![]() |
رحلة علي سفين الخيال...!!!!
مصارحة رحلة علي سفين الخيال http://image.moheet.com/images/16/big/161927.jpg أ . د. محمد محسوب توقفت عن مشاهدة كرتون برامج التوك شو التي خرجت في أغلبها من الجدية إلي اللغو ومن الموضوعية إلي الشخصنة .. وأهتممت أكثر باستقراء التاريخ وقراءة المشهد الدولي والعربي والمصري. فتراكمت في نفسي خواطر عدة، فمن مشهد سقوط الإمبراطورية الرومانية حوالي سنة 467 ميلادية بدخول الغال روما وخفوت صوت الحضارة الغربية أبحرت في سفين الفكر جنوبا عبر المتوسط لأراقب شعاع الحضارة البشرية يخرج من بين عواصف رملية جارفة بعمق صحراء العرب نهاية القرن السادس الميلادي. وخلال مائة سنة لا أكثر يتدفق نور تلك الحضارة الوليدة ليضئ من جديد العالم القديم ممتدا من حدود الصين إلي ساحل الأطلسي ومداعبا جنوب أوروبا. وبينما بدأ خفوت حضارة الشرق في القرن الرابع عشر، فإن صعود نجم الحضارة الغربية بدأ في ذات الفترة، ليثبت حقيقة الدورات الحضارية بين الشرق والغرب، في تعاون إنساني تلقائي وغير مرتب في تحمل أعباء الحضارة وحمل مشعلها، بما لا يجوز معه تفسيره بأنه تنازع بقدر كونه تبادلا طبيعيا للأدوار يكتبه التاريخ وفقا لأسباب وعناصر تتراكم وتتبعثر ويُعاد ترتيبها دون توقف. ومن خيالات الصراع بين جريجور السابع بابا روما والإمبراطور هنري الرابع بغرض تكريس هيمنة الكنيسة علي الحياة الغربية لعدة قرون، إلي نضال مفكرين وفلاسفة وأدباء وعلماء لاستعادة قيمة العقل الإنساني في مواجهة هيمنة المؤسسة الدينية علي الحياة. وينتقل المشهد ليقود العقل الإنساني الغرب إلي صنع بيئة جديدة للحياة البشرية أكثر رفاهية وحرية وإبداعا، لكنه أيضا صنع معها أسباب مآسيها وحزنها بابتكار أدوات الحرب ووسائل السيطرة والهيمنة واحتلال شعوب أخري وتجريف ثرواتها ووأد محاولات انعتاقها من دائرة التخلف والجهل والتبعية. فانتصرت الأثرة علي الأخوة الإنسانية بتبريرات نظرية لا تمت للعقلانية بصلة. وانتقلت بسفين خيالي لأتجول بين ما ألم بأمة العرب خلال الستة قرون السابقة، فاطّلعت علي أحداث جسام بين اقتتال واحتلال، وانهزام وانكسار، وخفوت وموات. لكن نبض الحياة والشوق غلي معانقتها لم يتوقف في جسد تلك الأمة الأبية، فقاتلت الاحتلال وواجهت محاولات فنائها واستعادت قدرا من أسباب حياتها، ومع ذلك فإن أصفاد التبعية لاتزال تدمي أقدام أبنائها وتقيّد أياديهم وعقولهم وملكاتهم، ويشد ناظري بصيص أمل يطلّ بين فينة وأخري من بين ضباب متراكم بعضه فوق بعض فشعوبنا تستعيد قدرا من ذاتها الغائبة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وتحاول بدأب تحقيق العدل والرفاه واستكمال مقومات مشروعها الوطني والقومي، بينما تحاول شدها للخلف ديكتاتوريات ظالمة وزعامات جوفاء، ونظام دولي لا يكلّ ولا يملّ من وضع العصا في عجلة تطورنا وبناء السدود التي تمنع نهوضنا، رغبة منه في الاستئثار والتفرد وخوفا من المشاركة والتعدد. وفي لحظة تاريخية لن تنساها البشرية استفاقت دولة اعتقد التاريخ انه تجاوزها، رغم أنها جزء من سر ديمومته، فعادت مصر مطلع القرن التاسع عشر من غفوتها، فجأة، فأحدثت عودتها اضطرابا في النظام الدولي الذي لم يتوقع أن تعود، لا بل وتعود فتية بذات العزم الذي سجله التاريخ لشعبها.