الحلقة الثانية عشر
ـــــــــ*×*ـــ((1))ـــ*×*ـــــــــ
تربعت على السرير و قد احتضنت الكتاب الضخم في محاولة عابثة للتركيز على الدرس و الاستعداد لامتحان الغد الذي لم ينل مني نصيبا يذكر من المراجعة... لكن ذهني كان يذهب بعيدا في كل مرة... يسرح في المشاكل التي صارت تؤرقني مؤخرا...
وقعت عيناي على سارة التي كانت تجلس إلى حاسوبي منسجمة في لعبتها الجديدة. لم أتحدث معها كثيرا منذ مساء الأمس بعد أن انصرفت خالتي هيام و أبناؤه. ادعيت أنني أعاني من أوجاع في رأسي و أغلقت الغرفة على نفسي...
فجأة خطرت ببالي فكرة... فقلت بصوت منخفض قليلا، أردته أن يصل إلى مسامع سارة، و أنا أتنهد بعمق :
ـ آه... كم اشتقت إليك يا حسام...
ابتسمت و أنا ألاحظ أصابع سارة التي توقفت عن الضغط على أزرار لوحة المفاتيح دون أن تلتفت إلي... لكنني كنت متيقنة من أنها سمعتني.
عدت إلى كتابي من جديد و تظاهرت بالتركيز الشديد... لم أرفع رأسي إلا حين بادرتني سارة بقولها و هي تدير إلي كرسيها :
ـ مرام... هل سافر حسام إلى كندا؟
هززت رأسي في عنف نافية و أنا أقول :
ـ يسافر؟ لا يمكنه أن يسافر و يتركني! لقد جعلته يعدل عن قراره... و إن شاء الله سيتقدم لي ثانية عند نهاية السنة الدراسية... و هاته المرة ستكون خطبة رسمية حتى لا يبقى لأحد شك في جدية علاقتنا...
رمقتني سارة بنظرة فاحصة... لكنني ابتسمت و أنا أستطرد مداعبة :
ـ و إن شاء الله نفرح بك قريبا أنت أيضا!
ابتسمت سارة بدورها و أطرقت في خجل, فواصلت و أنا أتظاهر بالتفكير العميق، و أنا أعلم يقينا أن كل كلمة نقولها ستصل إلى طارق إن عاجلا أم آجلا :
ـ أليست حنان مناسبة لطارق؟ ما رأيك؟ يبدو أنها معجبة به... كما أن عمتي تروقها الفكرة كثيرا...
قاطعتني سارة في حدة :
ـ ما الذي تقولينه؟ حنان؟! أبدا!! لن أسمح لها بالزواج من أخي...
نظرت إليها في استغراب و قلت :
ـ و لم كل هذا التحامل على حنان؟ إنها ابنة خالتك... كما أنك لم تريها منذ زمن طويل... فمتى نشأت هاته العداوة بينكما؟! فقد لاحظت أنكما كنتما تتبادلان نظرات حادة مساء البارحة...
أطرقت سارة في تردد... ثم رفعت رأسها بعد صمت قصير :
ـ أكرهها... و لا أريدها أن تتزوج طارق!
اقتربت منها و قلت في هدوء :
ـ و لكن لمَ تكرهينها؟ ما الذي حصل بينكما؟!
هزت سارة كتفيها في لامبالاة :
ـ لم يحصل بيننا شيء... فأنا رأيتها للمرة الأولى منذ 5 سنوات، مساء البارحة...
ازداد استغرابي و أنا أتطلع إلى سارة التي تبدلت ملامحها و هي تقول :
ـ لكن طارق حدثني عن أفعالها...
ـ طارق؟!
ـ نعم، حين زارهم في رحلته السابقة... كانت تصرفاتها سيئة... بل فظيعة!
لم يبد علي أنني استوعبت أو فهمت الكثير مما تشير إليها، فصرخت سارة في انفعال و قد تعبت من بلادة ذهني الغريبة :
ـ كانت تحاول إغراءه و التقرب إليه!
حدقت فيها في عدم تصديق... فنهرتني في عنف :
ـ لا تنظري إلي هكذا ! أنت تعلمين أن جدي رحمه الله كان يقول دائما حين كنا أطفالا بأن سناء لأيمن و حنان لطارق... و أنه خصص جزءا من الميراث لأربعتهم إن هم ارتبطوا... لكن أيمن لم يكن يريد سناء... و الحقيقة أنهما ليسا من الصنف نفسه... و قد حصل الخلاف بين أمي و أخوالي حول الميراث منذ زمن... و لازالت الخلافات تطفو على السطح في كل مناسبة... و هو ما سبب شبه القطيعة بين خالتي هيام و أخوالي الذكور... حين طالبت بنصيب أيمن في الميراث، في حين رأى خالي مراد بأن يقسم بين الإخوة بالعدل بما أن أيمن و سناء لا يعتزمان الارتباط... و ها قد تزوجت سناء مايكل و انتهى الأمر... أمي لم تطالب بنصيب سناء و لا طارق، لأنها لم تكن مهتمة بالميراث أصلا... و هاهي خالتي هيام تثير الموضوع من جديد... و تحرض أمي على تزويج حنان من طارق... لكن حنان مستعدة لفعل أي شيء من أجل الميراث... حتى أنها حاولت إغراءه بأساليبها القذرة...
كنت أنظر إلى سارة التي تلهث من فرط الانفعال و قد اتسعت عيناي دهشة :
ـ حنان؟! مستحيل!
هزت سارة رأسها و هي تردد :
ـ بلى... بلى... صدقي يا عزيزتي... فهي شخص طماع، لا تحكمها أخلاق و لا مبادئ... كل همها المال و الجاه و الثراء... ألا ترين كيف تتبرج و تتزين؟!
ـ هل من المعقول أن يحدث الميراث كل هاته البلبلة بين الإخوة و أبناء العم؟
ثم أضفت ضاحكة :
ـ كان يجب أن نحتج أنا و أنت لأن جدي لم يذكرنا في وصيته! لكن الحمد لله أنه لم يربطني بأحد من العائلة... لا أتمنى أن أكون في موقف سناء و لا حنان ! الأولى تجد نفسها غير مرغوب فيها... و الثانية تطارد الميراث بكل إصرار!!!
وقفت فجأة و قد خطرت ببالي فكرة ما و خرجت من الغرفة و عيون سارة تتبعني في استغراب. بحثت عن أمي في أرجاء المنزل، ثم وجدتها أخيرا في المطبخ... تطهو حساءها المميز...
دفعت الباب في هدوء و استنشقت الرائحة الذكية التي تنبعث من آنية الحساء و هتفت :
ـ الله... سلمت يداك يا أمي الحبيبة...
ثم اقتربت منها و عانقتها في حنان. ربتت على ظهري و ابتسامة حانية على شفتيها. ثم نظرت إلي نظرة فاحصة و قالت :
ـ ما الذي جعلك تتركين دراستك؟ هل أنهيت المراجعة؟
هززت رأسي في نفي و قلت في ضجر :
ـ المراجعة لا تنتهي مهما قضيت فيها من الوقت... لذا يجب أن أروح عن نفسي بين الفينة و الأخرى ((فإن القلوب إن هي كلت عميت)) و أنا لا أريد لقلبي أن يصيبه العمى... و لا حتى قصر نظر!
ضحكنا معا للدعابة... ثم سكتت لبرهة قبل أن أستطرد في اهتمام :
ـ أمي... ماهي قيمة الميراث الذي أوصى به جدي لحنان و طارق؟
تطلعت إلي أمي و قد اتسعت ابتسامتها :
ـ هل يشغل بالك هذا الموضوع؟ هيام و سهام لم تتحدثا إلا عن هذا مساء البارحة!
ثم اقتربت من الطاولة التي أجلس إليها و هي تقول :
ـ جدك يا حبيبتي خصص لأيمن و سناء منزل المزرعة بكل محتوياته... و خصص لطارق و سناء الإسطبل و الزرائب... وقيمتها لا تقل كثيرا عن قيمة المنزل...
اتسعت عيناي دهشة :
ـ المنزل و الإسطبل! ليس بالشيء الهين فعلا! و لكن لماذا لم يخصص نصيبا لبقية أحفاده أيضا؟
جذبت أمي الكرسي المجاور و جلست و هي تقول :
ـ جدك كانت له دوافعه... فأنت تعلمين أن النصيب الشرعي لبناته هيام و سهام هو نصف نصيب أبنائه من الذكور... لكن البنات و هبنه الأحفاد قبل الأولاد، فأحب أيمن و سناء و طارق و حنان كثيرا... لأنهم ملؤوا عليه البيت في وحدته حين تقدم في السن... ففكر حينها بأن يضمن مستقبلهم و ييسر لهم الزواج لوعيه بارتفاع الأسعار و صعوبة الزواج للأجيال القادمة...
قلبت شفتي في حيرة و أنا أقول :
ـ تفكير جميل ... و لكن إن كان يريد مساعدتهم فلم يضع شروطا؟ ألم يفكر بأنهم قد لا يتوافقون في الطباع و الميولات و قد لا يرغب أحدهم في الآخر؟ و الدليل هو زواج سناء من أمريكي... و خطبة طارق لراوية... يعني لا أمل!
قاطعتني أمي قائلة :
ـ لكن رغبته في مساعدتهم كانت مرتبطة برغبته في لم شمل الأسرة من ناحية... و عدم تقسيم الميراث و ضياعه من جهة أخرى... فوضع شرطا لهبته أن يرتبط أبناء الخالات ببعضهم لبعض! و الآن الجدال لا ينتهي حول كيفية التصرف في المنزل لأن ارتباط سناء بأيمن لم يعد واردا
تنهدت في حزن و أنا أهمس :
ـ مشاكل جديدة... نحن في غنى تام عنها...