![]() |
أحمد بن حنبل العالم القدوة
أحمد بن حنبل العالم القدوة 1-3 صالح بن فريح البهلال إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد؛ فإن من منة الله على عباده أن "جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هَـدوه، يَـنْـفُـون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين" (1). فهم ورثة الأنبياء في العلم، حيث لم يورثوا سواه. وهم نجوم الدُّجـى يَهتدي بها السالكون إلى الله والدار الآخرة. وهم مصابيح الظلام إذا استعجمت الأمور، يفتحون أبوابها، ويجلون غامضها، ويحسرون عن لثامها. وهم برد الزمان إذا تلهبت مقايظه، واشتد أُواره. فوجودهم ضرورة للناس، وإلا ضل الناس وأضلوا، فقد أخرج البخاري (2) ومسلم (3) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا). ولذا اهتم الناس بكتابة سير أهل العلم، واعتنوا بأقواهم وأحوالهم على مـر الأزمنة. ولا شك أن إمعان النظر في سير هؤلاء العلماء، يعطينا فوائد حساناً منها: أن نعرف كيف ارتفع القوم، فنتأدب بآدابهم، ونستفيد من تجارِبهم، ونشحذ هممنا عند ذكر قصصهم؛ فنركض إلى المعالي، ونرخص الأمور الغوالي، ونكسر الغرور والعجب الذي يَحِلُّ في قلوب بعضنا إذا أتقن علماً، أو حقق فناً، أو حفظ متناً، فتزكو النفس بذلك وتصفو، ويثوب إليها نشاطها وعزيمتها، قال ابن الجوزي - رحمه الله -: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق، وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح؛ للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس علمه؛ وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته، فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا؛ ليكون سبباً لرقة قلبك، ولا يصلح العمل مع قلة العلم، فهما في ضرب المثل كسائق وقائد، والنفس بينهما حرون، ومع جد السائق والقائد ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور) اهـ كلامه بتصرف (4). ألا وإن الحديث في هذه الرسالة حديثٌ عن فردٍ من أولئك السادة الأعلام، ورجلٍ من أولي العرفان، وفحلٍ من أرباب الاجتهاد، إنه حديثٌ عن رجل قد رسخت قدمه في العلم، فكأنما هو والعلم قد قُدَّا من أديم واحد، بل كأنما قد شُقَّا من نبعة واحدة، فهما أخوا صفاء، وهما أليفا مودة، إنه حديثٌ عن بحر العلماء الزاخر، وبدرهم الزاهر؛ أبي عبد الله أحمد بن حنبل؛ إمام أهل السنة، الذي انقطع للعلم، وأنفق فيه أوقاته، حتى استبطن دخائله، واستقصى أطرافه، فمهر فيه وحذق. هذا الإمام الذي صبَّر نفسه في ذات الله، فلم ترعه النوائب، ولم تنل من صبره الملمات. هذا الإمام الذي قال فيه الإمام الشافعي المتوفى سنة 204هـ: (هو إمامٌ في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة) (5). وتأمل أن الإمام الشافعي قال هذا الكلام، والإمام أحمد لم يجاوز الأربعين، فقد توفي الشافعي وعمر أحمد أربعون. هذا الإمام الذي كتب له القبول في الأرض، فصار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام احمد، هذا مذهب الإمام أحمد، ف- رحمه الله - رحمة واسعة. وهذا أوان البدء في عرض سيرته، مكتفياً منها بخلاصتها، ومواطن العبرة والقدوة فيها؛ لأن الوقت في بسطها يطول ويمتد، وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، والله المستعان. أولاً: تاريخ مولده ووفاته: ولد الإمام أحمد في بغداد؛ في العشرين من شهر ربيع الأول؛ عام 164هـ، وتوفي في بغداد؛ ضحوة يوم الجمعة؛ الثاني عشر من شهر ربيع الأول؛ عام 241هـ، وكان عمره يوم مات سبعة وسبعين عاماً، وأحد عشر شهراً، واثنتين وعشرين ليلة. قال أبو الحسن ابن الزاغوني: (كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه، فوجد كفنه صحيحا لم يَبْلَ، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة) (6). وقال الذهبي: (استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد، عامَ على مقابر مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدهليز علوَّ ذراع، ووقف بقدرة الله، وبقيت الحـُصُر حول قبر الامام بغبارها، وكان ذلك آية) (7). ثانياً: تميز الإمام أحمد في صغره: لقد نشأ الإمام أحمد يتيماً؛ إذ فقد أباه وعمره ثلاث سنين، فكفلته أمه، وكان وحيد أبويه، لكن لم يضره ذلك اليتم، ولم يكلمْه ذلكم الفقد، فقد نشأ على هيئة حسنة من الصلاح والألمعية، وإليكم ما يدل على هذا: - يقول أبو بكر المَرُّوذي (8): (قال لي أبو عفيف -وذكر أحمد بن حنبل- فقال: كان في الكتاب معنا وهو غليِّم، نعرف فضله، وكان الخليفة بالرَقَّة، فيكتب الناس بالرَقَّة، فيكتب الناس إلى منازلهم الكتب -أي يكتب الجند والولاة إلى أهليهم الكتب- فيبعث نساؤهم إلى المعلم: ابعث إلينا بأحمد بن حنبل؛ ليكتب لهم جواب كتبهم، فيبعثه، فكان يجيء إليهن مطاطئ الرأس، فيكتب جوابهن، فربما أملين عليه الشيء من المنكر، فلا يكتبه لهن) (9). فهذه الحادثة تدل على تبكير صلاحه وورعه؛ إذ أنه مع صغر سنه يغض بصره عن الحرام، وإن كان من في سن مثله لا يبالي بالنساء، ولا يبالين به، بل ويمتنع عن كتابة المنكر الذي يمليه النساء؛ رداً على خطاب أوليائهن. جــرى نــاشــئاً للحــمد في كل حلْبةٍ *** فــجــاء مجيىء الســابق الــمــتمـــه ولقد كانت ألمعية هذا الإمام المبكرة، وصلاحه المتقدم يثير دهشة من يراه، فهذا أبو سراج ابن خزيمة يقول: قال أبي: -وذكر أحمد، وجعل يعجب من أدبه، وحسن طريقته- فقال ذات يوم: (أنا أنفق على ولدي وأجيئهم بالمؤدبين على أن يتأدبوا، فما أراهم يفلحون، وهذا أحمد بن حنبل يتيم، انظر كيف يخرج؟!) وجعل يتعجب! (10). بلــغــت لعــشر مضـــت من سـِنِيـِّ *** ـك مـــا يــــبلـــغ الســــــيد الأشـــيـــب فــهــمـــك فـــيهـــا جـــسام الأمـو *** ر وهـــم لـــداتـــك أن يـــلعـــــــبــــوا لقد كان هذا الإمام وهو في صغره دراك غايات، وطلاع ثنايا، فقد كان يحيي الليل، وذلك فيما ذكره عنه إبراهيم بن شمَّاس (11)، فلم يكن -وهو غلام- ليدع هذه السنة العظيمة، مما يدل على مدى التوفيق الإلهي الذي يحيط به، فلقد صدقت فراسة الحافظ الهيثم بن جميل البغدادي في أحمد؛ إذ قال: (إن عاش هذا الفتى سيكون حجة على أهل زمانه) (12). فلله دره على فراسته هذه، فقد كان حجة على أهل زمانه ومن بعدهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ثالثاً: الصفات التي تميز بها الإمام أحمد: لقد كان هذا الإمام سباقاً للخيرات، من يقلب الطرف في سيرته يلق عظمة تتصاغر عندها الهمم، وتملأ الصدور هيبة وإجلالاً؛ ولذا تتابعت كلمات الثناء على هذا الإمام من أئمة عصره، ومن بعدهم، يشيدون بذكره، ويعددون مآثره، ويعلنون مفاخره، فقال عنه ابن مهدي وهو أحد شيوخه: (كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه) (13). وقال إبراهيم الحربي: (كان أحمد بن حنبل كأنه رجلٌ قد وفق للأدب، وسدد بالحلم، وملئ بالعلم) (14). وقال إبراهيم أيضاً-: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاةً في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس) (15). وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (ومن نظر في سيرة أبي عبد الله، وترجمة ما سبق، وما يأتي، وما لم نذكره وجد همته في الخيرات والطاعات من أعلى الهمم، وإنه يصدق عليه ما رواه الحاكم في تاريخه عن الأصمعي، أن دغفلاً دخل على معاوية، فقال له أي بيت أفخر، قال: قول الشاعر: لـه همـــم لا مــنتـــهـــى لكـــــبارهــــا *** وهمته الصـغــــرى أجـــل مــــن الدهــــر لـه راحــــة لو أن مـــعشــار جــــودها *** على البر كان البر أندى من البحر) (16) فلننظر جميعاً- عن أبرز مآثر هذا الإمام، وأظهر شمائله؛ لنقتدي بها؛ فإن التشبه بمثله فلاح: أولاً: سعة علمه، وغزارته، وإمامته فيه: لقد اشتهر الإمام أحمد بالعلم، فإذا قيل في العلم: قال أحمد؛ هكذا مهملاً، فلا ينصرف الذهن إلا إليه، فقد بلغ فيه منزلة لا تجارى، ورتبة لا تسامى، فكأنما هو والعلم رضيعا لَبان، وثناء العلماء عليه بالعلم شائعٌ ذائعٌ، فمنه قول إبراهيم الحربي: (رأيت أحمد بن حنبل، فرأيت كأن الله قد جمع له علم الأولين، فمن كل صنف يقول ما شاء، ويمسك ما شاء) (17). وقال عبد الوهاب بن عبد الحكم الوراق: (ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، قيل له: وأي شيءٍ بان لك من فضله، وعلمه على سائر من رأيت؟ قال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: حدثنا، وأخبرنا) (18). وقال أبو زرعة: (كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له وما يدريك؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب). قال الذهبي: (فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسر، ونحو ذلك، وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك) (19). وقد سبق ذكر ثناء الإمام الشافعي عليه، وأنه إمام في ثمان خصال، وذكر منها، أنه: إمام في الحديث، وإمام في الفقه، وإمام في اللغة، و إمام في القرآن، وإمام في السنة. فيا ترى ما هي الأسباب في سبق هذا الإمام العلمي؟ إن المتأمل في سيرته يجد أسباباً خمسة ساعدت على تميزه في العلم، وإليك بيانها مع ذكر ما يدل عليها من سيرته: السبب الأول: توفيق الله لهذا الإمام وتأييده له، وهذا السبب الأكبر في نيل العظائم، وإدراك الغايات النبيلة، فقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - (إنما العلم مواهب يؤتيه الله من أحب من خلقه) (20)، وقد نظم هذا المعنى العلامة ابن القيم، فقال: والعــلم يدخــل قلـــب كــــل موفـق *** مـــن غــير بواب ولا استـــئــــــذان ويــرده المـــحــروم مـــن خــذلانه *** لا تــشقـــنا اللـــهـــم بالـــحرمــــان وكلام هذين العالمين منطلق من قوله - تعالى -: يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.. الآية [البقرة: 269]. قال مجاهد (أي القرآنَ والعلمَ والفقهَ) (21). وليس معنى هذا أن يترك المرء فعل الأسباب، منتظراً بين عشية أو ضحاها أن ينزل عليه توفيق الله، فيكونَ حبرَ الأمة، وعلامةَ الزمان! لا، بل يتحتم عليه الطرقُ للباب، والأخذُ بالأسباب؛ فإن الله - سبحانه - قال: .. وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ.. الآية [النور: 21]، وقال: .. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ... الآية [فاطر: 18]. والإمام أحمد - رحمه الله - قد طرق الباب، وأخذ بالأسباب، كما سيأتي بيانه -إن شاء الله-. السبب الثاني: إخلاص هذا الإمام، وتجرده لله -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً، والإخلاص يكثر العمل القليل، ويباركه وينميه، ومن قرأ سيرة هذا الإمام لاح له هذا الأمر، وهذه بعض النماذج من سيرته دالة على ذلك: الأول: محبته خمول الذكر وعدم الشهرة، فقد قال لعمه مرة: (يا عم، طوبى لمن أخمل الله ذكره) (22)، ومرة أوصى أحد طلابه، فقال: (أخمل ذكرك، فإني قد بليت بالشهرة) (23)، وكان - رحمه الله - إذا مشى في طريق يكره أن يتبعه أحد (24). الثاني: قال - رحمه الله -: (إظهار المحبرة من الرياء) (25)، فعد هذا الإمام مجرد إظهار المحبرة من الرياء، ولعله يقصد أن إظهارها ونحوها من الأشياء التي هي شعار العلم، من البواعث على الرياء؛ والنفس لا تسلم من حظوظها إلا ما رحم ربي، ولعل المحبرة في زمانهم كانت شعاراً للعلم. الثالث: قال المَرُّوذي: (كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر بالعسكر، ولا يدع قيام الليل وقراءة النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يسر ذلك) (26). الرابع: وقال أبو حاتم: (كان أحمد إذا رأيته، تعلم أنه لا يظهر النسك، رأيت عليه نعلاً لا يشبه نعال القراء، له رأس كبير معقَّد، وشراكه مُسْبَل، ورأيت عليه إزاراً وجبة برد مخططة؛ أي لم يكن بزي القراء) (27). فمن أراد بركة العلم، فليلزم الإخلاص فثمَّ العلم. ومسألة الإخلاص شديدة المطلب، وعرة المسلك، تحتاج إلى معالجة ومجاهدة، لكنَّ الثمرة ذكرها ربنا في كتابه فقال: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]. السبب الثالث: جِدُّه في طلب العلم وصبره على الأذى فيه، فالعلم ليس حلماً يرى في المنام، ولا صيداً يرمى بالسهام، ولا مالاً يورث عن الآباء والأعمام، إنما هو الجد والاهتمام، وهكذا فعل هذا الإمام، فقد طاف البلاد، وجاب الأمصار، في طلب