2- العامل المنهجي : وهو تقديم العقل على النقل فقد ظهر كما علمنا من المحاضرات الماضية في البدعة الكبرى ظهر اتجاه في تاريخ المسلمين مخالف لما كان عليه أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والتابعون وتابعوهم من سلف الأمة ، خالفوا السلف في فهمهم لكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وبخاصة في النصوص المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله ، هذا الاتجاه الاعتزالي تأسس على تحكيم العقل والهوى في أمور العقيدة وعدم التسليم لأي نص في كتاب الله أو حديث يخالف ما تقرر في أذهانهم من أمور عقلية سقيمة ، فتارة يردونه وتارة يؤولونه على غير ما دل عليه ظاهر اللفظ العربي الذي نزل به القرآن ، هذا الاتجاه عرف بمذهب الخلف واستمر حتى عصرنا الحالي ، وقد كان المنطق اليوناني هو المحاط بهالة من التقديس والإعجاب لدي هؤلاء ، إذ جعلوه أصلا يسيرون على نهجه وميزانا لقياس الأمور العقائدية الثابتة بالوحي ، ومن ثم جعلوا النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي فهمها الصحابة بسليقتهم دون إشكال ، جعلوا ظاهرها باطل محال ، ولا تدل على حقيقة معينة تليق بذات الله ، ولكن جعلوها تدل على أمور مجازية أو معنوية لا إثبات فيها ولا صفات ، وقد قال بعضهم معظما للمنطق أرسطوا اليوناني الملحد : ( إن من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه) وبالغ وغالي غلوا كبيرا في تمجيده حتى جعله ميزانا يزن به كل العلوم والمعارف الدينية وسواها فيقول : ( لا أدعي أني أزن بها المعارف الدينية فقط ، بل أزن بها العلوم الحسابية والهندسية والطبيعة والفقهية والكلامية وكل علم حقيقي غير وضعي فإني أميز حقه عن باطله بهذه الموازين وكيف لا وهو القسطاس المستقيم ؟ ) ونظروا إلي القرآن والسنة على أن ظاهر ما ورد فيه تشبيه وهدم للتوحيد وأن الاستدلال بهما يأتي على آخر قوائم الأدلة يقول بعضهم : ( من أخذ علمه من العبارات والألفاظ ضل ضلالا بعيدا ومن رجع إلي العقل استقام أمره وصلح دينه) وقد زعم هؤلاء الخلف من أتباع الجهمية وجود التعارض بين العقل ونصوص الكتاب والسنة وأرادوا أن يجعلوا دلالة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تتعلق بالصفات الإلهية دلالة باطلة يجب صرفها عن ظاهرها وإبعادها عن حقيقتها إلي معني آخر .
ولذلك فإن أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم في خلال ثلاثة وعشرين عاما كانوا يسمعون القرآن ويفهمون معناه ثم يؤمنون به ويعملون بمقتضاه حتى أكمل الله لنبيه ولأمته الدين وأتم النعمة ، وقد كان فيما نزل به القرآن الكريم الإخبار عن الأمور الغيبية كالإخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن اليوم الآخر ووصف الجنة والنار كل ذلك ومما هو في معناه كان القرآن يتنزل به والرسول صلي الله عليه وسول يبلغه ويبينه والصحابة يتلقونه بالقبول ويفهمونه ويؤمنون به ، ولم يعرف عن أحد منهم أنه تردد أو استشكل شيئا من ذلك ، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه : ( ما رأيت خيرا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلي الله عليه وسلم كلهن في القرآن يسألونك عن المحيض ويسألونك عن الشهر الحرام ويسألونك عن اليتامى ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم ) .
ويذكر العلامة ابن القيم أن الصحابة قد تنازعوا في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا ، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال ، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمتهم واحدة ، من أولهم إلي آخرهم تلقوا النصوص بالقبول والتسليم وقابلوها بالإيمان والتعظيم وجعلوا الأمر فيها أمرا واحدا وأجروها على منهج واحد ، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها أجزاء متفرقة ، فأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين .
وهذا الاتجاه المخالف لفهم أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم والمعروف بمذهب الخلف قد احتذا حذوه طائفة كبيرة في عالمنا الإسلامي ، وظن كثير من الإسلاميين أنه مذهب حق وصدق لأنه كما يزعم أصحابه فيه تنزيه لله تعالى عن مماثلة الحوادث والأجسام ، وفيه تعظيم للعقل وإبداع في الكلام .
وقد تناسوا في طي ذلك أن أفضل من وحد الله وأفرده بربوبيته وأسمائه وصفاته وأفعاله وصرف له كل أنواع العبادة هو رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم أصحابه والتابعون لهم ومن سلك سبيلهم بإحسان إلي يوم الدين ، وهم سلفنا الصالح المعنيون بقوله صلي الله عليه وسلم :
( خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال الحافظ ابن حجر : ( وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها ، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل ، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف )
وهذا الاتجاه للأسف قائم ومستمر إلي عصرنا الحالي لكن ألبسوه ثوباً جديداً ، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور الحضاري أو العقل المعاصر أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي ، وقد قوي هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي المادي العقلاني ، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني ، فلجئوا إلي التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل ، ثم أخذوا يتلمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم ، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية ، الشيخ محمد عبده يفسر الطير الأبابيل الذي أهلك الله به أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري ، وآراؤه من هذا القبيل كثير وكثير .