هموم
آذتني الصورة الفاحشة التي ترسمها وسائل الإعلام للمرأة العربية ، تلك التي لا يعنيها سوى الدجالين تأخذ عنهم . دجالي التجميل أو الدين و غيرهم ، بينما الأرض نواحي تدور في فلك مغاير :
هموم
استيقظ و الحمى تكاد تسحق وعيي ، يجب أن أسرع في تجهيز يومي كي أذهب إلى عملي، بضائع دقائق من التأخير قد تهضم أجر اليوم و تحلي بنصيب من المكافأة ... أذهب متأخرة لكن لا أحد ينتبه لدفتر الحضور و الإنصراف فيرفعه ، نتوافد عليه فنسجل أسماءنا و نحفظ حقنا في أجر اليوم.
أمر بعشرات الزميلات فألقي السلام و أنا في طريقي لإحضار أوراق الإمتحان فعلي مراجعة 87 ورقة امتحان لطلاب الصف الثاني الإعدادي ... التصحيح و وضع الدرجات و الجمع و القسمة قبل تسليمها للكنترول .
أتناول فنجان التلبينة و أنا أقرأ ما كتبه الأولاد ، يعلوني الهم يملأ مسارب النفس ، ما هذا السخف ، لا يقدر الكثير على كتابة جمل بسيطة تؤدي معنى واضح ، بعضهم يفعل ، يجلس الأولون لتسخيف الآخرين و سرقة وقتهم و تعطيل طاقاتهم ، على الآخرين أن ينتظروا حتى يفرغ الصنف الأول من سخافاته ، يعجز بعضهم أن يكتب أن النت تستخدم في تبادل المعلومات و التواصل مع الآخرين و يأخذ درجته كاملة ! يفعل ابن الغرب بتلك الشبكة الأفاعيل !
نعطيهم بأمر الوزارة درجات تحت كل أنواع البنود ، هذا لأجل أنه يشرفنا بالتواجد في المدرسة و هذا لأنه إذ كان هنا لم يسيء الأدب ! و هذا لأنه إذ لم يكن هنا ، أرسلت والدته لنجار فأحضر مشروعاً مدفوع الثمن ، يخط الفكر الهم على كل خط تخطه يدي ، يضغط الجرح فينزف ، يا رب أليس لها حل ؟ و تلك الأخطاء في المناهج عاماً بعد عام ... أذكر جملة سخيفة في الكتاب تزعم أن مفصل الركبة واسع الحركة ، كيف نمشي إذا؟ وقفت في فصلي و قلت بل هو محدود الحركة ، أترون أوضح من ذلك ؟ حسمت رئيستي مكافأتي بزعم أنني تصرفت من رأسي ، أريها مرجعاً من الجامعة ، لا يشفع لي ، لازال السؤال مطبوعاً في الكتاب بشحمه و لحمه ، يخرج لي لسانه ، يتحداني !
أنتهي من الأوراق و أعيدها للكنترول و الحمى تعصف بذهني ، تكاد تنقلني لأرض الجنون ، أهرب منها ، أقول تحملي حتى أصل الفراش ، تجلدي ، تمر القهوة بذهني ، قد تكون حلاً. ابتسم لها ، أطلب منها فنجان قهوة ، تهز رأسها بينما تنشغل في إعداده ، هادئة على غير عادتها ، دائماً ما تؤكد وجودها ، تشارك في كل ما يدور من حديث ، تقحم نفسها بين السطور.
تتلاقى الأعين ، أرى فيهما الهم ، درجة الشقاء أكثر حدة اليوم ، أقول ما بك ؟ تقول الصغير مريض ، حرارته مرتفعة ، عاملة النظافة ، لها ستة أطفال ، يعييها تدبير أمور معيشتهم فتخرج للعمل .