العلم، فقد رحل إلى الكوفة، والبصرة، وعبادان، والجزيرة، وواسط، ومكة، والمدينة، ورحل ماشياً إلى صنعاء اليمن، ورحل ماشياً إلى طرسوس، ورحل إلى الشام، واستفرغ في العلم وسعه، وسلك إليه كل سبيل، وركب فيه كل صعب وذلول حتى نال ما نال. قال البغوي عن أحمد: (أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر)، وقال صالح ابنه: (رأى رجل مع أبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟! فقال: معي المحبرة إلى المقبرة) (28). وإذا كــانـــت الـــنفــوس كــبـــــاراً *** تــعبــت فــي مــرادهــا الأجـــــسام السبب الرابع: عمله بعلمه، ومن قلَّب النظر في سيرة الإمام أحمد وجد أنه إنما يطلب العلم؛ لكي يعمل به؛ لا يطلبه لأجل مكاثرة، أو مفاخرة، أو لأجل دنيا يصيبها، ومن أسباب ثبات العلم العمل به، وقد قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) (29) وهناك نماذج تدل على عمل الإمام أحمد بكل ما يتعلمه، سيأتي ذكرها -إن شاء الله- في مبحث حرصه على العمل بالسنة. السبب الخامس: صلاحه، وصدق تقواه، والتقوى سبيل العلم النافع، والعمل الصالح، ومصداق ذلك في كتاب الله في قوله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [الأنفال: 29]. قال ابن جريج وابن زيد: (هداية ونوراً في قلوبكم، تفرقون به بين الحق والباطل) (30). وقال المَرُّوذي: (سمعت فتح بن أبي الفتح يقول لأبي عبد الله -يعني الإمام أحمد- في مرضه الذي مات فيه: ادع الله أن يحسن الخلافة علينا بعدك؟ وقال له: من نسأل بعدك؟ فقال: سل عبد الوهاب بن عبد الحكم. وأخبرني من كان حاضراً، أنه قال له: إنه ليس له اتساع في العلم؟! فقال أبو عبد الله: إنه رجل صالح، مثله يوفق لإصابة الحق) (31). فهذه كلمة عظيمة خرجت من رجل فحص العلم، فعجم عوده، وسبر غوره، لتُبِيْن بجلاء أن الصلاح سبيلٌ للتوفيق في العلم، وإصابة الحق فيه. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) اقتباس من الخطبة التي افتتح بها الإمام أحمد ـ - رحمه الله - ـ كتابه: (الرد على الزنادقة والجهمية). (2) ح (100) (3) ح (6877) (4) صيد الخاطر ص 367 (5) طبقات ابن أبي يعلى 1/5 (6) تهذيب التهذيب 1 / 65 (7) سير أعلام النبلاء 11 / 231 (8) قال الخطيب في تاريخ بغداد 4/423: (هو المقدَّم من أصحاب أحمد؛ لورعه وفضله، وكان يأنس به، وينبسط إليه، وهو الذي تولى إغماضه لما مات، وغسله، وقد روى عنه مسائل كثيرة). (9) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص23 (10) المناقب لابن الجوزي ص 23 (11) سير أعلام النبلاء 11 / 228 (12) المناقب لابن الجوزي ص99 (13) مناقب ابن الجوزي ص93 (14) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 147 (15) طبقات الحنابلة 1 / 92 (16) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 29 (17) سير أعلام النبلاء 10 / 501 (18) طبقات الحنابلة 1 / 5 (19) سير أعلام النبلاء 11/187 (20) الآداب الشرعية 2/59 -60 (21) تفسير الطبري 5/9 (22) المناقب لابن الجوزي ص376 (23) المناقب لابن الجوزي ص377 (24) المناقب لابن الجوزي ص377 (25) الآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 198 (26) المناقب لابن الجوزي ص268 (27) سير أعلام النبلاء 11 / 207 (28) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 213 (29) أخرجه عنه الخطيب البغدادي في اقتضاء القول العمل رقم (40). (30) ينظر روح المعاني للألوسي 5/196 فإن قيل: أليس الاستدلال بقوله - تعالى -: واتقوا الله ويعلمكم الله.. أصرح في الدلالة؟ فالجواب عن هذا بأن يقال: بأن هذه الآية طعن بعض أهل العلم في دلالتها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى 18/177 (وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل (اتقوا الله يعلمكم الله... )، ولا قال: (فيعلمكم...)، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضى أن الأول سبب الثاني.. ). (31) الورع للمروذي ص7 . |
|
