![]() |
الحمى التي تحدث في حالة المرض والإصابة
الحمى التي تحدث في حالة المرض والإصابة د. حسني حمدان الدسوقي حمامة وتعرف الحمى بارتفاع درجة حرارة الدم عن المستوى الطبيعي المعتاد وهو 36.6 درجة مئوية -37.2 درجة مئوية، ويتم تثبيت هذه الدرجة في تلك الحدود، عن طريق مركز خاص موجود في مراكز ما تحت المهاد؛ حيث تحتوي هذه المراكز على خلايا عصبية خاصة لها مستقبلات لاستشعار درجة حرارة الدم، فإذا ارتفعت درجة حرارة الدم عن المعتاد، تنبهت بعض هذه الخلايا المختصة بإنقاص الحرارة، فإذا تنبهت أرسلت إشارات تنتهي إلى العضلات وجدران الشرايين والأوردة الموجودة تحت الجلد، فترتخي العضلات وتنتفخ شعيرات الدم السطحية، وكذا يحدث زيادة إفراز العرق الذي يتبخر محدثًا برودة ونقصًا في حرارة الدم القريب من سطح الجلد، كما تقل الطاقة الحرارية الناشئة عن زيادة نشاط العضلات، كما يكون من أثر تنبُّه مراكز إنقاص الحرارة حدوث الشعور بالحر لدى الإنسان؛ مما يدفع إلى التخفف من ملابسه واللجوء إلى الأماكن الأكثر برودة، كما يحدث العكس اكتساب الحرارة التي ترسل إشارات تسبب زيادة انقباض العضلات، بل وارتعادها (رعدة البرد) وانقباض الأوعية الدموية السطحية، وقلة إفراز العرق، وانتصاب شعر الجلد، فيزداد تصاعد الحرارة ويقل فِقدانها، عن طريق سطح الجلد، مضافًا إلى ذلك الشعور بالبرد، الذي يدفع إلى الإكثار من الدثور واللجوء إلى الأماكن الأكثر دفئًا. تحدث تلك العمليات الدقيقة من ضبط درجة حرارة الدم عند درجة ثابتة مناسبة لوظائف خلايا الجسم وعملياته الحيوية في معدلها الطبيعي - وقد ضبطت أحاسيس الخلايا الموجودة في مراكز تنظيم الحرارة بالمخ؛ لتستشعر التغير في درجة حرارة الدم عندما تقل عن 36.5 درجة مئوية أو ترتفع عن 37.5 درجة مئوية. فإذا حدث تغير في درجة استشعار تلك الخلايا؛ بحيث لا تتنبه إلا عند مجال أعلى (مثلًا 38.5-39 درجة مئوية)، فإنها تتخذ الإجراءات اللازمة لرفع درجة الحرارة عند هذا الحد، وتتعامل مع درجة 37.5 درجة مئوية على أنها درجة منخفضة، فتتنبه مراكز اكتساب الحرارة لرفع حرارة الدم، وهذا يفسر الرعدة والشعور بالبرد اللذان يحدثان قبل ارتفاع درجة الحرارة في حال الحمى، وتظل تلك الرعدة؛ حتى تصل حرارة الدم إلى الدرجة الجديدة التي انضبطت عندها مراكز الحرارة (39 درجة مئوية مثلًا). والحمى تحدث في حال المرض؛ سواء كان جرحًا، أو غزوًا ميكروبيًّا، أو مرضًا داخليًّا كالسرطان مثلًا، أما سبب الحمى، فإنه نابع من الجسم ذاته، ومن مكان المرض؛ حيث يؤدي التفاف الخلايا البلعية والخلايا المناعية الأخرى حول العضو المصاب أو المريض، وتفاعلها في عمليات الالتهاب المختلفة ضد الميكروبات والأجسام الغريبة والضارة، يؤدي ذلك إلى تصاعد مواد تعرف باسم (البيروجينات)، التي تنطلق من الكريات البيضاء ومن أنسجة العضو المصاب. ما تفعله البيروجينات: تسري البيروجينات في الدم، وتصل إلى مراكز ضبط الحرارة في المخ؛ لتؤثر في خلاياها تأثيرًا يعدل من درجة انضباطها وتحسسها لاستشعار التغير في حرارة الدم؛ بحيث تتنبه عند درجة أعلى من الطبيعي - وتختلف هذه الدرجة تبعًا لدرجة استجابة الجسم والجهاز المناعي لهذا المرض أولًا، ثم لنوع المرض ودرجة الإصابة ثانيًا، والدليل على ذلك عدم ارتفاع الحرارة عند الأشخاص الأقوياء - وذلك عند المصابين بهبوط وتدهور في جهازهم المناعي؛ أي: إن الحمى تحدث كجزء من تفاعل الجسم البشري لمواجهة المرض أو الإصابة، وهذا ما أثبته العلم أخيرًا، وقد كان المعتقد أن الحمى تحدث بتأثير المرض الداخل إلى الجسم (بيروجينات خارجية). فوائد الحمى: لم يحط بها العلم بعد إحاطة كاملة، وما زال الدور الكامل الذي تؤديه الحمى سرًّا لم يتم الكشف إلا عن بعض جوانبه، فما هي الفوائد التي تم الكشف عنها؟ وهل للحمى تأثير متناسق مع تداعيات الجسم الأخرى في حال المرض والإصابة؟ أولًا: من الحقائق الكيميائية الثابتة أنه كلما ارتفعت درجة الحرارة المحيطة بتفاعل ما، كلما تسارعت معدلات ذلك التفاعل ونشِطت وتضاعفت، وتناقص الزمن اللازم لإتمامها، فإذا هبطت الحرارة حملت التفاعلات وصارت بطيئة متكاسلة، ولقد رأينا أنه في حال المرض يحتاج الجسم لتسارع التفاعلات الاستقلابية المختلفة (Metobolic catabolic and anabolic reaction)، فيكون ارتفاع حرارة الدم والأنسجة عامل مساعد وهام لتنشيط هذه التفاعلات، وتزايد سرعتها وكميتها. ولقد حسبت معدلات الاستقلاب في حال الحمى، ووجد أن هذه المعدلات تزداد 10% كلما ارتفعت حرارة الجسم درجة مئوية واحدة. ثانيًا: قد علمنا أن الجسم يتعرض لغزو ميكروبي تشكل الفيروسات النسبة العظمى منه عند الأطفال، كما تشكل البكتريا النسبة العظمى منه عند الكبار، وتنقسم البكتريا وتتزايد في أنسجة العضو المريض، مستغلة الهبوط الاضطراري والمؤقت الذي يحدث في جهاز المناعة في أول المرض، وتقوم البكتريا بإفراز سمومها التي لها فعل مدمر للخلايا، وإذا وصلت إلى الدورة الدموية انتشرت في الجسم، واستقرت في أماكن أخرى عديدة، وهي في كل هذه الأحوال تنقسم وتتكاثر وتفرز سمومها، هذا التكاثر يبلغ أعلى معدل له عند درجة حرارة أقل بقليل من حرارة الجسم العادية (35-37 درجة مئوية)، فإذا حدثت الحمى وارتفعت حرارة الجسم بسبب تفاعل الخلايا المناعية مع هذه الميكروبات، وإفراز البيروجينات، بحيث تصل الحرارة إلى (38، 39، أو 40) درجة مئوية - فإن هذه الحرارة العالية تعتبر معولًا مدمرًا ومحاصرًا للميكروبات التي يقل معدل تكاثرها وانقسامها، وتصاب أنشطتها بالخلل، وربما اضمحلت وماتت. ثالثًا: تحتاج أنسجة الجسم الأكبر قدر ممكن من جزيئات الأكسجين لإتمام تفاعلاتها النشيطة، في حال المرض، هذا الأكسجين يكون محمولًا إلى الأنسجة بواسطة الهيموجلوبين الموجود في كريات الدم الحمراء، ولا يفارق الهيموجلوبين إلى الأنسجة والخلايا إلا عند ضغط معين وظروف معينة، وارتفاع الحرارة يعدل من معدل افتراق الأكسجين عن الهيموجلوبين؛ بحيث يتركه عند ضغط أقل وبنسبة أكبر، إلا أننا لا