اليوم الثامن والعشرون
سيكون شعارنا لهذا اليوم هو الصبر
ما هو الصبر وانواعه وفوائده
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فلما كان الصبر نصف الإيمان، وخلقاً فاضلاً من أخلاق النفس، وقائداً للنفس إلىطاعة الله، صارفاً لها عن معصيته، كان ضرورياً أن نبين حقيقته وفضله وأنواعهومراتبه وحال الناس معه، والأمور التي تقدح فيه وتنافيه، في وقت كثرت فيه المصائب،وعمت الفتن، وزادت الشبهات، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وصارت حاجةالناس إلى الصبر لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام والشراب. فنسأل الله تعالى أن يرزقناالصبر على طاعته، الصبر عن معصيته، والصبر على قضائه وقدره، إنه ولي ذلك والقادرعليه.
حقيقة الصبر وحال الناس معه:
الصبر هو حبس النفس عن الجزع، واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشقالثياب ونحوهما. وهو خُلق فاضل من أخلاق النفس، يُمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولايَجْمُل. وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. وقيل: ( هو المقامعلى البلاء بحسن الصحة كالمقام مع العافية ). ومعنى هذا أن لله على العبد عبودية فيعافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة بلاء بالصبر.
وسئل عنه الجنيد فقال: ( هو تجرع المرارة من غير تعبس ).
وقال ذو النون: ( هوالتباعد عن المخلفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقربساحات المعيشة( .
والصبر للنفس بمنزلة الخطام والزمام، فهو الذي يقودها في سيرها إلى الجنة أوالنار، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. وحُفظ عن بعض السلف قوله:
اقدعوا هذه النفوس فإنها طلعة إلى كل سوء ) أي: كُفُوها عما تتطلع إليه منالشهوات.
فرحم الله امرأً جعل لنفسه خطاماً وزماماً فقادها بخطامها إلى طاعة الله،وصرفها بزمامها عن معاصي الله، فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
فحقيقة الصبر إذن أن يجعل العبد قوة إقدامه مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة إحجامةإمساكاً عما يضره.
أما عن حال الناس مع الصبر:
فمنهم من تكون قوة صبره على فعل ما ينتفع به أقوى منصبره عما يضره؛ فيصبر على مشقة الطاعة ولا صبر له عن دواعي هواه إلى ارتكاب ما نُهيعنه. ومنهم من تكون قوة صبره عن المخلفات والمعاصي أقوى من صبره على مشقة الطاعات. ومنهم من لا صبر له على هذا ولا على ذاك. فكثير من الناس يصبر على مشقة الصيام فيالحر وفي مشقة قيام الليل في البرد، ولا يصبر عن نظرة محرمة. وكثير منهم يصبر عنالنظر إلى المحرمات وعن الالتفات إلى الصور العارية، ولا صبر له على الأمر بالمعروفوالنهي عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين، بل هو أضعف شيء عن هذا. وأكثرهم لا صبرله على واحد من الأمرين، وأقلهم أصبرهم في الموضعين، ولهذا قيل: ( الصبر ثبات باعثالعقل والدين في مقابلة باعث الهوى والشهوة.(
فضل الصبر:
للصبر فضائل كثيرة منها: أن الله يضاعف أجر الصابرين على غيرهم، ويوفيهم أجرهمبغير حساب، فكل عمل يُعرف ثوابه إلا الصبر، قال تعالى: إنَمَايُوَفَى الصَابِرُونَ أجّرَهُم بِغَيرٍ حِسابٍ[الزمر:10]. وأن الصابرين فيمعية الله، فهو معهم بهدايته ونصره وفتحه، قال تعالى: إنّ اللهمَعَ الصّابِرينَ[البقرة:153]. قال أبو على الدقاق: ( فاز الصابرون بعز الدارين لأنهمنالوا من الله معية.(
وأخبر سبحانه عن محبته لأهله فقال: وَاللّهُ يُحِبُ الصّابِرِينَ[آلعمران:146] وفي هذا أعظم ترغيب للراغبين. وأخبر أن الصبر خير لأهله مؤكداً ذلكباليمين فقال سبحانه: وَلَئِن صَبَرتُم لَهُوَ خَيرٌ لِلصَابِريِنَ[النحل:126]. وجمع الله للصابرين أموراً ثلاثة لم يجمعها لغيرهم وهي: الصلاة منهعليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، قال تعالى:
وَبَشّرِ الصّابِرينَ (155) الّذِينَ إذَآ أصَا بَتتهُم مُصِيَبَةٌ قَالُوا إنّا للهِ وَإنّآ إلَيهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌُ مِن رّبِهِم وَرَحمَةٌ وَأولئِكَ هُمُالمُهتَدُونَ[البقرة:155-157].
