وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون ، وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية تصادق مع بعض دعاة الآراء الاعتزالية ، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين ، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المرييسي المولود من أب يهودي ، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي ، فغلب عليه فكر الجهم بن صفوان وانسلخ من الورع والتقوى والإيمان ، وأعلن القول بخلق القرآن ، ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره ، وكان عالمَهم المقتدي بأمره ، فمقته أهل العلم وناظروه ، وحكم عليه بعضهم وكفروه ، يقول الإمام الشافعي عن هذا الجهمي : ناظرت بشر بن غياث المريسي ، فكان مما قال : القرعة قمار ، وهي حرام ، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة فبهت ، وحديث عمران رواه مسلم في كتاب الإيمان عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَال لهُ قَوْلا شَدِيدًا ) ، وفي رواية أن رجلاً من الأنصار أوصي عند موته فأعتق ستة مملوكين ، الوصية فيما دون الثلث ، ولذلك أجري النبي القرعة بينهم ، ومعني قال له قولا شديدا أي أنكر فعله وكراهه .
والشاهد أن أبسط الأمور في سنة النبي ، لا يعرفها بشر المريسي ، فأصله كما قال هاشم بن القاسم يهودي ، والخليفة المأمون اختلط برجل يقال له أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزلي ، قربه المأمون واتخذه صاحبا ، ومن شدة تعلق المأمون به عظمه الشعراء نفاقا للخليفة حتى قال بعض الشعراء من المعتزلة من بني العباس :
رسول الله والخلفاء منا : ومنا أحمد بن أبي دؤاد - فرد عليه بعض شعراء أهل السنة الذين يدركون خطورة هذا الرجل وفتنته للناس ، وقال : فقل للفاهرين على نزار : وهم في الأرض سادات العباد - رسول الله والخلفاء منا ونبرأ من دعي بني إياد - وما منا إياد إذا أقرت : بدعوة أحمد بن أبي دؤاد ، وكذلك الشاعر المشهور أبو تمام مدحه بكلام أقرب ما يكون إلي الشرك من كونه مدحا لمخلوق ، فقال في مدح أحمد بن أبي دؤاد : أأحمد إن الحاسدين كثير : ومالك إن عد الكرام نظير - حللت محلا فاضلا متقادما : من المجد والفخر القديم فخور - فكل غني أو فقير فإنه : إليك وإن نال السماء فقير - إليك تناهي المجد من كل وجهة : يصير فما يعدوك حيث يصير - وبدر إياد أنت لا ينكرونه : كذاك إياد للأنام بدور - تجنبت أن تدعي إليك ممدة : وما رفعة إلا إليك تشير .
فانظر إلي هذا الكلام المليء بالنفاق والشرك الخطير ، انظر إلي المبالغة والخطأ الكبير ، انظر إلي تعظيم هذا الظالم وتشبيهه بالعلى الكبير ، والله إن من اعتقد هذا في غير الله ، فهو مسكين ضال مضل ، يخشي عليه أن تكون له جهنم وبئس المصير ، ومن شدة الترابط بين أحمد بن أبي دؤاد وبين الخليفة المأمون أشار على الخليفة أن يكتب على سترة الكعبة ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ) حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير ، كما قال هذا الضال جهم بن صفوان ، عن قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوي ) قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت .
وكذلك قرب المأمون إليه رجالا من المعتزلة حتى راوده على مذهبهم فأقنعوه حتى أصبح ألعوبة في أيديهم ، ونصحوه أن يأخذ على أيدي الناس ليعتنقوه ، إصلاحا لدينهم على زعمهم ، وإرضاءا لربهم بحمقهم ، وقد وقع المأمون في شباكهم وفرض على الناس بدعة جديدة لم تكن في أسلافهم ، وهي البدعة الكبري ، بدعة القول بخلق القرآن .
ما هي قصة خلق القرآن وما هي فكرتها ؟ فكرتها قائمة على منهجهم في نفي الصفات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ومنها صفة الكلام ، فهم زعموا أن الله لو كان متكلما لكان له فم ولسان ، ومن ثم لا بد من نفي صفة الكلام عنه .
وقد وصل الأمر ببعضهم إلي محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بهذه الصفة ، فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة : أريدك أن تقرأ هذه الآية : ( وَكَلمَ اللهُ مُوسَي تَكْليمَا ) (النساء : 164) بنصب لفظ الجلالة ، وذلك ليكون موسي عليه السلام هو المتكلم ، أما الرب عنده فلا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه ، فقال أبو عمرو : هب أني وافقتك في ذلك فماذا تفعل بقوله : ( وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه ) فبهت المعتزلي .
ومعلوم عند السلف أن الله يتكلم بكيفية تليق بجلاله نجهلها نحن ويعلمها هو فنحن ما رأيناه وما رأينا له نظيرا فهو سبحانه كما قال : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11) ، ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم كما هو اعتقاد المعتزلة ، بل أخبرنا الله تبارك وتعالي أن بعض المخلوقات تتكلم بدون فم أو لسان فقال تعالى : ( اليَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ) (يس:65) ، فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم فالله أنطقها كما أنطق كل شيء ولذلك قال تعالى : ( وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذي أَنْطَقَ كُل شيء ) ( فصلت:21) فالأيدي والأرجل والجلود تتكلم بلا فم يخرج منه الصوت المعتمد على مقاطع الحروف ، ولكن قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز .
كما أن صفة الكلام من لوازم الكمال وضدها من أوصاف النقص والله سبحانه له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته ، ولهذا ذم الله بني إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله ، قال تعالى عنهم : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِن بَعْدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) فعجز العجل عن الكلام من صفات النقص التي يستدل بها على عدم ألوهيته ، فإذا كان من شروط العظمة لدي المخلوق اتصافه بالكلام ، أليس الخالق أولي بذلك .