الأصل الخامس عندهم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : وهذا الشعار الرنان الذي يفتن به كل إنسان ، يقصدون به الدعوة إلي أصولهم الخمسة ، فالمعروف عندهم هو من اعتنق أصولهم ، والمنكر عندهم هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة ، وقد ساروا بهذا الأصل على مذهب الخوارج في الخروج على الحكام بالسيف .
ومن مبادئ المعتزلة الاعتماد على العقل كليا ، في الاستدلال لعقائدهم ، كأمر أساسي حتمي ، ثم بعد ذلك النظر في القرآن كدليل ثانوي ، قد يقبل وقد يعطل ، حسب القواعد الموضوعة بعقولهم وأهوائهم ، وكان من آثار اعتمادهم على العقل في إدراك العقائد ، أنهم كانوا يحكمون بعقول على جميع الأشياء بالحسن والقبح حتى الأحكام الشرعية ، ونحن علمنا في المحاضرات التي تناونا فيها الحديث عن العلاقة بين العقل والنقل أن الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات هذه الأربعة السيادة فيها للنقل للقرآن والسنة ، النقل هو الذي يحكم هنا بحسن الأشياء وقبحها ، والعقل تابع فيها للنقل ، يؤيده ويعضده ، وعمنا أن العاقل لن يجد في فطرته ما يعارض الشريعة الإسلامية ، أما إذا قُدم العقل على النقل في الواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات من الأحكام ، فسوف تظهر البدعة في الإسلام ، وسوف تتغير ملامح الشريعة ، وتصبح ألعوبة في يد المبتدعين .
وأما دور العقل في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح ، فهذا مقصور على المباح من الأحكام فقط ، فالقيادة والسيادة هنا للعقل ، والنقل يؤيده ويعضده ، ويعاونه ويساعده ، كما روي عند الإمام مسلم من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قَال : أَنْتُمْ أَعْلمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ، والمعتزلة نظرا لاعتمادهم على العقل أيضا عطلوا صفات الله كصفة الاستواء واليدين والعين ، وكذلك صفة المحبة والرضي والغضب والسخط ، ومن المعلوم أن المعتزلة تنفي كل أوصاف الله بحجة تمسكهم بالتوحيد ونفي التشبيه عن الله .
ولاعتمادهم على العقل أيضا ، طعن رؤساؤهم في أكابر الصحابة ، وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب ، فقد زعم واصل بن عطاء : أن إحدي الطائفتين يوم الجمل فاسقة ، إما طائفة على بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصارى أو طائفة عائشة والزبير ، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة ، فقالوا : لا تقبل شهادتهم ، ومعلوم أن سبب الفتنة بين الصحابة في وقعة الجمل وصفين ، هم السبئية أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي .
وبسبب اعتمادهم على عقولهم القاصرة ، دون هداية من ربهم ، ورفضهم الاتباع لنبيهم ، تعددت فرقهم ، وكثر اختلافهم ، فيكفي وفق مذهبهم ، أن يختلف التلميذ مع شيخه في مسألة ، ليكُونَ هذا التلميذ صاحبَ فرقة قائمة ، فأبو الهذيل العلاف له فرقة ، خالفه تلميذه النظام فكانت له فرقة ، فخالفه تلميذه الجاحظ فكانت له فرقة ، والجبائي له فرقة ، فخالفه ابنه أبو هشام عبد السلام فكانت له فرقة أيضا وهكذا يختلفون في ضلالهم ويتنوعون في ابتداعهم ، يقول أبو عبد الله بن الحسين الرازى ، صاحب كتاب اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : إعلم أن المعتزلة سبع عشرة فرقة ، الفرقة الأولي الغيلانية أتباع غيلان الدمشقي ، والفرقة الثانية الواصلية أتباع واصل بن عطاء الغزال ، وهو أول من قال إن الفاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق ولا مشرك ، والفرقة الثالثة العمرية أتباع عمرو بن عبيد ، والفرقة الرابعة الهمثل لية أتباع أبي الهمثل ل العلاف ، والفرقة الخامسة النظامية أتباع إبراهيم بن سيار النظام ، والفرقة السادسة الثمامية أتباع ثمامة بن أشرس ، والفرقة السابعة البشرية أتباع بشر المرييسي بن معمر بن عباد السلمي ، والمزدارية أتباع أبي موسي المزدار وهو تلميذ بشر ، والهشامية أتباع هشام بن عمرو القوطي ، وقد كان يمنع الناس أن يقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، لأنه لا يجوز إطلاق اسم الوكيل على الله تعالى ، والجاحظية ، أتباع عمرو بن بحر الجاحظ ، والجبائية اتباع أبي على محمد بن عبد الوهاب الجبائي ، والخياطية أتباع أبي الحسن عبد الرحيم الخياط ، وغيرهم الكثير والكثير ، وكل له ما يخصه من الضلالات العقلية ، لكنهم يقولون جميعا بالأصول الخمسة ، هذا ملخص موجز عن المعتزلة وأصوله ، تعالوا نري كيف ظهرت البدعة الكبري ؟
لما زاع أمر الجهم بن صفوان وانتشر خبره ، حتى تابع الفساق فكره وأيدوا حزبه ، سار على نهجه واصل بن عطاء ، فقد انضم إلي طريقته وسار على دربه بدعته ، وكذلك عمرو بن عبيد الذين ينسب إليهما مذهب المعتزلة كما تقدم ، فتأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة ، في الاعتماد على العقل في إثبات الصفات أو نفيها ، وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها ، بحجة أن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال ، وأن الدين لا يصح إلا بهذا بالتعطيل والضلال ، وقد بنوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال ، واستحالت عندهم رؤية رب العزة والجلال ، فردوا الأخبار ، وأنكروا الآثار ، التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة ، وبنوا على ذلك أصولهم أيضا نفي صفة الكلام عن الله فجعلوه عاجزا عن الكلام بالقرآن ، بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له جارحة الفم واللسان ، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان ، وقد استفحل أمرهم ، وكثر عددهم ، وانتشر في البلاد خبرهم ، وللأسف قربهم خلفاء الدولة العباسية ، متعللين لهم بأنهم ، كانوا يجادلون المخالفين من الزنادقة والجبرية ، والشيعة والمجوس مجادلة عقلية .