زعم الخليفة في كتابه أن أهل السنة والجماعة يكفرون المعتزلة ، وهذا زعم باطل ، فهم لا يكفرون إلا من كذب منهم بآيات الكتاب صراحة ، أو قامت عليه البينة في أن قوله تكذيب لكلام الله وأصر على ما هو فيه ، ولذلك لما حمل الإمام أحمد من دار الخلافة بعد أن جلدوه ، وحضرت صلاة الظهر صلي معهم ولم يكفرهم فيما اعتقدوه ، لأنه يعلم أنهم أهل جهالة بالله وعمي عنه ، وانظر إلي تحامل الخليفة على أهل السنة ووصفه لهم في رسالته بأبشع الأوصاف ، لأنهم عارضوه وتمسكوا بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فحاول أن يفَصِّل لهم تهمة تبرر اعتقالهم وعقابهم ، وهي زعمه أنهم يستترون بالدين من خلال إصرارهم على هذا الاعتقاد لطلب السلطة والرياسة ، ثم يقول المأمون عن علماء السلف الصالح :
( حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب ، والتخشع لغير الله ، والتقشف لغير الدين إلي موافقتهم عليه ، ومواطأتهم على سيء آرائهم ، تزينا بذلك عندهم ، وتصنعا للرياسة والعدالة فيهم ، فتركوا الحق إلي باطلهم ، واتخذوا دون الله وليجة إلي ضلالتهم ) ، المأمون يشير إلي قوله تعالى : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلمَّا يَعْلمْ اللهُ الذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولهِ وَلا المُؤْمِنِينَ وَليجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( التوبة:16) ، ومعني الآية أن ابتلي المؤمنين بالجهاد ليمحص أهل الحق الذين يناصرون الله ورسوله ظاهرا وباطنا ، ممن نافقوا وناصروا الله في الظاهر ، أما في الباطن فقد اتخذوا من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة يعني بطانة من الكافرين والمشركين يوالونهم على الكفر ويفشون إليهم أسرارهم بعداوة المسلمين ، فالمأمون يشبه المعتزلة ودعوتهم إلي ما يسمي بالتوحيد ونفي الصفات وما أحدثوه في الأمة من فتن ومنازعات ، بالمجاهدين من الصحابة في المعارك والغزوات ، لإعلاء راية التوحيد والقضاء على الشركيات ، ويشبه علماء السلف بالمنافقين الذين يتخذون وليجة من دون المؤمنين ، فينافقون الخليفة في الظاهر ويدعون الناس في الباطن إلي خلاف ما يعتقده أهل الضلال أصحاب الاعتزال ) .
ثم يقول المأمون عن علماء السلف الصالح : ( فقُبلت بتزكيتهم لهم شهادَتُهم ، ونُفِّذَت أحكامُ الكتاب بهم ، على فساد نياتهم ويقينهم ، وكان ذلك غايتَهم التي إليها أُجِّروا ، وإياها طُلبُوا في متابعتهم ، والكذبِ على مولاهم ، وقد أُخِذ عليهم ميثاق الكتاب ، ألا يقولوا على الله إلا الحق ، ودرسوا ما فيه ( أي علموه وتجاهلوه ) أولئك الذين أصمهم الله وأعمي أبصارهم ، ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (محمد:24) .
وصف السلف بأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، وأن المعتزلة هم أهل البصيرة الذين يفهمون ويعقلون ، من الأولي بهذا الوصف ؟ الأولي بهذا الوصف هم أهل البدعة من المعتزلة ومن شايعهم ، فهم اعتمدوا على عقولهم وأهوائهم في وصف ربهم ، وأوجبوا عليه أن يتصف بكذا وكذا ولا يتصف بكذا وكذا ، وقد نزه الله تعالى نفسه عن وصف العباد له بما يشاءون ، واستثني الوصف الذي بلغه عن الله المرسلون ، فقال سبحانه وتعالي في مثل قول المأمون بن هارون : ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ على المُرْسَلينَ وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) (الصافات:182) .