وقال بعض السلف وقد عُزِي على مصيبة وقعت به: ( مالي لا أصبر وقد وعدني الله علىالصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها ).
ومنها أيضاً أن الله علق الفلاح في الدنيا والآخرة بالصبر، فقال: يآأيُهَاالّذِينَ ءَامَنُوا اصبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلَكُمتُفلِحُونَ[آل عمران:200] فعلق الفلاح بمجموع هذه الأمور.
واستقصاء جميع فضائل الصبر يطول، وسيأتي مزيد عند الحديث عن الصبر في القرآنوالسنة.
أنواع الصبر:
أنواع الصبر ثلاثة كما قال أهل العلم وهي: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصيةالله، وصبر على أقدار الله. ومرجع هذا أن العبد في هذه الدنيا بين ثلاثة أحوال: بينأمر يجب عليه امتثاله، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وبين قضاء وقدر يجب عليهالصبر فيهما، وهو لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، وهو محتاج إلى الصبر في كلواحد منها. وهذه الثلاثة هي التي أوصى بها لقمان ابنه في قوله: يَابُنَيأقِمِ الصَلآةَ وَأمُر بِالمَعرُوفِ وَانهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصبِر عَلَىمَآأصَابَكَ[لقمان:17]. بالإضافة إلى أن الصبر في اللغة هو الحبس والمنع، فيكون معناه حبسالنفس على طاعة الله، وحبس النفس ومنعها عن معصية الله، وحبس النفس إذا أصيبتبمصيبة عن التسخط وعن الجزع ومظاهره من شق الجيوب ولطم الخدود والدعاء بدعوىالجاهلية.
أما الصبر على الطاعات فهو صبر على الشدائد؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير منالعبادات، فهي تكره الصلاة بسبب الكسل وإيثار الراحة، وتكره الزكاة بسبب الشحوالبخل، وتكره الحج والجهاد للأمرين معاً، وتكره الصوم بسبب محبة الفطر وعدم الجوع،وعلى هذا فقس. فالصبر على الطاعات صبر على الشدائد.
والعبد يحتاج إلى الصبر على طاعته في ثلاث أحوال:
الأولى:قبل الشروع في الطاعة بتصحيح النية والإخلاص وعقد العزم علىالوفاء بالمأمور به نحوها، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، ولهذا قدم الله تعالى الصبرعلى العمل فقال: إلا الّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصا لِحاتِ[هود:11].
الثانيه:الصبر حال العمل كي لا يغفل عن الله في أثناء عمله، ولا يتكاسلعن تحقيق آدابه وسننه وأركانه، فيلازم الصبر عند دواعي التقصير فيه والتفريط، وعلىاستصحاب ذكر النية وحضور القلب بين يدي المعبود.
الثالثة:الصبر بعد الفراغ من العمل، إذ يحتاج إلى الصبر عن إفشائهوالتظاهر به للرياء والسمعة، والصبر عن النظر إلى العمل يعين العجب، والصبر عنالإتيان بما يبطل عمله ويحيط أثره كما قال تعالى: لاَتُبطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالمَنِ وَالأذَى[البقرة:264] فمن لا يصبر بعدالصدقة عن المن والأذى فقد أبطل عمله.
فالطاعة إذن تحتاج إلى مجاهدة وصبر، ولهذا قال النبيصلى الله عليه و وسلم: {حفت الجنة بالمكاره.. } [رواه مسلم] أيبالأمور التي تشق على النفوس.