، فجيشها الوليد المكون من أبناء شعب من الفلاحين، لا يتجاوز تعداده ثلاثة ملايين، خرج فجأة عن سيطرة القيود الدولية، ليحقق خلال الفترة من 1820-1838 انتصارات مبدعة في الأناضول واليونان والشام وصحراء العرب، ويكسر هيبة جيوش ذات بأس ويُسقط مسلمات اعتبرها النظام الدولي من المسلمات، وليفتح عصرا جديدا تمثل فيه مصر رقما لا يمكن تجاوزه. ولم تستطع المنظومة الدولية أن تتحمل عودة مصر كاملة السيادة، شريكة في صياغة النظام الدولي، فتكون تحالفا دوليا هائلا من دول وإمبراطوريات متخاصمة، لكنها توافق علي وقف زحف المصريين في طريقهم لاستعادة دورهم. وتجاوز ذلك التحالف الدولي كل منطق في وضع قيود مذهلة ولا نهائية علي الدولية الوليدة، لا ليقيد حاضرها وإنما ليتحكم أيضا في مستقبلها. وامتلأت اتفاقية لندن سنة 1840 بشروط كثيرة تبعث علي الحزن والغضب وإن أشعرتني بالزهو والفخر، فكل هذه القيود وضعت لتقيد مصر العائدة من سباتها، لأن البعض يخشي أن تؤدي تلك العودة لتغيير أوضاع كثيرة بائسة ظالمة في النظام الدولي. فعلي مصر أن تسرّح جنودها وأن لا يتجاوز جيشها عددا محددا، وعليها الامتناع عن تصنيع السفن المدرعة أو المدافع التي تجاوز مدي محدد، وعليها أداء جزء مكن مداخلها المالية للدولة العلية في اسطنبول، وعليها أن تخصخص مصانعها وترساناتها وزراعتها .. وعليها وعليها .. هذه لم تكن اتفاقية كامب ديفيد 197 وإنما معاهدة لندن سنة 1840 بدون خلاف كبير في الغايات والوسائل والشروط والقيود. وربما أن الحرية وبناء نظام ديموقراطي كانت أهم المحظورات علينا، لأنها سرّ الأسرار، وأساس بناء الدول الكبيرة والاقتصاديات العظمي، فلا بأس أن يتشدق الغربيون بدعمهم للحريات وللديموقراطية في مصر، وإن كانوا لا يتمنونها ويعملون علي منعها أو تأخيرها للإبقاء علي أيدينا مغلولة وأقدامنا عاجزة وتياراتنا السياسية متناحرة ومتقاتلة، دون أن يلتفتوا إلي حقيقة واضحة وضوح الشمس، وهي أن الالتجاء للشعب هو الطريق لحل كل خلاف سياسي، وأنه بدون إشراكه في صنع قراراته واختيار نظامه ومناقشة سياساته فإننا سنظل ننتقل من ديكتاتورية لديكتاتورية، نتخبط في قيودنا ونتعثر في خطونا. وأخيرا، قبل أن يرسو سفين الليل علي شاطئ صبح، فإن المشهد الأخير كان ثورة 25 يناير بهدف واضح، وهو تحقيق الحلقة الأخيرة في مقومات نهضة مصر، وهي الحرية وبناء نظام حكم ديموقراطي وإعلاء إرادة الشعب، لا رأية زعيم ولا رأي رئيس. ومع ذلك فإن أصوات بعض من يقف علي الشاطئ لا يزال ينادي بأن الشعب غير قادر علي الاختيار وأنه أخطأ في اختياره وأنهم مستعدون لتعديل اختيار الشعب أو لوصايتهم عليه. أصوات تتراجع وتخفت .. وبالتأكيد ستتلاشي. لكنني أيضا أشعر بالقلق عندما أري المصطفين علي الشاطئ ينتظرون سفين نهضة حقيقة لا خيالية، وقد غابت نظراتهم التي كان ملؤها التحدي وماؤها الأمل في مطلع الثورة لتحلّ مكانها نظرات يأس ومشاعر إحباط، ليس فقط بسبب أولئك الآملين بالعودة لعصر الديكتاتورية والفساد، وأنما بسبب أداء من اختارهم الشعب لتحقيق أحلامهم، فتمنيت أن أكون علي طائرة السيد الرئيس الذاهبة إلي أي مكان أو القادمة من أي رحلة لأقول له ونحن علي كف الرحمن : "سيدي .. الشعب يستحق أفضل ولديه العزم ليساعدك في عبور أي خطر .. فقط عليك أن تستنهض همته وتطلب شراكته وأن تثق في قدرته وأن تستعين بأفضل ما لديه وأن لا تتردد أمام الأزمات..". ويبدو أن صبيا بجلبابه يمسك نايا من صنع يده، قرأ أفكاري، فوصلتني منه ترنيمات خافتة بصوت شجي وهو يغني كلمات أبي القاسم الشابي: إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ .. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي .. وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ .. يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر أ محمد محسوب نشر في أخبار اليوم يوم 05 - 04 - 2013 |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 01:00 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.