·هل العقل الوصف المميز للإنسان؟
الإرادة في القلب محل الكسب وهي مسئولة عن شحن العقل بالمعلومات أو تركه خاليا أجوف فارغا، والعقل بدوره يقوم بإدراكها المعلومات وتحصيلها وجمعها وترتيبها، كما أن حواس الإنسان وسيلة نقلها إليه؛ فهي المسئولة عن إدخال المعلومات وإخراجها، ثم يقوم العقل بعد ذلك بتحليلها وتصنيف الحدث المرافق لها، ثم يخزنها في الذاكرة لاستدعائها حسبما يشاء الإنسان.
والغاية الرئيسية من وجود العقل معرفة الإنسان ما ينفعه أو يضره، وكيف يحصِّل الخير الأعلى والأفضل دائما؟ فالعقل شأنه شأن العقل الالكتروني أو الكمبيوتر، غير أن هذا من صنع البشر، وذاك من صنع خالق البشر، وشتان بين هذا وذاك.
ولما كان عظم المنفعة من أجهزة الكمبيوتر يرتبط طرديا مع البرامج العلمية عالية التقنية كان عِظَمُ المنفعة من العقل البشري مرتبطا أيضا مع التزام الإنسان بالمناهج الدقيقة والتشريعات التي تضمن له سبل السعادة في الحياة، ولن نجد دستورا يتصف بالدقة والشمولية أكمل من منهج الله، فلو وضع الله U للإنسان منهجا ونظاما ودستورا وأحكاما كان الكمال كله فيه وكان صلاح العقل في اتباعة؛ لأن علم البشر لا يقارن بعلم الله، والحكم بغير شرعه ونظامه لا يرقي أبدا إلى الحكم بما أنزل الله، ومما لا شك فيه أننا نرى جميع الكائنات في حياتها حريصة كل الحرص على نفعها ودفع الشر عن نفسها، ومن ثم فإنها تطبق منهج الله أكثر من غيرها إلى حد يسمح بإطلاق لفظ التسخير على سلوكياتها فهي أعقل عند المقارنة من الإنسان.
والنملة مثلا على دقة حجمها ووزنها ترى في مسلكها عظمة عقلها وحسن إدراكها، فلو وضعتها في إناء فيه قطرات من ماء ثم نظرت إلى حركتها وتأملت طريقتها في الخلاص من الهلاك لرأيت في فعلها العجب، كيف ولماذا تتمكن النملة في حساباتها من الابتعاد عن الماء؟ وكيف علمت أن الماء يغرقها ويهلكها؟
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة 1/240: (تأمل هذه النملة الضعيفة وما أعطيته من الفطنة والحيلة، في جمع القوت وادخاره وحفظه ودفع الآفة عنه فإنك ترى في ذلك عبرا وآيات، فتري جماعة النمل إذا أرادت إحراز القوت خرجت من أسرابها طالبة له، فإذا ظفرت به أخذت طريقا من أسرابها إليه وشرعت في نقله، فتراها رفقتين، رفقة حاملة تحمله إلى بيوتها سربا ذاهبا، ورفقة خارجة من بيوتها إليه لا تخالط تلك في طريقها، بل هما كالخيطين بمنزلة جماعة الناس الذاهبين في طريق والجماعة الراجعين من جانبهم، فإذا ثقل عليها حمل الشيء من تلك اجتمعت عليه جماعة من النمل وتساعدت على حملة بمنزلة الخشبة والحجر الذي تتساعد الفئة من الناس عليه، فإذا كان الذي ظفر بالطعام منهن واحدة ساعدها رفقتها عليه إلى بيتها وخلوا بينها وبينه، وإن كان الذي صادفه جماعة تساعدن عليه ثم تقاسمنه على باب البيت) .
ومن عجيب ما ورد في عقل النمل وفطنته أنها إذا نقلت الحب إلى مساكنها كسرته لئلا ينبت فإن كان مما ينبت الفلقتان منه كسرته أربعا، فإذا أصابه ندا وبلل وخافت عليه الفساد أخرجته للشمس ثم ترده إلى بيوتها، ولهذا ترى في بعض الأحيان حبا كثيرا على أبواب مساكنها مكسرا ثم تعود عن قريب فلا ترى منه واحدة.
ومن ثم ليس الإنسان وحده المتميز بالعقل والفهم، بل يمكن القول إنه أقل من غيره عقلا وأردأ في حساباته العقلية، ويمكن بالتجربة لحيوان صغير أن يخدع الرجل الكبير، وروي من هذا القبيل الكثير والكثير في عالم الحيوان.
ذكر ابن القيم أن بعض العارفين شاهد منهن يوما عجبا، قال: رأيت نملة جاءت إلى شق جرادة فزاولته فلم تطق حمله من الأرض، فذهبت غير بعيد ثم جاءت معها بجماعة من النمل قال: فرفعت ذلك الشق من الأرض، فلما وصلت النملة برفقتها إلى مكانه دارت حوله ودرن معها فلم يجدن شيئا فرجعن، فوضعته، ثم جاءت فصادفته، فزاولته فلم تطق رفعه فذهبت غير بعيد ثم جاءت بهن، فرفعته، فدرن حول مكانه، فلم يجدن شيئا، فذهبن فوضعته فعادت فجاءت بهن، فرفعته فدرن حول المكان، فلما لم يجدن شيئا تحلقن حلقة وجعلن تلك النملة في وسطها، ثم تحاملن عليها فقطعنها عضوا عضوا حتى ماتت وأنا انظر.
