![]() |
فضل بعض علماء الطب المسلمين في تطوير العلوم الطبية
فضل بعض علماء الطب المسلمين في تطوير العلوم الطبية (1) د. حذيفة أحمد الخراط سارَع المُسلمون الأوائل إلى طلب العلم، والارتِقاء بالفكْر والثقافة، لمّا نزَل أمر السماء الأول، حاثًّا لهم ومُشجِّعًا على القراءة والاستِزادة مِن علوم الدِّين والدنيا؛ إذ كان أول ما نزَل مِن القرآن: ï´؟ اقْرَأْ ï´¾ [العلق: 1]، اللفظة الكريمة التي فَهِم المسلم فِقهَها ومَعناها، فحَرَص على تطبيقِها، وتحقيق ما شابَهَها مِن روايات السنَّة الكريمة، التي أَفردتْ لفضْل العِلم والتعلُّم الكثير مِن الآثار والروايات.لا يَخفى على أحد، ما في تعلُّم العلوم الطبيَّة، مِن أهمية عظيمة، تَبرُز في مُستوى الفرد والمجتمع، وقد غدا مِن المسلَّم به ما يتحقَّق عن ذلك مِن نفْعٍ عَظيم، ومَصالِحَ جليَّة، يقع على رأسها حفْظ الصحَّة والبدن، وهو أحد أهم مَقاصِد الشريعة وغاياتها، كما أن سلامة البدن، وخلوَّه مِن السقم والعلَّة، عامل هامٌّ يَقوى به المسلم على طاعة ربه، وأداء حقوقه، وما خُلق لأجله مِن عبادة الله وتوحيده.واحتاجَت البشرية منذ بداياتها القديمة - وما تزال - إلى وجود الطبيب الصادق الحاذق؛ يُشخِّص المرَض، ويُقدِّم ما وهِب مِن عِلْم وحِكمَة في سبيل علاجه، والارتِقاء بصحَّة صاحبِه مِن جديد.وقد كَثُر حديث علماء السلف حول تعلُّم العلوم الطبية؛ إيمانًا منهم بأهميته، وما يُقدِّمه للأمة مِن منافع ورعاية، ومِن ذلك قول ابن الأخوة: "الطبُّ عِلم نظريٌّ عمليٌّ، أباحَت الشريعة تعلُّمه؛ لما فيه مِن حفْظ الصحَّة، ودفْع العِلَل والأمراض عن هذه البنية الشريفة".وزاد بعض الأئمة على ذلك، فعدُّوا تعلُّم العلوم العقلية؛ كالطب، فرضَ كفاية على المجتمع المسلم، وذلك كأبي حامد الغزالي والإمام النوويِّ وغيرِهما.ومِن أروع ما قيل في هذا الباب، قول الشافعيِّ، مُشجِّعًا على دراسة علم الطبِّ، فقال: "لا أعلم عِلمًا بعد الحَلال والحرام أنبلَ مِن الطبِّ"، وقد حقَّق الشافعيُّ مقولته، فكان ذا إلمام كبير بهذا العِلم النبيل، حتى رُوي عن أحد أطباء زمانه أنه قال عن الشافعي: "كان مع عظمته في عِلم الشريعة، وبراعته في العربية، بصيرًا بالطبِّ".ونرى مِن جانب آخَر، أن مِن علماء المسلمين، مَن تفرَّغ لدِراسة علوم الطبِّ والجراحَة، وصبَّ جُلَّ اهتمامه في تعلُّم هذا العِلم النافع، وامتلأتْ سماء البلاد الإسلامية بنجوم مضيئة مِن هؤلاء العلماء، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في ظلام العصور الوسطى الحالك، وحمَل العلماء المسلمون حينَها راية العِلم، وأمسَكوا بزمام الحضارة، وقادوها بثبات نحو الأمام، وقدَّموا إلى تاريخ العلوم، ما شَهد بعظمته البعيد قبل القريب.