الهم يعلو معظم الوجوه هذه الأيام فتغيير الطقس يأتي بكل أنواع الميكروبات ، ينقشها على مناعة أطفال ضعاف ، تقضي إحداهن الليل بطوله تهدهد المريض ، تتحمل قيأه و ثقل وزنه ثم تقوم مبكراً لما هو أثقل.
لا أحد يلتفت لعاملة النظافة اليوم ، همومهن تمحو مقالتها ، اسأل المولى فيما يجب فعله فالذهاب للطبيب أمر مكلف بلا شك .
انتظر حتى تخرج من الحجرة و تتجه ناحية الحمام حيث اعتادت الجلوس ، فأدس بيدها عشرين جنيهاً ، أترك في جيبي خمسين أخرى حتى آخر الشهر ، أعلن عجزي عن مساعدتها لمولاي فأطلب منه الشفاء لكل مسلم.
أراقب من حولي بينما أرتشف فنجان القهوة ، تمر أمام مكتبي في لحظة انقطاع عن العمل فأستوقفها ، أسألها ما أخبار الدراسة ؟
_ انقطعت ، تحيرت بين المواصلة و الهجر ، لا أجد جدوى لشهادة متخصصة في الحسابات بلا خبرة حقيقية في هذا المجال ، الكتابة على الكمبيوتر هو المطلوب هنا ، لا أجد مكاناً بالمدرسة في الإدارة المالية .
تفيض : من يشاركني الدراسة يحتاجونها للحصول على وظائف مرموقة ، بشركات متعددة الجنسيات ، شركات لها أنشطة اقتصادية متداخلة مع الأجانب و بالأخص اليهود ، لا أرتضي أن أعمل بشركة كتلك فأكون ممن يساعدهم على أي نحو ، خير لي أن أبقى في وظيفة صغيرة دخلها قليل و لكنه يكفي و بركته عظيمة عن دخل كبير في وظيفة لا يرتضيها المولى .
تطيل الحديث : كشفوا عن جبل به ذهب منذ عدة أيام ... يذهب خمسون بالمائة منه لشركة أجنبية تستخرجه ثم تخرجه من البلاد ، ألا ترين أن صاحب القرار السياسي يبيع البلد برخص التراب ؟ لن أضع خنجراً في نصل بلدي ، لن أشرب من ذاك الدم النازف .
أقول ابننا سخيف ، خفضنا التحديات في حياته حتى فرغ منها و التفت للسخف الذي يراه في التلفزيون و ألعاب الكمبيوتر ، أعرف شاباً لا يغرف طعامه في طبقه حتى تدسه أمه في فمه ، منظر يضعه عقلي ضمن ملف المعتاد ، كيف يواجه أجنبي اعتاد العمل منذ الصغر ، يعمل بيديه، يستخدم عقله ، ينمي عضلاته ؟! و الحياة صراع إرادات و الإرادة الأقوى تكسب ، كيف يقهر بضع آلاف الملايين في العراق وأفغانستان ؟ الحساب به شيء مختل حد الجنون .
تتلاقى الأعين فيغمر الإحساس المعنى ذاته :
_ يضمخ القهر الإحساس ، أعني أنهم مقهورون حقاً في العراق و فلسطين ، لكن الناس هنا أيضاً يشعرون أنهم مركعون ، خانعون ، يمد الزهق ظله على كل خطوة ، يخلط القرف الطعام ، يسىء لطعمه رغم الغنى و الإقتدار؟
أجل ، أرتشف السم نفسه .
يأخذنا الآذان من هذا العالم لقطاع آخر ، فتحة في الزمن ، يأذن فيها المولى بذكره ، يفرّغنا من هموم لا علاج لها ، فيكون دواء و شفاء حتى حين ، يسألنني أن أتصدر ، و أنا عادة ما أفعل، لكن اليوم عصيب أكاد أغيب عن الوعي ، أتردد قليلاً ، فتجتاح إرادتها القوية إرادتي المهلهلة تصر أن أتصدر فأفعل .
بهارات حارقة على مشاعر متوهجة ، بالكاد أكتم عواطفي ، سلك الكهرباء اليوم مكشوف ، لو نظرت إحداهن لأزعجها وهج الكهرباء ، و أنا لا أحب كشفه ، أتوجه للذي فطرني ، أسكب ضعفي بين يديه ، أسأله كل ما أعجز عنه ، أعني كل شيء ، تكاد تفيض روحي بين يديه ، تنسكب أدمعي : إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هوان أمتي على الناس ، أنت رب المستضعفين و أنت ربي ، لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين ، و لا تكلنا لعدو سقيم يقتات لحومنا و دماءنا ، نسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات و الأرض و صلح به أمر الدنيا و الآخرة أن تنصرنا عليهم و أن تصلح لنا شأننا كله ، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك و عظيم سلطانك و لاحول و لا قوة إلا بك عدد خلقك و رضى نفسك و زنة عرشك و مداد كلماتك.
أعود إلى مكتبي ، يعود لي الفكر ، تربط الوزارة يداي بحزم و تطالبني بالعمل باقتدار ، عملي كخيالات السحّـار ، المتناقضات : بسيط حد السذاجة .... خبيث حد اللؤم ، تسيل من أنيابه دماء أولادي ، أخرب مستقبلهم زعم أنني أبنيه ، ألفق لهم نجاحاً فأهدمه في الحقيقة ، الكل يقول افعلي ما تقدرين عليه فقط و لا عليك بالباقي ، الذي هو كل شيء ... أغير ما أغير فتأتي من تنقض ما أفعله .... تعيده لأصله ، شعب يعشق الأصالة ، أهدد بتركهم ، تأخذهم الحنية .... يرسم النفاق ألوانه : حبك مضمخ بالإحترام ، انظر إلى العيون فيموت الكلام .
يرسلني الزمان إلى البيت فقد أطال حصة الهم اليوم حد الإرتواء ، اخفض صوت الهم و أنا عند أختي ، طفلها الرضيع على صدر أمي ، شهرين من عمره في هذه الحياة ، لا يسكن لغير حضن أم رؤوم ، فنقتسم الأمر بيننا ، حانت حصتي ، احمله ريثما تعد الطعام ، أمشي و أنا أرقيه ، تمتزج حرارة جسمه بحرارة جسمي.
تحضر أم يوسف ، تكاد تتقطع أنفاسها فقد نزلت بحثاً عني فلم تجدني في البيت ، هداها قلبها أنني حيث أنا ، في عيناها كل ما تريد قوله ، أعرفه دون أن تنطق ، طبعاً يوسف و امتحاناته ، قبل أن تنطق أعرض أن أساعد ، بالتأكيد ، أحمل عنها هم عريض ، يوسف نبيه في اتجاه آخر ، يعييه أن يقرأ أو يكتب ، بالذات باللغات الأجنبية ، و هل صارت كل مدارسنا إلا مدارساً للغات ، لا أدري أيمهدون لإستعمار جديد أم يهيأون الأولاد لخدمة محتل موجود ، لا شهادة بغير لغته و شعره وآدابه و فلسفته .... الخ !!
تحتل مقررات اللغات القسم الأكبر من اليوم و الطاقة و المال ، يتبقى وقت قصير للعلوم تدرس بلغتهم ، فتات معلّـب، لا عصير ، جفاف حد الموت ، لا يهم ستضع المدرسة الإمتحان قرب فيّـه، تقول اشرب ، أفعلت ؟ رائع 99 % يا صغير ، أطلت الحديث مع الإداريات و المدرسات ، لم أقنع أحداً بتغيير مساره ، ربما حادثة في نهاية الطريق تزيل إحداهن من مكانها .... غالباً ما تحل مكانها توأمها ، خلعهن الله جميعاً عمّـا قريب .
حسناً سأجلس معه و هذا هم لا تعلمون مداه ، قياساً على ما مضى ، لعلها ساعة تلك التي تفلح في ترويض إرادة جامحة ، طفل قائد ، إرادة صلبة ، بلا تصور واضح للإتجاه المنشود .
أبدأ القراءة ، بينما ذهنه تحتويه الثعابين ، يقاطعني ، أيمكن أن نفتح النت فننظر إليها ، أعد جادة بذلك بعدما ننتهي من صفحة الكتاب ، تقطع كلماته ثالث كلمة أنطقها .
_ أيأذن مولاي لي بالكلام ؟
_ بل اسمعي سؤالي الخطير : أسمعت عن تلك الأفعى الخارقة التي تقتل من يقربها بسم تنفثه في وجهه ؟
_ أعيده إلى تصنيف الحيوانات إلى فقاريات و لافقاريات ، أؤكد وعدي ، أطالبه بالإلتزام بالجزء الخاص به .
أبدأ القراءة ، تمر كلمتين ثم يأمر ثانية : لنلعب كرة اليد و الفورة من 10 و أنا الحكم و الهداف و المعلّـق و أنت ما يمكن ان يجعل كل هذا ممكناً.
_ تأخذ الحازمة الزمام ، تكشر عن أنيابها ، تقسم الوقت و توزع الأنصبة بالعدل .
موقع الكرة بعد صفحتين ، يطول الزمن فيهما ساعة ، تجري فلا أشعر بها ، أطويه في حضني ، أشغل تركيزه المشعث : نصفه مهترئ ، ربعه مشغول بأمر آخر ، نخرج من متاهة الجدل حول الثعابين فندخل دهاليز الكرة ، أرتب ، أفصل ، ربع ساعة كرة ، أختها في المذاكرة ، أعد طعامه ، أدفن الحمص في زيت الزيتون و الطحينه ، يستحسن طعمه ، و هو لا يستحسن من الطعام الكثير .
يسترسل أمام التلفزيون ، فأنزعه بالقوة الجبرية من أمامه ، يستاء مني ، لا يهمني ، قلمّـا نلت الإستحسان ، فقط حين أحرز نتائجاً طيبة ، يمر ببالهم موضع الحق .
نعود لمهمتنا ، نقرأ و نكتب و نحفظ ، ننقد و نحلل و نربط المعلومات ، نناقش كل ما يخطر بباله، ننظم .. نفصل ، أسأله رأيه ، يسألني رأيي ، يعلو البشر وجهه ، إذ يسري الطعام الطيب في جوفه ، يزيد تركيزه ، نتحرك بسلاسة أكثر ، نقضي عدة ساعات على هذا النحو ، يستنفذ طاقة شبه مفقودة ، يتركني حطام ، لا أرغب في شيء ، لا بأس سيعيد النوم الحيوية لجسد مكدود، أمامها يوم آخر مغمور في هذا العته .
بعض هم نساء لا محور له سوى أبنائهن ، تغمرهن الأمومة فتتلاشى المرأة .
بعض مفردات كتاب الحياة ، أولى بالقراءة من منمقات نراها بأجهزة خلط و إعلام ، صورهم لفقها نابهون تصوروا الأمور على نحو ما ... تيار الحياة يخط مساراً مغايراً بالكلية .
**********************
إلى كل من يرسم صورة ضيقة لتلك التي هي أساس الحياة :
لا تقتطعوا ركناً من الصورة ، ثم تلصقونه تحت عنوان فضفاض ، فتتشوه الأمور.
يعزف أحدهم نغمة ، فيسارع الجميع بإكمال سيمفونية من نفس المقام ، اللحن ذاته يتردد صداه فيغلق العقل مساراته حتى ينتبه على صوت جديد .
**********************
الكلام عن العادي و المعتاد ، أراه يلمس الجميع ، نتناساه في خضم بحثنا عن الغريب و المميز ، لعله عند أطراف أصابعنا .
آخر تعديل بواسطة المفكرة ، 09-08-2009 الساعة 05:34 PM
|