![]() |
القصص في السنة النبويه-ابتسامات نبوية
القصص في السنة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد... فإن الحادثة المرتبطة بالأسباب والنتائج يهفو إليها السمع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضين كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وقد أصبح أدب القصة اليوم فنًا خاصًا من فنون اللغة وآدابها، ومن أبلغ صوره القصص في الكتاب والسنة. معنى القصص: القص تتبع الأثر، يقال: قصصت أثره: أي تتبعته، والقصص مصدر، قال تعالى: ((فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا)) [الكهف:64]. وقال على لسان أم موسى: ((وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ)) [القصص:11]، أي تتبعي أثره حتى تنظري من يأخذه، والقصص كذلك: الأخبار المتتبعة، قال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)) [ آل عمران:62]، وقال: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)) [يوسف:111]. والقصة: الأمر، والخبر، والشأن، والحال. وقصص السنة: أخبارها عن أحوال الأمم الماضية، والنبوات السابقة، والحوادث الواقعة، وقد اشتملت السنة على كثير من وقائع الماضي، وأحوال الناس وأخبارهم، وما جرى لهم، وحكت عنهم صورة ناطقة لما كانوا عليه. أنواع القصص في السنة: والقصص في السنة على أنواع منها: النوع الأول: قصص الأنبياء، بذكر شيء مما وقع لهم من الحوادث؛ كقصة إبراهيم مع زوجته وابنه إسماعيل في قدومهما إلى مكة، وموسى مع الخضر وغيرهما. النوع الثاني: قصص تتعلق بالحوادث الغابرة, والأخبار الماضية, كقصة أصحاب الغار، والرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ومن كان يتجاوز من الموسر ويخفف عن المعسر ونحوهم. فوائد القصص: وللقصص فوائد كثيرة، منها ما يلي: 1- تصديق الأنبياء، وإحياء ذكراهم، وبيان فضائلهم، كما في قصة إبراهيم في بناء الكعبة. 2- أنها ضرب من ضروب الأدب، يصغي إليه السمع، وترسخ عبره في النفس، ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ)) [يوسف:111]. 3- الحث على الأعمال الصالحة والترغيب فيها، بذكر ثمراتها العاجلة والآجلة، كما في قصة أصحاب الغار. 4- التنفير من الأعمال السيئة، وبيان سوء عاقبتها، كما في قصة النفر الثلاثة، ومنهم الأقرع والأبرص. القصص في السنة حقيقة لا خيال: إننا نؤمن إيمانًا جازِمًا بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق في نبوته وصادق في دعوته وصادق في كلامه، إذ ما ينطق فهو من الوحي، كما قال تعالى: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:3-4]. وبالتالي فالحقائق التي توجد في القصص كلها حقيقة لا خيال، بل القصص في السنة الصحيحة من أوثق المصادر، وما ورد فيها فهو موافق للواقع تمامًا. |
أثر القصص في التربية والتهذيب: مما لا شك فيه أن القصة المحكمة الدقيقة تطرق المسامع بشغف، وتنفذ إلى النفس البشرية بسهولة ويسر، والدروس التلقينية والإلقائية تورث الملل، ولا تستطيع الناشئة أن تتابعها وتستوعب عناصرها إلا بصعوبة، وإلى أمد قصير، ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا، وأكثر فائدةً. والمعهود من النفوس أنها تميل إلى سماع الحكايات والقصص، وهي أطول أمداً في الذاكرة ولذا ينبغي للمربين أن يفيدوا منها في مجالات التعليم والتربية. وفي القصص النبوية مادة خصبة تساعد المربين على النجاح في مهمتهم، وتمدهم بزاد تهذيبي، من سيرة النبيين، وأخبار الماضين. ويستطيع المربي أن يصوغ القصص النبوية بالأسلوب الذي يلائم المستوى الفكري للمتعلمين، في كل مرحلة من مراحل التعليم. ولأهميته القصص في السنة النبوية اخترنا طرفاً صالحاً منها من كتب السنة، وفق المنهج الأتي: 1- الاقتصار على ما صح سنده منها، ففيها الكفاية والغنية. 2- تخريج الأحاديث من كتب السنة المعتمدة. 3- شرح المفردات الغريبة في متن الحديث، مع شرح إجمالي للحديث عند الحاجة إلى ذلك. 4- ذكر أهم الفوائد المستنبطة من القصة. 5- الرجوع إلى المصادر الرئيسة، من شروح السنة، وغريب الحديث، وكتب اللغة، مع الإشارة إلى ذلك في الحاشية. هذا ونسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين. |
قصة خلق آدم عليه السلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا, ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِن الْمَلَائِكَةِ, فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ, فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه, فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ, فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ, فَلَمْ يَزَل الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ(1). شرح المفردات: (آدَمَ): وهو أبو البشر عليه السلام. و(الأدمة): السمرة، و(الآدم) من الناس: الأسمر. ومن الإبل: الشديد البياض, وقيل: الأبيض الأسود المقلتين. يقال: بعير (آدم)، وناقة (أدماء)(2). (ذِرَاعًا): ذراع اليد، يذكر ويؤنث. وهو: ما بين طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى(3). (سِتُّونَ ذِرَاعًا) قال ابن التين: المراد ذراعنا لأن ذراع كل أحد مثل ربعه ولو كانت بذراعه لكانت يده قصيرة في جنب طول جسمه. (يُحَيُّونَكَ): فعل مضارع منالتحية، وهي: السلام.قال تعالى: ((وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله على كل شيء حسيبًا)), [سورة النساء: 86]. يقول ابن كثير: " أي: إذا سلّم عليكم المسلم فردّوا عليه أفضل مما سلّم، أو ردّوا عليه بمثل ما سلّم(4). (ذُرِّيَّتكَ): ذرأ: خلق، ومنه الذرية: وهي: نسل الثقلين، وذرية الرجل: ولده، والجمع: الذراري، والذريات(5). (السَّلَامُ): الاسم من التسليم، والسلام اسم من أسماء الله تعالى(6). (الْخَلْقُ): أي: المخلوق، والمراد بنو آدم. (يَنْقُصُ): من نقص الشيءُ، من باب نصر، يتعدى ويلزم(7). شرح الحديث(8): في الحديث إشارة إلى خلق آدم، وأنه خلقه الله تعالى بيديه الشريفتين وطوله ستون ذراعاً, ولم ينتقل في النشأة أحوالاً كما هو حال أولاده، بل خلقه الله على الهيئة التي هو عليها. قال ابن حجر: وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَدَهُ عَلَى الْهَيْئَة الَّتِي خَلَقَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَنْتَقِل فِي النَّشْأَة أَحْوَالًا وَلَا تَرَدَّدَ فِي الْأَرْحَام أَطْوَارًا كَذُرِّيَّتِهِ, بَلْ خَلَقَهُ اللَّه رَجُلًا كَامِلًا سَوِيًّا مِنْ أَوَّل مَا نَفَخَ فِيهِ الرُّوح. (فَكُلّ مَنْ يَدْخُل الْجَنَّة عَلَى صُورَة آدَم) أَيْ عَلَى صِفَته, وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ صِفَات النَّقْص مِنْ سَوَاد وَغَيْره تَنْتِفِي عِنْد دُخُول الْجَنَّة, وَوَقَعَ عِنْد أَحْمَد مِنْ طَرِيق سَعِيد بْن الْمُسَيَّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَرْفُوعًا " كَانَ طُول آدَم سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَة أَذْرُع عَرْضًا "(9):. (فَلَمْ يَزَل الْخَلْقُ يَنْقُص حَتَّى الْآن) أَي: أَنَّ كُلّ قَرْن يَكُون نَشَأْته فِي الطُّول أَقْصَر مِن الْقَرْن الَّذِي قَبْله, فَانْتَهَى تَنَاقُص الطُّول إِلَى هَذِهِ الْأُمَّة وَاسْتَقَرَّ الْأَمْر عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابن التِّين قَوْله: " فَلَمْ يَزَل الْخَلْق يَنْقُص " أَي: كَمَا يَزِيد الشَّخْص شَيْئًا فَشَيْئًا, وَلَا يَتَبَيَّن ذَلِكَ فِيمَا بَيْن السَّاعَتَيْنِ وَلَا الْيَوْمَيْنِ حَتَّى إِذَا كَثُرَت الْأَيَّام تَبَيَّنَ, فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْم فِي النَّقْص, وَيَشْكُل عَلَى هَذَا مَا يُوجَد الْآن مِنْ آثَار الْأُمَم السَّالِفَة كَدِيَارِ ثَمُود فَإِنَّ مَسَاكِنهمْ تَدُلّ عَلَى أَنَّ قَامَاتهمْ لَمْ تَكُنْ مُفْرِطَة الطُّول عَلَى حَسَب مَا يَقْتَضِيه التَّرْتِيب السَّابِق, وَلَا شَكَّ أَنَّ عَهْدهمْ قَدِيم, وَأَنَّ الزَّمَان الَّذِي بَيْنهمْ وَبَيْن آدَم دُون الزَّمَان الَّذِي بَيْنهمْ وَبَيْن أَوَّل هَذِهِ الْأُمَّة. (قال ابن حجر): وَلَمْ يَظْهَر لِي إِلَى الْآن مَا يُزِيل هَذَا الْإِشْكَال. من فوائد الحديث: 1- كمال قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته، فهو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار. 2- مشروعة السلام, وأنه تحية أهل الإسلام, من آدم عليه السلام, إلى محمد عليه الصلاة والسلام وأمته. 3- في الحديث دليل على فساد النظريات الغربية التي تحدثت عن أصل الإنسان، رجماً بالغيب، وقد جلت النصوص الشرعية ذلك وبينته غاية البيان، كما في هذا الحديث وغيره. ________________ الهوامش: (1) صحيح البخاري، برقم: (3326), وصحيح مسلم، ح: ( 2841). (2) مختار الصحاح للرازي، ص:10. (3) مختار الصحاح، ص: 221، ولسان العرب 5/ 447. حرف العين، فصل الذال. (4) تفسير ابن كثير، 2/324. (5) مختار الصحاح للرازي، ص: 220-221 بتصرف. (6) المرجع السابق، ص: 311. (7) مختار الصحاح للرازي، ص: 676 بتصرف. (8) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري للعسقلاني، 6 / 367. (9) روا أحمد 2/ 535، وصححه الألباني، مشكاة المصابيح رقم 5736 . |
قصة إبراهيم عليه السلام عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ؛ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ، وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ، فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ؛ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ((رَبِّ إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) حَتَّى بَلَغَ ((يَشْكُرُونَ)) وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَت الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَت الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِن الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَت الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَت الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَت الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا"، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ؛ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ؛ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِن الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِن الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا"، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِن الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ! فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ، فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا، قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ، فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ؛ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ، فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ، قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَقَدْ أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَطَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، فَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟ وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَت: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَت: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ وَلَوْ كَانَ لَهُمْ دَعَا لَهُمْ فِيهِ، قَالَ: فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا لَمْ يُوَافِقَاهُ" قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلَامَ وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ بِشَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ، قَالَ: ذَاكِ أَبِي وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ أَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ ،فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِن الْبَيْتِ فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ))قَالَ: فَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولَانِ: ((رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))(1). الهوامش: (1) صحيح البخاري، برقم: (3364)، ص: (561-563). |
شرح المفردات (الْمِنْطَق): بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفَتْح الطَّاء هُوَ مَا يُشَدّ بِهِ الْوَسَط. (عِنْد دَوْحَة): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْوَاو ثُمَّ مُهْمَلَة: الشَّجَرَة الْكَبِيرَة. (فِي أَعْلَى الْمَسْجِد): أي: مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بُنِيَ. (وَسِقَاء): السِّقَاء بِكَسْرِ أَوَّله؛ قِرْبَة صَغِيرَة. (ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم): أي: وَلَّى رَاجِعًا إِلَى الشَّام. (يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّط): وَمَعْنَى "يَتَلَبَّط" وَهُوَ بِمُوَحَّدَةٍ وَمُهْمَلَة يَتَمَرَّغ وَيَضْرِب بِنَفْسِهِ الْأَرْض. (ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ): أي: الَّذِي أَصَابَهُ الْجَهْد وَهُوَ الْأَمْر الْمُشِقُّ. (فَقَالَتْ: صَهٍ): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَسُكُون الْهَاء وَبِكَسْرِهَا مُنَوَّنَة، كَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ لَهَا: اُسْكُتِي. (غَوَاثٍ): بِفَتْح أَوَّله لِلْأَكْثَرِ وَتَخْفِيف الْوَاو وَآخِره مُثَلَّثَة، قِيلَ: وَلَيْسَ فِي الْأَصْوَات فَعَالٍ بِفَتْح أَوَّله غَيْره، وَحَكَى ابن الْأَثِير ضَمَّ أَوَّله، وَالْمُرَاد بِهِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَغِيث، وَجَزَاء الشَّرْط مَحْذُوف تَقْدِيره فَأَغِثْنِي. (فَجَعَلَتْ تُحَوِّضهُ): بِحَاءٍ مُهْمَلَة وَضَاد مُعْجَمَة وَتَشْدِيد، أي: تَجْعَلهُ مِثْل الْحَوْض. (لَوْ تَرَكْت زَمْزَم، أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِف مِنْ زَمْزَم): شَكّ مِن الرَّاوِي، وَهَذَا الْقَدْر صَرَّحَ ابن عَبَّاس بِرَفْعِهِ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهِ إِشْعَار بِأَنَّ جَمِيع الْحَدِيث مَرْفُوع. (عَيْنًا مَعِينًا): أي: ظَاهِرًا جَارِيًا عَلَى وَجْه الْأَرْض. (لَا تَخَافُوا الضَّيْعَة): بِفَتْح الْمُعْجَمَة وَسُكُون التَّحْتَانِيَّة أي: الْهَلَاك. (رُفْقَة): بِضَمِّ الرَّاء وَسُكُون الْفَاء ثُمَّ قَاف وَهُم الْجَمَاعَة المخْتَلِطُونَ سَوَاء كَانُوا فِي سَفَر أَمْ لَا. (عَائِفًا): بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاء هُوَ الَّذِي يَحُوم عَلَى الْمَاء وَيَتَرَدَّد وَلَا يَمْضِي عَنْهُ. (فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا): بِفَتْح الْجِيم وَكَسْر الرَّاء وَتَشْدِيد التَّحْتَانِيَّة أيْ رَسُولًا، وَقَدْ يُطْلَق عَلَى الْوَكِيل وَعَلَى الْأَجِير، قِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى مُرْسِله أَوْ مُوَكِّله، أَوْ لِأَنَّهُ يَجْرِي مُسْرِعًا فِي حَوَائِجه. (فَأَلْفَى ذَلِكَ): بِالْفَاءِ أَي: وَجَدَ. (وَهِيَ تُحِبّ الْأُنْسَ): بِضَمِّ الْهَمْزَة ضِدّ الْوَحْشَة، وَيَجُوز الْكَسْر أي: تُحِبّ جِنْسَهَا. (وَأَنْفَسهمْ): بِفَتْح الْفَاء بِلَفْظِ أَفْعَل التَّفْضِيل مِن النَّفَاسَة، أي: كَثُرَتْ رَغْبَتهمْ فِيهِ. (يُطَالِع تَرِكَته): بِكَسْرِ الرَّاء أي، يَتَفَقَّد حَال مَا تَرَكَهُ هُنَاكَ. (خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا): أي: يَطْلُب لَنَا الرِّزْق. (عَتَبَة بَابك): بِفَتْح الْمُهْمَلَة وَالْمُثَنَّاة وَالْمُوَحَّدَة كِنَايَة عَن الْمَرْأَة، وَسَمَّاهَا بِذَلِكَ لِمَا فِيهَا مِن الصِّفَات الْمُوَافِقَة لَهَا؛ وَهُوَ حِفْظ الْبَاب، وَصَوْن مَا هُوَ دَاخِله، وَكَوْنهَا مَحَلّ الْوَطْء. (يَبْرِي نَبْلًا): بِفَتْحِ أَوَّله وَسُكُون الْمُوَحَّدَة، وَالنَّبْل بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْمُوَحَّدَة السَّهْم قَبْل أَنْ يُرَكَّب فِيهِ نَصْله وَرِيشه، وَهُوَ السَّهْم الْعَرَبِيّ. (فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَع الْوَالِد بِالْوَلَدِ وَالْوَلَد بِالْوَالِدِ): يَعْنِي: مِن الِاعْتِنَاق وَالْمُصَافَحَة وَتَقْبِيل الْيَد وَنَحْو ذَلِكَ. (جَاءَ بِهَذَا الْحَجَر): يَعْنِي الْمَقَام. الهوامش: (1) ينظر: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، 6/ 400- 406. |
من فوائد الحديث 1- المؤمن يستسلم لأوامر الله، ويؤثر طاعته ومحبته على كل شئ، ولو كان الزوجة الصالحة أو الولد الوحيد، فإبراهيم ينفذ أمر الله تعالى حينما أمره أن يحمل زوجته (هاجر) وولدها الرضيع (إسماعيل) إلى واد غير ذي زرع، لا أنيس فيه ولا زاد. 2- أن هاجرة كانت مطيعةً لزوجها ومؤمنةً بربها، ومتوكلةً عليه حق التوكل، حيث صبرت وصابرت، ورضيت بالإقامة في واد غير ذي زرع لا أنيس فيه ولا زاد، بعد أن اطمأنت أن إبراهيم عليه السلام أسكنها في هذا الوادي بأمر من الله تبارك وتعالى، ففي الحديث: " ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا, فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ, فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا, وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا, فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ". وهكذا المرأة الصالحة تستجيب لأمر الله، على قضائه، وتعين زوجها على طاعة الله تعالى. 3- إبراهيم يترك زوجته الوفية، وولده الصغير في الوادي بعد أن زودهم بكيس من التمر، وسقاء فيه ماء، ثم دعا لهم: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادي غير ذي زرع عند بيتك المحرم). وبذلك يعلمنا إبراهيم عليه السلام أن نجمع بين الدعاء والأخذ بالأسباب. 4- أن الله تعالى سنّ للحجاج والمعتمرين أن يسعوا بين الصفا والمروة لكي يتذكروا ما جرى لأمهم هاجر، فصار ذلك الفعل منسكًا إلى يوم القيامة يتعبد ويتقرب به إلى الله تبارك وتعالى. 5- أم إسماعيل تبحث عن الماء عندما نفد من عندها، وتأخذ بالأسباب وتسعى بين الصفا والمروة عدة مرات حتى يسر الله تعالى لها ولولدها الماء (زمزم). 6- أن الله تبارك وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حيث إن إبراهيم ترك أهله في مكة امتثالاً لربه تعالى، ومؤمنًا به ومتوكلاً عليه، ولا يوجد يومئذ هناك أحد من بني آدم غيرهم، فلم يضيع الله أهله، بل رزقهم من عنده، وأجرى لهم بئر زمزم ماءً مباركاً يستقي منه الناس إلى اليوم، وجاء بأناس من قبيلة جرهم لكي يسكنوا معهم فيأنسون بهم، وتذهب وحشتهم. 7- يجوز للإنسان أن يطلب الغوث والعون من غيره فيما يقدر عليه كما فعلت أم إسماعيل، وأما سؤال الميت والغائب، أو فيما لا يقدر عليه الإنسان فلا يجوز ذلك وهو من الشرك. 8- إن الله اصطفى آل إبراهيم، وجعل من ذريته الأنبياء والمرسلين، فكيف يرضى إبراهيم لولده إسماعيل بزوجة لا تحيا بروحها، بل تعيش لجسدها، ولا يهمها إلا الطعام والشراب، فتزدري ضيفها أبا زوجها، فتجحد نعمة ربها، وتشكو سوء معيشتها، لذلك أشار إبراهيم على ولده إسماعيل بفراقها، والتخلص منها. 9- الزوجة الثانية لإسماعيل صالحة، تحترم ضيفها، وتشكر نعمة ربها، لذلك يشير إبراهيم على ولده إسماعيل بإمساكها ورعايتها. 10- الطاعة والصبر لهما عاقبة محمودة، وذكرى خالدة، فالمكان الموحش الذي نزلت فيه هاجر أم إسماعيل، وهو مجدب يصبح فيما بعد حرماً آمناً، وبلداً مسكوناً، فيه ماء مبارك)زمزم) تهوي إليه أفئدة الناس، وتأتيه الثمرات، وتقصده الوفود للحج من كل فج عميق، ليشهدوا المنافع الدنيوية والآخروية. 11- أن التربية الحسنة لها أثر كبير في صلاح الأولاد - بعد توفيق الله تبارك وتعالى - وقد تجلى هذا في امتثال إسماعيل أوامر أبيه إبراهيم - عليهما السلام-؛ في طلاق زوجته، وفي إعانته على بناء الكعبة، وقبل ذلك حين قال له أبوه: ((يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)) [الصافات:102]. 12- مشروعية سؤال الله تعالى قبول الأعمال الصالحة فقد بنى إبراهيم الكعبة بيديه وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يدعوان الله تبارك وتعالى أن يتقبل منهما، قال عز وجل: ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:127-128]. فتقبل الله منهم هذا الدعاء ورفع شأنهم، وأعلى منزلتهم. |
قصة الأعمى والأقرع والأبرص عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ ثَلَاثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، بَدَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا، فَأَتَى الْأَبْرَصَ، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْإِبِلُ أَوْ قَالَ: الْبَقَرُ، هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ إِنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ؛ فَأُعْطِيَ نَاقَةً عُشَرَاءَ، فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. قَالَ: فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا، وَأَتَى الْأَعْمَى، فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ: فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ غَنَمٍ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ بَعِيرًا؛ أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ؛ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الْأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ، وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي، فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ؛ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ(1). شرح المفردات(2): (بَدَا لِلَّهِ): بِتَخْفِيفِ الدَّال الْمُهْمَلَة بِغَيْرِ هَمْز، أَي: سَبَقَ فِي عِلْم اللَّه فَأَرَادَ إِظْهَاره، وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بَعْد أَنْ كَانَ خَافِيًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَال فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى. (قَذِرَنِي النَّاس): بِفَتْحِ الْقَاف وَالذَّال الْمُعْجَمَة الْمَكْسُورَة أَي: اشمَأَزُّوا مِنْ رُؤْيَتِي. (فَمَسَحَهُ): أَي: مَسَحَ عَلَى جِسْمه. (فَأُعْطِيَ نَاقَة عُشَرَاء): أَي: الَّذِي تَمَنَّى الْإِبِل، وَالْعُشَرَاء بِضَمِّ الْعَيْن الْمُهْمَلَة وَفَتْح الشِّين الْمُعْجَمَة مَعَ الْمَدّ هِيَ الْحَامِل الَّتِي أَتَى عَلَيْهَا فِي حَمْلهَا عَشْرَة أَشْهُر مِنْ يَوْم طَرَقَهَا الْفَحْل، وَقِيلَ: يُقَال لَهَا ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَلِد وَبَعْدَمَا تَضَع، وَهِيَ مِنْ أَنْفَس الْمَال. (فَمَسَحَهُ): أي: مَسَحَ عَلَى عَيْنَيْهِ. (شَاة وَالِدًا): أي: ذَات وَلَد، وَيُقَال: حَامِل. (فَأَنْتَجَ هَذَانِ): أي: صَاحِب الْإِبِل وَالْبَقَر. (وَوَلَّدَ هَذَا): أي: صَاحِب الشَّاة، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ اللَّام. (ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَص فِي صُورَته): أي: فِي الصُّورَة الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ أَبْرَص؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَة الْحُجَّة عَلَيْهِ. (تَقَطَّعَتْ بِهِ الْحِبَال فِي سَفَره): الحِبَال بِكَسْرِ الْمُهْمَلَة بَعْدهَا مُوَحَّدَة خَفِيفَة جَمْع حَبْل، أَي: الأسْبَاب الَّتِي يَقْطَعُهَا فِي طَلَب الرِّزْق، وَقِيلَ: الْعَقَبَات، وَقِيلَ: الْحَبْل؛ هُوَ الْمُسْتَطِيل مِن الرَّمْل. (رَجُل مِسْكِين): قال ابن التِّين: قَوْل الْمَلَك لَهُ " رَجُل مِسْكِين إِلَخ " أَرَادَ أَنَّك كُنْت هَكَذَا، وَهُوَ مِن الْمَعَارِيض، وَالْمُرَاد بِهِ ضَرْب الْمَثَل لِيَتَيَقَّظ الْمُخَاطَب. (أَتَبَلَّغ عَلَيْهِ): بِالْغَيْن الْمُعْجَمَة مِن الْبُلْغَة، وَهِيَ الْكِفَايَة. وَالْمَعْنَى: أَتَوَصَّل بِهِ إِلَى مُرَادِي. (لَقَدْ وَرِثْت لِكَابِرِ عَنْ كَابِر): فِي رِوَايَة الْكُشْمِيهَنِيِّ " كَابِرًا عَنْ كَابِر " وَفِي رِوَايَة شَيْبَانَ " إِنَّمَا وَرِثْت هَذَا الْمَال كَابِرًا عَنْ كَابِر " أي: كَبِير عَنْ كَبِير فِي الْعِزّ وَالشَّرَف. (فَقَالَ: إِنْ كُنْت كَاذِبًا فَصَيَّرَك اللَّهُ) أَوْرَدَهُ بِلَفْظِ الْفِعْل الْمَاضِي لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمُبَالَغَة فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ. (لَا أَجْهَدُك الْيَوْم بِشَيْء أَخَذْتَهُ لِلَّهِ) وَالْمَعْنَى: لَا أَحْمَدك عَلَى تَرْك شَيْء تَحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ مَالِي، كَمَا قَالَ الشَّاعِر وَلَيْسَ عَلَى طُول الْحَيَاة تَنَدُّم، أي: فَوْت طُول الْحَيَاة، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأَكْثَر رِوَايَات مُسْلِم " لَا أُجْهِدك " بِالْجِيمِ وَالْهَاء، أي: لَا أَشُقّ عَلَيْك فِي رَدّ شَيْء تَطْلُبهُ مِنِّي أَوْ تَأْخُذهُ. (فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ): أي: اُمْتُحِنْتُمْ. الهوامش: (1) صحيح البخاري، برقم: (3464)، وصحيح مسلم، ح: ( 2964). (2) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 6/ 502-503. |
من فوائد الحديث: 1- اختبار الله لعباده، وامتحانه لهم ليتبين الصادق من الكاذب. 2- أن الابتلاء يكون في النفس والمال والأولاد وغيرها . 3- لا شيء أحب للمبتلى بالمرض من ذهاب مرضه ومعافاته . 4- أن الله تعالى هو الذي يعطي ويمنع ، ويغني ويفقر ، بتقديره وحكمته، فعلى المسلم أن يعلق قلبه بالله تعالى فلا يخاف إلا منه ولا يرجو إلا إياه. 5- من التوحيد والأدب أن تنسب الشفاء والغنى إلى الله وحده (قد كنت أعمى فرد الله بصري). 6- الإنسان الجاهل يبخل وقت الغنى ، والعاقل يعطى بسخاء متذكراً قول النبي صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً)(1). 7- بعض الأغنياء ينسون ماضيهم وأيام بؤسهم وفقرهم ويغضبون ممن يذكرهم به، مع ما فيه من الخير لهم بتذكر نعمة الله تعالى والزيادة في شكرها . 8- من شَكَر النعمة، وأعطى الفقراء زاده الله غنى ، وبارك له ، ومن بخل فقد عرض نفسه لزوال النعمة وسخط الرب القائل : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [سورة إبراهيم: 7]. 9- الكرم وبذل الحقوق الواجبة يجلب النعمة ويذهب بالنقمة ، ويرضي الرب ، والبخل ومنع الحقوق الواجبة يجلب السوء ويسخط الرب كما قال تعالى: (هَاْ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوْا فِيْ سَبِيْلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلُ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاْءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُوْنُوْا أَمْثَاْلَكُمْ)[سورة محمد: 38]. 10- وَفِي الْحَدِيث جَوَاز ذِكْر مَا اتَّفَقَ لِمَنْ مَضَى لِيَتَّعِظ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ وَلاَ يَكُون ذَلِكَ غِيبَة فِيهِمْ, وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرّ فِي تَرْك تَسْمِيَتهمْ, وَلَمْ يُفْصِح بِمَا اِتَّفَقَ لَهُمْ بَعْد ذَلِكَ, وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ الأَمْر فِيهِمْ وَقَعَ كَمَا قَالَ الْمَلَك. 11- وَفِيهِ التَّحْذِير مِنْ كُفْرَان النِّعَم وَالتَّرْغِيب فِي شُكْرهَا وَالإِعْتِرَاف بِهَا وَحَمْد اللَّه عَلَيْهَا. 12- وَفِيهِ فَضْل الصَّدَقَة وَالْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَآرِبهمْ. 13- وَفِيهِ الزَّجْر عَن الْبُخْل, لأَنَّهُ حَمَلَ صَاحِبه عَلَى الْكَذِب, وَعَلَى جَحْد نِعْمَة اللَّه تَعَالَى(2). __________________ (1) أخرجه البخاري، في الزكاة, باب قول الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىْ وَاتَّقَىْ . وَصَدَّقَ بِالحْسُنْىَ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّاْ مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَىْ . وَكَذَّبَ بِاْلْحُسْنَىْ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىْ)، ومسلم في الزكاة باب في المنفق والممسك رقم 1010. (2) ينظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، 6/ 503. |
