9- الجانب التعبدي في الإسلام كبير جداً:
وإذا كانت الشريعة المنزلة على محمـد صلى الله عليه وسلم في عمومها مما يوافق معقول أهل العقل والحجا والحكمة إلا أن الجانب التعبدي فيها كبير جداً... فإن مواقيت الصلاة، وأعـداد الركعات، وهيئات الصلاة، وكون الزكاة في بعض الأموال وليست في جميعها، وتقدير النصاب، وصفة الصوم، وأعمال الحج من طواف وسعي وتقبيل للحجر الأسود، والوقوف بعرفـة، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، كل ذلك من الأمور التعبدية التي يراد منها ابتلاء طاعة العباد لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
كما أن الحدود والعقوبات الشرعية الشأن فيها التعبد لله سبحانه وتعالى بتنفيذ أمره والانتهاء عن نهيه جل وعلا..
وكذلك ما أباحه الله وما حرمـه...فإن الله أباح البيع وحرم الربا، وقد يكسب البائع في بيعه ألفـاً في المائة، وقد يكون الربا المحرم درهم في الألف، ويبقى الربا حراماً والبيع حلالاً.. وقد أمرت المرأة أن لا تحد على ميت أكثر من ثلاثة أيام، ولو كان الميت أعز الناس لديها كابنها وأخيها وأبيها، ولكنها يجب أن تحد على زوجها أربعة أشهر وعشراً!!
ولا شك أن وراء كل أمر إلهي حكمة عليا قد يخبرنا الله بها، وقد يهدينا إلى معرفتها، وقد يخفيها عنا، وفي كل ذلك يجب على المكلف أن يسمع ويطيع. وأما إن علق طاعته لله على فهمـه ومعقوله ومعرفته لحكمة الآمر، فإنه لا يكون عابداً لله على الحقيقة ولو رد الأمر الإلهي ظاناً أنه مخالف للحكمـة والعقل لكان كافراً، وكان كفره ككفر إبليس الذي لم تكن جريمته إلا رد الأمر الإلهي كفراً وكبراً وعناداً.
10- المفهوم الشمولي لمعنى الذنب:
إذا عرف العبـد ربه على الحقيقة، وأنه هو خالقه ورازقه، ومتولي شؤونه، ومن بيده نفعه وضره، ومن يعلم علانيته وسره، وحياته ومماته، وأن العبد لا يستغنى عنه طرفة عين، علم أن حق الله على عبـاده أن يطيعوه فلا يعصوه، وأن يشكروه ولا يكفروه، وأن يذكروه ولا ينسوه، وأن يتقوه حق تقاته.
وكل تقصير في هـذه الحقوق تقصير ومعصية... فالغفلة ولو للحظة واحدة عن ذكر الله إثم، وعدم القيام بشكر نعمة واحدة من نعم الله التي لا تحصى إثم، ومعصية أمر الله في الكبير والصغير إثم.
وقد أمر الله عباده أن يتقوه حق تقاته، أي كما ينبغي له إذ هو سبحانه وتعالى أهل لأن يتقى، فهو الرب الإله القائم على كل نفس بما كسبت. قال تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمـل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} (يونس:61)
وقد علم الله سبحانه وتعالى أن عباده لا يطيقون أن يقوموا بحقه وأن يتقوه كما ينبغي له سبحانه وتعالى، ففرض عليهم من ذلك ما يستطيعون، فقال جل وعلا: {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا} فمن غفل عن ذكر الله الواجب المستطاع فهو آثم، كما قـال صلى الله عليه وسلم: [ما من قـوم جلسوا مجلساً ثم قاموا منه ولم يذكروا الله فيه إلا كان هذا المجلس عليهم ترة يوم القيامة] أي حسرة وندامة... ولا حسرة إلا في ترك واجب.
ومن قصر في شكر نعمة عرفها فهو آثم ولو كانت في شربـة ماء شربها، ولم يحمد الله عليها. قال تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر لما خرجا من بيوتهم بسبب الجوع ثم أضافهـم أنصاري فقدم لهم عذقاً من تمر ورطب فأكلوا وقـدم لهم ماءاً بارداً فشربوا... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن هذا من النعيم ولتسألن عنه يوم القيامة].
ومن عصى الله في صغير أو كبير فهو تحت الحساب والمؤاخذة إلا أن يغفر الله ذنبه.
إذا علم هذا علم معنى الذنب الذي ينسب إلى الأنبياء والرسل فإنه ليس كبيرة بحال، وليس تعمـداً لمعصيته الله، وإنما قد يكون اختياراً لخلاف الأولى، أو انقطاعاً لحظة عن الذكر الدائـم، أو قعود لحظة عن الشكر الدائم، قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: [إنه ليُغَانُ على قلبي وإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة]..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سئل في ذلك قال: [أفلا أكـون عبـداً شكوراً] فمن عرف حق الله على عباده، وعرف أن حقه يعظم كلما عظمت نعمته على العبد وعلم أن حق الله سبحانه على عبده أن يذكره فلا ينساه، ويشكره فلا يكفره، وأن يطيعه فلا يعصاه، وأن يخافه ويتقيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه..
علم العبد عند ذلك ماذا تعني المعصية والذنب؟