وأما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر، ويكون بحبس النفس عن متابعة الشهوات، وعنالوقوع فيما حرم الله. وأعظم ما يعين عليه ترك المألوف، ومفارقة كل ما يساعد علىالمعاصي، وقطع العادات، فإن العادة طبيعة خاصة، فإذا إنضمت العادة إلى الشهوة تظاهرجندان من جند الشيطان على جند الله، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما. ولهذا قالالنبي صلى الله عليه، وسلم: {.. وحفت النار بالشهوات}وذلك لأن النفوس تشتهيها وتريد أن تقتحم فيها، فإذا حبس الإنساننفسه عنها وصبر على ذلك كان ذلك خيراً له.
وأما الصبر على البلاء فقد قال الله تعالى: وَلَنَبلُوَنّكُم بِشَىءٍ مِنَالخَوفِ وَالجُوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأموَالِ وَالأَنفُسِ وَالثّمَراتِ وَبَشِرِالصّابِرينَ[البقرة:155]. ويكون هذا الصبر بحبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله تعالى، والقلبعن التسخط والجزع، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها.
فالصبر من العبد عند وقوع البلاء به هو اعتراف منه لله بما أصاب منه واحتسابهعنده ورجاء ثوابه، فعن أم سلمة قالت: قال رسول اللهصلى الله عليه و وسلم: {إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون،اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها، وأبدل لي بها خيراً منها} [رواه أبو داود].
فلما احتضر أبو سلمة قال: ( اللهم اخلفني في أهلي خيراً مني ). فلما قبض قالت أمسلمة: ( إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب مصيبتي ). فانظر عاقبة الصبروالاسترجاع ومتابعة الرسول والرضا عن الله إلى ما آلت إليه. ونالت أم سلمه نكاحأكرم الخلق على الله محمدصلى الله عليه و وسلم.
مراتب الصبر:
وهي ثلاثة كما ذكر ابن القيم رحمه الله:
الأولى: الصبر بالله،ومعناها الاستعانة به، ورؤيته أنه هو المُصيّر، وأنصبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إلا بِاللّهِ[النحل:127] يعني: إن لم يُصبرك الله لم تصبر.
الثانية: الصبر لله،وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله تعالى،وإرادة وجهه والتقرب إليه، لا لإظهار قوة نفسه أو طلب الحمد من الخلق، أو غير ذلكمن الأغراض.
الثالثة: الصبر مع الله،وهو دوران العبد مع مراد الله منه ومع أحكامه،صابراً نفسه معها، سائراً بسيرها، مقيماً بإقامتها، يتوجه معها أينما توجهت، وينزلمعها أينما نزلت، جعل نفسه وقفاً على أوامر الله ومحابه، وهذا أشد أنواع الصبروأصعبها، وهو صبر الصديقين.
قال الجنيد: ( المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق فيجنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشد ).
الصبر في القرآن:
ذكر ابن القيم رحمه الله كثيراً من المواضع التي ورد بها الصبر في القرآنالكريم، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله قوله: ( ذكر الله سبحانه الصبر في القرآنالكريم في نحو تسعين موضعاً ) ونحن نذكر بعض الأنواع التي سيق فيها الصبر في القرآنالكريم ومنها:
(1 الأمر به كقوله تعالى: وَاصبِر وَمَا صَبُركَ إلا بِاللّهِ[النحل:127]، وقوله: وَاصبِر لِحُكِمِ رَبِكَ[الطور:48].
2 )النهي عن ضده وهو الاستعجال كقوله تعالى: فَاصبِركَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزمِ مِنَ الرُسُلِ وَلاَتَستَعجِل لَهُم[الأحقاف:35]. وقوله: وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحُوُتِ[القلم:48].
(3 الثناء على أهله، كقوله تعالى: وَالصّابِرِينَ فِي البأسآءوَالضّرآء وَحِينَ البأسِ أُولَئِكَ الّّذَينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُالمُتَقُونَ[البقرة:177].
(4 تعليق النصر والمدد عليه وعلى التقوى، كقوله تعالى: بَلَى إنتَصبِرُوا وَتَتَقُوا وَيَأتُوكُم مِن فَورِهِم هَذَا يُمدِدكُم بِخَمسَةٍ ءَالَفٍمِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِمِينَ[آل عمران:125]، ولهذا قال النبيصلى الله عليه و وسلم: {واعلم أن النصر مع الصبر}.