أحمد بن حنبل، العالم القدوة [3/3] الإسلام اليوم عاشراً: ثباته على الحق، وصبره على الأذى فيه -رحمه الله-: لقد ابتلي الإمام أحمد بعدة محن، فصبر، وأشهر هذه المحن هو امتحانه بالقول بخلق القرآن، مع عدد من خلفاء بني العباس فكان مثالاً للرجل الموفق في حمل النائبات، الجلد في الاصطبار للنوازل، الثابت على الحق، لم يتزعزع عنه قِيد أنملة، قال ابن المديني: (أعز الله هذا الدين برجلين؛ ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة) (1) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإمام أحمد صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، وأنه لم تكن تأخذه في الله لومة لائم؛ حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ". [السجدة:24]. فإنه أعطى من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء مسلطون من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين، والقضاة، والوزراء، والسعاة، والأمراء، والولاة، من لا يحصيهم إلا الله، فبعضهم بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد بال***، وبغيره، وبالترغيب في الرئاسة والمال ما شاء الله، وبالضرب، وبعضهم بالتشريد والنفي، وقد خذله في ذلك عامة أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، والأبرار وهو مع ذلك لم يعطهم كلمةً واحدةً مما طلبوه منه، وما رجع عما جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية؛ بل قد أظهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره، ودفع من البدع المخالفة لذلك ما لم يتأت مثله لعالم من نظرائه، وإخوانه المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا قال بعض شيوخ الشام:لم يُظهرْ أحدٌ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما أظهره أحمد بن حنبل) (2). اهـ كلامه -رحمه الله- وملخص هذه الفتنة(3) أن الناس كانوا على منهج السلف، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، حتى تولى الخليفة العباسي المأمون الخلافة سنة193هـ، فصار من أمره ما صار من تعريب كتب اليونان، وداخله أهل الكلام، منهم: ثمامة بن الأشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، فكان الأخير يحسن له هذه المقولة، ويدعوه إليها، حتى استجاب المأمون لها، وفي عام 212هـ فتح باب القول فيها، وأعلن المناظرة عليها، وأمر إسحاق بن إبراهيم، وهو صاحب شرطة بغداد، أن يمتحن سبعة من كبار العلماء في بغداد، فأجاب هؤلاء تقية؛ إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بإحضارهما، وكان الإمام أحمد في الطريق يسأل الله أن لا يرى وجه المأمون، فمات المأمون وهما في الطريق سنة218هـ، فرُدَّا إلى بغداد، ومات محمد بن نوح في الطريق، وبقي الإمام أحمد وحيداً، ثم تولى المعتصم الخلافة سنة 218هـ، وكان قد أوصاه أخوه المأمون أن يواصل أمر المحنة على القول بخلق القرآن، وقد بلغ البلاء أشده في عصره، فأمر بحبس الإمام أحمد وجلده، وكان يبعث له من يناظره بأدلة عقلية، وهو رابط الجأش يقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقول به، لم يتغير رأيه، وفي عام 220هـ أطلقه المعتصم، ورفع عنه المحنة وعن غيره، فعاش بقية خلافة المعتصم طليقاً يحضر الجمعة والجماعة، ويباشر التدريس، والفتوى، والتحديث، وذلك لمدة سبع سنين حتى مات المعتصم سنة227هـ، ثم تولى بعده الواثق، وكان على دين الخليفتين قبله من القول بخلق القرآن، فامتحن الناس بذلك؛ وكتب إلى الإمام أحمد ينهاه عن مساكنته، وينهاه أن يجتمع إليه أحد، فاختفى في داره ودور أصحابه، وما زال كذلك حتى مات الواثق سنة 232هـ، ثم ولي بعده المتوكل، فرفع الله به المحنة، ونصر السنة، وفرج عن الناس. وفي هذه المحنة عدة فوائد، منها: 1- أن العالم إذا صدق مع الله أبان له الحق، وأظهر له الحجة، ونصره ومكنه، قال أبوزرعة: (قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلصت من سيف المعتصم وسوط الواثق؟ فقال: لو وضع الصدق على جرح لبرأ) (4). 2- أن أقوى حجة استدل بها الإمام أحمد هي الاحتجاج بالكتاب والسنة، وبها غلب خصومه في مناظراته معهم، ففي هذا إخضاع مدرسة العقل لمدرسة النص، وأن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الأحكام والمصالح والمفاسد. 3- عظمة هذا الإمام، فمع ما جاءه من الشدة والعذاب إلا أنه عفا عن كل من فعل به ذلك ما عدا مبتدعاً، مما يدل على أنه لم يكن ينتصر لنفسه، ولم ينتقم لها، وإنما ينتقم للدين، وقد سبق بيان شيءٍ من ذلك عند ذكر حلمه وعفوه. 4- أنه مهما كان وزن العالم وثقله عند الناس؛ فإنه يحتاج إلى من يثبته، والإمام أحمد مع وفور علمه، ورباطة جأشه، وقوة قلبه، تحكى عنه مواقف في محنته تدل على هذا، ومنها: قال عبدالله بن أحمد: (كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم. فقلت: يا أبة، من أبوالهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبوالهيثم الحداد؛ اليوم الذي خرجت فيه للسياط، ومدت يداي للعقابين، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبوالهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين) (5). وقال الإمام أحمد: (ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد، إن ي***ك الحق، مت شهيداً، وإن عشت، عشت حميداً، فقوى قلبي) (6). وقال عبد الله: (جاء رجل إلى أبي فذكر أنه كان عند بشر -يعني بن الحارث-، فذكروه فأثنى عليه بشر، وقال: لا ينسى الله لأحمد صنيعه، ثبت وثبَّتنا، ولولاه لهلكنا قال عبد الله: ووجه أبي يتهلل، فقلت: يا أبت أليس تكره المدح في الوجه؟ فقال: يا بني إنما ذكرت عند رجل من عباد الله الصالحين، وما كان مني فحمد صنيعي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه")(7). 5- بُعْدُ نظر الإمام أحمد، وفقهه العظيم في الموازنة بين المصالح والمفاسد، فمع هذه المقولة البدعية التي تواطأ عليها الخلفاء الثلاثة، ودعوا الناس إليها، وساموهم سوء العذاب؛ إلا أنه مع ذلك لم يكن يرى الخروج عليهم، بل كان يحذر من ذلك، ويرى السمع والطاعة لهم، وهذه حكاية تبين هذا: يقول حنبل بن إسحاق؛ ابن عم الإمام أحمد: (لما أظهر الواثق هذه المقالة، وضرب عليها وحبس، جاء نفر إلى أبي عبد الله، من فقهاء أهل بغداد، فقالوا له: يا أبا عبد الله: إن الأمر فشا وتفاقم، وهذا الرجل يفعل ويفعل، وقد أظهر ما أظهر، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر بالمعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن: القرآن كذا وكذا. فقال لهم أبو عبد الله: وماذا تريدون؟ قالوا: أتيناك نشاورك فيما نريد. قال: فما تريدون؟ قالوا: لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه. فناظرهم أبو عبد الله ساعة؛ حتى قال لهم: أرأيتم إن لم يتم لكم هذا الأمر، أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه، عليكم بالنُّكرة في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌ، ويستراح من فاجر. فقال بعضهم: إنا نخاف على أولادنا، إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام ويدرس. فقال أبو عبد الله: كلا؛ إن الله -عز وجل- ناصر دينه، وإن هذا الأمر له رب ينصره. فخرجوا من عند أبي عبد الله، ولم يجبهم إلى شيءٍ مما عزموا عليه أكثر من النهي عن ذلك، والاحتجاج عليهم بالسمع والطاعة، حتى يفرج الله عن هذه الأمة. فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده، فلما خرجوا قلت: يا أبا عبد الله: وهذا عندك صواب؟ -أي أمر الخروج على السلطان-. قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، ثم قال أبو عبد الله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن وليت أمره فاصبر) قال حنبل: فمضى أولئك القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان، وهربوا، وأخذ بعضهم فحبس، ومات في الحبس) (8). ففي هذه الحكاية دلالة عظيمة على فقه هذا الإمام؛ لأنه يعلم أنه يترتب على الخروج عليهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم. كما أن فيها حفظ الله وعصمته لهذا الإمام، فإنه -رحمه الله- لم يأبه بكلام من جاءه يريد الخروج، ويحتج بالدين، والنصرة له؛ معرضاً عن عواقب هذا الأمر، فإن النفوس –غالباً- تضعف بمثل هذا الكلام، وتجيش عاطفتها، وتطيش عقولها، فتسارع في الموافقة، فتتصرف بشيءٍ لا يحمد، وكم من مريد للخير لم يبلغه. ونحن في هذا الزمان بحاجة إلى إشاعة مثل هذه المواقف المشرقة المبنية على الكتاب والسنة، وتثقيف الشباب بها؛ فإن ما وقع فيه بعض الشباب في الآونة الأخيرة من أفكار منحرفة، وأفعال غير مرضية شرعاً، إنما هو بسبب الجهل بهذا الجانب. 6- رفعة الإمام أحمد بنصر السنة؛ وذلك بكونه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: (صار مثلاً سائراً يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، حتى صار اسم الإمام مقروناً باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، هذا مذهب الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ" . [السجدة:24] فإنه أعطي من الصبر واليقين ما يستحق به الإمامة في الدين) (9). وكذا رفعة الله للخليفة المتوكل؛ لكونه نصر السنة، ودحض البدعة، فلا تخلو ترجمة له من ذكر نصره للسنة، قال قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي: (الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع، وإظهار السنة) (10). بل بركة النُّصرة، نالت ذرية المتوكل، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (جعل الله عامَّة خلفاء بني العباس من ذرية المتوكل، دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة) (11) . حادي عشر: ورعه في الفتوى: الناظر إلى صنيع العلماء في الفتوى يجد أن عندهم تورعاً كبيراً في إجابة السائل؛ ويجد أنهم يبادرون بقول: ( لا أدري ) التي هي كما قال الشعبي: نصف العلم(12)، وقد سئل الإمام مالك عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال له السائل: إنها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ، وإنما أردت أن أعلم بها الأمير -وكان السائل ذا قدر- فغضب مالك، وقال: مسألة خفيفة سهلة! ليس في العلم شيءٌ خفيفٌ، أما سمعت قول الله تعالى: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا".(13) [المزمل:5] وعلى هذا سار الإمام أحمد -رحمه الله- ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره المَرُّوذي في كتاب الورع(14) قال: وذكر أبو عبد الله مسائل ابن المبارك، قال: كان فيها مسألة دقيقة؛ في رجل رمى طيراً، فوقع في أرض قوم، لمن الصيد؟ قال ابن المبارك: لا أدري! قلت لأبي عبد الله: ما تقول فيها؟ قال: هذه دقيقة، ما أدري ما أقول فيها، وأبى أن يجيب. ثاني عشر: نظافته وعنايته بلباسه: يقول عبد الملك بن عبد الحميد الميموني -وهو أحد أصحاب الإمام أحمد-: ( ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف بدناً، ولا أشد تعاهداً لنفسه في شاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوباً بشدة بياض، من أحمد بن حنبل) (15) . وهذا الذي ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمظهره من غير إسراف ولا مخيلة، وأن يتعاهد خصال الفطرة؛ فإن ذلك مما أمر به الإسلام، أما أن يرى بعض طلبة العلم متنكباً عن ذلك؛ فهذا مما لا ينبغي، وقد يعتذر بعضهم عن هذه الأمور بأنه عنها في شغل؛ فهذا لا يعفيه، فالإسلام دين الطهارة للمخبر والمظهر. ثالث عشر: من عيون أقواله: لهذا الإمام أقوال محكمة نفيسة منها: 1- قال -رحمه الله-: (لا أ*** من قال شيئاً له وجه وإن خالفناه) (16). وهذه كلمة عظيمة تصلح أن تكون قاعدة في فقه الخلاف، في أنه لا ينبغي التعنيف في المسائل التي يسع فيها الاجتهاد، وتتجاذبها الأدلة، وليس هناك نص قاطعٌ فيها ولا إجماع. أما أن تجد بعض الناس اليوم يوالي ويعادي، ويشتد ويحتد؛ لأجل مسألة تحتملها الأدلة، فهذا من ضيق العطن، وعدم التشبع بروح العلم؛ إذ الخلاف حتمٌ واقعٌ في كثير من مسائل الفروع . 2- وقال الميموني: (قال لي أحمد: يا أبا الحسن، إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام) (17). وهذه كلمة قيِّمة من هذا الإمام تعطي طالب العلم درساً في ألا يتسرع في الأخذ بشيءٍ تديناً، ويكون لم يسبق بهذا الشيء، بل عليه أن يتروى ويلزم سَنن الأئمة. 