إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ))
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا )) .
(( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما )) ، أما بعد :
فإن مسألتنا هذه تتعلق بالطعن على أهل البدع ، والتشهير بهم تحذيرا للأمة منهم ومن بدعهم ، والحكم في ذلك ، وإنه بالرجوع إلى النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وأقوال السلف في هذا الموضوع نجد أنه قد تقرر في جلاء ووضوح ، جواز الطعن على أهل البدع ، وذكر عيبهم ومساويهم إن كان القصد من ذلك النصح للمسلمين وتحذير الأمة منهم .
بل يعد ذلك الأمر من الواجبات الشرعية التي لا بد لبعض الأمة من القيام بها وإلا أثم الجميع وفسد أمر الدين .والأدلة على ذلك كثيرة يجل على المقام حصرها ، وهي تنقسم في جملتها إلى قسمين .
{{ القسم الأول }}
أدلة عامة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
قال تعالى (( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون )) ، ولهذا علق بعض السلف ( وصف الأمة بالخيرية ) على إتيانها بهذا الشرط . قال مجاهد رحمه الله ( إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية ) تفسير فتح القدير للشوكاني ج 1 ص 371 .
كذلك قد دلت السنة على وجوب القيام بهذا الأصل العظيم ( أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان )) ، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )) ، والنصوص في ذلك كثيرة كما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضا إجماع الأمة كما نقل ذلك النووي حيث قال (( وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة ، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين ، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم )) شرح النووي على صحيح مسلم ج1 ص 22 .
وإذا ثبت ذلك فإن من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، دعوة الناس إلى السنة وتطبيقها وتحذير الناس من البدع وأهلها ، والتشهير بأهل البدع والطعن عليهم بما هم عليه من انحراف عن المنهج الصحيح ، واتباع للهوى وبما فيهم من بدع وضلالات وزيغ وانحراف عن الدين القويم ، حتى يعلمهم الناس ويحذروهم . ( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي ج 2 ص 484 .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مبينا أن التحذير من أهل البدع من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين ، وعقوبته تكون تارة بالقتل وتارة بما دونه كما قتل السلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيرهم ، ولو قُدر أنه لا يستحق العقوبة ، أولا يمكن عقوبته فلا بد من بيان بدعته والتحذير منها ، فإن هذا من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله )) مجموع الفتاوى ج35 ص 414 .
فيتقرر بهذا مشروعية التحذير من أهل البدع وكشف حالهم والتشهير بهم ليعلمهم الناس ويحذروهم وذلك لعموم الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتي يندرج تحتها هذا الأصل العظيم ، وهو تغيير منكر البدعة بمجاهدة أهلها لينزجروا ، وكشف حالهم للناس ليحذروا من خطرهم . ( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي ج2 ص 485 ) .
{{ القسم الثاني }}
الأدلة ( الخاصة ) الدالة على مشروعية الطعن على أهل البدع وبيان حالهم تحذيرا للناس منهم :
من ذلك قوله تعالى (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم وكان الله سميعا عليما )) .
روى ابن كثير عن مجاهد في تفسير هذه الآية (( قال : أضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حق ضيافته فلما خرج أخبر الناس فقال : ضفت فلانا فلم يؤد إليّ حق ضيافتي ، قال : فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الآخر إليه حق ضيافته )) تفسير ابن كثير ج1 ص571
وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أنها نزلت في ذلك الرجل ( مجموع الفتاوى ج28 ص 230 )
ووجه الدلالة أنه إذا جاز الانتصار للنفس بالجهر بالسوء لمن ظلم في حق ظالمه ، وذكر ظلمه للناي وإطلاعهم عليه ، فالانتصار لدين الله أولى وآكد ، ومن ذلك الجهر بالسوء في حق أهل العناد والشقاق لدين الله من أهل البدع وغيرهم والطعن عليهم بما هم عليه من فساد في الاعتقاد وتلبس بالبدع حتى يحذرهم الناس ويعرفوهم ، وبذلك تتم النصيحة لله ولرسوله وللمسلمين ، التي هي حقيقة هذا الدين والله أعلم . ( موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع للدكتور إبراهيم بن عامر الرحيلي ج2 ص 485 ) .
أما السنة فقد دلت على جواز ذلك ، ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذم بعض أهل الفساد ـ ممن هم في حكم أهل البدع ـ تحذيرا للناس منهم .
فقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت (( استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ائذنوا له بئس أخو العشيرة أو ابن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام . قلت : يا رسول الله قلت الذي قلت ، ثم ألنت له الكلام . قال : أي عائشة ، إن شر الناس من تركه ـ أو ودعه ـ اتقاء فحشه )) رواه البخاري ومسلم .
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث (( قال القاضي ( أي القاضي عياض بن موسى ) ، هذا الرجل هو عيينة بن حصن ولم يكن أسلم حينئذ ، وإن كان قد أظهر الإسلام ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حاله ليعرفه الناس ولا يغترّ به من لم يعرف حاله )).
ونظير هذا الحديث ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت (( قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا )) صحيح البخاري كتاب الأدب ، باب ما يجوز من الظن .فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لهذين الرجلين إنما هو للتحذير منهما والحكم جارٍ على أمثالهما من أهل الفساد ، أن يحذر منهم .قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث (( إن مثل هذا الذي وقع في الحديث ليس من الظن المنهي عنه ، لأنه في مقام التحذير من مثل من كان حاله كحال الرجلين )) فتح الباري ج 10 ص 486.
ومما يستشهد به في هذا الباب من السنة أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من قصة فاطمة بنت قيس ، حين شاورت النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تنكح ؟ لما خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له )) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق هذا الحديث (( وكان هذا نصحا لها ـ وإن تضمّن ذكر عيب الخاطب ـ وفي معنى هذا نصح الرجل فيمن يعامله ، ومن يوكله ، ويوصي إليه ، ومن يستشهده ، وبل ومن يتحاكم إليه ، وأمثال ذلك ، وإن كان هذا في مصلحة خاصة فكيف بالنصح فيما يتعلق به حقوق عموم المسلمين : من الأمراء والحكام والشهود والعمال : أهل الديوان وغيرهم ، فلا ريب أن النصح في ذلك أعظم )) مجموع الفتاوى ج 28 ص 230 .
|