نجد - إن نشَطْنا بالبحث - قائمةً طويلةً ممَّن نبَغ مِن علماء المسلمين في مجال العلوم الطبيَّة، وفيها نجد أسماء لامِعة؛ كالرازي، والزهراوي، وابن النفيس، ومهذَّب الدِّين البغدادي، وابن باجة، وابن الخطيب، وابن رشْد، وابن السماح، والإدريسي، وثابت بن قرَّة، وكثير غيرهم.وهنا سنُقدِّم لمحَةً سريعةً عن إسهامات بعض مِن هؤلاء العلماء، تُغطِّي جانبًا يسيرًا من الحقيقة الكبيرة التي يَعرفها الجميع، وهي تشجيع حضارة الإسلام الخالدة على تلقي العلوم والثقافة والفنون، بأشكالها المُختلِفة، وانعِكاس ذلك بالنفع على أفراد المجتمع المسلم.الرازي هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازيُّ، الذي وُلد بالرَّيِّ، على الراجِح في سنة 854 للميلاد، ونشأ هناك، وسافَر طالبًا للعِلم إلى بغداد، وفيها ظهَر نُبوغ الفتى في علوم مُختلِفة، كان على رأسها الطبُّ، واشتُهر به شُهرةً عظيمةً، وتولَّى لاحِقًا إدارة أكبر البيمارستانات في ذلك العصر؛ كالبيمارستان العَضُديِّ، وبيمارستان الرَّيِّ، والبيمارستان المُقتَدِريِّ، وتوفي ببغداد سنة 925 للميلاد.للرازي مؤلَّفاته الكثيرة، ومنهم مِن عدَّها فزادتْ على المائتَين، بين كتاب ورسالة، ومِن أشهر ما كتَب:كتاب الحاوي في عِلم التداوي، الذي تُرجِم إلى اللاتينيَّة وطُبع في خمسة وعشرين مُجلَّدًا، ومنها كتاب المَنصوري في التشريح، والجامع الكبير، ومنافع الأغذيَة ودفْع مَضارِّها، والحَصى في الكُلى والمثانة، وكتاب في الفصْد والحِجامة، ومِن رسائله: رسالة في الجُدَريِّ، ورسالة في الحَصبَة.وقد اشتُهر عن الرازيِّ صبْرُه الشديد ودأبه على الكتابة، ومما ورَد عنه قوله:"وبلغ مِن صبري واجتهادي، أنِّي كتبتُ بمثل خطِّ التعاويذ في عام واحدٍ أكثرَ مِن عِشرين ألف ورقة، وبقيتُ في عمل كتاب "الجامع الكبير" خمس عشرة سنَة، أعمله بالليل والنهار، حتى ضَعُف بصَري، وحدَث عليَّ فسْخ في عضَلِ يَدي، يَمنعاني في وقتي هذا عن القراءة والكتابة، وأنا على حالي لا أَدعُها بمِقدار جهدي، وأستعين دائمًا بمَن يَقرأ ويَكتب لي".كان الرازي - رحمه الله - أول طبيب يُميِّز بين أنواع النزيف الذي يُصيب جِسم الإنسان؛ حيث فرَّق بين النزْف الشِّرياني والوَريديِّ، وقد أثبتَ عِلم التشريح صحَّة أقوال الرازي، فأوعيَة الجِسم الدمويَّة تتنوَّع بين شرايين تَحمل الدم مِن القلب باتِّجاه أعضاء الجسم المُختلِفة، وأَورِدة تَحمِل الدم بالاتجاه المعاكس (أي: مِن أعضاء الجسم باتِّجاه القلب)، ونَزيف كلٍّ منهما - والاستِنتاج هنا للرازي - يَختلِف عن الآخَر، مِن ناحية قوة الدَّفْق وغَزارته، ولون الدم، وتوقيت الحُدوث.ووصَف الرازي كذلك، وسائلَ الإسعافات الأولية التي يُمكِن بها السيطرة على نزيف الشِّريان، وهذا مما يُساعِد في إنقاذ حياة المُصاب؛ لأن النُّزوف الشِّريانيَّة قد تَكون مُميتة في الحالات الشديدة.