ـــــــــ*×*ـــ((3))ـــ*×*ـــــــــ
استيقظت هذا الصباح و على شفتي ابتسامة واسعة تنبض سعادة و إشراقا... تمططت في تكاسل ثم مسحت وجهي بكفي و تمتمت : الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا و إليه النشور... ثم قفزت من الفراش و سارعت إلى إعداد نفسي، فيوم حافل ينتظرني! نعم، إنه يوم انتظرته منذ زمن طويل
فاليوم يقدم طلاب السنة الخامسة عرضا مميزا طوال النهار استعدادا لتوديع الكلية بعد زمن قصير... صحيح لم تنته السنة الدراسية بعد، لكن النهاية باتت وشيكة. و في هذا اليوم يملأ الطلبة ساحة الكلية بعدد من الفضاءات المخصصة لعروض صغيرة ينظمونها رفقة الدكاترة و الأساتذة المشرفين، و تتناول في معظمها شروحات طبية لبعض الأمراض أو تجسيمات صنعت يدويا لبعض مناطق الجسم مع تبيين لكيفية عمله بصفة طبيعية... و مثل هاته العروض تكون فرصة لطلبة للتنفيس عن مواهبهم الخفية، سواء في الرسم و التشكيل، حيث يصنع كل طالب مجسمه بمفرده أو في مجموعات، أو في العرض و الإلقاء... و هاته العروض موجهة أساسا لطلبة السنوات الأولى و إلى الأولياء أيضا و تفتح لعموم المشاهدين في محاولة لتقريب المفاهيم الطبية المعقدة من عقول عامة الناس من غير المختصين في الميدان...
كانت دالية قد أسرت إلي منذ بضعة أيام بأن حسام يعد مفاجأة لهذا اليوم، حيث عمل طويلا على صنع مجسمه الخاص، خاصة في الأيام الأخيرة مع اقتراب الموعد... لكن اللئيمة رفضت أن تدلي إلي بأية تفاصيل إضافية و اكتفت بغمزة من عينها و ابتسامة و هي تقول : ستكتشفين بنفسك حين يحين الوقت!
و ها قد حان الوقت أخيرا!
دخلت المطبخ فوجدت الفطور جاهزا على المائدة، ابتسمت ثم وضعت لقمة في فمي و هتفت بفم مملوء :
ـ أمي... هل أنت جاهزة؟
سترافقني أمي اليوم... فأبي دائم الانشغال و لم يرافقني يوما منذ صغري إلى أية تظاهرة في المدرسة أو المعهد، ناهيك عن الكلية! حتى حين كنت أتسلم جوائز و شهادات تقديرية، فإنه كان دائما مشغولا و مرتبطا بمواعيد مهمة!! كان الله في عونه
رمت أمي إلي بمفاتيح السيارة :
ـ أخرجي السيارة من المرآب... سأكون جاهزة خلال ثوان!
التقطت المفاتيح و سارعت بتنفيذ الأوامر... ضغطت على المنبه بضع مرات، فخرجت أمي من المنزل مهرولة و على شفتيها ابتسامة اعتذار :
ـ هيا انزلي و اركبي من الجانب الآخر...
عقدت حاجبي في دهشة :
ـ و لم؟ سأقود أنا إلى الكلية!
ـ انزلي و كفاك عنادا... أنا أمك، و أنا آخذك إلى الكلية... يعني أنا من يجب أن يقود!
تنهدت في انزعاج و فتحت الباب في تذمر... أردت أن يراني حسام و أنا أقود السيارة... أردت أن أثبت له بأنني تحسنت و صارت قيادتي جيدة في الفترة الأخيرة... فالصورة التي ظلت في مخيلته عني ليست مطمئنة بالمرة!
وصلنا إلى باب الكلية الذي كان مفتوحا على مصراعيه لاستقبال الزائرين في هذا اليوم المميز من السنة و كانت الجموع تتوافد زرافات و وحدانا و تتفرق في الساحة و تندمج مع العروض القائمة... قفزت من السيارة فرأيت غير بعيد عني راوية تقف مع والدتها و أختها الصغرى منال فلوحت لها من بعيد، ثم التفتت إلى أمي التي كانت لاتزال تحاول تعديل وضعية السيارة في وضعية الوقوف. قلت مستعجلة :
ـ هيا يا أمي... ستفوتنا العروض!
نظرت إلي و هي تبتسم :
ـ انتظري... ألا ترين أن المكان ضيق و أنني بالكاد استطعت ركن السيارة! ثم لا تقلقي لن يفوتك شيء، فالعروض تعاد على امتداد اليوم و يمكنك حضور عرضك المميز أكثر من مرة إن شئت!
طبعا... فأمري مكشوف أمام والدتي العزيزة التي حضرت معي سابقا عروض هذا اليوم في السنوات الماضية، و لم تر مني من قبل مثل هاته اللهفة و الشوق لحضور العروض!!
اقتربت من راوية التي اتسعت ابتسامتها عند رؤيتي و هي تهمس :
ـ هل وصلت دالية؟
همست إليها بدوري :
ـ لست أدري... لم تصلني منها رسالة هذا الصباح... كما أنني لم أرها منذ أيام!
سلمت على والدة راوية ثم نظرت إلى أمي و قلت :
ـ سآخذ راوية قليلا... و نترككما على راحتكما... تمتعا بالعروض!
ابتسمت والدة راوية و هي تقول :
ـ بل الأحرى أن تقولي : اتركانا على راحتنا حتى نستمتع بيومنا!
احمر وجهي قليلا و تشاركنا الضحك في مرح. في حين اقتربت مني منال و هي تقول في رجاء :
ـ خذاني معكما!
نهرتها راوية في ضيق :
ـ منال... ابقي مع أمي، فأنا لا يمكنني أن أهتم بك... سنلتقي بأصدقاء كثيرين و سيكون شكلك مضحكا بيننا!
لكن منال تمسكت بكفي في عناد و هي تقول :
ـ أرجوك مرام... اتركاني معكما... و أعد بأن لا أضايقكما في شيء... سأظل هادئة طوال اليوم... أرجوكما!
ابتسمت و أنا أتبادل مع راوية نظرة صامتة التي بدت متضايقة :
ـ حسن... فلنأخذها معنا يا راوية... فهي وعدت بأن تكون فتاة هادئة و عاقلة!
تمتمت منال مؤكدة و هي تشد راوية من ثوبها :
ـ نعم، أعدكما...
زفرت راوية في استسلام و هي تقول :
ـ حسن... أمري إلى الله... تعالي... أمي نراكما لاحقا!
قفزت منال في سعادة و هي تقف بيننا و تمسك بكف كلا منا و تقدمنا نحو الساحة معا...
كان قلبي يدق بشدة و أنا أتلفت في أرجاء الساحة علني ألمح وجها مألوفا... وجها لم أره منذ أسبوع مضى، و هي فترة كافية لأشتاق إلى رؤيته جدا!
انتبهت على صوت راوية و هي تقول مبتسمة :
ـ ألا تباركين لي؟
التفتت إليها في استغراب و أنا أقول :
ـ مبارك إن شاء الله... و لكن علام؟
ضربتني على كتفي ضربة خفيفة و لكنها موجعة و هي تهتف :
ـ يا لقلة انتباهك يا فتاة! فيم أنت سرحانة؟!
أمسكت بكفها بسرعة مستطلعة، ثم أطلقتها و أنا أتنهد ثم هتفت :
ـ أفزعتني! ظننت أنك خطبت دون علمي! لكن إن لم يكن هنالك خاتم، فإلام تريدين مني أن أنتبه؟
عقدت راوية ذراعيها أمام صدرها و هي تقول :
ـ يا ذكية... عودي بذاكرتك سنة كاملة... في مثل هذا اليوم من السنة الماضية... ألا تلاحظين الفرق؟
عقدت حاجبي في تفكر و أنا أحاول أن أسترجع ما حصل السنة الماضية، لكنني بعد برهة قصيرة هتفت في ضيق :
ـ هل تنتظرين مني أن أتذكر كل تفاصيل هذا اليوم السنة الماضية؟! حرام عليك يا راوية! أفصحي و لا تجعلي صبري ينفد!
تنهدت راوية في يأس و هي تقول :
ـ لم أطلب منك أن تتذكري كل تفاصيل اليوم، بل أن تتذكري شيئا يخصني!
و لما لاحظت أنني لا أتقدم في اتجاه الحل المطلوب جذبت منال من كفها و وضعتها أمامي و هي تقول مبتسمة :
ـ و الآن... إليك هذا التلميح!
تطلعت إليها في استغراب :
ـ تلميح؟؟ هل منال تلميح؟!!
هزت رأسها علامة الإيجاب فتملكتني الحيرة و أخذت أفكر بصوت عال :
ـ منال... طفلة... أمراض الأطفال؟ هل لذلك علاقة؟ و لكنني لا أفهم!
زمجرت راوية في غضب و يأس من فهمي البطيء ثم قالت متمالكة نفسها :
ـ هل كانت منال معي السنة الماضية؟
فكرت للحظة ثم قلت في هدوء :
ـ لا!
ابتسمت راوية و هي تقول مواصلة :
ـ جيد... بدأت تستوعبين! هل كان معي شخص آخر؟
رفعت عيني إلى السماء و أنا أحاول تخيل من كان معنا في ذاك اليوم، لكن راوية لم تمهلني بل صرخت في نفاد صبر :
ـ يا غبية! ألا تلاحظين أن أمي تأتي معي إلى الكلية للمرة الأولــــــــــــــــــــى!!!
آه... نعم... صحيح... ارتسمت ابتسامة بلهاء على شفتي و قد تذكرت مشكلة راوية مع والدتها... كيف فاتني الأمر؟؟! والدة راوية لم تصحبها و لا مرة إلى الكلية... والدها كان يرافقها أحيانا... لكن والدتها أبدا!
عانقت راوية بسرعة و أنا أهتف :
ـ مبارك عليك يا حبيبتي... ألف مبروك! و أخيرا تصالحت مع أمك... إنه لتقدم ملحوظ! أخبريني بسرعة كيف حصل هذا بمثل هاته السرعة؟؟
ابتسمت راوية في هدوء و قد اختفت التكشيرة التي كانت تملأ و جهها المسالم منذ لحظات بسبب غياب ذكائي في الفترة الماضية! و هو ما يحصل معي حين أكون مشغولة البال، فلا أنتبه إلى ما يدور حولي، ما عدا الأمر الذي يشغلني!
ـ حصل كل شيء بسرعة... كان ذلك منذ ثلاثة أيام فقط، حين غادرتنا راقية...
انتبهت حينها إلى منال التي كانت ترفع رأسها إلى راوية في فضول و تستمع إلى ما تقوله باهتمام... فانحنت نحوها و أعطتها قطعة و نقدية و هي تقول :
ـ منال... اذهبي و اشتري لي علبة عصير...
ثم أشارت إلي المشرب على بعد خمسين مترا من موقفنا... بدا على منال الاستياء و التأفف، و كأنها تريد الاستماع إلى باقي القصة... لكنها أخذت النقود من يد أختها و انطلقت في خفة... ابتسمت راوية و هي تواصل حديثها :
ـ قلت لك أن وجود راقية خفف كثيرا من أجواء البيت المتوترة... لكن يوم سفرها، أحسست بغيوم الحزن عادت تظللنا، و عادت أمي إلى سالف عهدها من العصبية و نفاد الصبر! لكنني حينها كنت قد قررت أن هذا الحال لا يجب أن يستمر، و لم أرض بأن تتواصل التعاسة أكثر...
قلت مشجعة :
ـ هااااا... و ماذا فعلت؟
اتسعت ابتسامة راوية و هي تقول في براءة :
ـ تصدقين... لم أفعل شيئا ذا بال... كانت أمي تجلس في غرفتها وحيدة و قد بدا عليها الضيق... دخلت عليها ففوجئت و سألتني عما أريد... و لم أحس بنفسي إلا و قد ارتميت في أحضانها و أنا أعدها بأنني سأعوض عنها غياب راقية، و أنني أنا أيضا ابنتها التي يمكنها الاعتماد عليها... أحسست بدهشتها في البداية، لكنها سرعان ما ضمتني إليها، و بكينا روحا من الزمن... ثم كانت بداية جديدة!
عانقت راوية من جديد في سعادة بالغة... لم تكن المشكلة تحتاج سوى خطوة إيجابية واحدة من كلا الطرفين... كانت منال قد عادت تحمل علبة العصير و جرت إلى أختها تمدها إليها... ربتت راوية على رأسها في حنان و هي تقول :
ـ إنها لك يا حبيبتي... اشربي بالهناء و الشفاء...
لم تصدق منال عينيها لوهلة، لكنها سرعان ما استعادت العلبة في سرور و أخذت تمشي في بطء خلفنا كأنها تخشى أن تطلب إحدانا مشاركتها!
أما أنا فقد كانت عيناي لا تتوقفان عن الدوران في أرجاء المعرض، و لا تستقران على شيء... و قد بدا لي أننا جبنا الساحة كلها و لم تقع عيناي على الشخص المفقود...
لاحظت راوية شرودي و قلقي، و كانت هي الأخرى تشاركني بحثي في صمت... و لما بدا لها أنه لا فائدة من مواصلة البحث، نظرت إلي و هي تقول :
ـ هل اتصلت بدالية؟
ـ سأتصل بها فورا...
تناولت هاتفي الجوال و طلبت رقم دالية في سرعة. جاءني صوتها بعد بضع رنات و فيه نبرة من الحزن لم تخف علي. عاجلتها في قلق :
ـ دالية... أين أنت؟ أبحث عنك منذ نصف ساعة!
ردت دالية في هدوء :
ـ في البيت...
اتسعت عيناي دهشة :
ـ في البيت؟ و ماذا تفعلين في البيت؟ ألا تأتين إلى المعرض؟
كنت أريد أن أسألها عن مكان حسام، لكنني تريثت. أجابت :
ـ لا أريد...
ازدادت شكوكي و مخاوفي فهتفت في لهفة :
ـ دالية... هل حصل شيء في البيت؟
ترددت دالية للحظات ثم قالت :
ـ حسام لن يأتي إلى المعرض...
ـ لماذا؟ و ماذا عن تصميمه؟
ـ التصميم تحطم... و حسام في حالة سيئة منذ البارحة، أغلق على نفسه الغرفة و لا يكلم أحدا
عقدت الدهشة لساني :
ـ تحطم؟ كيف؟ ما الذي حصل؟
أحسست بتوتر دالية من الطرف الآخر من الخط، لكنها همست :
ـ أحادثك لاحقا مرام... يجب أن أذهب الآن...
أغلقت الخط و قد أحسست فجأة برغبة ملحة في البكاء... و بمغادرة المعرض قبل كل شيء... نظرت إلي راوية في استفسار :
ـ هل أنت على ما يرام؟ ماذا قالت لك دالية؟
لكنني لم أجب سوى بعبارة واحدة :
ـ راوية... أريد أن أذهب من هنا!