3- وقال أحمد بن محمد بن يزيد الوراق: (سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شبهت الشباب إلا بشيئ كان في كمي فسقط) (18). فهذا الإمام أحمد يحكي سرعة مرور الشباب وانقضائه، فيشبهه بالشيء كان في كمه فسقط، مع أنه -رحمه الله- قد اغتنم أوقات شبابه، وأفناها بالخير، وهو الذي قال فيه إبراهيم الحربي: (لقد صحبته عشرين سنة صيفاً وشتاءً، وحراً وبرداً، وليلاً ونهاراً، فما لقيته لقاةً في يوم إلا وهو زائدٌ عليه بالأمس) (19)، وهذا يعطي الشباب درساً بأن يغتنموا شبابهم الذي فيه قوتهم على العطاء والأخذ؛ فإنه ما يلبث الإنسان إلا ويندم على فراقه، والموفق من وفقه الله. 4 ـ وقال عثمان بن زائدة: (قلت لأحمد: العافية عشرة أجزاء؛ تسعة منها في التغافل) فقال: (العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل) (20). وهذه قاعدة حسنة من الإمام أحمد في التعامل مع الناس؛ فلن تجد زوجة، أو ولداً، أو أخاً، أو قريباً، أو معلماً، أو صديقاً، أو نحوهم، إلا وفيه ما يصفو وما يتكدر، فلا ترج شيئاً خالصاً نفعه، فتغافل عن خطأ أمثال هؤلاء، كأنك ما سمعتَ ولا رأيت، وبذلك تعيش سالماً، والقول فيك جميل، أما إذا وقفت عند كل خطأ، وحاسبت عند كل هفوة؛ فإنك تتعب نفسك، ونفسَ من تعاشر. 5- قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار، أو نحو ذلك فقال: (دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب) (21). مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (22). وهذا من فقه الإمام أحمد الدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد أوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال: (قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضاً مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور: من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية، والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف، ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل) (23). 6- قال أبو جعفر القطيعي: دخلت على أبي عبد الله فقلت: أتوضأ بماء النورة؟ فقال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك. قلت: أتوضأ بماء الورد؟ قال: ما أحب ذلك. قال: فقمت فتعلق بثوبي، ثم قال: أيش تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت. فقال: وأيش تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت، فقال: اذهب فتعلم هذا(24). فانظر كيف أجاب الإمام أحمد هذا السائل عن مسائله حتى انتهى، وقد أجابه بحلم وسعة صدر، ثم أرشده لما هو الأولى له بدون تعنيف، وبهذا يُقَّرب العلمُ للناس، ويُحَبُّ أصحابه. وفي ختام هذه الرسالة نسأل الله أن يغفر للإمام أحمد، وأن يجزيه عن الإسلام خيراً، كما نسأله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وألا يحرمنا فضله؛ إنه يرزق من يشاء بغير حساب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. |1|2|3| (1) طبقات الحنابلة1/13.(2) مجموع الفتاوى21/121. (3) ينظر في ذلك : المدخل المفصل للشيخ : بكر أبو زيد ـ رحمه الله ـ 1/377ـ289وكتاب فوائد وشواهد من محنة الإمام أحمد لإبراهيم الغامدي ص15ـ20. (4) محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص143. (5) محنة الإمام أحمد لعبد الغني المقدسي ص148. (6) سير أعلام النبلاء 11 / 241. (7) الآداب الشرعية لابن مفلح 5/ 254. (8) ذكر محنة الإمام أحمد لحنبل بن إسحاق بن حنبل ص72. (9) مجموع الفتاوى21/121. (10) سير أعلام النبلاء12 / 32. (11) مجموع الفتاوى 11/479. (12) سير أعلام النبلاء 4 / 318. (13) الموافقات 4/ 289. (14) ص102. (15) سير أعلام النبلاء 11/208. (16) الفروع 1/150. (17) سير أعلام النبلاء 11/ 296. (18) سير أعلام النبلاء 11/ 305. (19) طبقات الحنابلة 1/ 92. (20) الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 162. (21) اقتضاء الصراط المستقيم 2/126. (22) المرجع السابق. (23) المرجع السابق. (24) طبقات الحنابلة 1/ 39. |
جميع الأوقات بتوقيت GMT +2. الساعة الآن 12:28 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.