وذكر أيضا في ذكاء الثعلب أن رجلا كان معه دجاجتان فاختبأ الثعلب له، وخطف إحداهما وفر، ثم أعمل فكره في أخذ الأخرى، فظهر لصاحبها من بعيد وفي فمه شيء شبيه بالدجاجة وأطمع الرجل في استعادة الدجاجة بأن ترك ما في فمه وفر؛ فظن الرجل أنها الدجاجة فأسرع نحوها وترك الأخرى، وخالفه الثعلب في خفية فأخذها وذهب.
إن من أعجب ما تنتبه له الأذهان التفكر في كيفية تقدير الطيور لعوامل الاتزان عند الطيران، أليست لديها تكنولوجيا أرقى وأعلى من عقول البشر؟ أتراها درست في معاهد الطيران؟ أم أنها تجهل قوانين الحركة التي عرف بها نيوتن؟
يقول ابن القيم: (وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس).
ولا يمكن لمن يعلم أسس الحساب من العقلاء أن يرى ذاتين منفصلتين أو ثلاث ذوات ذاتا واحدة؛ فكيف بمن يشرك بالله ويجعل الإله اثنين أو ثلاثة؟ إن صاحب العقل السليم لا يقبل الشرك ولا يرضاه؛ فمن المحال عند العقلاء أن يكون الخالق إلهين اثنين متعادلين في وصف القدرة؛ فإذا أراد أحدهما شيئا ولم يرده الآخر فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر وسيعود الأمر إلى قوي قادر والآخر مربوب مقهور عاجز قال تعالى: } مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ { [المؤمنون:91].
وقال: } أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ { [الأنبياء:22].
وقد ذكر الله U رأي من خالف الإنسان وأنكر عليه اتخاذ الولد للرحمن، وبين أن هذه المخلوقات يرفضن ذلك بشدة، فقال تعالى: } وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا { [مريم:88/92].
ومن المعلوم لدى كل فطرة سليمة أن العاقل هو من يحرص على جلب المنفعة وتحصيلها وحب الخيرات وتفضيلها، ولا نجد عاقلا يفضل الخير الأدنى على الخير الأعلى والعاقل أيضا حريص على دفع المضرة وإبعادها، كما أنه يتحمل مشقة أدنى ليحصِّل منفعة أعلى ويضحي بالقليل ليحصِّل الكثير، ويحرص على الباقي ويزهد في الفاني فالمريض مثلا يتحمل مرارة الدواء طلبا للشفاء، هذه أوصاف العقلاء النابعة من الفطرة السليمة، ومن هنا كانت دعوة الإسلام دعوة عظيمة لأنها بنيت على إيثار ما عند الله بطلب الجنة والبعد عن النار، فليس بعد نعيم الجنة من خير، وليس بعد عذاب النار من شر.
روى مسلم من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t أن رَسُول اللَّهِ S قال: (يُؤْتَي بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَي بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَة فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ).
وقال سبحانه وتعالى: } بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى { [الأعلى:16/19].
والقرآن يخبرنا أن المعرض عن ربه يعترف بذنبه ويقر على نفسه بأن الله منحه غريزة العقل لكنه لم ينتفع بها، وأنه لم يكن عاقلا حين فضل الدنيا على الآخرة.
قال الحارث بن أسد المحاسبي: (جميع الممتحنين المأمورين من العقلاء البالغين كلهم لهم عقول يميزون بها أمور الدنيا كلها الجليل والدقيق وأكثرهم للآخرة لا يعقلون، ألم تسمعه U يقول: } وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ { [الأعراف:198]، وقال جل ثناؤه: } لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا { [الأعراف:179] وهم بالدنيا أهل بصر وسمع وعقل، ولم يعن أنهم صم خرس مجانين وإنما عذبهم لأنهم يعقلون، لو تدبروا ما يرون ويسمعون من الدلائل عليه من آيات الكتاب وآثار الصنعة واتصال التدبير الذي يدل عليه لعلموا أنه واحد لا شريك له، حكى تعالى قول أهل النار فقال: } وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ { [الملك:11]، وقد كانت لهم عقول وأسماع لزمتهم بها الحجة لله U، وإنما عني U أنها لم تعقل عن الله فهما لما قال من عظيم قدر عذابه فندمت ونادت بالويل والندم، لا أنها لم تكن تسمع ولا تعقل ولا كانوا بمجانين ولكن يعقلون أمر الدنيا ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه ووعد وتوعد).
ومن ثم نصل إلى أن الإنسان لم يتميز عمن حوله بالعقل والحكمة إذ يشتركون معه في ذلك على الأقل.