![]() |
إرادتك هي السبب !... د.سلمان العودة
قال لي صاحبي ، وقد قرأ رسالة من فتى حديث السن ، يتقد حماساً وغيرة ، يهاجم فيها رأياً لم يرق له ، ويستخدم لغة مكتظة بالمفردات الحادة ، والتعبيرات القوية ..
كيف تعيش حياتك وتهنأ بنومك وأنت تقرأ مثل هذه الرسالة وربما غيرها ؟ ابتسمت وأنا أقول لصاحبي .. ليس ثمّ ما يدعو إلى الجزع من شخص يختلف معك ، ويعبر عن اختلافه بطريقة تناسبه ، وهو يتحمل هو تبعتها .. كما قال أحدهم : لأسبنك سباً يدخل معك قبرك ! قال له : بل يدخل معك أنت ! ربما المشكلة هي في استخدامه لغة دينية ، لأن دافعه فيما يظن هو ديني ، فالغيرة والصفاء والصدق والإخلاص هو ما يحس به تجاه ذاته . والشك والحيرة أو سوء الظن هو ما يحس به تجاه من يختلف معه ، وهنا عمق المشكلة . أن يكون يريد تحطيمك وتدميرك على الأقل معنوياً باسم الله ! قلت لصاحبي .. أعظم ما تواجه به مثل هذا الصنع هو الانكسار بين يدي الله ، والسجود والتذلل لوجهه ، مع استحضار قربه وعظمته ، واستذكار علمه بالدوافع والنوايا وخطرات القلوب ، وما تخفي الصدور ، فيما يخصك ، وفيما يخص خصمك . وعلمه التام بأحوال العباد ومصالحهم ، وما يترتب على الأقوال والأعمال من الآثار والمآلات التي تعبّدنا فيها بالاجتهاد وبذل الوسع ، ثم جعل الآخرة مملكة العدل التي لا سلطان فيها لغيره ، ولا ظلم ، ولا أسرار (لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ )، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)، (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ ) هو الله الذي تعبده دون وسيط ، وتتضرع إليه أن يأخذ بيدك إلى الحق والخير والعدل في المضايق والمشتبهات ، وتحاول أن تتجرد من مقاصد الشر والإثم والبغي والأذى ، ونيات السوء وظنون السوء ، وأن تعترف بنقصك وجهلك وظلمك وخطئك وعجلتك ، وتضع بين يديه عجرك وبجرك ، وخيرك وشرك ، وتناديه بأن يحميك من نفسك أولاً ، ثم من شر الآخرين وضرهم وأذاهم ، وإذ قدر ألا أحد من خلقه يسلم من أذى الخلق فالضراعة إليه أن يمنحك القدرة على الاحتمال والصبر والانضباط ، فلا تخطئ في حقهم ، ولا تظلم أو تبغي ، ولا تصر على خطأ بان لك فيه وجه الحق ، ولا تتزحزح عن صواب أنت مؤمن به في دخيلتك ، فالله الذي باسمه يتوعدك هذا الفتى ، هو الله الذي تؤمن به ، وتستغيث وتستنجد ، إياه تعبد ، وله تصلي وتسجد ، وإليه تسعى وتحفد . يا صديقي .. لا أحد من الخلق يستطيع أن يغضبك أو يحزنك دون إرادتك ! ما تحس به في داخلك من مشاعر سلبية ليس بسبب ما يحدث حولك ، ولا برسالة منتقصة ، أو ازدراء عابر ، أو ظن سوء من بعيد ، أو جفاء من قريب .. كلا . ما يحدث في داخلك هو بسبب تحليلك أنت للأمور من حولك . وعندما تغيّر طريقة نظرك للأحداث ستتغير مشاعرك ، وتهدأ انفعالاتك حتى بالنسبة للحدث ذاته . وَما الخَوفُ إِلّا ما تَخَوَّفَهُ الفَتى وَلا الأَمنُ إِلّا ما رَآهُ الفَتى أَمنا كنت ذات مرة أداري سؤالاً محرجاً أخشى أن يواجهني به أحد فينتزع مني كلاماً لم أرتبه جيداً ، أو يُربكني فأقول ما ليس لي به علم . ثم تأملت السؤال مرة ومرتين فانقدح في نفسي له جوابات فيها بعض السداد والتوازن ، فصرت أتمنى أن لو أتيح لي من يقول السؤال ذاته الذي كنت أخافه ، أياً كان مقصده في عرض السؤال ؛ لأنه سيمنحني فرصة جميلة لأقول كلاماً مناسباً . حينما تقع مشادة كلامية بينك وبين آخر ، وتؤدي إلى أن يقول عنك شيئاً يؤذي مشاعرك ويجرح أحاسيسك ، فيمكنك أن تفسّر الأمر بأنه إهانة أو انتقاص أو تحقير لشخصك ، وأن يظل الحزن مخيماً عليك سحابة نهارك ، فإذا أويت إلى فراشك صرت تتقلب على جمر الغضا ، وتتذكر الموقف ، وكأنه شريط تعرضه المرة بعد المرة ، وتحاول نسيانه فلا تقدر ! وحين تغير طريقة التحليل للموقف ، وتتوقع أن هذا الإنسان كان يمر بظروف صعبة وتعب نفسي ، رجل أثقلت كاهله الديون ، مجهد نفسياً لا تزيده الأيام إلا قلقاً وعناء ، زوج غاضب زوجته ، أو فاصلها وخسر أولاده وأسرته ، مستور تلاحقه الشائعات وتقلقه الأقاويل ويتهامس الناس عنه بما لا يجمل ، مريض حار الأطباء في شفائه ، كئيب يعاني هموماً أمثال الجبال ، شاب ضاعت به السبل فلا عمل ولا وظيفة ولا شهادة ولا زواج .. إلخ إن الحياة ملأى بأنواع المتاعب وضروب المعاناة ، ولا يتسنى لكل إنسان فيها أن يكون هادئاً مطمئناً ساكن النفس مرتاح البال ، يتعاطى القضايا والمواقف بكل أريحية واعتدال وحكمة .. وربما هو مثلك الآن يتقلب على فراشه ألماً وندماً على ما فرط منه في حقك ! وإذا قلت .. فلم لا يبادر ويعتذر إليّ .. فهذا حسن جميل ، وخير دواء للندم حين تسيء للآخرين هو أن تبتسم لهم وتقدم اعتذاراً ليس فيه شرط ولا مثنوية ولا تردد ولا خجل .. على أنك لا تدري فربما كان الرجل حزيناً ؛ لأن هذا دأبه معك ومع الآخرين ، وأنها طبيعة نفسٍ حار هو فيها ، ويئس منها أو كاد .. غيّر رؤيتك وتصوراتك عن المواقف التي تعرض لك وستتغير انفعالاتك إزاءها ، وتذكر أن ربك العليم لا يغير ما بك حتى تغير ما بنفسك .. سمعت فتى ذات مرة يتضجر من خصومه ويقول : -اللهم اكفنيهم بما شئت وأنت السميع العليم ! فقلت له : لقد دعوت عليماً رحيماً قديراً سميعاً بصيراً ، وكان أولى بك أن تقول : اللهم اكفني شر نفسي ، وشر كل ذي شر ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم . يا صديقي .. هذه الحجارة التي رماك بها صاحبك يمكن أن تبني بها طريقاً إلى دروس الصبر والنجاح متى كنت يقظاً مستثمراً للفرص ، إيجابياً في مواقفك ونظراتك ، مدركاً أنك لست مركز الكون ، وصاحبك أيضاً ليس هو مركز الكون والسلام . |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 11:27 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.