عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 26-12-2009, 12:25 PM
الصورة الرمزية خالد مسعد .
خالد مسعد . خالد مسعد . غير متواجد حالياً
نـجــم الـعـطــاء
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
المشاركات: 5,554
معدل تقييم المستوى: 22
خالد مسعد . will become famous soon enough
افتراضي

( أما بعد فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ، ومواريث النبوة التي أورثهم ، وأثر العلم الذي استودعهم ، والعمل بالحق في رعيتهم ، والتشمير لطاعة الله فيهم ) ، الاجتهاد المحمود هو الاجتهاد المبذول لخدمة دين الله بعد تقديم النصوص فلا اجتهاد مع نص ، ولكن الاجتهاد الذي بذله المأمون ودعا إليه اجتهاد مغرور لهدم دين الله دون أن يدري ، فإذا وصل الأمر بالخليفة إلي أن يعتقد في آراء المعتزلة والقول بخلق القرآن ونفي صفة الكلام عن الله وتشبيه الله بالعاجز عن الكلام ورد ما جاء في الكتاب والسنة مما يدل على إثبات صفة الكلام لله ، ثم يدعو إلي ذلك ويسمي ذلك عملا بالحق في الرعية فهذا هو شر البلية في كل وقت ، أن يكون الحكام على ضلال وجهل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا لدينهم وبلادهم ، فلو مات المأمون على عقيدة العجائز من العامة لكان خيرا له .
يقول المأمون : ( والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته ) ، الله لا يوفقه ولا يوفق أمثاله من أهل الحكام أهل البدعة والضلالة ، وبالفعل لم يوفقه الله فقد مات بدعاء الإمام أحمد عليه ، فلما أهان الإمام أحمد وحمله مقيد على بعير في أسوأ حال ، وقطع في الترحيل إلي المأمون مئات الأميال ، واقتربا من معسكر الخليفة ونزلوا على مسافة منه ، وجاء خادم المأمون يبكي ويمسح دموعه ، قائلا : يعز على يا أبا عبد الله إن المأمون قد سل سيفا لم يسله من قبل ، وأقسم بقرابته من رسول الله صلي الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلي القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ، ومعلوم أن القسم لا يجور بالرسول ولا بقرابته من الرسول من كان حالفا فليحلف بالله ، فرفع الإمام أحمد بصره إلي السماء وجثي على ركبتيه ودعا ربه قائلا : سيدي ومولاي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته ، فما أن انتهي من دعائه حتى طار الخبر في كل مكان في الثلث الأخير من الليل ، مات المأمون ، مات الخليفة ودخل رجل يبشرهم قائلا : البشري قد مات الرجل ) .
فالمأمون يقول في خطابه : ( والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته ، والإقساط فيما ولاه الله من رعيته ، برحمته ومنته ) فالله عز وجل بقدرته انتصر لحزبه ولم يوفق هذا المبتدع الظالم وأماته مقهورا بغيظه ، اسمعوا بقية ما جاء في رسالته : ( وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم ، والسواد الأكبر ، من حشو الرعية وسفلة العامة ، ممن لا نظر له ولا روية ، ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ، والاستضاءة بنور العلم وبرهانه ، في جميع الأقطار والآفاق ، أهل جهالة بالله وعمي عنه ، وضلالة عن حقيقة دينه ، وتوحيده والإيمان به ، ونكوب عن واضحات أعلامه ، وواجب سبيله ، وقصور أن يقدروا الله حق قدره ، ويعرفوه كنه معرفته ، ويفرقوا بينه وبين خلقه ، لضعف آرائهم ونقص عقولهم ، وجفائهم عن التفكير والتذكر ) .
المأمون وصف عامة الناس بالجهالة والضلالة وأنهم حشو الأمة وسفلة لا قيمة لهم وأنهم لا يحسنون النظر والاستنباط لضعف آرائهم ونقص عقولهم ، وجفائهم عن التفكير ، ووصف نفسه ومن كان على منهجه من المعتزلة بأنهم هم العلماء وأهل الحق وأساس الأمة ولديهم علو الهمة لقوة آرائهم بزعمهم وكمال عقولهم ، يا ليت المأمون كان من العامة ولم يدخل نفسه في مزبلة البدع ، ووصمة العار التي لحقته عبر صفحة التاريخ ، فمعلوم أن عامة الناس على الإيمان الفطري المجمل الذي يقتضي التسليم والتعظيم لأمر الله والتصديق لكل خبر جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله الله ، وفي صحيح مسلم من حديث سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ أنه قَال : قُلتُ: يَا رَسُول اللّهِ قُل لي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً ، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ ، وَفِي رواية لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا غَيْرَكَ ، قَال : قُل آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ ) ، أي نفذ كل أمر بلغك في كتاب الله وسنة رسوله ، وصدق كل خبر ورد فيهما ويكفيك ذلك ولم يطالبه الرسول أن يقول إن القرآن مخلوق وأنه من الضروري أن يكون من المعتزلة حتى يؤمن .
ومعلوم أن العامة في الإيمان على ما نصح به الرسول سفيان ، يعظمون كتاب الله بتصديق خبره كلما سمعوه ، وتنفيذ أمره كلما علموه ، وهذا هو الإيمان المجمل ، ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد غير متماثل في حق العباد والإيمان الذي يجب على شخص لا يجب مثله على كل شخص ، فإن اتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد ، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم ، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ، ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن ، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلا ، ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملا ، فإنه لابد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر ، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك دون أن يعرف تفاصيل الأحكام والأخبار ، لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك ، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ، ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل ، لموته قبل أن يبلغه شيء آخر ، وأيضا لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة ، أن يعرف كل ما أمر به الرسول ، وكل ما نهي عنه وكل ما أخبر به ، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه ، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة ، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك ، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة ، فصار يجب من الإيمان تصديقا وعملا على أشخاص ما لا يجب على آخرين ، فالعامة ليس كما وصفهم المأمون أهل جهالة وضلالة وأنهم حشو وسفلة ولا قيمة لهم وأنهم لا يحسنون النظر والاستنباط لضعف آرائهم ونقص عقولهم ، بل هم أعلم بالله من المأمون وأمثاله من المتكلمين والنظار .