عندما تصبح الكتابة هماً
التالي تمخض عسيراً و أصابني بوجع كثير . الأمر كله لله دوماً و أبداُ .
يلي اليوم الذي ترددت فيه بالموافقة على التبرع بالدم للطفلة يوم آخر ألغي فيه البصيرة و أترك للشهامة الزمام. يتصل بي من يطلب كيس دم أو سالب لمن يوشك أن يجري عملية للكبد مساء غد في مستشفى جامعي .
لا أعترض فقد نويت التبرع عما قريب في أقرب بنك دم على أي حال ، يتركني الدم لجهة مجهولة تتراوح بين الهدر و السرقة أو السوء يصيب المتبرع من جراء الطب إذ لا يستعين بالبصيرة بين أدواته المختلفة . حقاً لا أعلم أشر تبرعي أم خير ، أنجدة لمصاب أم أي أمر آخر .
ما أفعله هو الإستخارة سؤالاً طويلاً لمولى عليم ثم رمية أرميها لا أعلم ماذا أصابت . يتجدد الوقت الذي أرمي فيه مجدداً ، فأفعل .
أطلت عليكم ، أعلم ، ليس يسيراً أن أعرض ما أصابني ذلك اليوم ، حتى الآن لا أفهمه .
أجيب دعوة الداع و اتفق معه أن ينتظرني على باب المستشفى .
منذ اللحظة التي أقرر فيها التبرع ، يعتريني الضياع يرسم معالم عقلي ، أشيائي الأليفة جداً تضيع مني و هي معي! ثم يضيع مني طريق واضح المعالم بالنسبة لي يختفي ريثما يضعني في شارع لا أعرفه يمر عليه قدر مهول من سيارات الشحن تجاري المركبات الصغيرة سرعة ثم يتركني المساء أتساءل أين أنا . خطأ بسيط يقود أخاه ، قطرة من عناد تقنعني أن لا أتراجع ، حتماً سيحملني الطريق الجديد لغايتي فلا يفعل لأكثر من ساعة ، بينما تكتسب أعصابي نفس مزاج السائقين حولي إذ يعتريهم اليأس من الوصول بأي أمان فيتخذون خطوات غير محسوبة تعطل الجميع في النهاية .
أجد طريقي ثانية مع حلول المساء ثم أجد رجلاً أمام المستشفى ، يعرفني بنفسه أنه قريب الحالة التي ستجرى لها العملية ، لكن حبات السبحة في يدي لازالت تذكر الله معي تردد سبحان الله و بحمده يصدني الذكر عن رؤية وجهه، يرسم صوته صورة رجل قرابة الخمسين .
عند البوابة يقف له حارسها بالرفض . يحاول الرجل إقناع الحارس أن يأذن له بالدخول فيجادل ذلك مطولاً حتى يقر الرجل أنه الحالة التي ستجرى لها العملية و أنه بحاجة لتبرعي من الدم .
تعتريني الدهشة فقد بدا لي سليماً قبل تلك اللحظة ، لم يبد مصاباً بمرض خطير كما ظننت .
يدخل كلانا للمستشفى فيسبقني الرجل بعدة خطوات ، أسرع حتى أجاوره ثم أسأله ، حقاً ستجرى العملية لك ؟
_ أجل ، سأجري عملية زراعة كبد .
هنا يلقي المفاجأة الثانية في وجهي :
دفعت للطبيب ربع مليون دولار ، كل ما جمعت من مال كي يجري لي هذه العملية !
لا يبدو ثرياً على الإطلاق ، مظهره عادي جداً .
يغلق التعب مداخل الفكر و مخارجه ، حقاً ، ابتداء من لحظة وصولي للمستشفى ، كنت أحث خطاي تجاه التبرع كي أسرع في العودة للمنزل ، فالمساء أرخى سدوله و الليل لم يكن لي صاحباً قبلاً . لذلك أترك كلمات الرجل في أحد ملفات العقل للمراجعة لاحقاً حين يحين وقت ذلك .
