وكان الأمراء في كل يوم يحضرون عنده ، ويبلغونه عن الخليفة السلام ، ولا يدخلون عليه حتى يخلعوا ما عليهم من المثل نة والسلاح ، وبعث إليه الخليفة بالمفارش الوطيئة وغيرها ، فاعتذر إليه في قبولها ، وأراد منه الخليفة أن يحدث الناس ، عوضا عما فاتهم منه ، في أيام المحنة وما بعدها من السنين الطولية ، وكان الخليفة يبعث إليه في كل يوم ، مائدة فيها ألوان الأطعمة والفاكهة والثلج ، والخليفة يحسب أنه يأكل من ذلك ، ولم يكن يأكل من ذلك شيئا بالكلية ، بل كان صائما يطوي الأيام بالصوم ، ولما استمر ضعفه ، جعل المتوكل يبعث إليه الطبيب لينظر في مرضه ، فرجع إليه الطبيب وقال : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد ليس به علة في بدنه ، وإنما علته من قلة الطعام ، وكثرة العبادة والصيام ، فسكت المتوكل .
فطلب الإمام أحمد أن يرده الخليفة المتوكل إلي بغداد ، فاستجاب له الخليفة ، وهو غير راض ، وظل يرسل له الأموال وأحمد يردها ولا يقبلها ، أو يتصدق بها ولا يأخذ منها شيئا ، وقد قال بعض الأمراء للمتوكل : إن أحمد لا يأكل لك طعاما ، ولا يشرب لك شرابا ، ولا يجلس على فرشك ، ويحرم ما تشربه ، فقال : والله لو قام المعتصم من قبره ، وكلمني في أحمد ، ما قبلت منه ، وجعلت رسل الخليفة تفد إليه في كل يوم ، تستعلم أخباره وكيف حاله ، وجعل يستفتيه في أموال ابن أبي داؤد ، فلا يجيبه بشيء .
وقد كتب رجل من المعتزلة ، رقعة إلي المتوكل يقول فيها : يا أمير المؤمنين ، إن أحمد يشتم آباءك ويرميهم بالزندقة ، فكتب فيها المتوكل ، أما المأمون فانه خلط الحق بالباطل ، فسلط الناس على نفسه ، وأما أبي المعتصم ، فإنه كان رجل حرب ، ولم يكن له بصر بالكلام ، وأما أخي الواثق فإنه استحق ما قيل فيه ، ثم أمر أن يضرب الرجل ، الذي رفع إليه الرقعة ، مائتي سوط ، فأخذه عبد الله بن إسحاق ابن إبراهيم ، فضربه خمسَمائة سوط ، فقال له الخليفة ، لم ضربته خمسمائة سوط ؟ فقال : مائتين لطاعتك ، ومائتين لطاعة الله ، ومائة لكونه قذف الشيخ الصالح أحمد بن حنبل .
وقد كتب الخليفة المتوكل إلي أحمد ، يسأله عن القول في القرآن ، سؤال استرشاد واستفادة ، لا سؤال تعنت ولا امتحان ولا عناد ، فكتب إليه أحمد رحمه الله رسالة حسنة ، فيها آثار عن الصحابة وغيرهم ، قال عبد الله بن أحمد : كتب عبيد الله بن يحيي بن خاقان إلي أبي ، يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسالك عن القران ؟ لا مسالة امتحان لكن مسالة معرفة وتبصرة ، فأملي أبي إلي عبيد الله بن يحيي ، بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك في الأمور كلها ، ودفع عنك المكاره برحمته ، قد كتبت إليك رضي الله عنك ، بالذي سال عنه أمير المؤمنين في القران ، وإني أسال الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين ، فقد كان الناس في خوض من الباطل ، واختلاف شديد ينغمسون فيه حتى أفضت الخلافة إلي أمير المؤمنين ، فنفي الله به كل بدعة ، وانجلي عن الناس ما كانوا فيه من الذل ، وضيق المحابس فصرف الله ذلك كله ، وذهب به بما مكن به أمير المؤمنين ، ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما ، ودعوا الله لأمير المؤمنين ، وأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء ، وأن يعينه على ما هو عليه ، فقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه يوقع الشك في قلوبكم ) .
واشتد المرض على الإمام أحمد بن حنبل ، قال ابنه صالح بن أحمد : كان مرضه في أول ربيع الأول سنة مائتين وواحد وأربعين ودخلت عليه يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم ضعيف ، ضيق النفس ، واجتمع الناس من الأكابر والعامة بالآلاف ، اجتمعوا حول بيته لعيادته ، وكتب الإمام أحمد وصيته ، جاء فيها : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصي به أحمد بن حنبل ، أوصي أنه يشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدي ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأوصي من أطاعه من أهله وقرابته ، أن يعبدوا الله في العابدين ، وأن يحمدوه في الحامدين ، وأن ينصحوا المسلمين ، وأوصي أني قد رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وأوصي بالصدقة من ماله على من شاء .. ثم استدعي بالصبيان من ورثته ، فجعل يدعو لهم ، وكان قد ولد له صبي قبل موته بخمسين يوما ، فسماه سعيدا ، وكان له ولد آخر اسمه محمد ، قد مشي حين مرض ، فدعاه والتزمه وقبله ، ثم قال : ما كنت أصنع بالولد على كبر السن ؟ فقيل له ، ذرية تكون من بعدك يدعون لك ، فجعل يحمد الله تعالى ) .
وقال المروذى مرض أحمد تسعة أيام ، وكان ربما أذن للناس فيدخلون عليه ، أفواجا يسلمون ويرد بيده ، وتسامع الناس بمرضه وتكاثروا على بيته ، وسمع السلطان بكثرة الناس فوكل الحرس ببابه ، وعلى أبواب الشوارع المؤدية إلي بيته ، من شدة الزحام وترتبا للنظام ، فكان الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة ، وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ، ربما دخل من بعض الدور وطرز الحاكة وربما تسلق ، وجاء أصحاب الأخبار فقعدوا على الأبواب ، وجاءه حاجب الأمير ، فقال : إن الأمير يقرئك السلام ، وهو يشتهي أن يراك ، فقال : هذا مما اكره وأمير المؤمنين قد أعفاني مما أكره ، قال صالح بن أحمد : ودخل على أبي مجاهد بن موسي ، فقال : يا أبا عبد الله ، قد جاءتك البشري ، هذا الخلق يشهدون لك ، ما تبالي لو وردت على الله الساعة ، وجعل يقبل يده ويبكي ، ويقول : أوصني يا أبا عبد الله ، فأشار إلي لسانه .