أما استدلال الخليفة لمذهب المعتزلة بقوله تعالى : ( كَذَلكَ نَقُصُّ عَليْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ) (طه:99) ، وزعمه أن القرآن قصص لأمور أحدثه بعدها ، وتلا به متقدمها ، فقد ذكرنا أن القرآن مكتوب في اللوح قبل وجود الخلائق وقبل كتابته في اللوح كان في علم الله ، وعلم الله صفة أزلية أولية ، قائمة بذات الله اتصف بها في الأزل ، ولذلك لما ناظروا الإمام أحمد أمام المعتصم ، قال له عبد الرحمن بن إسحاق : ما تقول في القرآن ؟ فقال الإمام أحمد : ما تقول في علم الله ؟ ، فسكت عبد الرحمن ولم يتمكن من الجواب ، فقال أحمد : القرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله ، فقال عبد الرحمن : كان الله ولا قرآن ، فقال الإمام أحمد : كان الله ولا علم ، فسكت عبد الرحمن .
ولذلك فإن المعتزلة يصرون على أن القرآن كلام الرسول وأن الله لم يتكلم به ، محتجين بقوله تعالى : ( إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (الحاقة:40) (التكوير:19) فهذا يدل عندهم على أن الرسول أحدثه إما جبرائيل وإما محمد ، وهذا دليل على جهلهم وقلة علمهم ، بأبسط وجوه الاستدلال ، لأن لفظ الرسول ذكر في الآية معرفا بأنه رسول والرسول مبلغ عن مرسله ، فلم يقل إنه قول ملك أو نبي ، فعلمنا أنه بلغه عمن أرسله به ، لا أنه أنشأه من جهة نفسه ، وأيضا الرسول في إحدي الآيتين في سورة الحاقة أو التكوير هو جبريل وفي الأخرى محمد صلي الله عليه وسلم ، فإضافة القول إلي كل منهما ، تبين أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو أخترعه أحدهما أو أحدثه أو ألفه امتنع ذلك على الآخر ، وأيضا فقوله : ( إِنَّهُ لقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير:21) وصفه بأنه أمين وهذا دليل على أنه لا يمثل د في الكلام ، الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه ، بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله .
وأيضا فإن الله عز وجل قد كفر من جعله قول البشر وتوعده بسقر ، ومحمد بشر ، فمن جعله قول محمد فقد كفر ، فقال تعالى عمن زعم أنه سحر أنشأه محمد من عنده : (كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِل كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقَال إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ البَشَرِ سَأُصْليهِ سَقَر وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَر ) (المدثر:16/28) ، فمن زعم أنه قول البشر فقد كفر ، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جني أو ملك ، كما أن الكلام كلام من قاله مبتدئا لا من قاله مبلغا ، فمن سمع قائلا يقول : أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي ، قال : هذا شعر حافظ إبراهيم ، ومن سمع قائلا يقول : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوي ) قال هذا حديث للرسول صلي الله عليه وسلم ، ومن سمع قائلا يقول : ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ) قال : هذا كلام الله ، هذا لو كان عنده معرفة سابقة ، وإلا قال : لا أدري كلام من هذا ؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لرمي بالكذب ، ولهذا من سمع من غيره نظما أو نثرا يقول له هذا كلام بديع كلام من هذا ؟ هذا كلامك أو كلام غيرك ؟ .
ولذلك قال الإمام أبو حنيفة : ( القرآن في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء وعلى النبي منزل ولفظنا بالقرآن مخلوق - يقصد حركة اللسان التي تتم لإخراج الحروف - والقرآن غير مخلوق ، وما ذكر الله في القرآن عن موسي عليه السلام وغيره ، وعن فرعون وإبليس ، فان ذلك كلام الله إخبارا عنهم ، وكلام موسي وغيره من المخلوقين مخلوق ، والقرآن كلام الله لا كلامهم ، وسمع موسي عليه السلام كلام الله تعالى ، فلما كلم موسي كلمه بكلامه الذي هو من صفاته ، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويري لا كرؤيتنا ، ويتكلم لا ككلامنا ) .
أما استدلال الخليفة لمذهب المعتزلة بقوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلتْ مِنْ لدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1) ، وحجته أن كل محكم مفصل ، له محكم مفصل ، والله محكم كتابه ومفصله ، فهو خالقه ومبتدعه) ، فهو استدلال باطل لأنه ما من متكلم إلا وكلامه فيه إجمال وتفصيل وعموم وخصوص ، وغير ذلك من أنواع الكلام فهل كل متكلم من البشر أو غيرهم خالق لكلامه أم أن الخالق هو الله : ( وَاللهُ خَلقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) ، ثم ما علاقة ذلك بكونه يتكلم أو لا يتكلم ؟! فهم لو قالوا إن الله يتكلم ولا ندري كيف يتكلم لاهتدوا إلي الصواب كما اهتدي السلف الصالح بهدي الله ، ولكنهم رفضوا الإيمان بصفة الكلام أصلا وكذبوا بالآيات التي تدل على ثبوت الصفة لله ، فقالوا لا يتكلم ولا يكلم وشبهوه بالأبكم تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
يقول الخليفة المأمون بن هارون عن علماء السلف الصالح : ( ثم هم الذين جادلوا بالباطل ، فدعوا إلي قولهم ، ونسبوا أنفسهم إلي السنة ، وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته ، مبطل قولهم ، ومكذب دعواهم ، يرد عليهم قولهم ونحلتهم ) ، وهذا زور وبهتان فلم يرد في القرآن ما يدل على صدق البدعة التي دعت إليها المعتزله في نفي الصفات والقول بخلق القرآن ، يقول المأمون : ( ثم أظهروا مع ذلك ، أنهم أهل الحق والدين والجماعة ، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة ، فاستطالوا بذلك على الناس ، وأغروا به الجهال ، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب ، والتخشع لغير الله ، والتقشف لغير الدين إلي موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيء آرائهم ، تمثل نا بذلك عندهم ، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلي باطلهم ) .