عقيدة أبي الحسن الأشعري 4
( الحَمْدُ لِلهِ الذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا فَلَعَلكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا إِنَّا جَعَلنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) (الكهف:1) .
أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدى ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدى ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أرسله إلى الناس كافة ، رحمة لهم ورأفة بهم ، والناس يومها على شر حال ، في ظلمات الجاهلية يتقلبون ، وفي الشرك والوثنية غارقون ، دينهم بدعة ، ودعوتهم فرية ، فأعز الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وألف بين قلوبهم وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، عباد الله أطيعوا ربكم ، واستنوا بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قال :
( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلى فَمَا أَرْسَلنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ) (النساء:80) ، أما بعد ..
فما زلنا نقارن بين عقيدة أبى الحسن الأشعري وبين مذهب الأشعرية المقرر على المعاهد الأزهرية ، وفي الكليات التابعة للجامعات الأزهرية ، المعتمد في مناهج العقيدة عند كثير من المؤسسات التعليمية في البلاد الإسلامية ، وقد علمنا أغلب من يدرِّسون هذا المنهج أو يدرسون ، يظنون أنهم على عقيدة أبى الحسن الأشعري ، وأن الأشعري يوافقُهم فيما يعتقدون ، وهو في الحقيقة برئ مما يدرسون ، ولذلك أردنا أن نبين المزيد في الفرق بين عقيدة الأشعري ومذهب الأشعرية ؟ وسوف نذكر عقيد الأشعري في صفة من صفات الذات وهى صفة اليدين ، فما هو اعتقاد الأشعرية وما الذي ذكره الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة ؟
ماذا يقول الأشعرية في صفة اليدين ؟ ماذا يوجد في تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد المقرر على المعاهد الأزهرية ؟ ماذا يوجد في كتاب الدين الخالص الذي يدرس في معاهد الجمعية الشرعية ؟ الأشعرية لا يثبتون لله صفة اليد بحجة أن إثباتها يدل على التشبيه والتجسيم وظاهر الآيات التي وردت في صفة اليد يدل على التناقض والتشبيه ، كقوله تعالى ( يد الله فوق أيديهم ) ( بل يداه مبسوطتان ) ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها ملكون ) اسمعوا ماذا يقول الشيخ طه عبد الله عفيفي في كتابه حق الله على العباد وحق العباد على الله : ( وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) (الفتح : 10) أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) (المائدة : 64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ) (يس : 71) ) .
هل هذه الآيات متعارضة ؟ مذهب السلف الصالح في اليدين ليس فيه ما يحاول الخلف إثباته من التناقض ، بل هو الحق الذي اجتمعت عليه الأدلة الجلية ، فهم يحاولون أن يجعلوا صفة اليدين شيئا معنويا لا حقيقة له ، مستترين خلف ستار مكشوف وهو ادعاؤهم أن نصوص القرآن والسنة ظاهرها باطل يوهم التشبيه والجسمية .
والحقيقة أن مذهب السلف الصالح هو عين الكمال والتنزيه ، فمذهب أهل السنة والجماعة هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن لله تعالى يدين حقيقيتين ، من غير تمثيل ولا تكييف ، ولا تعطيل ولا تحريف .
وقد تنوعت الأدلة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على إثبات اليدين لله وإثبات الأصابع لهما وإثبات القبض بهما وتثنيتهما فمن ذلك : قول الله تعالى : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العَالِينَ) (صّ:75) (ص : 35) وهذه الآية نص صريح في بيان مذهب أهل السنة ولا يقبل التأويل بأي وجه من الوجوه ، وقال تعالى :
( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) (المائدة : 64) فالله لم ينكر على اليهود وصفهم له باليد ، وإنما أنكر عليهم وصف اليد بالغلول وهذه الآية من الأدلة الواضحة على إثبات يدين لله على الحقيقة ، والآيات في ذلك كثيرة ، وفي حديث الشفاعة المشهور الذي رواه البخاري قوله صلى الله عليه وسلم
فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أما ترى الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ) فجعلوا خلق الله لآدم بيده ميزة له من بين الخلق فدل على أن اليد على ظاهرها كما يليق بجلال الله .
ومن الأحاديث الدالة على أن للّه يدين حقيقة ما رواه البخاري عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يد الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار قال : أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده وقال : عرشه على الماء وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع ) ، كما أن اليد وصفت بأوصاف تدل على أنها حقيقية منها القبض وهو في اللغة : إمساك الشئ بجميع كف اليد فقبض اليد على الشئ جمعها له بعد تناوله ، وفي الحديث : ( إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك ) .
