وقد تفرعت من فرقة الجهمية ، فرق عديدة انقسمت إلي أكثر من عشر فرق ، كل فرقة اتخذت لنفسها مسلكا فكريا خاصا ، وعقيدة مستقلة ، لكن أبرز عقائدالجهمية هي القول بنفي صفات الله ، وأن الإنسان لا يقدر على شيء ، وهو مجبور مسير ، مقعور غير مخير ، لا يوصف بالاستطاعة والقدرة ، وأن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو معرفة الله حتى لو كفر الإنسان باللسان ، وقالوا أيضا بأن القرآن مخلوق .
لكن نرجع إلي سؤال الأساسي في مناقشة السمنية لهذا الجهمي ؟ فهم لما ناقشوا الجهم قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ لو أن أحدا سألنا كما سأل الجهم : هل رأيت ربك ؟ أو هل يمكن أن نري الله ؟ والجواب أنه كان يكفي الجهم بن صفوان في الرد على السمنية أن يقول : إن الله يري في الآخرة ولا يري في الحياة الدنيا لأن الله شاء لنا الابتلاء والاختبار فيها ، فلو رأيناه أو رأينا ملائكته أو جنته وعذابه مباشرة دون حجاب لما كان لقيام السماوات والأرض بهذه الكيفية وبهذا الوضع الذي فطرنا عليه معني يذكر ، ولذلك قال تعالى : } ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ { (إبراهيم:19) ، وقال أيضا : } الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُو العزيز الغَفُورُ { (الملك:2) .
فكيف يتحقق الإيمان به ونحن نراه ؟ وإذا كان الله لا يري في الدنيا ابتلاءا فإنه سبحانه يري في الآخرة إكراما لأهل طاعته كما قال سبحانه : } وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ { (القيامة:22:23) وقد تواترت الأحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .
فالعلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله عز وجل ، ولكن العلة هي قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب ، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في الابتلاء لقوله تعالى : } إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً { (الانسان:2) .
وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة لتقدير مدارك الإنسان أو المؤثرات التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكي في جسم الإنسان ، فوجدوا إن البصر يدرك به الإنسان شمعة مضاءة تري على بعد 30 ميلا في ليل مظلم ، والسمع يدرك به الإنسان دقة الساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به الإنسان ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، الشم يدرك به الإنسان رائحة نقطة واحدة من العطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، واللمس يدرك به الإنسان جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .
فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يري ما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يري الملائكة أو الجن أويري ذات الله وأوصافه من باب أولي ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعني عدم وجودها ، فالجن مثلا جهازه الإدراكي يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) وموسي عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا فإن الشيء لا يري إلا لسببين : خفاء المرئ وهو ممتنع في حق الله ، وضعف الجهاز الإدراكي للرائي وهذا هو شأن موسي عليه السلام .