تستقبلني ممرضة تتحدث مطولاً في التليفون تخبر من يتصل بها عن طريق مزدحم هذه الأمسية ثم تخبرهم مجددا ثم تكرر الخبر لمن تلتقي ... الخ
أنصرف عنها فأستكمل السبحة مئة أخرى ذكر ربي القادر المقتدر ، فتقاطعني متسائلة بصوت مضطرب :
_ خائفة أنت ، لم تتبرعي قبلاً ، أليس كذلك ؟ فيما ارتباكك ؟
ثم تنصرف مجدداً إلى هاتفها تخبر شخصاً آخر كم أزعجتها المواصلات و تسببت في تأخرها !
تعاود الحديث معي ، من سيجرى العملية ، قريب لك ؟
أمر هذا الرجل لم يعنيني البتة قبل أن يرسم معالمه بشكل إنساني كي يحتل مساحة في الذاكرة . يا الله الواحد الأحد في علاك ، أسبّـح مجدداً بينما تنشغل مجدداً بهاتفها .
تلتفت إلي ، فلا أنظر إليها ، في الحقيقة انزعاجها مزعج لا يفتح باب الحوار معها .
أرفع صوتي قليلاً بذكر ربي ، فيهدأ الزمن في تلك النواحي . يخرج الدم إلى كيس بلاستيكي ، تضع عليه بياناته . تخفض صوتها إلى درجة الطبيعي ، تحدثني حديث إمرأة تعرف تفاصيل عملها :
انتظري ، لا تجلسي الآن بل استلقي قليلاً و اشربي العصير و لا تكثري الحركة بعد التبرع . ثم تعطيني رقم الكيس و رقم هاتف بنك الدم ، تقول ، يتم تحليل الدم للتأكد من خلوه من فيروسات الكبد بي و سي قبل إعطاؤه للمريض و أن بوسعي التأكد من سلامة دمي من تلك الفيروسات إن أنا اتصلت بها على هذا الرقم .
يستقبلني الرجل بعد التبرع و هو أكثر انشراحاً ، يسألني إن كنت أريد شيئاً ، في الحقيقة لا حاجة له مطلقاً ، الحاجة دوماً لرب العالمين ، يلح الرجل فلا يجد إجابة مختلفة .
تصيب السكينة الشارع مقارنة بما كان عليه قبل نصف ساعة ، و يتخلى معظم السائقين عن عجلتهم بينما جسمي يشعر بالغرابة تجاه فقدان كمية الدم تلك كلها دفعة واحدة ، لكنه يقوم بمهمة إيصالي للبيت .
في البيت ، يطالبني جسمي بقسط من الراحة لكن العقل يلح على التفكير ، أجيب مطلب العقل ، أشغل الحاسب و أبدأ لعبة سودوكو ، تلك التي أرتب فيها الأرقام في جدول كي أحظى بالفوز ، يرتب عقلي الأرقام على هذا النحو:
1.زراعة كبد
2.يعني متبرع بفص كبد
3. ربع مليون دولار ، يعني احتمال وارد بشراء الكبد من متبرع
4. ساهمت في ذلك بكيس دم من 23 كيس يحتاجها الطبيب كي يأخذ الفص من صاحبه فيضعه في جسد صاحب المال !
5.إثم كبير هذا الذي فعلته أم خير عميم ؟
يبقى السؤال عالقاً هناك يحرق جدار معدتي مولداً من الكهرباء ما يحرمني الراحة العقلية .
أتيقظ اليوم التالي على نفس السؤال أتنفسه بين جزيئات الهواء يصنع الكهرباء التي تنبض بها أعصابي . أود لو أذكر ربي مطولاً فقط أن الجسم و النفس في حالة انطواء . لا أدرك كثيراً ، يود الوهن لو يحتويني طول الأبد يلقيني عند العطب الكلي و الإطفاء و عدم الإشتغال .
لحظة قوة تعيد لي رشدي ، لا لم ينته الأمر بعد ، لهم مني نفحة ، هؤلاء الذين لا أعرفهم شغلوني بهم بغير حق . ربنا الله الواحد الأحد ، أصب اولئك الذين تسول لهم أنفسهم إذ علمتهم شيئاً فنصبوا أنفسهم آلهة تحيي و تميت ، أصبهم بعطب دائم حد إغلاق أعمالهم .
|