وقد وردت رواية أخرى في صحيح الإمام مسلم فيها ذكر الشمال لله تعالى وإن كان لفظ الشمال فيه مقال ، فعن عبد الله بن عمر قال : ( يطوى الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ ثم يطوى الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون ؟ المتكبرون ؟ ) فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على إثبات صفة اليدين لله تعالى وأما ما ذكر في الحديث : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ) فلا تعارض بينه وبين ذكر اليمين والشمال في الحديث السابق فقوله صلى الله عليه وسلم : ( وكلتا يديه يمين ) بالنسبة للكمال فإحدى يديه تبارك وتعالى فيها الفضل ، كما دل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : ( يد الله ملأي لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار قال : ( أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يده ) الذي سبق ، والأخرى فيها العدل لقوله صلى الله عليه وسلم : ( وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع ) ، ومعلوم أن الفضل يمن والعدل يمن ، وكلاهما كمال لله تعالى ، أما بالنسبة لتفاضل صفاته فالفضل أيمن من العدل ، فاليمين فيها الفضل والشمال فيها العدل ، هذا إذا صح لفظ الشمال .
ووصفت اليد أيضا بالأصابع التي تدل على أن اليد حقيقية وليست مجازية كما ادعى أهل التأويل الباطل ففي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود : ( أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ : وما قدروا الله حق قدره ) ، وفي رواية : ( فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له ( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الزمر:67) .
والأشعرية المفتونون بالتأويل يؤولون اليدين إما بالقدرة أو النعمة تارة أو الخزائن تارة أخرى فيقولون في قوله تعالى : ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) (ص : 35) أي بنعمتي أو بقدرتي ، وقد أرادوا بذلك أن يجعلوها لا تدل على يدين حقيقيتين كما أراد الله من الآية بل أرادوا أن يجعلوها شيئا معنويا ويخترعوا لها أي معنى يوافق قواعدهم وأصولهم ولو كان ذلك باطلا ولا دليل عليه ، وهذا قول على الله بلا علم ولا لم يقل به أحد من السلف ، فالأصل عدم صرف اللفظ عن ظاهره إلا بدليل واضح ، وقد تنوعت النصوص كما يقدم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على إثبات يدين لله تبارك وتعالى ووصفها بأوصاف تمنع تأويلها بالقدرة أو النعمة كما تقدم .
ومن المعروف في لغة العرب استعمال الواحد في الجمع كقوله تعالى : ( إن الإنسان لفي خسر ) (العصر : 2) ، والجمع في الواحد :كقوله تعالى : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ) (آل عمران : 173) ، والجمع في الاثنين :كقوله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) (التحريم : 4) ، ولكنها لم تستعمل الواحد في الاثنين فلا تقول عندي رجل وأنت تعنى رجلين ، ولم تستعمل الاثنين في الواحد فلا تقول عندي رجلان وأنت تعنى به جنس الرجال ، فلا يجوز تأويل اليدين بالقدرة لأن القدرة صفة واحدة ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد ، ولا يجوز تأويل اليدين بالنعمة لأن نعم الله لا تحصى ولا تعد ، وعند ذلك فلا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الجمع مما يبطل تأويل اليدين بالنعمة أو القدرة .
وأما عن الآيات التي زعم فيهل الشيخ العفيفي أنها متعارضة وقال : (وليت شعري أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) (الفتح : 10) ، أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) (المائدة : 64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ) (يس : 71) ) ، فقد أمرنا الله برد المبهم إلى المحكم ، وقد أحكم الله ورسوله يدين حقيقتين فعلينا أن نرد الآيات إلى ما أحكم فالمحكم من الآيات الثلاث التي أوردها هو : قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) (المائدة : 64) أما قوله تعالى : ( أو لم يرو أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) (يس : 71 ) فالمقصود من الجمع التعظيم وهذا وارد في لغة العرب ، فلما قال في بداية الآية : خلقنا ، قال : أيدينا ولما قال : خلقت ، قال : بيدي ، وأما قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) (الفتح : 10) ، وقوله : ( بيدك الخير ) (آل عمران : 26) ، وقوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة ) (المائدة : 64) .
فإطلاق اليد هنا تفسير للشئ بسببه ، فقد تكون بمعنى القدرة لأن القدرة نابعة عن تحرك اليد ، يقال : فلان له يد في كذا وكذا أي له قدرة ، ومن لوازم اليد للرحمن القوة والخير والسح .. الخ ولا يقال يد لمن ليس له يد ، أما قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) (المائدة : 64) ، وقوله : ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) (ص : 35) فلا يمكن أن تأول بالقدرة أو النعمة لأن لغة العرب تمنع تأويله في حال التثنية فتركيب السياق عندهم يمنع ذلك .
هذه عقيدة السلف وعقيدة الأشعرية في عصرنا ، السلف يثبتون لله صفة اليدين لأن الله أثبتها لنفسه ونحن ما رأينا كيفية اليدين وليس لله مثيل نقيس عليه وصف كيفية اليدين ، فالله تعالى يقول : (ليس كمثله شيء ) (فَلا تَضْرِبُوا لِلهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:74) (ولم يكن له كفوا أحد ) .
أما عقيدة الأشعرية فإثبات اليدين عندهم تشبيه وتجسيم وظاهر الآيات القرآنية باطل ومستحيل ، ولابد من تغييره لمعنى القدرة أو النعمة بأي سبيل ، فماذا يقول أبو الحسن الأشعري ؟ الذي ينتسبون إليه ظلما وزورا ؟ يقول : ( قد سئلنا أتقولون إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك بلا كيف ، وقد دل عليه قوله تعالى : (يد الله فوق أيديهم ) ، وقوله تعالى : ( لما خلقت بيدي) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته ) .
فثبتت اليد بلا كيف ، وجاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله تعالى خلق آدم بيده ، وخلق جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ) ، وقال تعالى : (بل يداه مبسوطتان) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (كلتا يديه يمين) وقال تعالى : (لأخذنا منه باليمين) ، وليس يجوز في لسان العرب ، ولا في عادة أهل الخطاب ، أن يقول القائل : عملت كذا بيدي ، ويعني به النعمة ، وإذا كان الله عز وجل إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ، ومعقولا في خطابها ، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل : فعلت بيدي ، ويعني النعمة ، بطل أن يكون معنى قوله تعالى : (بيدي) النعمة ، وذلك أنه لا يجوز أن يقول القائل : لي عليه يدي ، بمعنى لي عليه نعمتي ، ومن دافعنا عن استعمال اللغة ولم يرجع إلى أهل اللسان فيها دوفع عن أن تكون اليد بمعنى النعمة ، إذ كان لا يمكنه أن يتعلق في أن اليد النعمة إلا من جهة اللغة ، فإذا دفع اللغة لزمه أن لا يفسر القرآن من جهتها وأن لا يثبت اليد نعمة من قبلها ، لأنه إن روجع في تفسير قوله تعالى : (بيدي) نعمتي فليس المسلمون على ما ادعى متفقين ، وإن روجع إلى اللغة فليس في اللغة أن يقول القائل : بيدي يعني نعمتي ، وإن لجأ إلى وجه ثالث سألناه عنه ، ولن يجد له سبيلا .
ويقال لأهل البدع : ولِم زعمتم أن معنى قوله : (بيدي) نعمتي أزعمتم ذلك إجماعا أو لغة ؟ فلا يجدون ذلك إجماعا ولا في اللغة ، وإن قالوا : قلنا ذلك من القياس ، قيل لهم : ومن أين وجدتم في القياس أن قوله تعالى : (بيدي) لا يكون معناه إلا نعمتي ؟ ومن أين يمكن أن يعلم بالعقل تفسير الآيات ، مع أنا رأينا الله عز وجل قد قال في كتابه العزيز ، الناطق على لسان نبيه الصادق : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) ، وقال تعالى : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) ، وقال تعالى : (إنا جعلناه قرآنا عربيا) ، وقال تعالى : ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82) ، ولو كان القرآن بلسان غير العرب لما أمكن أن نتدبره ، ولا أن نعرف معانيه إذا سمعناه ، فمن لا يحسن لسان العرب لا يحسنه ، والعرب إذا سمعوه علموه ، لأنه بلسانهم نزل ، وليس في لسانهم ما ادعوه من تفسير قوله تعالى : (بيدي) نعمتي .
وقد اعتل معتل بقول الله تعالى : (والسماء بنيناها بأيد) قالوا : الأيد القوة ، فوجب أن يكون معنى قوله تعالى : (بيدي) بقدرتي ، قيل لهم : هذا التأويل فاسد فلو كان الله تعالى عنى بقوله : (لما خلقت بيدي) القدرة لم يكن لآدم صلى الله عليه وسلم على إبليس مزية في ذلك ، والله تعالى أراد أن يرى فضل آدم صلى الله عليه وسلم عليه ، إذ خلقه بيديه دونه ، ولو كان خالقا لإبليس بيده كما خلق آدم صلى الله عليه وسلم بيده لم يكن لتفضيله عليه بذلك وجه ، وكان إبليس يقول محتجا على ربه : فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم صلى الله عليه وسلم بهما ، فلما أراد الله تعالى تفضيله عليه بذلك ، وقال الله تعالى موبخا له على استكباره على آدم صلى الله عليه وسلم أن يسجد له : (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت ؟) ، دل على أنه ليس معنى الآية القدرة ، إذ كان الله تعالى خلق الأشياء جميعا بقدرته ، وإنما أراد إثبات يدين ، ولم يشارك إبليس آدم صلى الله عليه وسلم في أن خلق بهما .