نستطيع القول بأن جميع درجات الحمى مفيدة، ذلك أن خلايا المخ تتأثر بدرجات الحرارة العالية (40) درجة مئوية فما فوق)، وتتعطل وظائفها عند أكثر من (41) درجة مئوية، وتستحيل حياة الجسم البشري عند درجة حرارة أعلى من (44) درجة مئوية. إلا أن المقطوع به أن لحدوث الحمى المتوسطة 38-39 درجة مئوية أثر مفيد لمواجهة المرض، وهي مقياس لدرجة تفاعل الجسم وقوة مواجهته. وهكذا يتضح لنا تداعي الجسم البشري لمواجهة المرض أو الإصابة الحادثة لعضو من أعضائه، ولقد استخدمنا كلمة تداعي وتداعيات؛ لأننا لم نجد لفظًا أشمل في وصفه لما يحدث في الجسم حال المرض أو الجراحة مثل هذا اللفظ. فلو قلنا تفاعلات، فإننا نصف بعض ما يحدث، ولو قلنا: استجابات، لما وصفنا إشارات التنبيه التي هي في الحقيقة إشارات نداء واستغاثة. والتداعي لغة من تداعى يتداعى إذا دعا بعضه بعضًا، وهو هنا وصف لما يحدث في أول مراحل المرض والإصابة. والتداعي بمعنى الالتفاف والمسارعة، والتوجه إلى مكان بعينه، هو حقيقة ما يحدث من توجه جميع أجهزة الجسم بكل أنشطتها وعملياتها الحيوية لخدمة العضو المصاب ومساعدته، ورفع مقاومته، وما يحدث في النظام المناعي لا يمكن إلا أن نسميه تداعيًا؛ إذ إن خلية بلعية واحدة تقوم بدعوة كل خلايا الجهاز المناعي الأخرى بمجرد مقابلتها لجسم غريب (ميكروب أو خلية غريبة)، بل وتدعوها إلى التكاثر والانقسام وتصنيع الأجسام المضادة. والتداعي بمعنى الهدم أو الانهيار يصف ما يحدث في سائر أجهزة الجسد، فهي تقوم بهدم بروتيناتها ومخزونها من دهون؛ لكي تعطي العضو المصاب ما يحتاجه من طاقة ومواد بناءة لمواجهة المرض الحادث له، فيتناقص بذلك وزن المريض، ويعزى إليه الهزال الذي يعاني منه، هذا على الرغم من البدء في بناء العضو المصاب والتئامه، حتى يتم شفاء العضو المشتكى، ثم يبدأ بناء ما تهدم من الجسم بعد ذلك، وقد تتسارع معدلات الهدم في حالات المرض الشديد أو الإصابة المصحوبة بغزو بكتيري كثيف، وهو ما يعرف بحالة الانهدام المفرطة (Hypercatabolism)، والتي قد تصل إلى انهيار في جميع وظائف الجسم وأجهزته؛ مما قد يؤدي بحياة البدن كله في بعض الأمراض والإصابات والجروح الشديدة. وهذا التداعي يتحقق بالسهر والحمى، والسهر لا يعني يقظة العينين والذهن فحسب، ولكن يقظة جميع أجهزة الجسم وأعضائه وعملياته الحيوية، حتى إنها لتكون في حالة نشاط دائم، وسهر مستمر، والسهر بمعناه الوظيفي (الفسيولوجي) يعني نشاط الأعضاء في وقت يفترض أنها تنام فيه، وهذا هو ما يحدث حال المرض والجراحة، وبصورة مستديمة طوال ساعات الليل، حتى لو أغمضت العينان وشرد الذهن أو نام، إلا أن الجسم لا يكون أبدًا في حالة نوم حقيقي؛ لأن جميع أجهزته وعملياته الحيوية تكون في نشاطها الذي كانت عليه حال اليقظة، فلا يحدث لها الخمود والتباطؤ الذي يحدث أثناء النوم في حال الصحة. |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 05:42 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.