ومِن جهود أبي بكر الرازي الطبيَّة الأخرى:كلامه في جراحَة العِظام، وتصنيفه للكسور، وأنواع الجبائر المُختلِفة، التي تُستخدَم لتجبير تلك الكسور، ومِن ذلك أيضًا استِخدام الأنابيب المُختلِفة، التي يتمُّ وصْلُها بين تجاويف الجسْم الداخلية، والبيئة الخارجية المحيطة بجسم الإنسان، وذلك حتى يتسنَّى تصريف ما يتجمَّع مِن قَيح أو إفرازات مُؤذيَة مِن داخل الجسم نحو الخارِج، وقد أجاد الرازيُّ في وصف تلك الأنابيب، وأبان موادَّ صُنعِها ومقاساتها المُختلفة.ويُجمع المؤرِّخون على أن الرازيَّ كان أول مَن استعمَل الخيُوط الجراحيَّة، التي تمَّ تصنيعها مِن أمعاء الحيوانات؛ إذ لاحَظ ما يَجمع هذا النسيج مِن خصائص المُرونة والقوة والمتانَة، ففكَّر في تصميم خيوطٍ يَستعين بها الطبيب الجراح في خدمة الأهداف الجراحيَّة المختلفة؛ مثل خياطة الجُروح المفتوحة وغيرها، وتُعرَف هذه الخيوط حاليًّا باسم خيوط أمعاء القطَّة Catgut sutures، ولها مَقاسات مُختلفة، وذلك بناءً على ما يُراد خياطتُه من أنسجة مجروحة.وقد كان الرازي مِن رواد البحث التجريبي، وكثيرًا ما كان يَستخدم حيوانات التجارب؛ لمعرفة تأثير الدواء في أجسادِها قبل أن يلجأ إلى وصفِه إلى أحد مرضاه، واستخدم لذلك الغرض القرود؛ لما لاحَظَه مِن إصابتِها بالعديد مِن الأمراض التي تُشبه في أعراضها ما يَظهر في جسم الإنسان في كثير مِن الحالات.واشتُهر عن الرازي اهتمامه بالحالة النفسيَّة للمريض، والرفع مِن شأنها، وإزالة مَخاوِف المريض، عبر استخدام أساليب نفسيَّة، تُحقِّق هدف الإسراع في العلاج؛ كزرع الثِّقة بالنفس والطَّمأنة، وفي ذلك يقول:" يَنبغي للطبيب أن يوهِم المريض بالصحَّة، ويُرجِّيه بها، وإن كان غير واثِق بذلك، فمزاج الجسم تابِع لأخلاق النفس".لم تقف اهتِمامات الرازي عند العلوم الطبية فحسب، بل تعدَّى ذلك إلى علوم أخرى، صبَّ فيها جانبًا مِن اهتماماته، وظهَر فيها نُبوغ العالِم، وبَراعة المُكتشِف، ومِن ذلك: اهتمامه بعِلم الكيمياء، وقد ألَّف فيه الكثير مِن المصنَّفات والرسائل، كما أن له الكثير مِن الإسهامات في علوم المنطق، والطبيعيات، والجغرافيا، والفلسفة. |
فضل بعض علماء الطب المسلمين في تطوير العلوم الطبية (2) د. حذيفة أحمد الخراط خلف بن عباس الزهراوي: وُلد أبو القاسم في الأندلس سنة 936 م، ولهذا العالِم الكبيرِ الكثيرُ مِن الإسهامات الطبية والجراحيَّة، التي تركَتْ بصماتها واضِحة حتى عَهْدِنا الحاضِر، والزهراوي هذا علَمٌ كبير مِن أعلام عِلم الجِراحة، وهو واضِع كتاب "التصريف لمَن عجَز عن التأليف"، الذي قال عنه ابن محمد المقري التِّلمِساني: "وكتاب التصريف لأبي القاسم الزَّهراويِّ، وقد أدرَكْناه وشاهَدْناه، ولئن قُلنا: إنه لم يؤلَّف في الطبِّ أجمَع منه، ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنَصدُقنَّ". وقد وقَع كتاب التصريف في ثلاثين مَقالة، بحَثتْ كل واحدة منها في فنٍّ مِن فنون الطبِّ، وخُصِّص الأخيرة منها لفنِّ الجراحة، أو فنِّ صناعة اليد كما كان يُطلق عليها في ذلك الوقت. برَع الزهراوي في فنِّ الجراحة، حتى أصبَحتْ مؤلفاته الجراحية المَرجِعَ الأول لأطباء ذلك العصر عدةَ مئات مِن السنين، ورفَعتْ ابتكاراتُه الجراحية مِن شأن هذا الاختِصاص، في وقت كانت فيه أوروبا تخضَع لقرارات الكنيسة التي تُحرِّم تدريس علوم الجراحَة في مدارِس الطب. وكان مِن ضمْن اهتِمامات الزَّهراويِّ أيضًا، دراسة عِلم التشريح، الذي عدَّه أساسًا لفهْم عِلم الجِراحة، ومِفتاحًا لإتقانه، فقال في ذلك: "مَن لا يَبرع في التشريح، لا بدَّ أن يقَع في خطأ قد يُودي بحياة المريض"، وقد أكَّد عِلم الجراحة الحديثُ صحَّةَ هذه المقولة؛ إذ يترتَّب على الجرَّاح معرفة سَير مشرطه في الجسم بصورة دقيقة، ويتمُّ ذلك بفهم تشريحيٍّ عميق؛ حتى لا يُصاب أثناء الجِراحة عضو أو نسيجٌ ما؛ كأوعية الدم أو الأعصاب مثلاً، مما قد يترتَّب عليه الضرر الكبير. ومن إسهامات الزهراوي في عِلم الجراحة، ما يُذكر بأنه أول مَن قام بعملية لإيقاف النَّزف الدمويِّ عبر ربط الشِّريان النازف، وبالتالي منْع تدفُّق الدم خلاله، وما تزال هذه العملية إحدى دعائم وقف النزيف حتى أيامِنا هذه. وكان مِن جُلِّ اهتِمام الزهراوي، ابتكارُه للآلات الجراحيَّة، وبراعته في وَصفِها، وإجادته في رسمها وذِكْرها في تصانيفه، وقد أوضَح طريقة استِعمالها وتطبيقها، وامتلأ كتابه "التصريف" بالكثير مِن الرسوم الإيضاحية التي أُعدَّتْ بعناية فائقة، وصار هذا الكتاب مرجعًا رائدًا، أفاد منه الأطباء والجراحون، وتُرجم إلى لغات عديدة؛ كاللاتينية، والعِبرية، وكان أول كتاب يَصِف خطوات العملية الجراحية، ويَدعمها بالرسوم الإيضاحيَّة. وهَوِيَ الزهراويُّ اقتِناء تلك الأدوات، التي كان يُفيد منها أثناء جراحاته، حتى قيل: إنها ضمَّتْ مجموعةً كبيرةً ربَتْ على مائتي أداة جراحيَّة لها استخداماتها المتعدِّدة والمختلفة. اعتبر الزهراوي بحقٍّ أولَ من فرَّق بين الجراحة وغيرها من المواضيع الطبية، فقد أفرد للجراحة مقالاً خاصًّا، بعد أن كان هذا العِلم مُتناثرًا، ويَندرِج تحت أبواب العلوم الطبية الأُخرى، وقد اعتَرف بهذا الفضل للزَّهراويِّ الكثيرُ مِن الجراحين الغربيِّين، ومِن ذلك ما قاله أحدُهم: "إن جميع الجرَّاحين الأوروبيِّين الذين ظهَروا بعد القرن الرابع عشر، قد نهَلوا واستقَوا مِن مبحث الزهراوي"، ويقول آخر: "لا شكَّ في أن الزهراويَّ أعظم طبيب في الجِراحة العربيَّة، وقد اعتمده واستند إلى بحوثه جميع مؤلِّفي الجراحة في القرون الوسطى". وكان مما تكلَّم عنه الزهراوي بعضٌ مِن جوانب جراحَة العيون، ومِن ذلك وصفه لعلاج الناسور الدمعي Fistula بالكيِّ وسكْب الرصاص المُذاب، وقرَّر استخدام الجراحَة في حال فشَل تلك الطريقتَين، ومِن جهوده الأخرى في نفس الاتجاه ما كان مِن وصفه لطريقة جراحيَّة تعتمِد على إحداث فتحة بين كيس الدمع وغشاء الأنف عبر عظْم الأنف، وهي طريقَة ابتكَرها عالِمُنا هذا، واستَخدم لها عددًا مِن آلات الجراحَة الجديدة. أما في مجال جراحَة الأذن والأنف والحنجَرة، فقد تكلَّم الزهراويُّ في استِئصال الزوائد اللحميَّة في الأنف، وأنواع العمليات الجراحية التي تُحقِّق هذا الهدف، والمُضاعَفات التي تواجِه الجرَّاح أثناء العملية وبعدَها، كما أنه تكلَّم بإسهاب في عملية استِئصال اللوزتَين Tonsillectomy، وشقِّ الحنجَرة واستِئصال أَورامها. يقول أحد أطباء الغرْب: "إن الزهراويَّ أول مَن نبَّه إلى الاحتياطات التي يجب اتخاذها لمنْع أخطاء العمليات الجراحية، وقد ذكَرها عند الحديث عن كل عملية جراحيَّة". وفي مجال صحَّة الفم والأسنان وجراحة الفكَّين، تحدَّث الزهراويُّ عن قَلعِ الأضراس، وشرَح كيفيَّة قَلعِ الأسنان، وأسباب كُسور الفكِّ أثناء القلع، وطرُقَ استخراج جذور الأضراس، وطُرُق تنظيف الأسنان، وعلاج كسور الفكَّين والأضراس النابِتة في غير مكانها. كما برَع الزهراويُّ في تقويم الأسنان، واستعمَل لذلك خُيوطًا مِن الذهب والفضَّة، وهو أول مَن كتب عن علاج عاهات الفم الخِلقيَّة، وتشوُّهات الأقواس السنيَّة، وعلاج القِطع اللحميَّة الزائدة في اللثة، وكان أول مَن قطَع الرباط تحت اللسان الذي يُعيق الكلام، وقطَع ورمَ اللهاة. وتتجلى عبقريَّة الزهراويُّ في عِلم المسالك البولية، وابتكَر في ذلك عمليات جديدة، لم تزل تُستخدم حتى الآن مِن قِبَل جراحي المسالك البولية، فهو أول مَن ابتكَر القَسطرَة البوليَّة واستعملها لتصريف البَول، أو لغسْل المثانة، أو لإدخال بعض العلاجات الموضعيَّة بداخِلها، وأبدع في وصْف عمليات استِئصال حصيات المثانة جراحيًّا أو تفتيتها بآلاتٍ خاصَّة رسَمها في موسوعته، كما وصَف عمليات استِخراج حصيات مجرَى البَول عِند الذُّكور، والشُّقوق الجراحيَّة الخاصة باستِئصال حصيات المثانة والإحليل عند النساء. واهتمَّ الزهراويُّ أيضًا في طبِّ التوليد وأمراض النساء، فوصَف طُرُق التوليد، وما قد يُصيب الحامل مِن مشكلات تُعيق سَير الولادة الطبيعيَّة، وشرَح طرُق تدبير الولادات العَسيرة، وكيفيَّة إخراج المشيمة المُلتصِقة، وتحدَّث عن الحَمل الذي قد ينشأ خارج الرحم، وطرُق علاج الإجهاض، وابتكَر آلة خاصةً لاستِخراج الجنين الميِّت مِن رحم الأم، وكان أول مَن ابتكَر بعض الآلات الخاصة بالجراحات النسائيَّة التي لا تَزال تُستخدَم إلى يومِنا هذا. وللزهراويِّ أيضًا بصماتُه الواضِحة في الجراحة العامة؛ ومِن ذلك براعته في جراحَة الفتْق، وتطرُّقه إلى ذكْر المُضاعَفات التي يُتوقَّع حُدوثها أثناء العملية، ومِن ذلك أيضًا علاجه للأورام عن طريق الشقِّ، وجراحة الورم الذي يَعرض في الحلقوم، وهو ما يُعرف الآن بالغدة الدرَقيَّة، ويَكفي الزهراويَّ فخرًا أن يكون أول مَن تجرَّأ فحاول ونجح في استِئصال هذه الغدَّة، ولم يَجرُؤ أطباء أوروبا على عمل ذلك إلا بعدها بتسعة قرون، واعتمدوا في عملياتهم على مُلاحَظات الزهراويِّ التي سجَّلها في مُصنَّفاته. وكان الزهراويُّ دائم التطرُّق إلى ذكر طُرق تخدير المريض التي استعملها في عملياته قبْل الشروع بالجراحَة، واستخدم لذلك الإسفنجة المُخدِّرة، التي تَحوي بعض النباتات؛ كنبتَة الزوان وست الحسن والحشيشة، وذكَر كذلك طُرق تعقيم ما يَستخدمه مِن الأدوات الجراحية، وتطهير الجروح، والضمادات، بطُرق تُقرُّها مبادئ الطبِّ الحديث. يُمدُّنا الأسلوب الأدبي الذي تَسلكه كِتابات الزهراويِّ، ومناهِجه المتَّبعة في التعليم والعلاج، باستِقاء بعض الأخبار عن شخصيَّة هذا العالِم الفذَّة؛ إذ يبدو لنا ذا مُيول إنسانيَّة واضِحة، وهذا ليس نتيجة مهنتِه الطبية فحسب، بل هو نِتاج شخصية مُتوازِنة فريدة، فلم يكن الزهراويُّ مثلاً يَرعى مرضاه فقط، بل وطلابه وجميع مَن قصَده أيضًا، وكان يَستمتِع بتقديم عِلمه لتلاميذه ومُناقَشتهم بالمَسائل الطبيعيَّة، وهو الذي كان يَدعوهم في كتابه بأبنائه الذين علَّمهم الزهراوي أن يَحترموا مَرضاهم بغضِّ النظر عن مكانتِهم الاجتماعيَّة، وأن يُطوِّروا علاقة جيِّدة بين الطبيب والمريض. كما علَّم الزهراويُّ هؤلاء التلاميذَ أيضًا أهميةَ تشخيص كل مُشكلة طبيَّة باعتِبارها حالة فريدة، آخِذين بعين الاعتِبار كل العوامل التي ربما تَكون ذات صلة بها، وفي المقابل أوصاهم بألا يَحفظوا الكتاب عن ظهْر قلبٍ، وألا يُطبِّقوا العلاجات الواردة فيه قبل أن يَنظُروا في أوجُه اختِلاف كل حالة عن المِثال الوارد عنها، ومما يَصِف طبيعتَه الشخصيَّة ونزاهتَه الواضِحة: إصرارُه على المعايير الأخلاقيَّة، ومُعارضته لأي علاج غير مُنصِف مدفوع بأسباب شخصيَّة؛ مثل: المكاسب المادية. ونَختِم حديثنا عن الزهراويِّ، بقول الدكتور عزِّ الدين فرَّاج، في كتابه "فضْل عُلماء المسلمين على الحَضارة الأوروبية": "فما وصَلتْ إليه الجراحَة الآن، ما هو إلا جهْد قرون مِن الزمان، وآلاف مِن الباحِثين، رسم لهم الزهراويُّ الطريق، فساروا عليه". |
فضل بعض علماء الطب المسلمين في تطوير العلوم الطبية (3) د. حذيفة أحمد الخراط (ابن النفيس) هو أبو الحسن علاء الدِّين بن أبي الحزْم، المعروف بابن النفيس القُرشيِّ، الطبيب العربيُّ المسلم والفيلسوف الفقيه اللُّغويُّ، الذي ولد بدمشق عام 1210 للميلاد، وتوفي بالقاهرة سنة 1288 للميلاد. نشأ ابن النفيس في دِمشق، ودرَس الطب على يد مُهذَّب الدِّين بن الدَّخْوَار، وهو أشهَر أطباء عَصرِه في ذلك الوقت، ومارَس في دِمَشق الطبَّ ببَراعة ونجاح، ثم حضَر إلى القاهِرة زمَن الملك الكامل الأيوبي، وكانت القاهِرة في ذلك الوقت مركزَ العلوم، ومَقصد الفُنون، فمارَس الطبَّ هناك، واشتُهر بها طبيبًا حاذِقًا، وصَلتْ سُمعته إلى أرجاء الدولة الإسلامية. اختار السلطان بيبَرس ابنَ النَّفيس طبيبًا خاصًّا لبلاطه، فأصبح عميدًا للبيمارستان المَنصوريِّ، وعميدَ أطباء مِصر لاحِقًا، واستمر يُزاول مُداواة المرضى في دارِه الخاصَّة التي وقَفها بما فيها على البيمارستان المنصوريِّ. اشتُهر عن ابن النفيس جمُّ الذكاء، وسَعة المعرِفة، والتضلُّع في مُختلِف العلوم، والاستِقامة في كلِّ الشؤون، بما في ذلك الحِكمة في مُزاوَلة مهنة الطب، وقد كان باحثًا مِن الطراز المُمتاز؛ إذ ألَّف في علوم الطبِّ كما ألَّف في علوم أخرى؛ مثل: المنطِق، والفلسَفة، واللغة، والبيان، والحَديث، وأصول الفِقه. ومما امتاز به ابن النَّفيس استِقلالُ الفِكر، واعتماد المنهج التجريبيِّ في إثبات الحقائق العلميَّة؛ مِن رصد، ومُشاهَدة، ومُقارَنة، وملاحَظة، وإجراء تجارِب، وكان لا يتردَّد في نقد أخطاء كبار الأطباء السابِقين؛ كجالينوس، وابن سينا، وغيرهم. اعتمدتْ طريقة ابن النفيس في العلاج على تنظيم الغذاء أكثرَ مِن استِخدام الدواء، وخضَعتْ أبحاثُه لمنهج علميٍّ واضِح؛ فقد درَس أعمال مَن سبَقه من العلماء والأطباء، قبل أن يَحكُم على غير السليم منها، ويَعتمد الجيِّد لِبناء نظريات جَديدة، واهتمَّ بالعوامل المؤثِّرة في جسم الإنسان أكثر مِن اهتمامه بالطبِّ العلاجيِّ، وبكلمات أخرى نرى أن ابن النفيس مِن أوائل مَن اعتمد على الحِكمة المعروفة: (الوقاية خير مِن العلاج). حَفظ ابن النفيس كتاب "القانون" لابن سينا عن ظهْر قلب، وكان يُلقي المحاضَرات عن جالينوس وابن سينا دون سابِق تَحضير، وممّا قاله عن كتُبه التي ألّفها: "لو لم أكنْ واثِقًا من أن كتُبي ستَعيش بعدي عشرة آلاف سنَة، لما كَتبتُها". كسَر عالِمُنا الجَليل طوقَ التقيُّد بالطُّرق الموروثة عن السابِقين، ودَعا في ذلك إلى التحرُّر مِن هيمنة الأفكار التي ظهَر فسادُها، في الوقت الذي كان غيره لا يَجرؤ على انتِقادها أو مُخالفتها، إلا أنه مع ذلك اشتُهر بالإنصاف والأمانة العلميَّة وعدم تنكُّره لفضْل العلماء الآخَرين، ومما قال عن مخالفته لابن سينا مثلاً: "خالَفْناه في أشياء يَسيرة، ظنَّنا أنها مِن أغاليط النساخ". تتبَّع ابن النفيس مَسار الدم في أوعية الجِسم الدمويَّة، واستطاع بذلك وصفَ الدَّورة الدموية في جِسم الإنسان، فكان بذلك المُكتشِفَ الأول لها قبْل أن يدَّعي اكتِشافها مَن جاء بعده مِن الأطباء الذين خانوا الأمانة العلميَّة، ونسَبوا أقوال ابن النفيس واكتِشافاته إلى أَنفسِهم زورًا منهم وبهتانًا. وقد أثبتَ ابن النفيس أن عملية تنقيَة الدم تتمُّ في الرئتَين، واهتدى إلى أن اتِّجاه الدم ثابِت، وأنه يمرُّ مِن التجويف القلبيِّ الأيمن إلى الرِّئة؛ حيث يُخالط الهواء، ويتَّجه مِن الرئة إلى التجويف الأيسر للقلب، ومِن هناك يتمُّ ضخُّه إلى أنحاء الجِسم المُختلِفة. ومما تطرَّق إلى ذِكْره عالِمُنا هذا، تشريحُ الرِّئة والشُّعَيرات الدموية الدقيقَة، والحُويصِلات الرِّئوية، كما أنه درَس وظائف الرئتَين والأوعية الدموية التي تتَّصل بينها وبين القلب والرئتَين، وخالَف بذلك فهمَ ابن سينا وأرسطو مِن قَبلِه. لعلَّ أهمَّ مؤلَّفات ابن النفيس موسوعتُه المَعروفة بكتاب "الشامِل"، وهي أضخَم موسوعة علمية طبيَّة، تُكتَب في التاريخ الإنساني، وقد وُضعتْ مُسوَّدتها في ثلاثمائة جزء، إلا أن المنيَّة عاجَلتْ عالِمَنا، فلم يَتمَّ منها سوى تبييض ثمانين جزءًا، وتُمثِّل هذه الموسوعة الصيغة النهائية والمُكتمِلة للطبِّ والصيدلة في الحَضارة الإسلامية بعد خمسة قرون مِن الجهود العلميَّة المتواصِلة. ومِن مؤلفاته أيضًا: كتاب "شرح القانون"، وهو عِدَّة أسفار، شرَح خِلالها كتاب ابن سينا، وكتاب "موجَز القانون"، وهو اختِصار لقانون ابن سينا، كما أنَّه شرَح كتاب أبقراط، في كتاب أسماه: "شَرح تَقدِمة المعارف". سبَق ابن النفيس أطباءَ العُيون، حينما قرَّر أن عَين الإنسان آلة ناقِلة للإبصار، وليستْ باصِرة بحدِّ ذاتها، وأشار إلى أن العَين تَنقل دلالات الجِسم المُبصَر ومَعانيه إلى المخِّ، وجاء العِلم الحديث، مؤكِّدًا صحَّة افتراضات ابن النفيس، وتمَّ اكتِشاف العصَب البَصريِّ الذي يَنقل الصورة، ويَربط العَين بأجزاء مُتخصِّصة في الدِّماغ، تقوم بتفسير المرئيات. عاش ابن النفيس طوال حياته مُطيعًا لربه، أمينًا لدِينه، لا يَشغله غير العِلم والتعبُّد، حتى جاءه مرض الموت الذي عانَى منه ستَّة أيام، نصَحه فيها بعض أصحابه مِن الأطباء أن يَتناول شيئًا مِن الخَمر؛ لتسكين ما به مِن آلام مُبرحة، فأبى أن يَتناول شيئًا منه، وقال كلمته المعروفة: "لا ألقى الله - تعالى - وفي بطني شيء مِن الخمر". وتوفِّي - رحمه الله - بمدينة القاهرة التي أقام بها مُعظم حياته عن عُمرٍ قارَب الثمانين عامًا، وترك وصيَّة وهَب فيها داره ومكتبتَه إلى البيمارستان الناصِريِّ، الذي قضى فيه معظم حياته طبيبًا، سجَّل له التاريخ بمداد مِن نور أعظم الصفحات المُضيئات. |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 06:41 AM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.