وليس يخلو قوله تعالى : (لما خلقت بيدي) أن يكون معنى ذلك إثبات يدين نعمتين ، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين جارحتين ، تعالى الله عن ذلك ، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين قدرتين ، أو يكون معنى ذلك إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا قدرتين ، لا توصفان إلا كما وصف الله تعالى ، فلا يجوز أن يكون معنى ذلك نعمتين ، لأنه لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول القائل : عملت بيدي وهو نعمتي ، ولا يجوز عندنا ولا عند خصومنا أن نعني جارحتين ، ولا يجوز عند خصومنا أن يعني قدرتين ، وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع ، وهو أن معنى قوله تعالى : (بيدي) إثبات يدين ليستا جارحتين ، ولا قدرتين ، ولا نعمتين لا يوصفان إلا بأن يقال : إنهما يدان ليستا كالأيدي ، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت .
ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله تعالى عنى بقوله : (بيدي) يدين ليستا نعمتين ؟ فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ، قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟ وإن رجعونا إلى شاهدنا ، أو إلى ما نجده فيما بيننا من الخلق فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة ، قيل لهم : إن عملتم على الشاهد – يعنى المشهود من البشر أو الأقيسة التي تحكمه - وقضيتم به على الله تعالى ، فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما فاقضوا بذلك على الله - تعالى عن ذلك - وإلا كنتم لقولكم تاركين و لاعتلالكم ناقضين .
وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي ؟ وكذلك يقال لهم : لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين من أجل أن ذلك خلاف الشاهد اسمعوا رد أبى الحسن الأشعري على كل معتنق للمذهب الأشعري ، ينفي صفة اليدين ويدعى التعارض بين الآيات كما قال الشيخ طه عبد الله عفيفي ( وليت شعرى أيثبت هؤلاء الجاهلون كل ما ورد من تلك الظواهر فيثبتون له يدا بمقتضى قوله تعالى : ( يد الله فوق أيديهم ) (الفتح:10) أم يدين بمقتضى قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) (المائدة:64) أم أيد عديدة بمقتضى قوله تعالى : ( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ) (يس:71) ) .
فإن قالوا لنا إذا أثبتم لله عز وجل يدين لقوله تعالى : (لما خلقت بيدي) فلم لا أثبتم له أيدي لقوله تعالى : (مما عملت أيدينا) ؟ قيل لهم : قد أجمعوا على بطلان قول من أثبت لله أيدي ، فلما أجمعوا على بطلان قول من قال ذلك ، وجب أن يكون الله تعالى ذكر أيدي ورجع إلى إثبات يدين ، لأن الدليل عنده دل على صحة الإجماع ، وإذا كان الإجماع صحيحا وجب أن يرجع من قوله أيدي إلى يدين ، لأن القرآن على ظاهره ، ولا يزول عن ظاهره إلا بحجة ، فوجدنا حجة أزلنا بها ذكر الأيدي عن الظاهر إلى ظاهر آخر ، ووجب أن يكون الظاهر الآخر على حقيقته لا يزول عنها إلا بحجة ، فإن قال قائل : إذا ذكر الله عز وجل الأيدي وأراد يدين ، فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يدا واحدة ؟ ، قيل له : ذكر تعالى أيدي وأراد يدين ، لأنهم أجمعوا على بطلان قول من قال أيدي كثيرة ، وقول من قال يدا واحدة ، فقلنا يدان ، لأن القرآن على ظاهره ، إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر .
فإن قال قائل : لماذا أنكرتم أن يكون قوله تعالى : (مما عملت أيدينا) ، وقوله تعالى : (لما خلقت بيدي) على المجاز ؟ قيل له : حكم كلام الله تعالى أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا بحجة ، ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر ، وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ، كذلك قوله تعالى : (لما خلقت بيدي) على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة .
ولو جاز ذلك لجاز لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة ، وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز أن يكون مجازا بغير حجة ، بل واجب أن يكون قوله تعالى : (لما خلقت بيدي) إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي ، وهو يعني النعمتين .
هذه عقيدة الأشعري في صفة اليدين ولو طالعتم كتابه الإبانة لرأيتم وجوها أخرى ينسف بها آراء هؤلاء المبتدعة من الأشعرية أبناء المعتزلة وأحفاد الجهمية ، وهذه أيضا عقيدة الأشعري في سائر صفات الذات والأفعال عقيدة تتبنى المنهج السلفي ، وليس فيها إلا تقديم النصوص وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
ماذا حدث للعقيدة السلفية بعد موت الأشعري وظهور الأشعرية ، هذا ما نتحدث عنه في المحاضرة القادمة إن شاء الله سبحانك الللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .