الفصل الثاني عشر
مضت أيامي بعدها بهدوء تام وسط عاصفة تكاد تطيح بي من كل الجهات وانا كجلمود صخر لا أبه لكل من حولي..
امشي في الطرقات وأنظر الى وجوه المارة واقول لهم في قرارة نفسي لم يبق الا شهر واحد وأترك بلدكم هذا الذي تفرحون به الى بلدي مصر...وسمعت من جديد صوت فيروز....رغم أنني كنت أنوي القيام بمشوار مهم تعطل منذ فترة طويلة...توقف عندما سمعت صوت فيروز وهي تغني (شط اسكندرية يا شط الهوا)..اشتقت الى مصر جداً....الى أرض مصر الى سماء مصر الى بحر اسكندرية.......
وقفت امام بائع للجرائد والمجلات لأشتري صحيفة مصرية أتابع من خلالها أخبارمصر كافة..لمحت في صحيفة فرنسية صورة فتاة أعرفها مكتوب خبر وفاتها...امسكت الجريدة وتصفحتها فوراً...وصعقني الخبر...إنها ماري...خبر وفاتها مقتولة والقاتل هو الرجل الذي كانت برفقته دائماً..ومكتوب في الخبر أنه قتل ماري لأنها أرادت الابتعاد عنه بعد ان تعرفت على منتج يحقق لها طموحاتها في اميركا...فالغيرة قتلته وما كان منه الا أن فعل ما فعله بها..
أردت أن اتوازن ..لم أستطع ...شعرت بدوار رهيب ...وتركت الجريدة فوراً من يدي...وتابعت سيري وانا في غاية الاسى والحزن على ماري وعلى الذي حصل لها...كنت أتوقع لها نهاية سيئة ولكن السوء الذي حصل لم يدخل حلبة توقعاتي ابداً...
ذهبت الى المكان الذي أردت أن اقصده منذ مدة...الى الميزون دو كافيه...دخلت وجلست على المقعد من دون أن أرى سليم...طلبت فنجاناً من القهوة وسليم لم يظهر..الا أن رأيته يخرج من غرفة ما..نظر الي وإقترب مني بذهول..
- مش مصدق معقولة؟؟؟...
- قلت بإبتسامة خفية: اصلي طاولتي وحشتني..والكافيه كمان..جيت ازرها.......
- بس للكافيه؟(قالها بمكر)
- قلت لأغير الموضوع: ازي الاخبار ؟؟؟؟
- نظر الي بتعجب وصمت قليلاً ثم استطرد قائلا ً: ورد...ازيك يا ورد؟
- الحمدالله سليم ...
- تحبي تشربي ايه؟؟
- قلت بثقة: سليم..عاوزة اتكلم معاك شوية ممكن...ده الي جبني صدقني..
- جلس فوراً على المقعد الذي أمامي وقال: انا بسمعك من زمان نفسي تتكلمي....
- قلت بإرتباك : بصراحة انا جيت اتكلم بصراحة لاول مرة يمكن من لما تعرفت عليك ...بس لازم نتكلم بصراحة....
- هز رأسه قائلاً: بسمعك اتفضلي...
- انا جيت البلد دي وفي دماغي طموح احققو ..فكرت ان حياتي حتكون عادية مجرد شغل وجامعة و عيلة صغيرة تحبني وبس...بس الي حصل معاية في الفترة الي قعدت فيها هنا غيريلي حياتي 180 درجة ..اتعرفت على عالم تاني واتغيرت فية حاجات كتيرة ...واكتر حاجة اثرت فية هي معرفتي بيك يا سليم...يمكن ققصتنا تنفع مسلسل مكسيكي بس طلعت هندي ....ليه مش عارفة...احنا الاتينن اتصرفتا صح ولما اتصرفنا صح غلطنا في حق بعض (تنهدت قليلاً وشربت كوباً من الماء وهو ينظر الي بأسى ولا يقاطعني أبداً)
-انا في الاول اخدت عنك فكرة غلط,,,افكرتك شاب زي الشباب الي بيجو فرنسا وبينسو دينهم وعاداتهم بس لما قريت مذكراتك حسيت انك انسان كويس بس انغريت بالحياة الي هنا والحمدالله الي فقت على نفسك قبل فوات الاوان..
- قاطعني قائلا بحنانً: كلو عشانك يا ورد..
- عشاني؟؟يعني لما سبنا بعض بطلت تتقرب من ربنا؟
- بالعكس ذاد عندي...انتي فوقتيني على امور كتيرة عملتها ومنها اني اكمل طب.....
- سليم........انا مش جاية نتعاتب انا جاية تسمعني ارجوك...
- بسمعك يا ورد اتكلمي...
- علاقتنا يا سليم مشيت في طريق مسدود صعب ينفتح ابداً خاصة ان ندى دخلت على الموضوع....انا لما قررت انهي علاقتنا عملت الي يرضي ديني وضميري وكسرت قلبي...دي الحقيقة_(دمعت عيوني قليلاً لكنني تابعت كلامي )..كسرت قلب اتعلق بأنسان كويس مستعد يموت عشاني...بس احنا يا سليم التقينا في وقت صح في المكان الغلط....
- قال بأسى: ورد بس انا طلبت اتجوزك؟
- سليم...الكلام سهل اوي تتجوزني وانت مش عارف تأسس نفسك لسه....تتجوزني وانا بعيدة عن امي الي هي كل حاجة في حياتي بعد وفاة ابوي الله يرحمه....ازاي؟؟؟حنسكن فين في القودة الي انت عايش فيها؟؟؟انا مش عاوزة اعيش هنا..انا عاوزة اعيش في مصر في بلدي....الي رغم كل حاجة ما شفتش ولا حشوف اجمل منها...واني ما اتجوزكش ونعمل علاقة حب ومش عارفة ايه لا ديني ولا اخلاقي يسمحولي...ضحيت بيك عشان ارضي اربي واهلي...
- نظر الي قائلاً: ورد انتي بتكبري كل مادا في عنية اوي اوي..بس ياريتك قلتيلي كده واتكلمتي بصراحة مكنش حصل كل ده..
- صح يمكن هنا غلطتي...سوء تصرف مني وداني لمكان بعيد....ومش عارفة لسه حروح فين\..
- لبر الأمان صدقيني(قالها بثقة)
- مسحت دمعتي بسرعة وقلت: سليم مش عاوزاك تكرهني او تحقد عليي..بس انا سعيدة اوي اني اتعرفت عليك انت هدية من السما بس الهدية مضطرة وغصب عني اني اخسرها من تانني...
- قال بخوف: لقة يا ورد ...مش عاوز نخسر بعض مرة تانية..
- قلت ببحزن: لوا كان في امل نرجع لبعض..الأمل ده ضاع بعد ما دخلت ندى على الخط....
- قال بعصبية: ورد ندى انا ما حبيتهاش هي عارفة اني ما حبيتهاش انا حتى ما قلتلهاش بحبك...كنا بنتعرف علبعض وحبيت العلاقة تكون رسمية بس عشان انساكي واهرب من انسانة اسمها ورد الي قلبتلي كياني كلو وربنا شاهد اني مش بكذب بولا كلمة.....
- لا انت ذنبك ولا ندى ذنبها ولا انا ذنبي....سليم انت حاجة حلوة اوي في حياتي ياريت تفضل كده ولما تفتكرني افتكرني كأني حاجة حلوة في حياتك (وشعرت أنني أريد أن ابكي فقمت بسرعة واتجهت نحو الخارج وكانت الدنيا تمطر بغزارة...وكأن المطر يرافقني في كل أوقاتي العصيبة ليتحد مع دموعي .. لكن سليم لحق بي واوقفني)
- ورد..مش عاوز اخسرك ورد..انا لما شفتك اول مرة مش حتصدقي..زي حسيت اني اعرفك من زمان مع اني اول مرة اشوفك فيها...مقدرتش انساكي من لما شفتك....انا..........................انا.......... انا بحبك....
-التفت ونظرت اليه وكأن هذه الكلمة ايقظت في داخلي ما لا اريده وقلت: سليم.......انا مسافرة بعد شهر مش اكتر يا سليم...المرة الي فاتت اتفارقنا ونجرحنا بس المرة دي عاوزة نفترق واحنا مش مجروحين....
- قال بحزن واسى غريب:ورد...ما تكذبيش على نفسك يا ورد حرام الي بتعملي....انا مستعد اجي مصر واتجوزك..
- مصر؟؟لسه فاكر مصر؟؟ بس مصرعاوزاك ترجع ليها دكتور رافع راسك ف يالعالي..وتعيش وتفضل فيها معاية او من غيري...
- قال بإصرار: معاكي والله العظيم معاكي..اوعدك مش حرجع غير دكتور رافعلك راسك ...
- دي اخر مرة يا سليم تشوفني بعد كده عندي امتحانات ومسافرة على مصر فوراً....
- صمتت للحظات ونظر الى الأرض وكأنه لا يريد أن ينظر الي كي لا تنزل دموعه وقال:ربنا معاكي يا احلى ورد في حياتي...
-ابتسمت له وانا ابكي واختلطت دموعي بالمطر وقلت: سليم....انا....انا....انا..(كنت بغاية الخجل وفي عمري كله لم أكن هكذا ولكن اردت ان اشكره واقول له ما يعتريني ولو انها اخر مرة سأراه فيها)
- ايه يا ورد؟
- انا.........انا....بحب الي بيحن عليي يا سليم....(وأدرت وجهي فوراً)
(وسمعت احداً قال: يا اللههههههههههههههههههههههههههههههه )
استدرت لأراه يرفع يديه الى السماء ويقول:
- - يا الله يا رب ....يا الله...قالتهاااااااااااااااااااااااااااااااااااا.. .مش مصدق صدق.....(وركع على الأرض كشخص ركض..الف كيلو ويريد أن يرتاح ....كان... مذهولاً وكأن أحداً اعطاه مليون دولار ويقول ويردد" مش مصدق...مش مدصق...."ويمسك مياه المطر بيديه )
اقتربت منه وأخرجت من شنطتي وردة بيضاء واعطيته اياها..امسك بها ووقف من جديد وكأنني مددت له يدي....وكانت النظرة الأخيرة...واحتبست دموعنا...ركضت وغبت عن عيون سليم الذي ظل واقفاً ينظر الي وانا ارحل....
إرتحت من بعدها بطريقة رهيبة وانشغلت بأمتحاناتي....
ومضت الامتحانات على خير...واجتزتها بنجاح وحان موعد تقديم البحث وكنت اكتب التقرير مستعدة للمناقشة...ولكن قبلها توجهت لمنزل السيدة جوزيفين...لأطمئن على الفتيات واحوالهن قبل ان اكتب التقرير النهائي...
دخلت من الباب وانا بغاية الفرح لأني سألتقي بهن...ركضت الى غرفة هالة لم أجدها ونجلاء ايضاً لم أجدها ولا حتى رهف.....ورأيت من بعيد السيدة جوزفين تبتسم وتتقدم نحوي سلمت علي بحرارة وجلسنا نتحدث سويةً...
- ايه يا مدام جوزيفين البنات فين؟؟؟رهف فين؟؟؟؟
- قالت بأسى: سابت البيت من زمان ورجعت مصر...
- تقصدي بسبب عيا بنتها
- ايوة سافرت ورجعت وبعدين سافرت تاني
- اخبار بنتها ايه؟؟
- صمتت قليلاً وقالت:...بنتها ماتت....رجعت نص مجنونة وكرهت حياتها كلها ورجعت على مصر وسابت دراستها...
صدمت ونظرت الى السيدة جوزفين لا أعرف ماذا أقول ..
- يا رب..لا حول ولا قوة الا بالله... وهالة..
-هالة اتجوزت....
- ايوه صح هي قالتلي انهاا حتتزوج ....تعرفي بيتها حتى زورها..
-اه طبعاً حديهولك....
قلت وأنا أتنفس الصعداء وكأنني مللت من المأسي التي أسمعها...
- ونجلاء؟
- لسه زي ما هي.....
- موضوع موت ماري اثر فيية اوي اوي..
- كلنا كده يا ورد الله يرحمها....
ودعتني السيدة جوزفين بحرارة...وغادرت هذا المنزل الذي عشت فيه أقسى وأجمل أيام عمري...وتعرفت على نماذج جديدة لفتيات من مختلف الدول العربية.....كنت أظن الفتاة في مجتمعنا العربي مهما علا شأنها لا تخرج عن سلطة والديها فالله أمرنا بذلك( ولا تقل لهما اوف ولا تنهمرهما) صدق الله العظيم...ولكن تفاجأت إذ رأيت أن أغلبيتهن فتيات متمردات على الواقع..وأي واقع...انه الدين الذي فرض علينا هذا الواقع...أن نحترم والدينا وما ربيانا عليه..أن نحترم أنفسنا وديننا...أن نحترم مجتمعنا وتقاليده أينما كنا...أن نتصرف كما أمر الله ولا نتخطى الحدود....وجميعهن وصلن الى طريق مسدود لأنهن لم يقيما حدود الله في تصرفاتهن وأعمالهن وكانت النتيجة وخيمة جداً....الله يمهل ولا يهمل...الحمدالله على كل حال...
أشتريت باقة من الورد الأبيض الذي أعشقه وذهبت الى مكان لأتحدث مع فتاة لم أراها ولن أراها أبداً بعد الأن...
وصلت الى حديقة كبيرة جداً...من المستحيل أن يشعر أحد أنها مقبرة...
جلست أمام قبر ماري....وضعت امام قبرها باقة الورد وقرأت الفاتحة ..وتنهدت كثيراً...أخرجت ورقة وقلم من حقيبتي وكتبت عليها( رح اشتقلك يا ماري ..اختك ورد) ووضعتها على القبر وغادرت بهدوء...وانا أدعي الله أن يحسن خاتمتنا يا رب وأن لا يلقانا إلا وهو راض عنا أمين يارب العالمين....
توجهت الى منزل هالة..كان منزلاُُ فخماً..دخلت وطلبت منن الخادمة أن تعلمها بوجودي....نزلت...ورأيت وجهها وكأن عليه كدمات...سلمت عليي بحرارة ...
- كيفك يا ورد اشتقتلك..
- وانا اكتر يا هالة مبروك الزواج..
- قالت وكأن هناك حرقة في قلبها: الله يبارك فيكي..
- انا عرفت الي حصل لرهف وماري وزعالت اوي.
- ايه معاكي حق...هيك كتبلن ربنا...
- هما الي اختارو الطريق دي ربنا ما بيظلمش عبادو ربنا عارف الي حنعمله قبل ما نعمله بس ما بيفرضش حاجة علينا الا من رحم ربي وما شاء ربي فعل...
- قلت بأسى: معاكي حق..(إحتبست دمعة في عينيها وشعرت أنني يجب أن أدخل معها بشكل غير مباشر لأعرف أكثر ما يعتريها)
- ازيك مع جوزك يا هلة انا حاسة كده انك مش سعيدة..
- قالت بإرتبك: لق لق سعيدة...
- اتمنى يا هالة مع ان الكدمات اليفي وشك بتقول غير كده...
- صمتت قليلاً وقالت: شو بدي اقلك يا ورد وشو بدي احكيلك...افتكرتو انسان متحضر طلعع عكس ما توقعت...بدو ياني ديماً مترتبة وجاهزة روح معو سهرات وساير الكل واحكي مع الكل بما انو منفتح ...واذا ما قبلت بيكون الضرب نصيبي...
- يعني واجهة مش اكتر..
- ايه واجهة..دقت المرار وما عم بعرف كيف اتخلص من عيشتي...حانة لسوريا بدي ارجع عسوريا..(ونزلت دمعة من عينيها)
نظرت اليها بصمت وقلت في بالي هذا هو الرجل الغربي الذي فضلتيه على إبن بلدك وإحتقررتي من هو شرقي..الذي يعرف الله ويحترم زوجته ويعاملها بما أمر الله..غادرت المكان بعد أن ودعتها وأنا مشفقة على حالها بكثرة...
يتبع........