(5 الإخبار بأن الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المكروه المرهوب، ودخولالجنة وسلام الملائكة عليهم، إنما نالوه بالصبر، كما قال: وَالملائكةُ يَدخُلُونَ عَلَيِهِم مِن كُلِ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيكُم بِمَاصَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ[الرعد:24،23].
(6 الإخبار أنه إنما ينتفع بآيات الله ويتعظ بها أهل الصبر، كقوله تعالى: وَلَقَد أرسَلنَا مُوسَى بِئآياتِنآ أن أخرِج قَومَكَ مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِوَذَكِرهُم بِأيامِ اللّهِ إنَ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِ صَبّارٍ شَكُورٍ[إبراهيم:5].
(7 الإخبار أن خصال الخير والحظوظ العظيمة لا يلقاها إلا أهل الصبر كقولهتعالى: وَيلَكُم ثوآبُ اللّهِ خَيرٌ لِمَن ءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً وَلاَيُلَقاهآ إلا الصَابِرُونَ[القصص:80]، وقوله: وَمَا يُلَقاهآ إلا الذّينَصَبَرُوا وَمَا يُلَقَهآ إلا ذُو حّظٍ عَظِيمٍ[فصلت:35].
(8تعليق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، كقوله تعالى: وَجَعَلنامِنهُم أئِمّةً يَهدُون بِأمرِنا لَمَا صَبَرُوا وَكَانُوا بِئَاياتِنا يُوقِنُون[السجدة:24]. فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
(9 أن الله أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال: إنّاوَجَدنَاهُ صَابِراً نِعمَ العَبدُ إنَهُ أوابٌ[ص:44] فأطلق عليه نعم العبدبكونه وجده صابراً وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.
(10 أنه سبحانه قرن الصبر بأركان الإسلام ومقامات الإيمان، فقرنه بالصلاة فيقوله: وَاستَعِينُوا بِالصّبرِ وَالصّلاةِ[البقرة:45]، وبالتقوى في قوله: إنّهُ مَن يَتَقِ وَيَصبِر[يوسف:90]، وبالشكر في قوله: إن فِي ذَلِكَ لأياتٍ لِكُلِ صَبَارٍ شَكُور[لقمان:31]، وبالرحمة في قوله: وَتَوَاصَوا بِالصّبرِ وَتَوَاصَوا بِالمرحَمَةِ[البلد:17]، وبالصدق في قوله: وَالصّادِقينَ وَالصَادِقَات وَالصَابِرين وَالصّابِراتِ[الأحزاب:35].
وجعل الله الصبر في آيات أخرى سبب محبته ومعيته ونصره وعونه وحسن جزائه، ويكفيبعض ذلك شرفاً وفضلاً.
الصبر في السنه:
لقد ورد في السنة النبوية أحاديث كثيرة عن رسول اللهصلى الله عليه و وسلم في بيان فضل الصبر والحثعليه، وما أعد الله للصابرين من الثواب والأجر في الدنيا والآخرة، ولقد بوّبالعلماء للصبر أبواباً عدة في كتبهم، وذكروا تحتها من الأحاديث ما لا يحصى، ونحننذكر هنا بعضها:
(1 في الصحيحين عن أنسرضي الله عنه قال: مر النبيصلى الله عليه و وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: {اتقي الله واصبري}فقالت: إليك عني فإنك لم تُصب بمصيبتي ـ ولمتعرفه ـ فقيل لها: إنه النبيصلى الله عليه و وسلم ، فأخذها مثل الموت، فأتت باب النبيصلى الله عليه و وسلم فلم تجد على بابه بوابين،فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك. فقالصلى الله عليه و وسلم: {إنما الصبر عند الصدمةالأولى}فإن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب وتزعجهبصدمها، فإن صبر للصدمة الأولى انكسرت حدتها وضعفت قوتها فهان عليه استدامة الصبر.
(2 وعن أبي سعيد الخدريرضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه و وسلم قال: {.. ومن يتصبر يصبرهالله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} [رواه البخاريومسلم].
(3 وعن أنسرضي الله عنه قال: سمعت رسول اللهصلى الله عليه و وسلم يقول: {إن الله عز وجل قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ أي عينيه ـ فصبر عوضته عنهما الجنة} [رواه البخاري].
4 )وفي الصحيحين أن رسول اللهصلى الله عليه و وسلم قسم مالاً فقال بعض الناس: هذه قسمة ما أُريد بها وجهالله، فأُخبر بذلك رسول اللهصلى الله عليه و وسلم فقال: {رحم الله موسى قدأوذى بأكثر من هذا فصبر}.
والأحاديث في فضل الصبر والحث عليه أكثر من أن تحصى، وما ذُكر يكفي.
من كلا م السلف في الصبر:
(1 قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( وجدنا خير عيشنا بالصبر ) وقال أيضاً: ( أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً ).
(2 وقال علي رضي الله عنه: ( ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد،فإذا قطع الرأس بار الجسد ). ثم رفع صوته فقال: ( ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ) وقال أيضاً: ( والصبر مطية لا تكبو ).
(3 وقال الحسن: ( الصبر كنز من كنوز الخير، لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده ).
(4 وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ( ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعهامنه فعوضه مكانها الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه.(
(5 وقال سليمان بن القاسم رحمه الله: ( كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر ).
(6 وقال ميمون بن مهران رحمه الله: ( الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن،وأفضل منه الصبر عن المعصية ) وقال أيضاً: ( ما نال أحد شيئاً من جسم الخير فمادونه إلا بالصبر ).
أمور تقدح في الصبر وتنافيه:
لما كان الصبر حبس اللسان عن الشكوى إلى غير الله، والقلب عن التسخط والجزع،والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب وخمش الوجوه، ونحو ذلك، كان ما يقع من العبد عكسما ذكرته قادحاً في الصبر، منافياً له، ومن هذه الأمور:
(1 الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمهويلطف به ويعافيه وبيده ضره ونفعه إلى من لا يرحمه وليس بيده نفعه ولا ضره. وهذا منعدم المعرفة وضعف الإيمان. وقد رأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: ( يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك؟ ).
ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها *** صبر الكريم فإنه بك أعلمُ
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما *** تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ
ولا ينافي الصبر الشكوى إلى الله، فقد شكا يعقوب عليه السلام إلى ربه مع أنه وعدبالصبر فقال: إِنَّما أشكُوا بَثِي وَحُزنِي إلى اللّهِ[يوسف:86].
ولا ينافي الصبر أيضاً إخبار المخلوق بحاله؛ كإخبار المريض الطبيب بحاله، وإخبارالمظلوم لمن ينتصر به، إذا كان ذلك للإستعانة بإرشاده أو معاونته على زوال الضر.
(2 ومما ينافي الصبر ما يفعله أكثر الناس في زماننا عند نزول المصيبة من شقالثياب، ولطم الخدود، وخمش الوجوه، ونتف الشعر، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى،والدعاء بالويل، ورفع الصوت عند المصيبة، ولهذا برىء النبي صلى الله علية وسلم ممنفعل ذلك.
ولا ينافي الصبر البكاء والحزن من غير صوت ولا كلام محرم، قال تعالى عن يعقوب: وَابيَّضَت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيم[يوسف:84]. قال قتادة: ( كظيمعلى الحزن، فلم يقل إلا خيراً ).
(3 ومما يقدح في الصبر إظهار المصيبة والتحدث بها. وقد قيل: ( من البر كتمانالمصائب والأمراض والصدقة ). وقيل أيضاً: ( كتمان المصائب رأس الصبر ).
4 )ومما ينافي الصبر الهلع، وهو الجزع عند ورود المصيبة والمنع عند ورودالنعمة، قال تعالى: إِنْ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إذا مَسَهُالشَرُ جَزُوْعاً (20) وَإذا مَسَهُ الخَيَرُ مَنُوْعاً[المعارج:19-21].
قال عبيد بن عمير: ( ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القولالسيىء والظن السيىء ). وقال بعضهم: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي اللهواحتسبيه عند الله، واصبري. فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.
وأخيراً أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يجعلنا من الصابرين، وصلى اللهعلى محمد وعلى آله وصحبه وسلم.