فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون ثم سلم على المرسلين لسلامة ما وصفوا به رب العالمين ، وأنهم لم يكونوا مشبهين ولا معطلين وإنما كانوا موحدين مثبتين ، مثبتين لكل ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلي الله عليه وسلم ، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد فقال : ( وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ ) فلولا أن الله عرفنا بنفسه في كتابه وفي سنة رسوله ما عرفناه ، ولو تركنا لعقولنا كما أراد الخليفة لاختفي طريق الحق وما سلكناه ، وقد ومضي خير القرون من الصحابة والتابعين على ما كان عليه رسول الله ، كلهم بنبيهم محمد مقتدون ، وعلى منهاجه سالكون ، ولم يبتدعوا كما ابتدع المأمون بن هارون ، بل هم أصحاب البصيرة خير القرون ، يقرأون القرآن ويتدبرون ويعملون : ( قُل هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إلي اللهِ على بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ) (يوسف:108) ، ونبينا صلي الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه فبعث بعلوم الأولين والآخرين ولم يدع إلي هذه البدع التي يسميها المأمون توحيدا وجهادا .
يقول الخليفة المأمون عن علماء السلف الصالح : ( فرأي أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ، ورؤوس الضلالة المنقوصين من التوحيد حظا ، والمبخوسون من الإيمان نصيبا ، وأوعية الجهالة ، وأعلام الكذب ، ولسان إبليس الناطق في أوليائه ، والهائل على أعدائه ، من أهل دين الله ) انظر مدي تمسك المأمون بمذهب المعتزلة وكيف غرسوا فيه هذا الاعتقاد إلي درجة أنه يعتبر المخالفين له من السلف الصالح ، هم شر الأمة ورؤس الضلالة ، فلا إيمان لهم ولا توحيد ، وإنما هم أولياء الشيطان يتكلمون بلسان إبليس ، فبطانة السوء من المعتزلة هم رأس الأفعى التي بثت سمها في قلب الخليفة ، حتى ظن أن قولهم هذا هو الحق الذي لا تشوبه شائبة ، وهو منتهي التوحيد الذي يضبط به نوعيات العاملين لديه في مؤسسات الدولة ، ومن ثم أوجب على أولي الأمر اختيار البطانة الصالحة من أهل العلم حتى يتم بزعمه صلاح الراعي والرعية .
يقول الخليفة المأمون عن علماء السلف الصالح : ( وهم أحق من يتهم في صدقه ، وتطرح شهادته ، ولا يوثق بقوله ولا عمله ، فإنه لا عمل إلا بعد يقين ، ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام ، وإخلاص التوحيد ، - يقصد توحيد المعتزلة - ومن عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده ، كان عما سوي ذلك من عمله ، والقصد في شهادته أعمي وأضل سبيلا ، فاجمع من بحضرتك من القضاة ، واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك ، فابدأ بامتحانهم فيما يقولون ، وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن وإحداثه ، وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ، ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته ، بمن لا يوثق بدينه ، وخلوص توحيده ويقينه ، فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه ، وكانوا على سبيل الهدي والنجاة ، فمرهم بأن يسألوا من يحضرهم عن علمهم في القرآن ، وأن يتركوا إثبات شهادة من لم يقر بأنه مخلوق محدث ، والامتناع من توقيعها عندهم ) .
أي دليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله على أن الشاهد عند أداء الشهادة يمتحن في خلق القرآن ، فإن أقر بأن الله يتكلم ردت شهادته ، وإن اعتقد اعتقاد الخليفة بأن الله لا يتصف بالكلام قبلت شهادته ؟ أليست هذه بدعة نظير لها ولا يختلف عليها اثنان ؟ فمن هم أهل البدعة والجهالة والعمي ؟ لقد صدق قول القائل السلفي في الخليفة المأمون : يا أيها الناس لا قول ولا عمل : لمن يقول كلام الله مخلوق - ما قال ذاك أبو بكر ولا عمر : ولا النبي ولم يذكره صديق - ولم يقل ذاك إلا كل مبتدع : على الرسول وعند الله زنديق – يا قوم أصبح العقل من خليفتكم مقيدا : وهو في الأغلال موثوق .
ولما ولي بشر بن الوليد الكندي القضاء بأمر الخليفة وقد أقر بمذهب المأمون ، كان إذا جاء الشاهد في قضية ما سأله عن كلام الله : هل الله يتكلم أم لا ، فإن قال يكلم رد شهادته وإن قال لا يتكلم وشبهه بالأبكم قبل شهاته فجاء رجل ليشهد فسأله بشر بن الوليد ، فقال إن الله يتكلم كما يليق بجلاله واحتج بقوله تعالى : ( وَكَلمَ اللهُ مُوسَي تَكْليماً ) (النساء:164) فقال له أنت فاسق ورد شهادته ، فخرج الرجل يصيح ويقول للمأمون : يا أيها الملك الموحد ربه : قاضيك بشر بن الوليد حمار - ينفي شهادة من يدين بما به نطق الكتاب وجاءت الأخبار - يا أيها الملك الموحد ربه : قاضيك بشر بن الوليد حمار )
قال المأمون لخليفته إسحاق بن إبراهيم في حكمه بفسق من لم يقل بقوله في خلق القرآن وهو يخاطب نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم : ( واكتب إلي أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مساءلتهم ، والأمر لهم بمثل ذلك ، ثم أشرف عليهم ، وتفقد آثارهم ، حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين ، والإخلاص للتوحيد ، واكتب إلي أمير المؤمنين بما يكون في ذلك إن شاء الله ، وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين ) .
هذا كتاب المأمون بن هارون إلي نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم ، حمل من الفتنة وأنواع الضلال ما يدل بحق على مقدار البلاء الذي حل بالأمة الإسلامية بسبب الآراء الاعتزالية ، أمر الوالي إسحاق بن إبراهيم أن يجمع من بحضرته من القضاة وأن يقرأ هذا الكتاب عليهم ويبدأ في امتحانهم والكشف عن اعتقادهم ، وبين له في هذا الكتاب أنه لا يستعين في إدارة شئون الدولة بمن لا يكون على مذهبه ، وقع ابتلاء عظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا حدث بعد ذلك نستكمل ذلك بإذن الله تعالى في اللقاء القادم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .