف يوم القيامة فيقضي بينهم ، حتى أنه ليؤخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة ، ثم يقال لهم : كونوا تراباً ، فهنالك يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . و هذا من الدليل على القضاء بين البهائم و بينها و بين بني آدم ، حتى إن الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بقدر ما ظلمها أو جوعها و الدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً لا هي أطعمتها و سقتها إذ حبستها ، و لا تركتها تأكل من خشاش الأرض " أي من حشراتها . و في الصحيح " أنه صلى الله عليه و سلم رأى امرأة معلقة في النار و الهرة تخدشها في وجهها و صدرها و هي تعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس و الجوع ، و هذا عام في سائر الحيوان ، و كذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لما ثبت في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث " . فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى و لا تستعمل في غير ما خلقت له ، فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه و تعذيبه قال أبو سليمان الداراني : ركبت مرة حماراً فضربته مرتين أو ثلاثاً ، فرفع رأسه و نظر إلي و قال يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل و إن شئت فأكثر : قال : فقلت لا أضرب شيئاً بعده أبداً . و مر ابن عمر بصبيان من قريش قد نصبوا طيراً و هم يرمونه و قد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم ، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال من فعل هذا ؟ " لعن الله من فعل هذا إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن من اتخذ فيه الروح غرضاً و الغرض كالهدف و ما يرمى إليه " . و نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم " أن تصبر البهائم يعني أن تحبس للقتل " ، و إن كان مما أذن الشرع بقتله كالحية و العقرب و الفأرة و الكلب العقور ، قتله بأول دفعة و لا يعذبه لقوله عليه الصلاة و السلام " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، و ليحد أحدكم شفرته و ليرح ذبيحته " . و كذلك لا يحرقه بالنار لما ثبت في الحديث الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً و فلاناً بالنار ، و إن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما" . قال ابن مسعود : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت ترفرف ، فجاء النبي صلى الله عليه و سلم و قال : من فجع هذه بولدها ؟ ردوا عليها ولديها " ، و رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قرية نمل ـ أي مكان نمل ـ قد أحرقناها فقال : " من حرق هذه ؟ قلنا : نحن ، فقال عليه الصلاة و السلام : إنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بالنار إلا ربها " . و فيه من النهي عن القتل و التعذيب بالنار حتى في القملة و البرغوث و غيرهما . فصل : و يكره قتل الحيوان عبثاً لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من قتل عصفوراً عبثاً عج إلى الله يوم القيامة ، و قال : يا رب سل هذا لم قتلني عبثاً و لم يقتلني لمنفعة ؟ " . و يكره صيد الطير أيام فراخه لما روي ذلك في الأثر ، و يكره ذبح الحيوان بين يدي أمه لما روي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله ، قال : ذبح رجل عجلاً بين يدي أمه فأيبس الله يده . فصل : في فضل عتق المملوك . " عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو من أعضائه عضواً من أعضائه من النار حتى يعتق فرجه بفرجه " أخرجه البخاري . و " عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : أيما امرىء مسلم أعتق امرأ مسلماً كان فكاكاً له من النار يجزى كل عضو منه عضواً منه ، و أيما امرىء مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزي كل عضوين منهما عضواً منه ، و أيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة إلا كانت فكاكها من النار يجزى كل عضو منها " رواه الترمذي و صححه . اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين و عبادك الصالحين . |
ترك الصلاة الكبيرة الرابعة : في ترك الصلاة قال الله تعالى : " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب و آمن و عمل صالحاً " . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية ، و لكن أخروها عن أوقاتها . و قال سعيد بن المسيب إمام التابعين رحمه الله : هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر . و لا يصلي العصر إلى المغرب ، و لا يصلي المغرب إلى العشاء ، و لا يصلي العشاء إلى الفجر ، و لا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس . فمن مات و هو مصر على هذه الحالة و لم يتب وعده الله بغي ، و هو واد في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه . و قال الله تعالى في آية أخرى : " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " أي غافلون عنها ، متهاونون بها . و قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون قال : " هو تأخير الوقت " أي تأخير الصلاة عن وقتها ، سماهم مصلين لكنهم لما تهاونوا و أخروها عن وقتها وعدهم بويل و هو شدة العذاب . و قيل : هو واد بجهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره ، و هو مسكن من يتهاون بالصلاة و يؤخرها عن وقتها إلا أن يتوب إلى الله و يندم على ما فرط . و قال الله تعالى في آية أخرى : " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر الله ، و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " . قال المفسرون : المراد بذكر الله في هذه الآية الصلوات الخمس . فمن اشتغل بماله في بيعه و شرائه و معيشته و ضيعته و أولاده عن الصلاة في وقتها كان من الخاسرين . و هكذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : " أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة فإن صلحت فقد أفلح و أنجح ، و إن نقصت فقد خاب و خسر " . و قال الله تعالى مخبراً عن أصحاب الجحيم : " ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * و لم نك نطعم المسكين * و كنا نخوض مع الخائضين * و كنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين * فما تنفعهم شفاعة الشافعين " . و قال النبي صلى الله عليه و سلم : " العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " . و قال النبي صلى الله عليه و سلم : " بين العبد و بين الكفر ترك الصلاة " . حديثان صحيحان . و في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من فاتته صلاة العصر حبط عمله " . و في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله " و قال صلى الله عليه و سلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله و يقيموا الصلاة و يؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها و حسابهم على الله " متفق عليه . و قال صلى الله عليه و سلم : " من حافظ عليها كانت له نوراً و برهاناً و نجاة يوم القيامة ، و من لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً و لا برهاناً و لا نجاة يوم القيامة و كان يوم القيامة مع فرعون و قارون و هامان و أبي بن خلف " . و قال عمر رضي الله عنه : أما أنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة . قال بعض العلماء رحمهم الله : و إنما يحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة ، لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو بتجارته فإن اشتغل بماله حشر مع قارون ، و إن اشتغل بملكه حشر مع فرعون ، و إن اشتغل بوزارته حشر مع هامان ، و إن اشتغل بتجارته حشر مع أبي بن خلف تاجر الكفار بمكة . و روى الإمام أحمد " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله عز و جل " . و روى البيهقي بإسناده : " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله تعالى في الإسلام ؟ قال الصلاة لوقتها ، و من ترك الصلاة فلا دين له ، و الصلاة عماد الدين " و لما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له : الصلاة يا أمير المؤمنين قال : نعم أما إنه لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة . و صلى رضي الله عنه و جرحه يثعب دماً . و قال عبد الله بن شقيق التابعي رضي الله عنه : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يرون من الأعمال تركه كفر غير الصلاة . و سئل علي رضي الله عنه عن امرأة لا تصلي ، فقال : من لم يصلي فهو كافر . و قال ابن مسعود رضي الله عنه من لم يصل فلا دين له . و قال ابن عباس رضي الله عنهما : من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله تعالى و هو عليه غضبان . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من لقي الله و هو مضيع للصلاة لم يعبأ الله بشيء من حسناته ـ أي ما يفعل و ما يصنع بحسناته ـ إذا كان مضيعاً للصلاة " . و قال ابن حزم : لا ذنب بعد الشرك أعظم من تأخير الصلاة عن وقتها ، و قتل مؤمن بغير حق . و قال إبراهيم النخعي : من ترك الصلاة فقد كفر ، و قال أيوب السختياني مثل ذلك . و قال عون بن عبد الله : إن العبد إذا أدخل قبره سئل عن الصلاة أول شيء يسأل عنه ، فإن جازت له نظر فيما دون ذلك من عمله ، و إن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد . و قال صلى الله عليه و سلم : " إذا صلى العبد الصلاة في أول الوقت صعدت إلى السماء و لها نور حتى تنتهي إلى العرش فتستغفر لصاحبها إلى يوم القيامة و تقول : حفظك الله كما حفظتني . و إذا صلى العبد الصلاة في غير وقتها صعدت إلى السماء و عليها ظلمة ، فإذا انتهت إلى السماء تلف كما يلف الثوب الخلق و يضرب بها وجه صاحبها ، و تقول : ضيعك الله كما ضيعتني . " . و روى أبو داود في سننه : " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاتهم ـ من تقدم قوماً و هم له كارهون ، و من استعبد محرراً ، و رجل أتى الصلاة دباراً " و الدبار أن يأتيها بعد أن تفوته . و جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الكبائر " فنسأل الله التوفيق و الإعانة إنه جواد كريم و أرحم الراحمين . فصل ـ متى يؤمر الصبي بالصلاة : روى أبو داود في السنن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها " . و في رواية : " مروا أولادكم بالصلاة و هم أبناء سبع و اضربوهم عليها و هم أبناء عشر . و فرقوا بينهم في المضاجع " . قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله : هذا الحديث يدل على إغلاظ العقوبة له إذا بلغ تاركاً لها . و كان بعض أصحاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يحتج به في وجوب قتله إذا تركها متعمداً بعد البلوغ ، و يقول : إذا استحق الضرب و هو غير بالغ ، فيدل على أنه يستحق بعد البلوغ من العقوبة ما هو أبلغ من الضرب و ليس بعد الضرب شيء أشد من القتل . و قد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم تارك الصلاة ، فقال مالك و الشافعي و أحمد ، رحمهم الله : تارك الصلاة يقتل ضرباً بالسيف في رقبته . ثم اختلفوا في كفره إذا تركها من غير عذر حتى يخرج وقتها ، فقال إبراهيم النخعي و أيوب السختياني و عبد الله بن المبارك و أحمد بن حنبل و اسحاق بن راهوية : هو كافر . و استدلوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : " العهد الذي بيننا و بينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " . و بقوله صلى الله عليه و سلم : " بين الرجل و بين الكفر ترك الصلاة " . فصل ـ . و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بالرجل فيوقف بين يدي الله عز و جل فيأمر به إلى النار ، فيقول : يا رب لماذا ؟ فيقول الله تعالى : لتأخير الصلاة عن أوقاتها و حلفك بي كاذباً . وعن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال يوماً لأصحابه : " اللهم لا تدع فينا شقياً و لا محروما . " ثم قال صلى الله عليه و سلم : " أتدرون من الشقي المحروم ؟ قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : تارك الصلاة " . و روي أنه أول من يسود يوم القيامة وجوه تاركي الصلاة ، و أن في جهنم وادياً يقال له الملحم فيه حيات ، كل حية ثخن رقبة البعير ، طولها مسيرة شهر تلسع تارك الصلاة فيغلي سمها في جسمه سبعين سنة ثم يتهرى لحمه . حكاية : روي أن امرأة من بني إسرائيل جاءت إلى موسى عليه السلام فقالت : يا رسول الله إني أذنبت ذنباً عظيماً و قد تبت منه إلى الله تعالى ، فادع الله أن يغفر لي ذنبي و يتوب علي : فقال لها موسى عليه السلام : و ما ذنبك ؟ قالت : يا نبي الله إني زنيت و ولدت ولداً فقتلته فقال لها موسى عليه السلام : اخرجي يا فاجرة لا تنزل نار من السماء فتحرقنا بشؤمك ، فخرجت من عنده منكسرة القلب ، فنزل جبريل عليه السلام و قال : يا موسى الرب تعالى يقول لك لما رددت التائبة يا موسى ، أما وجدت شراً منها ، قال موسى : يا جبريل و من هو شر منها ؟ قال : تارك الصلاة عامداً متعمداً . حكاية أخرى عن بعض السلف أنه أتى أختاً له ماتت ، فسقط كيس منه فيه مال في قبرها فلم يشعر به أحد حتى انصرف عن قبرها ، ثم ذكره فرجع إلى قبرها فنبشه بعدما انصرف الناس ، فوجد القبر يشعل عليها ناراً فرد التراب عليها و رجع إلى أمه باكياً حزيناً فقال : يا أماه أخبريني عن أختي و ما كانت تعمل ؟ قالت : و ما سؤالك عنها ؟ قال : يا أمي رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً . قال : فبكت و قالت يا ولدي كانت أختك تتهاون بالصلاة و تؤخرها عن وقتها . فهذا حال من يؤخر الصلاة عن وقتها ، فكيف حال من لا يصلي ؟ فنسأل الله تعالى أن يعيننا على المحافظة عليها في أوقاتها إنه جواد كريم . فصل : في عقوبة من ينقر الصلاة و لا يتم ركوعها و لا سجودها ، و قد روي في تفسير قول الله تعالى : " فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون " . أنه الذي ينقر الصلاة و لا يتم ركوعها و لا سجودها . و ثبت في الصحيحين " عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً دخل المسجد و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فيه ، فصلى الرجل ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام ، ثم قال له : ارجع فصل فإنك لم تصل . فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام ثم قال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه السلام ، و قال : ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاث مرات . فقال في الثالثة : و الذي بعثك بالحق يا رسول الله ما أحسن غيره فعلمني. فقال صلى الله عليه و سلم : إذا قمت إلى الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، و افعل ذلك في صلاتك كلها " . و روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن البدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " لا تجزىء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع و السجود " و رواه أبو داود أيضاً و الترمذي ، و قال : حديث حسن صحيح . و في رواية أخرى : " حتى يقيم ظهره في الركوع و السجود " . و هذا نص عن النبي صلى الله عليه و سلم في أن من صلى و لم يقم ظهره بعد الركوع و السجود كما كان ، فصلاته باطلة ، و هذا في صلاة الفرض و كذا الطمأنينة أن يستقر كل عضو في موضعه . و ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : " أشد الناس سرقة الذي يسرق من صلاته : قيل و كيف يسرق من صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها و لا سجودها و لا القراءة فيها " . و روى الإمام أحمد " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه بين ركوعه و سجوده " . و قال صلى الله عليه و سلم : " تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلا " . و عن أبي موسى قال : صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوماً بأصحابه ثم جلس ، فدخل رجل فقام يصلي ، فجعل يركع و ينقر سجوده ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :" ترون هذا لو مات مات على غير ملة محمد صلى الله عليه و آله و سلم ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم ! " أخرجه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه . و عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :" ما من مصل إلا و ملك عن يمينه و ملك عن يساره ، فإن أتمها عرجا بها إلى الله تعالى ، و إن لم يتمها ضربا بها وجهه " . و روى البيهقي بسنده عن " عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من توضأ أحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها و سجودها و القراءة فيها قالت الصلاة : حفظك الله كما حفظتني ، ثم صعد بها إلى السماء و لها ضوء و نور ، ففتحت لها أبواب السماء حتى ينتهي بها إلى الله تعالى فتشفع لصاحبها . و إذا لم يتم ركوعها و لا سجودها و لا القراءة فيها قالت الصلاة : ضيعك الله كما ضيعتني ، ثم صعد بها إلى السماء و عليها ظلمة ، فأغلقت دونها أبواب السماء ، ثم تلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها " . و " عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الصلاة مكيال ، فمن وفي وفي له ، و من طفف فقد علمتم ما قال الله في المطففين : قال الله تعالى : " ويل للمطففين " و المطفف هو المنقص للكيل أو الوزن أو الذراع أو الصلاة ، وعدهم الله بويل و هو واد في جهنم تستغيث جهنم من حره ، نعوذ بالله منه " . و " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا سجد أحدكم فليضع وجهه و أنفه و يديه على الأرض فإن الله تعالى أوحى إلي أن أسجد على سبعة أعضاء : الجبهة و الأنف و الكفين و الركبتين ، و صدور القدمين ، و أن لا أكف شعراً و لا ثوباً ، فمن صلى و لم يعطي كل عضو منها حقه لعنه ذلك العضو حتى يفرغ من صلاته " . و روى البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يصلي و لا يتم ركوع الصلاة و لا سجودها فقال له حذيفة صليت و لو مت و أنت تصلي هذه الصلاة ، مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه و سلم . و في رواية أبي داود أنه قال : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال : منذ أربعين سنة . قال : ما صليت منذ أربعين سنة شيئاً ، و لو مت مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه و آله سلم ! و كان الحسن البصري يقول : يقول يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك و أنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة كما تقدم من قول النبي صلى الله عليه و سلم : " أول ما يحاسب العبد يوم القيامة من عمله صلاته ، فإن صلحت فقد أفلح و أنجح ، و إن فسدت فقد خاب و خسر ، فإن انتقص من الفريضة شيء يقول الله تعالى : انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما انتقص من الفريضة ، ثم يكون سائر عمله كذلك " . فينبغي للعبد أن يستكثر من النوافل حتى يكمل به ما انتقص من فرائضه و بالله التوفيق . فصل : في عقوبة تارك الصلاة في جماعة مع القدرة قال الله تعالى : " يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون " . و ذلك يوم القيامة يغشاهم ذل الندامة و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود . قال إبراهيم التيمي : يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان و الإقامة ، و قال سعيد بن المسيب : كانوا يسمعون : حي على الصلاة حي على الفلاح ، فلا يجيبون و هم أصحاء سالمون . و قال كعب الأحبار : و الله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلفوا عن الجماعة ، فأي وعيد أشد و أبلغ من هذا لمن ترك الصلاة في الجماعة مع القدرة على إتيانها ؟ و أما من السنة فما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة في الجماعة ، فأحرق بيوتهم عليهم بالنار " و لا يتوعد بحرق بيوتهم عليهم إلا على ترك واجب مع ما في البيوت من الذرية و المتاع . و في صحيح مسلم أن رجلاً أعمى أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : " يا رسول الله ليس لي قائد يقودني إلى المسجد و سأل النبي صلى الله عليه و سلم أن يرخص له أن يصلي في بيته فرخص له فلما ولى دعاه فقال : هل تسمع النداء بالصلاة ؟ قال : نعم . قال : فأجب " . و رواه أبو داود " عن عمرو بن أم مكتوم أنه أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن المدينة كثيرة الهوام و السباع و أنا ضرير البصر شاسع الدار ـ أي بعيد الدار ـ و لي قائد لا يلائمني فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فقال : هل تسمع النداء ؟ قال ، نعم . قال : فأجب فإني لا أجد لك رخصة " . فهذا ضرير البصر شكى ما يجد من المشقة في مجيئه إلى المسجد و ليس له قائد يقوده إلى المسجد ، و مع هذا لم يرخص له النبي صلى الله عليه و سلم في الصلاة في بيته فكيف بمن يكون صحيح البصر سليماً لا عذر له ؟ و لهذا لما سئل ابن عباس رضي الله عنهما : عن رجل يصوم النهار و يقوم الليل و لا يصلي في جماعة و لا يجمع فقال : إن مات على هذا فهو في النار . و قال أبو هريرة رضي الله عنه لأن تمتلىء أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع النداء و لا يجيب . و روي " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سمع المنادي بالصلاة فلم يمنعه من اتباعه عذر ، قيل و ما العذر يا رسول الله ؟ قال خوف أو مرض لم تقبل منه الصلاة التي صلى يعني في بيته " . و أخرج الحاكم في مستدركه عن " ابن عباس أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ثلاثة لعنهم الله : من تقدم قوماً و هم له كارهون ، و امرأة باتت و زوجها عليها ساخط ، و رجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب " . و قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قيل : و من جار المسجد ؟ قال : من سمع الأذان . و روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً ـ يعني يوم القيامة ـ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادي بهن ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، و إنهن من سنن الهدى ، و لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، و لو تركتم سنة نبيكم لضللتم . و لقد رأيتنا و ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق أو مريض ، و لقد كان الرجل يؤتى به يهادي بين رجلين حتى يقام في الصف أو حتى يجيء إلى المسجد لأجل صلاة الجماعة . و كان الربيع بن خيثم قد سقط شقه في الفالج ، فكان يخرج إلى الصلاة يتوكأ على رجلين ، فيقال له : يا أبا محمد قد رخص لك أن تصلي في بيتك أنت معذور . فيقول : هو كما تقولون ، و لكن أسمع المؤذن يقول : حي على الصلاة حي على الفلاح ، فمن استطاع أن يجيبه و لو زحفاً أو حبواً فليفعل . و قال حاتم الأصم : فاتتني مرة صلاة الجماعة فعزاني أبو اسحاق البخاري وحده ، و لو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان ، لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا ! . و كان بعض السلف يقول : ما فاتت أحداً صلاة الجماعة إلا بذنب أصابه و قال ابن عمر خرج عمر يوماً إلى حائط له فرجع و قد صلى الناس العصر فقال عمر : إنا لله و إنا إليه راجعون فاتتني صلاة العصر في الجماعة . أشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة ليكون كفارة لما صنع عمر رضي الله عنه ، و الحائط البستان فيه النخل . فصل ـ: و يكون اعتناؤه بحضور صلاة العشاء و الفجر أشد ، فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين ، يعني العشاء و الفجر ، و لو يعلمون ما فيهما من الأجر لأتوهما و لو حبواً " . و قال ابن عمر : كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء و الصبح في الجماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق . حكاية : عن عبيد الله بن عمر القواريري رضي الله عنه قال : لم تكن تفوتني صلاة العشاء في الجماعة قط ، فنزل بي ليلة ضيف فشغلت بسببه و فاتتني صلاة العشاء في الجماعة ، فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة ، فوجدت الناس كلهم قد صلوا و غلقت المساجد ، فرجعت إلى بيتي و قلت : قد ورد في الحديث : إن صلاة الجماعة تزيد على صلاة الفرد بسبع و عشرين درجة ، فصليت العشاء سبعاً و عشرين مرة ثم نمت ، فرأيت في المنام كأني مع قوم على خيل و أنا أيضاً على فرس و نحن نستبق ، و أنا أركض فرسي فلا ألحقهم ، فالتفت إلى أحدهم فقال لي : لا تتعب فرسك فلست تلحقنا : قلت : و لم ؟ قال : لأنا صلينا العشاء في جماعة و أنت صليت وحدك . فانتبهت و أنا مغموم حزين لذلك ، فنسأل الله المعونة و التوفيق إنه جواد كريم . |
اباق العبد الكبيرة السابعة و الخمسون : اباق العبد روى مسلم في صحيحه " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة " . و قال صلى الله عليه و سلم : " أيما عبد أبق فقد برئت منه الذمة " . و روى ابن خزيمة في صحيحه " من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة و لا يصعد لهم إلى السماء حسنة : العبد الآبق حتى يرجع إلى مولاه ، و المرأة الساخط عليها زوجها حتى يرضى ، و السكران حتى يصحو " . و " عن فضالة بن عبيد مرفوعاً : ثلاثة لا يسأل عنهم : رجل فارق الجماعة و عصى إمامه و عبد آبق و مات عاصياً ، و امرأة غاب عنها زوجها و قد كفاها المؤونة فتبرجت بعده ـ أي أظهرت محاسنها كما يفعل أهل الجاهلية " و هم ما بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم كذا ذكره الواحدي رحمه الله . |
أخذ الرشوة على الحكم الكبيرة الثانية و الثلاثون : أخذ الرشوة على الحكم قال الله تعالى : " و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون " . أي لا تدلو بأموالكم إلى الحكام ، أي لا تصانعوهم بها و لا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقاً لغيركم و أنتم تعلمون أنه لا يحل لكم . و " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لعن الله الراشي و المرتشي في الحكم " . أخرجه الترمذي و قال حديث حسن . و " عن عبد الله بن عمرو : لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشي و المرتشي " . قال العلماء : فالراشي هو الذي يعطي الرشوة ، و المرتشي هو الذي يأخذ الرشوة و إنما تلحق اللعنة الراشي إذا قصد بها أذية مسلم أو ينال بها ما لا يستحق ، أما إذا أعطى ليتوصل إلى حق له و يدفع عن نفسه ظلماً فإنه غير داخل في اللعنة ، و أم الحاكم فالرشوة عليه حرام أبطل بها حقاً أو دفع بها ظلماً و قد روي في حديث آخر : إن اللعنة على الرائش أيضاً و هو الساعي بينهما ، و هو تابع للراشي في قصده خيراً لم تلحقه اللعنة و إلا لحقته . فصل : و من ذلك ما روى أبو داود في سننه " عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من شفع لرجل شفاعة فأهدى له عليها هدية فقد أتى باباً كبيراً من أبواب الربا " . و " عن ابن مسعود قال : السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضى فيهدى إليك هدية فتقبلها منه ، و عن مسروق أنه كلم ابن زياد في مظلمة فردها فأهدى إليه صاحب المظلمة و صيفاً فردها و لم يقبلها ، و قال سمعت ابن مسعود يقول : من رد عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت . فقال الرجل : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نظن أن السحت إلا الرشوة في الحكم . فقال : ذلك كفر نعوذ بالله منه و نسأل الله العفو و العافية من كل بلاء و مكروه " . الحكاية : عن الإمام أبي عمر الأوزعي رحمه الله ـ و كان يسكن ببيروت ـ أن نصرانياً جاء إليه فقال : إن والي بعلبك ظلمني بمظلمة ، و أريد أن تكتب إليه و أتاه بقلة عسل ، فقال الأوزاعي رحمه الله : إن شئت رددت القلة و كتبت لك إليه ، و إن شئت أخذت القلة . فكتبت له إلى الوالي أن ضع عن هذا النصراني من خراجه . فأخذ القلة و الكتاب و مضى إلى الوالي فأعطاه الكتاب فوضع عنه ثلاثين درهماً بشفاعة الإمام ، رحمه الله و حشرنا في زمرته. موعظة : عباد الله : تدبروا العواقب ، و احذروا قوة المناقب ، و اخشوا عقوبة المعاقب ، و خافوا سلب السالب ، فإنه و الله طالب غالب . أين الذين قعدوا في طلب المنى و قاموا ، و داروا على توطئة دار الرحيل و حاموا ؟ ما أقل ما لبثوا و ما أوفى ما أقاموا ! لقد وبخوا في نفوسهم في قعر قبورهم على ما أسلفوا و لاموا . أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجموا و ناموا لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهوا و هاموا ممات ، ثم قبر ، ثم حشر ، و توبيخ ، و أهوال ، عظام ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته و صاموا و نحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف إيقاظ نيام يا من بأقذار الخطايا قد تلطخ ، و بآفات البلايا قد تضمخ ، يا من سمع كلام من لام و وبخ ، يعقد عقد التوبة حتى إذا أمسى يفسخ ، يا مطلقاً لسانه و الملك يحصى و ينسخ ، يا من طير الهوى في صدره قد عشش و فرخ ، كم أباد الموت ملوكاً كالجبال الشمخ ، كم أزعج قواعد كانت في الكبر ترسخ ، و أسكنهم ظلم اللحود و من ورائهم برزخ ، يا من قلبه من بدنه بالذنوب أوسخ ، يا مبارزاً بالعظائم أتأمن أن يخسف بك أو تمسخ ، يا من لازم العيب بعد اشتماله الشيب ففعله يؤرخ . و الحمد لله دائماً و أبداً . |
أذى الجار الكبيرة الثانية و الخمسون : أذى الجار ثبت في الصحيحين " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و الله لا يؤمن و الله لا يؤمن قيل من يا رسول الله ؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه " . أي غوائله و شروره ، و في رواية : " لا يدخل الجنة من لا يؤمن جاره بوائقه " .و سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أعظم الذنب عند الله فذكر ثلاث خلال : " أن تجعل لله نداً و هو خلقك ، و أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ، و أن تزني بحليلة جارك " . و في الحديث : " من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فلا يؤذ جاره " . و الجيران ثلاثة : جار مسلم قريب له حق الجوار و حق الإسلام و حق القرابة ، و جار مسلم له حق الجوار و حق الإسلام . و الجار الكافر له حق الجوار . و كان ابن عمر رضي الله عنهما له جار يهودي ، فكان إذا ذبح الشاة يقول : احملوا إلى جارنا اليهودي منها . و روي أن الجار الفقير يتعلق بالجار الغني يوم القيامة ، و يقول : يا رب سل هذا لم منعني معروفه و أغلق عني بابه . و ينبغي للجار أن يحمل أذى الجار ، فهو من جملة الإحسان إليه . " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا قمت به دخلت الجنة . فقال : كن محسناً ، فقال : يا رسول الله كيف أعلم أني محسن ؟ قال : سل جيرانك فإن قالوا أنك محسن فأنت محسن ، و إن قالوا أنك مسيء فأنت مسيء " ذكره البيهقي من رواية أبي هريرة ، و جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " من أغلق بابه عن جاره مخافة على أهله و ماله فليس بمؤمن ، و ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه " . و قيل : لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره ، و لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره . و في سنن أبي داود " من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يشكوه جاره فقال له اذهب فاصبر ، فأتاه مرتين أو ثلاثاً ثم قال اذهب فاطرح متاعك على الطريق ، ففعل فجعل الناس يمرون به ، و يسألونه عن حاله فيخبرهم خبره مع جاره ، فجعلوا يلعنون جاره و يقولون : فعل الله به و فعل و يدعون عليه ، فجاء إليه جاره و قال : يا أخي ارجع إلى منزلك فإنك لن ترى ما تكره أبداً " . و أن يحتمل أذى جاره و إن كان ذمياً ، فقد روي عن سهل بن عبد الله التستري رحمه الله أنه كان له جار ذمي ، و كان قد انبثق من كنيفه إلى بيت في دار سهل بثق ، فكان سهل يضع كل يوم الجفنة تحت ذلك البثق فيجتمع ما يسقط فيه من كنيف المجوسي و يطرحه بالليل حيث لا يراه أحد فمكث رحمه الله على هذه الحال زماناً طويلاً إلى أن حضرت سهلاً الوفاة ، فاستدعى جاره المجوسي و قال له : ادخل ذلك البيت و انظر ما فيه ، فدخل فرأى ذلك البثق و القذر يسقط منه في الجفنة ، فقال ما هذا الذي أرى ؟ قال سهل : هذا منذ زمان طويل يسقط من دارك إلى هذا البيت و أنا أتلقاه بالنهار و ألقيه بالليل ، و لولا أنه حضرني أجلي ، و أنا أخاف أن لا تتسع أخلاق غيري لذلك و إلا لم أخبرك فافعل ما ترى ، فقال المجوسي : أيها الشيخ أنت تعاملني بهذه المعاملة منذ زمان طويل و أنا مقيم على كفري ؟ مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، ثم مات سهل رحمه الله . فنسأل الله أن يهدينا و إياكم لأحسن الأخلاق و الأعمال و الأقوال ، و أن يحسن عاقبتنا إنه جواد كريم رؤوف رحيم |
أذى المسلمين و شتمهم الكبيرة الثالثة و الخمسون : أذى المسلمين و شتمهم قال الله تعالى : " و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا " و قال الله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن و لا تلمزوا أنفسكم و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان و من لم يتب فأولئك هم الظالمون " . و قال الله تعالى : " و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا " . و قال صلى الله عليه و سلم : " إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس أو تركه الناس اتقاء فحشه " . و قال صلى الله عليه و سلم : " عباد الله إن الله وضع الحرج إلا من افترض بعرض أخيه فذلك الذي حرج أو هلك " . و في الحديث " كل المسلم على المسلم حرام دمه و ماله و عرضه " . و قال عليه الصلاة و السلام " المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يحقره ، بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم " . و فيه أيضاً " سباب المسلم فسوق و قتاله كفر " . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل يا رسول الله إن فلانة تصلي الليل و تصوم النهار و تؤذي جيرانها بلسانها فقال : لا خير فيها هي في النار " . صححه الحاكم . و في الحديث أيضاً " اذكروا محاسن موتاكم و كفوا عن مساوءهم " . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من دعا رجلاً بالكفر أو قال يا عدو الله و ليس كذلك إلا حار عليه " . و قال عليه الصلاة و السلام : " مررت ليلة أسري بي بقوم لهم أظافر من النحاس يخمشون بها وجوههم و صدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس و يقعون في أعراضهم " . ( فصل ) في الترهيب من الإفساد و التحريش بين المؤمنين و بين البهائم و الدواب : صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب و لكن في التحريش بينهم " ، فكل من حرش بين اثنين من بني آدم و نقل بينهما ما يؤذي أحدهما فهو نمام من حزب الشيطان من أشر الناس ، كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : " ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : شراركم المشاؤون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرءاء العنت " . و العنت المشقة . و صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : " لا يدخل الجنة نمام " . و النمام هو الذي ينقل الحديث بين الناس و بين اثنين بما يؤذي أحدهما أو يوحش قلبه على صاحبه أو صديقه بأن يقول له : قال عنك فلان كذا و كذا و فعل كذا و كذا ، إلا أن يكون في ذلك مصلحة أو فائدة ، كتحذيره من شر يحدث أو يترتب . و أما التحريش بين البهائم و الدواب و الطير و غيرها ، فحرام كمناقرة الديوك و نطاح الكباش و تحريش الكلاب بعضها على بعض و ما أشبه ذلك و قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فمن فعل ذلك فهو عاص لله و رسوله . و من ذلك إفساد قلب المرأة على زوجها ، و العبد على سيده . لما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ملعون من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده " نعوذ بالله من ذلك . ( فصل ) في الترغيب في الإصلاح بين الناس ، قال الله تعالى : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " . قال مجاهد : هذه الآية عامة بين الناس ، يريد أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس و يخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير ، و هو قوله " إلا من أمر بصدقة " ثم حذف المضاف " أو معروف " ، قال ابن عباس : بصلة الرحم و بطاعة الله ، و يقال لأعمال البر كلها معروف لأن العقول تعرفها . قوله تعالى : " أو إصلاح بين الناس " هذا مما حث عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال " لأبي أيوب الأنصاري ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم قال : بلى يا رسول الله . قال : تصلح بين الناس إذا تفاسدوا و تقرب بينهم إذا تباعدوا " . و روت " أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر لله " . و روي أن رجلاً قال لسفيان : ما أشد هذا الحديث ، قال سفيان : ألم تسمع إلى قول الله تعالى : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف " الآية . فهذا هو بعينه . ثم علم سبحانه أن ذلك إنما ينفع من ابتغى به ما عند الله قال الله تعالى : " و من يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " . أي ثواباً لا حد له . و في الحديث " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيرا " رواه البخاري . و قالت أم كلثوم . " و لم أسمعه صلى الله عليه و سلم يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاثة أشياء : في الحرب و الإصلاح بين الناس و حديث الرجل زوجته و حديث المرأة زوجها " . و " عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كان بينهم شر ، فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلح بينهم في أناس معه من أصحابه " . رواه البخاري . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما عمل شيء أفضل من مشي إلى الصلاة أو إصلاح ذات البين و حلف جائز بين المسلمين " . و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " من أصلح بين اثنين أصلح الله أمره و أعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة و رجع مغفوراً له ما تقدم من ذنبه " . و بالله التوفيق . اللهم عاملنا بلطفك و تداركنا بعفوك يا أرحم الراحمين . |
أذية عباد الله و التطول عليهم الكبيرة الرابعة و الخمسون : أذية عباد الله و التطول عليهم قال الله تعالى : " و الذين يؤذون المؤمنين و المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً و إثماً مبينا " . و قال الله تعالى : " و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " . و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تعالى قال : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " و في رواية : " فقد بارزني بالمحاربة أي أعلمته أني محارب له " . و في الحديث " أن أبا سفيان أتى على سلمان و صهيب و بلال في نفر فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أتقولون هذا لشيخ قريش و سيدهم ؟ فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره ، فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، لقد أغضبت ربك . فأتاهم أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا أخوتاه أغضبتكم ؟ قالوا : لا . يغفر الله لك يا أخي " . و قولهم مأخذها : أي لم تستوف حقها منه . ( فصل ) في قوله تعالى : " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه " . الآيات . و هذه الآيات في تفضيل الفقراء ، و سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه و سلم أول من آمن به الفقراء ، و كذلك كل نبي أرسل أول من آمن به الفقراء ، فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجلس مع فقراء أصحابه مثل سلمان و صهيب و بلال و عمار بن ياسر رضي الله عنهم ، فأراد المشركون أن يحتالوا عليه في طرد الفقراء لما سمعوا أن علامة الرسل أن يكون أول أتباعهم الفقراء ، فجاء بعض رؤساء المشركين فقالوا : يا محمد اطرد الفقراء عنك ، فإن نفوسنا تأنف أن تجالسهم ، فلو طردتهم عنك لآمن بك أشراف الناس و رؤساؤهم فأنزل الله تعالى : " و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه " . فلما أيس المشركون من طردهم قالوا : يا محمد إن لم تطردهم فاجعل لنا يوماً و لهم يوماً فأنزل الله تعالى : " و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " . أي لا تتعداهم و لا تتجاوز بنظرك رغبة عنهم و طلباً لصحبة أبناء الدنيا . " و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر " . ثم ضرب لهم مثل الغني و الفقير بقوله " و اضرب لهم مثلاً رجلين " . " و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا " . فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعظم الفقراء و يكرمهم . و لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هاجروا معه فكانوا في صفة المسجد مقيمين متبتلين فسموا أصحاب الصفة ، فكان ينتمي إليهم من يهاجر من الفقراء حتى كثروا رضي الله عنهم . هؤلاء شاهدوا ما أعد الله لأوليائه من الإحسان و عاينوه بنور الإيمان فلم يعلقوا قلوبهم بشيء من الأكوان بل قالوا : إياك نعبد و لك نخضع و نسجد و بك نهتدي و نسترشد ، و عليك نتوكل و نعتمد و بذكرك نتنعم و نفرح ، و في ميدان ودك نرتع و نسرح و لك نعمل و نكدح و عن بابك أبداً لا نبرح ، فحينئذ عمر لهم سبيله و خاطب فيهم رسوله فقال : " و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة " . الآية ، أي : و لا تطرد قوماً أمسوا على ذكر ربهم يتقلبون ، و إن أصبحوا فلبابه ينقلبون . لا تطرد قوماً المساجد مأواهم و الله مطلوبهم و مولاهم ، و الجوع طعامهم و السهر إذا نام الناس أدامهم ، و الفقر و الفاقة شعارهم ، و المسكنة و الحياء دثارهم . ربطوا خيل عزمهم على باب مولاهم ، و بسطوا وجوههم في محاريب نجواهم ، فالفقر عام و خاص ، فالعام الحاجة إلى الله تعالى و هذا وصف كل مخلوق مؤمن و كافر ، و هو معنى قوله تعالى " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله " الآية ، و الخاص وصف أولياء الله و أحبائه خلو اليدين من الدنيا و خلو القلب من التعلق بها ، اشتغالاً بالله عز و جل و شوقاً إليه ، و أنساً بالفراغ و الخلوة مع الله عز و جل . اللهم أذقنا حلاوة مناجاتك ، و أن تسلك بنا طريق مرضاتك ، و اقطع عنا كل ما يبعدنا من حضرتك ، و يسر لنا ما يسرته لأهل محبتك ، و اغفر لنا و لوالدينا و للمسلمين . |
إسبال الإزار و الثوب و اللباس و السراويل تعززاً و عجباً و فخراً و خيلاء الكبيرة الخامسة و الخمسون : إسبال الإزار و الثوب و اللباس و السراويل تعززاً و عجباً و فخراً و خيلاء قال الله تعالى : " و لا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور " . و قال النبي صلى الله عليه و سلم : " ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار " . و قال عليه الصلاة و السلام : " لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً " . و قال عليه الصلاة و السلام : " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا ينظر إليهم و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم : المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب " . و في الحديث أيضاً : " بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيه إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " . و قال عليه الصلاة و السلام : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " ، و قال صلى الله عليه و سلم " الإسبال في الإزار و العمامة من جر شيئاً منها خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " . و قال عليه الصلاة و السلام : " إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه و لا حرج عليه فيما بينه و بين الكعبين ، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار" . و هذا عام في السراويل و الثوب و الجبة و القباء و الفرجية و غيرها من اللباس . فنسأل الله العافية ، و " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره قال له رسول الله : اذهب فتوضأ ، ثم جاء فقال اذهب فتوضأ فقال له رجل يا رسول الله ما لك أمرته أن يتوضأ ؟ ثم سكت عنه فقال : إنه كان يصلي و هو مسبل إزاره ، و لا يقبل الله صلاة رجل مسبلاً إزاره " . و لما قال صلى الله عليه و سلم : " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده ، فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك لست ممن يفعله خيلاء " . اللهم عاملنا بلطفك الحسن الجميل برحمتك يا أرحم الراحمين . |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:53 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.