القصص في السنة النبوية أهمية القصص النبوي1 بقلم: د. علي جمعة لقد ذخرت السنة النبوية بالكثير من النصوص ذات الطابع القصصي لترشد الناس نحو مبادئ الدين وتعاليمه السامية, متعاونة في هذا مع وسائل الدعوة الأخري في إيجاد الفرد الصالح والمجتمع السليم, كما أسهمت القصة في التأكيد علي كثير من مبادئ العقيدة والعبادة والأخلاق, بحيث يمكن لأي إنسان ـ فضلا عن أن يكون عالما ـ أن يستلهم من نصوص السنة القصصية الصحيحة ماينفعه في دينه ودنياه. ولم يكن غريبا أن تحتذي السنة النبوية بالقرآن الكريم في اشتمالها علي عدد كثير من القصص, فقد استحوذت القصة علي جانب كبير من توجيهات القرآن الكريم, وأسهمت في تأسيس قواعد الدين وتوضيح معالمه, يقول الله تعالي: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين,( يوسف:3) وفي بيان الغاية من سوق القصص في القرآن يقول سبحانه: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون,( الأعراف:176), ويقول: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة لقوم يؤمنون, يوسف:111, وإنما اتجه القرآن الكريم إلي أسلوب القصص في ترسيخ مبادئ الدعوة لما له من فوائد في تحقيق المراد من هداية العباد, فضلا عن رغبة العربي في القصص واستملاحه لها, فقد اورد الزمخشري في تفسير قوله تعالي: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا,( لقمان:6), أن النضر بن الحارث كان يشتري كتب الاعاجم ويحدث بما قريشا ويقول: إن محمدا يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بأحداث رستم وبهرام والأكاسرة وملوك الحيرة, فيستمحلون حديثه ويتركون استماع القرآن,( تفسير الكشاف:239/3). وكان لجوء القرآن الكريم إلي استخدام القصة كأسلوب من اساليب الدعوة مشجعا لكل من ارتبط بالقرآن لينهج نهجه في توظيف القصة لخدمة الدعوة, وبدا هذا واضحا في سنته ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقد ظهر تأثره صلي الله عليه وسلم بقصص القرآن في سلوكه وأخلاقه, ومن أمثلة ذلك ماورد: أنه صلي الله عليه وسلم قسم يوم حنين الغنائم فآثر ناسا, فقال رجل: والله, إن هذه القسمة ماعدل فيها, وما أريد بها وجه الله, فقال عليه الصلاة والسلام, فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ رحم الله موسي فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر,( صحيح البخاري1148/3). كما ظهر اقتداؤه صلي الله عليه وسلم بالقصص القرآني في طريقة عرضه, فكان يختار القصص من تاريخ السابقين ليشرح لنا مايريد من المعاني بالأمثلة التي تجسد الواقع في صورة الماضي المعروف سلفا ليرسخ في ذهن المتلقي فلاينساه. وإنما كان هذا الاهتمام البالغ بالقصة لما لها من اثر واضح في التوجيه والتربية وايصال المفاهيم, إذ الإنسان يولع بالقصص ويميل بفطرته إليها, وإذا ماقص عليه جزء من قصة حرص علي متابعة أحداثها ليعرف مدي ماوصلت إليه, فغريزة حب الاستطلاع تعلق عين السامع وأذنه وانتباهه بشفتي القصصي البارع استشرافا لمعرفة ماخفي من بقيتها, ومما يدل علي هذا الميل الفطري نحو القصة والرغبة في تتبع أحداثها ماورد عنه صلي الله عليه وسلم أنه لما ذكر قصة موسي مع الخضر قال: وددنا لو أن موسي صبر فقص الله علينا من خبرهما,( صحيح البخاري1347/3). والقصص أسلوب تربية عملية يشد من أزر المتمسكين بالحق والثابتين عليه, أسوة بمن سبقوهم علي الطريق, ومن ثم كان النبي صلي الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلي استقراء تاريخ الثابتين علي الحق إذا أراد أن يقوي عزائمهم, ويشد من أزرهم في مواجهة الصعاب. فعن خباب بن الارت قال: شكونا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة, قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه, فيجاء بالمنشار فيوضع علي رأسه, فيشق اثنتين, ومايصده ذلك دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه,( صحيح البخاري1322/3). إن القصة أداة سهلة الفهم تحظي بالقبول من العامة والخاصة علي السواء, ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده, ومازالت تؤدي دورها في عالمنا المعاصر بصورة كبيرة جعلتها صاحبة المكانة الأولي في عالم الأدب اليوم, وما من شك هنا ان إقبال الناس علي القصص النبوي وتعلقهم بأحداثها يعمق مضامينها في نفوسهم ويمكنهم من الاستيعاب الجيد والتأثر بالأحداث واستخراج العبر والعظات, فضلا عن إستنباط الأحكام الشرعية والقيم النبيلة من السنة النبوية والتي لاتختلف لدي الإنسان عبر الزمان والمكان. http://www.ahram.org.eg/The-Writers/...ages/bolet.jpg |
القصص في السنة النبوية2 التوبة باب الله الواسع بقلم: د. علي جمعة دلت النصوص الشرعية من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة علي أن باب التوبة لا يغلق أمام أحد, وتواترت الأدلة علي أن الإنسان مهما فعل من آثام فإن هذا لا يسلبه ثوب التقي إذا أفاق من غفلته وبادر بالرجوع إلي ربه, كما قال تعالي:, إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون],الأعراف:201], وقال:, وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدي, طه:82], وهذه الأهمية القصوي للتوبة وتأكيدا علي فضل الله الواسع في قبول التائبين إليه أوردت لنا سنة النبي صلي الله عليه وسلم بعضا من القصص في هذا الجانب ليعيش الناس الواقع العملي مدعما بالكثير من شواهد القرآن والسنة في الجانب النظري. فعن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلي الله عليه وسلم قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن أعلم الأرض فدل علي راهب, فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبه؟ قال: لا. فقتله, فكمل به مائة. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل علي رجل عالم, فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال: نعم, ومن يحول بينه وبين التوبة؟انطلق إلي أرض كذا وكذا, فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم, ولا ترجع إلي أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتي إذا نصف الطريق أتاه الموت, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلي الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فقالوا: قيسوا ما بين الأرضين, فإلي أيتهما كان أدني فهو له, فأوحي الله إلي هذه أن تقربي وأوحي الله إلي هذه أن تباعدي; فقاسوه فوجدوه أدني إلي الارض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة., صحيح البخاري1280/3, ومسلم2118/4]. وهذه القصة أصل عظيم في الدلالة علي قبول التوبة من المذنب, وإن تفاحش ذنبه وتعاظم إثمه, طالما صلحت سريرته ووافقتها علانيته. وقد نطقت بذلك آيات القرآن وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم, فالله تعالي يقول:قل يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم, الزمر:53], وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله علبه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبو ذهب الله بكم,ولجاءبقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم, صحيح مسلم2106/4]. وتدل قصة هذا الرجل علي سعه رحمة الله تعالي وأنها تغلب غضبه,أن صدق العبد في التوجه إلي الله يمنحه, فوق قبول الله له, توفيقا وهداية إلي الطريق المستقيم; فما ورد في الحديث من تقريب أرض التوبة يشعر بأن الله لايقبل التوبة عن عباده فحسب, بل يزيدهم فوق القبول من فضله, وإن كانت الرحمة من الله واسعة كما أرادها رب العزة فمن الخذلان أن يضيق أحد من الناس ما وسعة الله لفساد في عقله وسوء في فكره, وهذا ما أشارت إليه القصة. ويستفاد من هذه القصة أيضا فضل العلم علي العبادة,وذلك لأن إنقاذ هذا الرجل التائب من الهلكة ودلالته علي طريق الحق كانت علي يد العالم, في حين أن العاكف علي العبادة قد ضل عن وجه الصواب فعرض نفسه للهلاك بجهله, وكاد العبد التائب أن يقنط بسببه من رحمة الله; ولهذا فإن من أهم فوائد تلك القصة ضرورة التحري عمن يستفتيهم الإنسان في أمر دينه حتي لا يضل, فعن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم, وهو ما يمكن أن نسميه الفرق بين الدين كعلم, وهذا شأن العلماء, وبين التدين كسلوك شخصي, وهذا قد يجيده غير العلماء, ولكنه يظل خاصا بصاحبه. وفي إشارة العالم علي العابد التائب بمفارقة أرضه والتحويل إلي أخري فيها رجال صالحون ليعبد الله معهم, فيها ما فيها ما يفيد أن من كمال التوبة مفارقة مواطن المعصية وأصدقاء السوء, ليكون في مأمن من الانزلاق مرة ثانية, وليجد من حول من يقيل عثرته, ويعلي همته; إذ للبيئة أثر كبير في تكوين شخصية الفرد وجدير بالبيان أن نفع التوبة في تلك القصة كان منوطا بما بين العبد وربه, وحقوق الله مبنية علي المساحة. وهذا من باب الديانه, أمام من باب القضاء فقد أبانت الشريعة الإسلامية أن حقوق العباد مبينة علي المشاححة, وهذا شأن أهل القضاء, ثم بعد ذلك: فمن عفا وأصلح فأجره علي الله], الشوري:40]. فيلغتنم كل امريء باب التوبة المفتوح دائما إلي الله. |
القصص في السنة النبوية3 السبيل إلي شكر النعم بقلم: د. علي جمعة إن شكر نعم الله ـ تعالي علينا واجب في كل حين فما من نفس نبديه إلا ولله علينا منة فيه, وسبيل شكر النعمة يكون بالعمل فيها بما يحبه تعالي, وقد بين صلي الله عليه وسلم لنا فضل استعمال نعم الله ـ تعالي فيما يحب في أحاديث عدة, ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم ـ يقول: إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمي, بدا لله أن يبتليهم, فبعث إليهم ملكا, فأتي الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن, قد قذرني الناس. قال: فمسحه, فذهب عنه فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا, فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل, فأعطي ناقة عشراء, فقال: يبارك لك فيها, وأتي الأقرع فقال له مثل ذلك, فطلب شعرا حسنا وبقرا فأعطي ما طلب. وأتي الأعمي فقال له مثل ذلك, فطلب أن يرد الله له بصره وغنما, فأعطي ما طلب. قال: فأنتج هذان, وولد هذا, كان لهذا واد من إبل, ولهذا واد من بقر, ولهذا واد من غنم. ثم أتي الأبرص في صورته وهيئته, فقال: رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلابالله ثم بك. أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ عليه في سفري. فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك, ألم تكن أبرص يقذرك الناس, فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلي ما كنت. وأتي الأقرع في صورته وهيئته, فقال له مثل ما قال لهذا, فرد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلي ما كنت. وأتي الأعمي في صورته, فقال: رجل مسكين وابن سبيل وتقطعت بي الحبال في سفري, فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك, أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري, فقال: قد كنت أعمي فرد الله بصري, وفقيرا فقد أغناني, فخذ ما شئت, فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك, فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط علي صاحبيك, صحيح البخاري1276/3] بهذه القصة علم صلي الله عليه وسلم أصحابه وأمته من بعده أن الله تعالي يبتلي عباده أحيانا بإسباغ النعم ليري أيشكرونها أم يكفرونها, قال تعالي: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن, الفجر:15]. وإنما يكون الحفاظ علي النعمة كما تعلمنا القصة بدوام شكرها, فبشكر النعمة نحافظ بها علي الموجود ونستجلب المفقود, وقد وعدنا سبحانه بالزيادة إن شكرنا نعمه, فقال تعالي: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد, إبراهيم:7] والقصة ترسم لنا طريقين لشكر النعمة, أولهما: أن يكثر من أنعم الله عليه بالثناء علي الله صاحب النعمة, وألا يتلفظ بلفظ أو يصنع شيئا يدل علي نكرانه لهذه النعمة, وأن يقر بأنها في الحقيقة من عند الله ـ تعالي ولا يد له فيها. وقد قيل: من كتم النعمة فقد كفرها, ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها. وأولي خطوات ذكرها الوقوف عليها ومعرفتها, يقول الإمام الغزالي: اعلم أنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة, فإنهم منعوا بالجهل والغفلة عن معرفة النعم, ولا يتصور شكر النعمة إلا بعد معرفتها, إحياء علوم227/2] والطريق الثاني: أن يسخر النعمة فيما خلقت له, فإن أنعم الله عليه بمال فلينفق مما أعطاه الله, وإن أنعم الله عليه بقوة فليعن من يستعين به, وإذا أنعم الله عليه بجاه فليشفع في الخير وفي إعطاء المظلوم حقه. والله ـ تعالي يشير إلي هذا الطريق العملي من الشكر في قوله عز وجل: اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور, سبأ:13]. وقد بينت القصة نسبة تلك القلة المذكورة في الآية علي سبيل بيان المحمل فذكرت أن ثلثي الخلق ـ علي وجه التقريب ـ لا يتحققون بخلق شكر النعمة, في حين لا يقوم به إلا الثلث الباقي, والثلث في مقابل الثلثين قليل, إذا ما نظر إلي حجم النعم وعظمة معطيها. ولذا وجب علي كل إنسان أن يحمد الله ويشكره علي نعمه التي لا تحصي, وأن يتبع المنهج الذي أبانه صلي الله عليه وسلم في القصة للحفاظ عليها بشكرها واستخدامها في طاعة الله حتي لا يعرضها للزوال, قال ابن عطاء الله السكندري:( من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها, ومن شكرها فقيد قيدها بعقالها).. فاللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمك, العاملين فيها بما تحب. |
قصة أم زرع قال الإمام البخاري -رحمه الله-: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ, قَلاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ, حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ, قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا, قَالَت الْأُولَى: زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ, لاَ سَهْل فَيُرْتَقَى وَلاَ سَمِين فَيُنْتَقَلُ, قَالَت الثَّانِيَةُ: زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ, إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ, إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ, قَالَت الثَّالِثَةُ: زَوْجِي الْعَشَنَّقُ؛ إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ, وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ, قَالَت الرَّابِعَةُ: زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ؛ لاَ حَرٌّ وَلاَ قُرٌّ, وَلاَ مَخَافَةَ وَلاَ سَآمَةَ, قَالَت الْخَامِسَةُ: زَوْجِي إِنْ دَخَلَ فَهِدَ, وَإِنْ خَرَجَ أَسِدَ, وَلاَ يَسْأَلُ عَمَّا عَهِدَ, قَالَت السَّادِسَةُ: زَوْجِي إِنْ أَكَلَ لَفَّ, وَإِنْ شَرِبَ اشْتَفَّ, وَإِن اضْطَجَعَ الْتَفَّ, وَلاَ يُولِجُ الْكَفَّ لِيَعْلَمَ الْبَثَّ, قَالَت السَّابِعَةُ: زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ طَبَاقَاءُ, كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ, شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ, قَالَت الثَّامِنَةُ: زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ, وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ, قَالَت التَّاسِعَةُ: زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ, طَوِيلُ النِّجَادِ, عَظِيمُ الرَّمَادِ, قَرِيبُ الْبَيْتِ مِن النَّادِ, قَالَت الْعَاشِرَةُ: زَوْجِي مَالِكٌ! وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ, لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ, قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ, وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ, قَالَت الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: زَوْجِي أَبُو زَرْعٍ! وَمَا أَبُو زَرْعٍ؟ أَنَاسَ مِنْ حُلِيٍّ أُذُنَيَّ, وَمَلاَ مِنْ شَحْمٍ عَضُدَيَّ, وَبَجَّحَنِي فَبَجِحَتْ إِلَيَّ نَفْسِي, وَجَدَنِي فِي أَهْلِ غُنَيْمَةٍ بِشِقٍّ فَجَعَلَنِي فِي أَهْلِ صَهِيلٍ وَأَطِيطٍ وَدَائِسٍ وَمُنَقٍّ, فَعِنْدَهُ أَقُولُ فَلاَ أُقَبَّحُ, وَأَرْقُدُ فَأَتَصَبَّحُ, وَأَشْرَبُ فَأَتَقَنَّحُ. أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؛ فَمَا أُمُّ أَبِي زَرْعٍ؟ عُكُومُهَا رَدَاحٌ, وَبَيْتُهَا فَسَاحٌ. ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؛ فَمَا ابْنُ أَبِي زَرْعٍ؟ مَضْجَعُهُ كَمَسَلِّ شَطْبَةٍ, وَيُشْبِعُهُ ذِرَاعُ الْجَفْرَةِ. بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؛ فَمَا بِنْتُ أَبِي زَرْعٍ؟ طَوْعُ أَبِيهَا وَطَوْعُ أُمِّهَا, وَمِلْءُ كِسَائِهَا وَغَيْظُ جَارَتِهَا. جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ؛ فَمَا جَارِيَةُ أَبِي زَرْعٍ؟ لاَ تَبُثُّ حَدِيثَنَا تَبْثِيثًا, وَلاَ تُنَقِّثُ مِيرَتَنَا تَنْقِيثًا, وَلاَ تَمْلاَ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا, قَالَت: خَرَجَ أَبُو زَرْعٍ وَالْأَوْطَابُ تُمْخَضُ؛ فَلَقِيَ امْرَأَةً مَعَهَا وَلَدَانِ لَهَا كَالْفَهْدَيْنِ, يَلْعَبَانِ مِنْ تَحْتِ خَصْرِهَا بِرُمَّانَتَيْنِ, فَطَلَّقَنِي وَنَكَحَهَا, فَنَكَحْتُ بَعْدَهُ رَجُلًا سَرِيًّا, رَكِبَ شَرِيًّا, وَأَخَذَ خَطِّيًّا, وَأَرَاحَ عَلَيَّ نَعَمًا ثَرِيًّا, وَأَعْطَانِي مِنْ كُلِّ رَائِحَةٍ زَوْجًا, وَقَالَ: كُلِي أُمَّ زَرْعٍ, وَمِيرِي أَهْلَكِ, قَالَتْ: فَلَوْ جَمَعْتُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَانِيهِ مَا بَلَغَ أَصْغَرَ آنِيَةِ أَبِي زَرْعٍ! قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامٍ: وَلاَ تُعَشِّشُ بَيْتَنَا تَعْشِيشًا, قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَتَقَمَّحُ بِالْمِيمِ وَهَذَا أَصَحُّ (1). |
قصة كسوف الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَسَفَت الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ, فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ, فَأَطَالَ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلُوا يَخِرُّونَ, ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ, ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ, ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ, ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ, ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ, ثُمَّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْوًا مِنْ ذَاكَ, فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ, ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ عُرِضَ عَلَيَّ كُلُّ شَيْءٍ تُولَجُونَهُ, فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا أَخَذْتُهُ أَوْ قَالَ: تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ, فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ, وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ, وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ, وَإِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُرِيكُمُوهُمَا, فَإِذَا خَسَفَا فَصَلُّوا حَتَّى تَنْجَلِيَ(1). شرح المفردات: (عُرِضَ عَلَيَّ كُلّ شَيْء تُولَجُونَهُ) أَيْ: تَدْخُلُونَهُ مِنْ جَنَّة وَنَار وَقَبْر وَمَحْشَر وَغَيْرهَا. (فَعُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّة وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّار) قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: قَالَ الْعُلَمَاء : تَحْتَمِل أَنَّهُ رَآهُمَا رُؤْيَة عَيْن كَشَفَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَزَالَ الْحُجُب بَيْنه وَبَيْنهمَا كَمَا فَرَّجَ لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى حِين وَصَفَهُ, وَيَكُون قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي عُرْض هَذَا الْحَائِط) أَيْ فِي جِهَته وَنَاحِيَته, أَوْ فِي التَّمْثِيل لِقُرْبِ الْمُشَاهَدَة, قَالُوا: وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون رُؤْيَة عِلْم وَعَرْض وَحْي بِاطِّلَاعِهِ وَتَعْرِيفه مِنْ أُمُورهَا تَفْصِيلًا مَا لَمْ يَعْرِفهُ قَبْل ذَلِكَ وَمِنْ عَظِيم شَأْنهمَا مَا زَادَهُ عِلْمًا بِأَمْرِهِمَا وَخَشْيَة وَتَحْذِيرًا وَدَوَام ذِكْر. (وَالْقِطْف): بِكَسْرِ الْقَاف الْعُنْقُود, وَهُوَ فِعْل بِمَعْنَى مَفْعُول كَالذِّبْحِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوح. (فِي هِرَّة): أَي: بِسَبَبِ هِرَّة. (تَأْكُل مِنْ خَشَاش الأرْض): بِفَتْحِ الْخَاء الْمُعْجَمَة وَهِيَ هَوَامّهَا وَحَشَرَاتها, وَقِيلَ: صِغَار الطَّيْر. (يَجُرّ قُصْبه فِي النَّار): هُوَ بِضَمِّ الْقَاف وَإِسْكَان الصَّاد وَهِيَ الْأَمْعَاء. من فوائد الحديث: 1- المبادرة إلى طاعة الله عز وجل عند حصول ما يخاف منه وما يحذر عنه، وطلب دفع البلاء بذكر الله تعالى وتمجيده وأنواع طاعته. 2- مشروعية صلاة الكسوف عند كسوف الشمس أو خسوف القمر، على الصفة المذكورة في الحديث. 3- وفيه معجزة ظاهرة للنبي وما كان عليه من نصح أمته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم عما يضرهم. 4- بيان تعذيب أهل التوحيد لأجل المعاصي، كما في جرى للمرأة من بني إسرائيل. 5- وفيه جواز العمل اليسير في الصلاة(2). 6- إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت عظيم من العظماء،- لأن الكسوف وافق يوم موت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم - فبين أَنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخوف الله تعالى بهما عباده, قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما(3). ___________ (1) صحيح البخاري، ح: 1046، وصحيح مسلم، ح: 904, واللفظ له. (2) انظر: عمدة القاري، جزء 7 - صفحة 85. (3) فتح الباري - ابن حجر [ جزء 2 - صفحة 528 ] |
قصة الرجل الذي سقى السحاب أرضه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِن الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ؟ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ, فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ, فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَد اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ, فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ, فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلانٌ. لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ, فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَن اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ, فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ, وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا, وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ)...وفي رواية: (وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ)(1). شرح المفردات(2): (اِسْقِ حَدِيقَة فُلان) الْحَدِيقَة الْقِطْعَة مِن النَّخِيل , وَيُطْلَق عَلَى الأَرْض ذَات الشَّجَر. (تَنَحَّى) معناه: قَصَدَ, يُقَال: تَنَحَّيْت الشَّيْء وَانْتَحَيْته وَنَحَوْته إِذَا قَصَدْته, وَمِنْهُ سُمِّيَ عِلْم النَّحْو لأَنَّهُ قَصْد كَلام الْعَرَب. (الْحَرَّة) بِفَتْحِ الْحَاء فَهِيَ أَرْض مُلَبَّسَة حِجَارَة سُودًا. (وَالشَّرْجَة) بِفَتْحِ الشِّين الْمُعْجَمَة وَإِسْكَان الرَّاء, وَجَمْعهَا شِرَاج بِكَسْرِ الشِّين, وَهِيَ مَسَائِل الْمَاء فِي الْحِرَار. من فوائد الحديث: 1-قال النووي: (وَفِي الْحَدِيث فَضْل الصَّدَقَة وَالإِحْسَان إِلَى الْمَسَاكِين وَأَبْنَاء السَّبِيل, وَفَضْل أَكْل الإِنْسَان مِنْ كَسْبه, وَالإِنْفَاق عَلَى الْعِيَال)(3). 2- لزوم البداءة بالنفس ومن تلزم نفقته، كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غني وابدأ بمن تعول)(4). 1-أن الصدقة سبب في نماء الأموال والزروع وحصول البركة فيها، وسلامتها من الآفات، كما أن البخل وإمساك اليد يستوجب رفع البركة منها، وحلول غضب الله على صاحبها،كما يجلب لها الدمار والهلاك. _______________ (1) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الصدقة في المساكين، برقم: (5299). (2) شرح النووي على مسلم [جزء 18 - صفحة 114]. (3) شرح النووي على مسلم [جزء 18 - صفحة 114]. (4) صحيح البخاري [2 /518] رقم: 1360، صحيح مسلم [2 /717] رقم: 1034. |
قصة تكلم البقرة والذئب عَن سَعِيد بن الْمُسَيَّبِ وَأَبي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا, التَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ, فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَعَجُّبًا وَفَزَعًا أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ!؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً, فَطَلَبَهُ الرَّاعِي حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ, فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّه!ِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ). وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَمَا هُمَا ثَمَّ(1). شرح المفردات(2): (يوم السَّبُع): بِضَمِّ الْبَاء, وهذا يكون عِنْد الْفِتَن حِين تَتْرُكهَا النَّاس هَمَلًا لَا رَاعِي لَهَا نُهْبَةً لِلسِّبَاعِ فَجَعَلَ السَّبُع لَهَا رَاعِيًا أَي: مُنْفَرِدًا بِهَا. من فوائد الحديث: 1- قال النووي: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَإِنِّي أُومِن بِهِ وَأَبُو بَكْر وَعُمَر وَمَا هُمَا ثم)، قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ثِقَة بِهِمَا لِعِلْمِهِ بِصِدْقِ إِيمَانهمَا, وَقُوَّة يَقِينهمَا, وَكَمَال مَعْرِفَتهمَا لِعَظِيمِ سُلْطَان اللَّه وَكَمَال قُدْرَته. فَفِيهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِأَبِي بَكْر وَعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا. 1- وَفِيهِ جَوَاز كَرَامَات الْأَوْلِيَاء وَخَرْق الْعَوَائِد, وَهُوَ مَذْهَب أَهْل الْحَقّ(3). 2- قال العلماء: كلام البقرة هنا لا يعتبر ولا يعمل به، فيجوز الحمل على البقرة كما يجوز الحرث عليها إذا كانت تطيق ذلك. ________________ (1) صحيح البخاري، ح: (2324), وصحيح مسلم، ح: (2388), واللفظ له. (2) شرح النووي على مسلم [15/ 157]. (3) شرح النووي على مسلم [15/ 157]. |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:00 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.